ركضت جوانا عبر المرجة باتجاه مدرسة القرية, ولم يكن هناك رصيف للطريق, بل كانت منزلقة بسبب أوراق الشجر المتساقطة المبللة...مرة أو أكثر كادت تقع بشكل خطير.ألقت نظرة سريعة الي ساعتها...
انها الرابعة الا ربع ولابد من أن يكونوا قلقين لتأخرها والآنسة فورستر لا تطيق صبرا كي تقفل أبواب المدرسةوأحست بألم في خاصرتها فخففت من سرعتها, سخافة حقا أن تخاف من معلمة الأطفال ومع إنكارها أنها تخافها توقع رؤية وجه الآنسة فورستر المتجهم دفعها الي الركض مرة ثانية.فجأة ودون توقع سمعت صوت هدير محرك سيارة خلفها, وتذكرت أن لا أحد يأتي بسيارة علي هذه الطريق سوي شاحنة المزرعة, وأحيانا سيارة البريغادير بدفورد, وقفزت دون وعي نحو القناة...
وكان العشب رطبا فكان عليها أن تتشبث بشجرة شوكية كي تمنع نفسها من الانزلاق فوق ما أصبح بفضل المطر جدولا صغيرا يندفع بسرعة,
وصاحت "اللعنة"وتوقفت السيارة ونزل السائق منها ثم نظر حوله وتقدم, وحدقت به جوانا وقد أحست بالانزعاج من عدم اهتمامه الزائد,ومن موقعها المزري علي الأرض بدا لها طويلا يرتدي نظارة سوداء بدت سخيفة وغير ضرورية هذا المساء...ومن خلف النظارة بدا مقطبا ,في ظروف عادية مواجهة رجل غريب كان سيفزعها, ولكن بما أنها مبتلة وتشعر بالبرد ومتأخرة ,وفوق كل ذلك فزعة, وليتوج كل هذا وقف الرجل ينظر اليها دون عرض للمساعدة وكأنه يضحك عليها,
وكأنها جرو متكور لجانب الطريق...فكافحت بشراسة لتقف ,فقلب شفته وقال"أظن أنك بخير؟ لا أري دما أو طرفا مكسورا"ولا فضل لك في هذا ! حسنا ساعدني لأقف فتجاهل يدها الممدودة, وانحني ليلف ذراعه حولها ويوقفها علي قدميها,ثم يضعها فوق الطريق وبقي ممسكا بها وكأنه يظن أنها ستقع ثانية ثم بدأ ينفض عليها الأوساخ, فصرت جوانا علي أسنانها وقالت بغضب "شكرا لك""لا داعي للشكر كنت موحلة,
هل تحبين الوحل؟""الأفضل أن ترشها علي سيارة مسرعة"ونظرت الي سيارته لتجدها من النوع الرياضي المنخفض الذي كان يفضله شقيقها ولاحظت بسرور أنها مليئة بالوحل"ترش عليك الوحل؟ وهل ظننت أنني قد أصدمك؟ أهذا هو سبب غطسك في الوحل؟ فهمت..أنا آسف"وردت عليه بأدب مبالغ فيه"أنت لطيف جدا"فضحك وأضاف"أوه يا الهي, أنا حقا آسف...ولكن لم تكوني بحاجة للقفز هكذا عن طريقي فالسيارة يمكن إيقافها بلحظة وأنا لم أكن مسرعا""السرعة أمر نسبي,
فمعظم السير عندنا هنا يكون علي أربعة أرجل""حسنا لقد كنت مسرعا حسب المقاييس المحلية ولكنني كنت أبعد عنك ميلا""لم أشعر هكذا ,كان لدي انطباع أنك لاحقتني""أنا آسف"وأخذ ينظر اليها وكأنها شيء لم يشاهده من قبل ووجده مثيرا للاهتمام"لا يبدو عليك الأسف"وقال بحذر" أعني أنني آسف...لأنك متوترة الأعصاب هكذا"بلغت قمة الغضب فجذبت ذراعها من يده "كيف تجرؤ علي مثل هذا القول؟"أخذ يهتز من الضحك"اسمحي لي أن أوصلك الي حيث أنت ذاهبة وسنناقش الأمر""لن أفعل""يبدو أنك غير متمدنة""لا...ولقد تأخرت"ونظرت الي ساعتها فوجدتها ملطخة باللون الأخضر وبدت العقـرب تحتها تشير الي عشر دقائق بعد الرابعة" اعذرني يجب أن أذهب, علي أخذ الأولاد من المدرسة,"
