البعض يعتقد بأن دراكولا مصاص الدماء الذي يظهر في أفلام الرعب السينمائية هو مجرد شخصية خيالية لا تمت إلى الواقع بصلة . لكن الحقيقة شيء آخر، فدراكولا حقيقي مئة في المئة، وقد عاش هذا القاتل الرهيب في رومانيا القرن الخامس عشر. والغريب هو أنه برغم جميع موبقاته وجرائمه، وبرغم شلالات الدم التي أراقها .. برغم ذلك كله .. يعد داركولا بطلا قوميا في نظر أغلب الرومان اليوم، فهو بنظرهم الرجل الذي دافع عن استقلال إقليم والاشيا الروماني ضد المطامع العثمانية والبلغارية.
أسمه الأمير فلاد الثالث، حكم رومانيا لفترات متقطعة أمدت أجمالا لسبع سنوات بين عامي 1455-1476 ، وشهرته تيبس، أي المخوزق، لأنه كان مشهورا بخوزقة الناس بالجملة. أما لقب دراكولا فمعناه ابن التنين، وقد ورثه عن أبيه الأمير فلاد الثاني الذي أكتسب هذا اللقب بانضمامه إلى ( عصبة التنين )، وهي عصبة واتحاد سري ضم مجموعه من أمراء ونبلاء أوربا الوسطى والشرقية للوقوف بوجه المد التركي العثماني. فالأمير فلاد عاش خلال فترة حرجة من تاريخ أوربا الشرقية، فبعد سقوط القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح أصبح البلقان بأسره ساحة مفتوحة أمام الجيوش العثمانية، وغدت مقاطعة والاشيا الرومانية عالقة ما بين مطرقة العثمانيين وسندان الهنغاريين، وكلاهما طامع يتهدد كيان ووجود هذه الأمارة الصغيرة، وقد زاد من الطين بلة، تناحر أمراء والاشيا المستمر على العرش، ومؤامرات النبلاء البويار الذين استغلوا هذا التناحر لتعزيز نفوذهم ومصالحهم.
دراكولا أمضى ردحا من شبابه برفقة شقيقه الأصغر رادو في مدينة أدرنه التركية حيث بقيا هناك لأربعة سنوات كرهائن لضمان ولاء والدهما للعثمانيين، هناك تعلما اللغة التركية وتعرفا على التقاليد العثمانية، ويقال بأن فلاد غالبا ما كان يتعرض للضرب والتعنيف من قبل الأتراك بسبب شخصيته الجريئة والمتحدية، على العكس من شقيقه رادو الذي اندمج كليا مع الثقافة العثمانية فأشهر أسلامه وصار من المقربين إلى السلطان. ويبدو بأن تلك الفترة الصعبة من حياة دراكولا قد أثرت في نفسه كثيرا ولعبت دورا كبيرا في تأصيل كرهه العميق للأتراك، وهو كره لم يدانيه في المرتبة سوى كرهه لطبقة البويار في والاشيا، فهؤلاء كانوا قد تآمروا على والده وقتلوه، ودفنوا شقيقه الأكبر حيا بعد أن اقتلعوا عينيه.
فترة حكم دراكولا لم تتجاوز إجمالا السبعة أعوام كما قدمنا، وهي مدة قصيرة جدا مقارنة بأعداد البشر الذين قتلهم، والذين ناهز عددهم المائة ألف إنسان، أغلبهم من الأتراك والبويار. ففي إحدى رسائله لملك هنغاريا يقول دراكولا :
"لقد قتلت الفلاحين الأتراك من الرجال والنساء .. الشيوخ والشباب .. على طول الدانوب .. لقد قتلنا 23884 منهم، من دون حساب هؤلاء الذين أحرقناهم أحياء في بيوتهم أو الذين قطعت رؤوسهم بواسطة جنودنا، لذلك يا جلالة الملك، عليك أن تعرف بأني قد نقضت السلام معه – يعني السلطان محمد الثاني –".