واستدارت لتذهب فأحست ثانية بالألم في خاصرتها وتأوهت, فأمسك بكوعها بسرعة وقال مقطبا"هل أصبت بأذى""لا شيء...حتي أنك لا ذنب لك به, كنت أركض وأحسست بالألم"فضحك" حسنا هذا صدق كاف منك, ومع ذلك لا أستطيع تركك تسيرين في هذا الطريق الموحل,سأوصلك للمدرسة""ولكنها ليست بعيدة"فسار الي السيارة وفتح الباب"اصعدي""حسنا, انها في آخر الطريق أمامنا الي اليسار,"نصف ميل بعد وجدت الأطفال ينتظرونها ولا أثر للسيدة فورستروقالت للرجل وعينها علي مونيكا" هنا ..أرجوك""هل هذه الطفلة لك؟"
"أجل انها واحدة اثنين"ولاحظت مونيكا السيارة تبطئ قرب المدرسة, ونزلت منها جوانا فبدأت تحاول تسلق الجدار المنخفض لتخرج من المدرسة اليها ووقعت حقيبتها منها فتجاهلتها صائحة وهي تركض نحو السيارة"أبي"وتجمدت جوانا, لماذا لم تفكر بما سيفعله منظر السيارة بالأولاد؟ ألم يتبادر الي ذهنها أنها تشبه سيارة ريتشارد؟وأحست بالفزع وهي تراقب المشهد.
منقذها وهو ينزل من السيارة بعد أن صرخت مونيكا واستدار بسرعة وصفق الباب وراءه, وتلقي الفتاة بين يديه واستدار بها وهو يرفعها في الهواء ضاحكا وقال برقة" أخشي أن تكوني مخطئة ولكن والدك محظوظ, هل الآباء وحدهم من يتلقون التحية؟ ألا تستاهل الأم واحدة؟"
"هذه ليست أمي ,انها جوانا فقط"
"أوه...."
وتدخلت جوانا" مونيكا ابنة أخي وهو تعيش معي وشقيقها الذي يلعب هناك"
"فهمت, حسنا يبدوان بحجم معقول ويمكن وضعهما في المقعد الخلفي وسأوصلكما الي المنزل"
قاومت جوانا كبرياؤها, ستكون نعمة لها أن لا تضطر الي السير أكثر من ميل ونصف والطفلين يجرجران أذيالهما خلفها ومع ذلك فكان كبريائها سيفوز لولا ظهور الآنسة فورستر في تلك اللحظةمدرسة القرية فيها صفان يؤويان حوالي ثلاثين طفلا, الصغار تعلمهم معلمة عجوز عمرها من عمر المدرسة تقريبا والكبار ومن بينهم مونيكا وبوب هم في صف الآنسة فورستر وكانت شابة رياضية صغيرة شعرها أشقر قصير وترتدي النظارات, وكانت لها نظرة مخيفة لا يجرؤ حتي بوب علي عدم إطاعتهاوقالت التنين الصغيرة وهي تقفل باب المدرسة الخارجي
"آه آنسة راينهارت, هل أخرك شيء عن القدوم؟" ودون أن ترفع صوتها أو تلتفت " نحن لا نسير فوق الحائط دايفيد"
تخلي بوب عن لعبه وتقدم ليقف بجانب جوانا التي قالت" لقد تأخرت في عملي ثم وقعت علي المرجة وهذا السيد ساعدني وأوصلني لما تبقي من الطريق"
وأدارت الآنسة فورستر نظارتها اليه ولدهشة جوانا ابتسمت له وبدت تماما مثلها مثل البشر وتجاهلت الآخرين وهي تسأله ما اذا كان قد أضاع طريقه ودخل القرية عن طريق الخطأ ثم التفتت الي جوانا لتسألها
"هل أصبت بأذى"
"لا أظن"
"آسفة لما حدث لك وبالطبع لم تكن غلطتك ولكنك قلت أنك تركت عملك متأخرة وهذه هي المرة الثالثة هذا الأسبوع يا آنسة ولن أستطيع حقا إبقاء الأولاد كل هذه المدة وعليك أن تحاولي الوصول في الوقت المحدد
"أجل آنسة فورستر"
"لا أضمن أن أكون حرة للبقاء معهما كل يوم"
"لا آنسة فورستر"
وتدخل الرجل" هذا صحيح, ونحن قد أخذنا ما يكفي من وقتك منذ وصلنا" وتجاهل نظرة جوانا المعترضة وتابع" فليحضر الأولاد حقيبتهما ولن نؤخر الآنسة فورستر أكثر من ذلك"
وبدت الآنسة فورستر مذهولة, فهي بالتأكيد لم تعني هذا ونظرت جوانا بارتباك من أحدهما الي الآخر ولاحظت أن الآنسة فورستر كانت أكثر من مستعدة لمتابعة الحديث مع الرجل الغريب مهما استغرق من وقت, ولكنه أشغل نفسه بوضع الأولاد في المقعد الخلفي للسيارة, وانحني لها مودعا ولحقت به جوانا .
قال الرجل بعد أن غابت المدرسة عن أنظارهم" أوه انها ضابطة نظام فظيعة" ثم التفت الي جوانا" هل علمتك في الماضي؟"
"من؟ أفريل فورستر؟ يا الهي انها أصغر مني سنا"
"لا يمكن لأحد أن يعرف هذا"
أحست بالتوتر فقد ارتابت الي أنه يوجه لها اهانة" أوه...؟ ولماذا؟"
"هكذا...مجرد انطباع...قولي لي أين سآخذك؟"
"الي أين أنت ذاهب؟"
"الي عزبة الرياح ,ان استطعت أن أجدها"
"أوه" المنزل المذكور كان فارغا لأكثر من سنة منذ وفاة آخر مالك له, والقرية مليئة بالإشاعات أن الورثة يقنعون مديرية الآثار الوطنية لشرائه, فهو منزل مبني منذ العصور الوسطي, صغير ولكن جميل, ...
حتي وقت متأخر, فبعد موت السيدة أندرهيل العجوز أصبح مهجورا,ولطالما هز سكان القرية رؤوسهم أسفا علي الأراضي الزراعية المحيطة به والتي أصبحت بالتدريج جرداء وهناك ربيه في المنزل نفسه ومن المتفق عليه أن السيدة أندرهيل قد أهملته خلال سنواتها الأخيرة, وأنه سيكلف كميات ضخمة من المال ليستعيد أهليته للسكن, واذا لم يصلح عاجلا...فلن يعود هناك أمل فيه سوي أن يهدم وفي نظر البعض ستكون تلك مأساة.
"هل تعرفين العزبة؟"
فابتسمت جوانا بأسف وهي من قضت طفولتها تلعب في حدائقه"أجل أعرفه, انه قرب البحر وأظن من الصعب عليك أن تجده بسهولة, هناك بوابة خلفية له, تفتح الي باحة الكنيسة, كنت أستخدمها بنفسي منذ زمن بعيد, ولكن له طريق خاصة تصل الي المنزل عبر الغابة التابعة له, عليك أن تتجه في تلك الطريق بعد ميلين من القرية.
"بعيد بهذا القدر؟ ولكني ظننت المنزل في القرية؟"
"أجل, والقرويون يدخلون اليه عبر باحة الكنيسة أو من علي طريق البحر ولا يمكن الوصول بالسيارة من كلا الطرفين."
"ولكنك قلت ميلين...وغابة المنزل, هل كل هذه الأرض تابعة له؟"
"كانت كذلك, وأظن البريغادير بدفورد قد اشتراها من السيدة أندرهيل منذ سنوات ولكن لا يزال هناك حق المرور الي المنزل قائما مع أنني لست أدري في أية حال هي الطريق الآن""
"لن تكون أسوأ من طريقكم المحلية وعلي أن أخاطر"
وقالت مونيكا من المقعد الخلفي" كانوا يقطعون بعض الأشجار من الغابة في عطلة الأسبوع الماضي, كنت أنا و بونتي هناك نتمشى وقال لنا السيد آدامز أننا لا نستطيع البقاء لأنهم سيسقطون الشجرة الكبيرة قرب البوابة لتنظيف الطريق"
ورد عليها بوب" لم يكن ذلك لتنظيف الطريق يا غبية, بل لأن الشجرة مريضة ولا يريدون لمرضها أن ينتشر...هذا صحيح, أليس كذلك يا جوانا؟"
لأن جوانا تعمل في مكتب بدفورد الxxxxي فقد اعتقد الأولاد أن عليها معرفة كل شيء عنه وعن أرضه, ومع أنها ولدت وكبرت في القرية , ان الأولاد الجدد فيها من سنة يعرفان أكثر منها, حول الأرض ومواسمها والأماكن المحلية الخاصة والناس بالطبع, وكانت تحس أحيانا أنها تعيش مع اثنين من أكبر ناقلي الاشاعات في القرية ,
ردت عليه".لست أدري, وأنت تعرفي يا مونيكا أنني ل
ا أحبك أن تأخذي بونتي في نزهة وحدك"
و بونتي هو كلب من فصيلة الذئب الألماني, وهو ملك ل أرثر بدفورد, وعلي الرغم من محبتها للحيوانات فقد كانت تخاف من بونتي ولا تخرج معه سوي برفقة جوانا كي تدفعها للقبول بتربية كلب في منزلهما الريفيوقال الرجل" وما خطب الأشجار؟ هل هو مرض الحافور الألماني؟"
فتنهدت جوانا" أعتقد هذا, لقد حدث بعض التحطيم في الشجر وسقوطه في التلال ولكن البريغادير بدفورد كان يأمل ألا يصل المرض الي هنا"
"ومن هو البريغادير بدفورد؟ هل هو الحاكم المحلي"
"يمكنك دعوته هكذا"
ووصل الي نهاية الطريق فتوقف وسأل" الي أين الآن؟"
"استدر الي اليمين ثم بخط مستقيم عبر الوادي وسأكون شاكرة لو أنزلتنا قرب الدكان ثم تابع سيرك وتجاوز محطة الأتوبيس ثم قصر الأمير."
"شكرا لك, وهل لهذا الطريق لوحة؟"
"لست واثقة, أتتذكرين يا مونيكا؟"
"لست واثقة"
"أخشي أن لا نكون مفيدين لك, فأنا عادة لا ألاحظ ما هو موجود حولي, كل ما أذكره أن الطريق مظلم, يظلله شجر الغار والورود المتسلقة وما شابهها, أوه وهناك بوابة حديدية"
"مقفلة؟"
"بالطبع لا, لم تكن مقفلة أبدا كما أذكر"
"اذن لابد أنها مغطاة بالأعشاب ولا يمكن تمييزها, أمر محبط...وكأنه قصر الأميرة النائمة المهجور, وهل هذا المدخل الي اليمين أم الي اليسار؟"
"الي اليسار باتجاه البحر والمنزل قرب الشاطئ, ولهذا سميت العزبة بالرياح"
"أنا مسرور أنك ذكرت هذا!"
"ولماذا؟"
"لأنني ظننت الاسم قد آتي من خرافات الغيلان"
"آه..هذه هي الدكان أيمكن أن تقف هنا؟"
وتوقف أمام الدكان علي حافة الطريق فقالت" لا لزوم للتوقف تابع سيرك بعد أن ننزل"
"ولكن هناك لزوم اذا كنت أريد أن آكل الليلة, هذا اذا لم أذكر صباح الغد,أم أنهم سيرفضون خدمتي لأنني أوصلتك؟"
"لا تقول هذا لم يبدر الي ذهني أنك قد تريد شراء"
"ولماذا لا؟ هل ظننت أنني بيض البوم ودماء السعادين لمجرد أنني سأعيش في منزل الغول؟"
"لم أفكر بهذا مطلقا,أنت لم تقل أنك ستقيم هناك؟"
"حسنا سأقيم هناك, ومع أنني لا أريد استعجالك ولكن يبدو أن الدكان ستقفل ألا يجد أن نطلب ما نريد قبل أن يقفلوا الأبواب؟"
"أوه..أجل بالطبع"
وسارعت علي الفور الي دخول الدكان وطلبت الخبز ومربي التوت وتبعها الأولاد مع الغريب الذي نظر حوله بينما تطلب جوانا مشترياتهاوقالت جوانا للسيدة هوب صاحبة المحل" ربما تفضلين خدمة هذا الرجل أولا"
"حسنا بالطبع فأنت لست مستعجلة يا عزيزتي"
واشتري الغريب كمية سخية بما فيها البطاطا" الشيبسي" التي جعلت عيون الطفلين تتسعان اعجابا كذلك اشتري علبة كبيرة من القهوة سريعة التحضير والتي تحتفظ السيدة هوب بمثلها للسيد بدفورد, وسألته وهو يضع المشتريات في علبة الكرتون كبيرة" وهل تظن أنك ستبقي هنا طويلا؟"
فنظر الي علبة القهوة الكبيرة في يده وابتسم" في العادة أنا أتناول القهوة بكثرة"
وأخفت جوانا ابتسامة, ومع أنها كانت لا تزال تهدئ نفسها من مواجهتهما الا أنها لم تكن تنكر أنه كان يتعامل مع السيدة هوب بتفوق, فقد كان يصد كل سؤال تطرحه ولكن بأدب حتي أنها لم تلاحظ أنه يصدها, وبعد عشر دقائق من الأخذ والرد لم تكن قد تعرفت علي بعد علي اسمه, وأعجبت جوانا بعامله معها وهي التي عانت من حشريتها وثرثرتها , وعندما قدمت له الفاتورة أخرج دفتر الشيكات من جيبه فأوقع دفترا صغيرا فالتقطته مونيكا وقالت" هذا جواز سفر يجب ألا تضيعه, والا لن تتمكن من العودة الي بلدك, أبي لديه واحد وكذلك أنا وبوب"
أخذ منها الجواز وأرجعه الي جيبه وأقلق قلة اهتمامه مونيكا فقالت بغيظ" لا يجب أن تضيعه"
"لن أفعل"
ولم يقدم الرجل أي شرح لماذا يتجول في كندا وجواز سفره في جيبه ,والتقت عينا السيدة هوب بعيني جوانا بتعجب فأدارت جوانا وجهها ,السيدة هوب سيئة الظن كأهل القرية تماماوأعادت نظرها اليه, له وجه متحفظ ووجنتان مرتفعتان وفم ممتلئ ولاحظت أن النظارة السوداء تراقبها باهتمام وبدون منطق, وجدت أن نظرته هذه فيها شيء من الفظاظة وعن قصد رفعت حاجبيها وردت له نظرته الفاحصة, فالتوت زاوية من فمه وكأنه يوشك علي الابتسام, وقال لها بمرح" حسنا, يبدو أنني اشتريت كل ما أحتاجه الآن, شكرا لك لإرشادي علي الطريق, الوداع"
وراقبه الولدان وهو يضع صندوق مشترياته في السيارة, فنظرته الي أولويات التموين بدت لهما مختلفة تماما عن نظرة عمتهما, وشاركتهما السيدة هوب النظر الي رحيله, وقالت متفلسفة" أعتقد أننا سنراه كثيرا, هذا اذا قرر السكن في القرية"
آخر كلماتها بدت كسؤال بشكل واضح, فقالت جوانا بحده أنها لا تعرف من هو, وقالت للطفلين" هيا بنا فالسيدة هوب ترغب في إقفال الدكان ,ولقد حان وقت الذهاب لتناول الشاي والا فلن تتمكنا من كتابة فروضكما المنزلية"
في الطريق التفتت جوانا للصغيرة مونيكا"هل أنت متعبة؟"
"لا ,هل يمكننا الذهاب لرؤية عم آرثر؟"
"أنت تعني هل بامكاننا الذهاب لرؤية بونتي, حسنا أعتقد هذا, ولكن ليس لوقت طويل فالعم آرثر سيكون مشغولا وأنتما لديكما فروض منزلية لتنهياها"
وبدأ الطفلان يركضان نحو قصر الأمير, انه فندق يقع عند طرف القرية ويبدو ككوخ ريفي عتيق وهو ملك ل آرثر بدفورد, ابن أخ مخدومها واشتراه منذ خمس سنوات عندما كان مجرد حانة قروية بسيطة ونجح أن يجعله أفضل مطعم في المنطقة يعمل فيه أشهر الطباخين وأجمل الساقيات...
وعلي العموم كان الرأي السائد أنه أنفق مبلغا لا بأس به علي إصلاح هذا المكان العتيق, وهذا أمر تعرفه جوانا جيدا فقد عملت له أعمالا مكتبية في تلك الأثناء ومع ذلك فقد كان عليه أن يستدين مبالغ من المال من عمه كي يعبر بعض الأزمات المارة, وتعلم جوانا بما أنه موسم الصيف قد انتهي وموسم الميلاد لم يبدأ بعد أن أزمة جديدة تلوح في الأفق, وتعلم أيضا أن البريغادير بدفورد سيكون صعب الإقناع لمد يد المساعدة هذه المرة, وحاولت جوانا أن تلمح بهذا للشاب الذي تحب عمه وتحمل حبا خاصا به شخصيا.
ودخلوا لغرفة الجلوس وكان آرثر الذي يحب أن تكون المدفأة مشتعلة عند دخول أول زبون الي المطعم, يشعل الحطب. ولطالما أفتتن الأولاد بعملية الإشعال والنفخ في الحطب وأرادوا أن يشاركوا فيها, فوافق آرثر وسرعان ما تعالي اللهيب مزمجرا يطقطق الحطب ويملأ المدفأة ثم يهدأ بعد أن أخذ طريقه عبر المدخنة, ووقفت جوانا تراقب المشهد وهي تبتسم وتدخلت قائلة للطفلين" عمكم آرثر لا يريد إشعال مدخنته ولا حرق منزله ,هذا يكفي"
فاستدارت مونيكا الي آرثر الذي قال" حسنا النار مشتعلة بشكل رائع الآن ولا نريد أن نزيدها اشتعالا, لماذا لا تخرجا وتلعبا مع بونتي؟"
وصاحا ابتهاجا وخرجا راكضين فقال آرثر بارتياح" واو, تلك الفتاة سيكون لها شأن ,لها إرادة قوية"
"انها حساسة جدا عندما تفسر لها الأمور بشكل مناسب, وليس من الصواب الاستجابة لها كل مرة, فبتلك الطريقة لن تكتشف أن هناك بعض الأشياء لا يمكنها الحصول عليها وأشياء أخري من الخطر ان تفعلها"
"قد يكون ذلك خطأ, ولكن الآن هذا أسهل, ولست أدري كيف تتمكنين من السيطرة عليها فهي لا تقبل بالرفض أبدا, أنت تبدين متعبة...هل يتعبك هذان الطفلان؟"
فضحكت"لا..ليس في الواقع, لقد أحسست بالتعب منذ استيقظت وتأخرت في العمل وفي المصرف وفي طريقي الي المدرسة ووقعت في القناة....انه يوم سيء علي"
"يا حبي المسكين, أنت أصلتا لست بارعة في المحافظة علي المواعيد, لقد أمضيت ساعات كثيرة في انتظارك عند سفح التل لتوصيلك الي البلدة أكثر مما انتظرت النساء الأخريات مجتمعات"
فكشرت جوانا بوجهها" كان هذا منذ خمسة عشر سنة"
"ولكنك لم تتغيري ,هل هناك سبب خاص لتعبك اليوم؟"
وأخذت جوانا منه فنجان القهوة مع علمها بأنها يجب أن تكون الآن في طريقها الي المنزل, ولكنها لم تكن ترغب في خسارة تلك اللحظات الثمينة مع آرثر, وإضافة الي رغبتها في إقناعه بأنها لم تعد تلك الفتاة الصغيرة متسخة الأصابع بالحبر والتي يتذكرها جيدا, فهي كانت تحس, وبشيء من الانتقاد الذاتي ,أنها لم تصل الي درجة الأناقة التي يتطلبها آرثر في محبوباته, لذا كانت تشعر بالامتنان لأن تبقي مثل هذه المشاعر سرية في نفسها وأجابته" لقد كان فكري مشغولا بأشياء, لقد وصلتني رسالة من ريتشارد"
"ريتشارد؟ أتعنين أخيك؟ كنت أظن أنه لا يزال في المستشفي؟ هل سيخرجونه منها؟""لا, وأنا قلقة لهذا فهو يعتقد أنهم لن يسمحوا له بالخروج أبدا"
"ماذا؟"
"لقد مضي عليه هناك سنة الآن منذ السيول التي قتلت لودي"
"أذكر هذا, لقد حدث في أستراليا, وعندها استلمت الأطفال"
"أجل, ومن يومها أصيب بنوع من الحمي, بدت كالملاريا ولكنهم قالوا أنها حمي من نوع نادر وأن عليه الدخول الي مستشفي خاص للعلاج, وهو في تلك المستشفي منذ زمن الآن, ولابد أن الشركة التي كان يعمل بها تدفع مصاريفه ومصاريف الطفلين كل شهر, ولهذا لم يكتب لي خلال سنة سوي ثلاث خطابات, في الميلاد وفي عيد ميلا الطفلين, والآن هذه الرسالة المطولة, يذكرني بها كم أن الطفلين بحاجة الي أب, وأنني لست مسئولة كفاية لأن يبقوا معي الا علي أساس مؤقت, وأخشي أن يكون يفكر بارسالهما الي أهل زوجته"
"ولكن هذا ليس بالأمر السيئ وبامكانهما هناك الذهاب الي مدرسة محترمة بدل هذه المدرسة التي لا تنفع هنا, ويتركك هذا حرة لأن تعيشي حياتك كما يحلو لك"
"ولكنهما حياتي"
"اذن هذا خطأ"
"لا تكن سخيفا أنت تعرف ما أقصده, انهما جزء من حياتي , وسيبقيان كذلك حتي لو ذهبا الي مونتريال للعيش مع جديهما"
"انسي الأمر, مثل هذه الأمور تأخذ وقتا طويلا للترتيب وهو لم يقل لك فعلا أنه يريد إرسالهما الي هناك, أليس كذلك؟"
"لا"
"اذن وفري عليك الحزن حتي يفعل"
وفتح باب الغرفة فاستدار لتبدو عليه نظرة نصفها غبي ونصفها نظرة غريبة فقال" جوانا لا أظنك تعرفين سامنثا, انها تعمل هنا مع الطباخ الجديد"
فغاص قلب جوانا لجمال وجه وبسمة الفتاة التي كانت مؤدبة جدا, ووضعت يدها علي ذراع آرثر "هناك رجل في الخارج يريد أن يعرف متي نقدم العشاء, من الواضح أنه قد انتقل الي هنا حديثا ولا مطبخ في منزله ولا يريد أن يتأخر في العشاء لأن لديه بعض الأعمال, وقلت له أننا نستطيع خدمته متي يشاء أهناك مانع؟ انه رائع.
"هل هو هكذا فعلا؟"
وقالت جوانا" أظن أنني أعرف الرجل, في الواقع انه الشخص الذي دفعني للوقوع في القناة يا آرثر, يبدو أنه سيسكن في العزبة القديمة وهو لا يحبها جدا من نوع الأسماء التي دعاها بها مع أن هذا مخجل, فهي منزل جميل ولكنه لا يبدو من النوع الذي قد يعجبه"
وقالت سامنثا محتجة" انه جذاب جدا يا آرثر وأنا واثقة أنه سيعجبك"
"حسنا اذا كان سيصبح زبونا عندنا, فعلي أن أعجب به أليس كذلك؟"
وقالت جوانا دون أن تفكر" جذاب؟ بالتأكيد لا"
وفتح الباب خلفها وبما أنه لم يحن موعد فتح المطعم بعد فلم تعره جوانا اهتماما, فلابد أن من فتحه هم الأولاد أو الطباخ الجديد أو الساقي فتابعت" لقد ظننت أنه قذر خسيس"
فقال لها آرثر" لا يمكنك الحكم علي الناس بمظاهرهم"
فقالت بحزم" حسنا لم يعجبني تعبير وجهه حتي أنه لم يظهر أي تعاطف معي عندما وقعت في القناة وبدا لي....قاسيا"
ومن خلفها سمعت سعالا غاضبا مقصودا وقال الغريب بتواضع ولكن بخبث ظاهر وعيناه علي جوانا" أرجو أن تعذروني لدخولي هكذا ولكن الجو بارد في الخارج لقد كنت مسافرا لفترة طويلة ونسيت كم هي هذه المناطق من كندا ...باردة"
وللحظة غاضبة أعادت له نظراته الساخرة ثم استدارت علي عقبيها وخرجت مسرعة.