وبسبب هذه المجازر الفظيعة، أرسل السلطان جيشا عثمانيا بقيادة حمزة باشا للاقتصاص من دراكولا وقتله، لكن ما أن عبر هذا الجيش العرمرم إلى الضفة الأخرى من الدانوب حتى وقع في كمين محكم نصبه له دراكولا وجيشه الصغير، وخلال ساعات فقط تبدد الجيش العثماني برمته، وأعتلى جنوده رؤوس آلاف الخوازيق التي نصبها دراكولا لهم .. أطولها كان خازوق حمزة باشا نفسه.
أوربا بأسرها ابتهجت لانتصار دراكولا على العثمانيين، فيما استشاط السلطان محمد الفتح غضبا لمصير جيشه، فجهز جيشا عثمانيا جرارا قاده بنفسه للقضاء على دراكولا واحتلال والاشيا، لكن هذه الحملة العسكرية لم تفضي إلى شيء، فدراكولا الخبير بأساليب القتال العثمانية، لم يخض معركة ناجزة مع السلطان، وإنما لجأ لحرب العصابات، خصوصا أسلوب الغارات الليلية، وهي غارات ألقت الرعب في قلوب العثمانيين، وزاد من رعبهم واشمئزازهم ذلك المنظر البشع الذي كان ينتظرهم على سفوح التلال المحيطة بأسوار مدينة تراجوفشت الرومانية،
حيث انتصبت غابة كاملة من الخوازيق تكللت رؤوسها المدببة بجثث عشرين ألف إنسان، غالبيتهم من الجند العثمانيين. ويقال بأن بشاعة هذا المنظر، ورائحة تحلل الجثث التي لا تطاق، دفعت السلطان إلى التخلي عن فكرة مطاردة دراكولا فقفل عائدا على وجه السرعة إلى عاصمته الجديدة القسطنطينية، وعوضا عن إرسال المزيد من الجيوش لجأ السلطان إلى أسلوب جديد .. المال والدسائس .. وقد أتت هذه الطريقة أوكلها في النهاية، فتمكن رادو، شقيق دراكولا المتحالف مع العثمانيين من الإطاحة بأخيه وتنصيب نفسه أميرا على والاشيا، في حين انتهى المطاف بدراكولا سجينا في هنغاريا.
إمارة رادو أستمرت قرابة العشرة أعوام، وبعد موته عاد دراكولا ليعتلي عرش الأمارة من جديد، لكنه لم يبقى في منصبه لأكثر من شهرين ليطاح به مجددا في عام 1476 حيث لقي حتفه أخيرا أما اغتيالا أو خلال إحدى معاركه مع الأتراك الذين قاموا بقطع رأسه وإرساله إلى اسطنبول حيث عرض هناك في مكان عام ليشاهده جميع الناس ويتأكدوا من نهاية الوحش الذي بث الرعب في قلوبهم لسنوات طويلة. أما جسد دراكولا فيقال بأن بعض المخلصين له قاموا بدفنه سرا تحت أحد الأديرة القديمة. وقام بعض المنقبين وعلماء الآثار بالتنقيب حديثا في مقبرة تنسب إلى دراكولا، لكنهم لم يجدوا أي جسد، ويقال بأن التابوت كان فارغا، وهو الأمر الذي ساهم في زيادة الأساطير والخرافات التي تحاك حول الرجل وحول حقيقة كونه مصاص دماء.
فلاد دراكولا كان قاسيا جدا، لا يتورع عن قتل الناس لأتفه الأسباب، إلى درجة أن أهل والاشيا كانوا يتركون حاجياتهم في الأسواق من دون أن تمتد يد اللصوص أليها بالسرقة خشية من عقاب وبطش دراكولا، إذ كان يوسط الناس، ويسلخهم أحياء، ويشويهم على النار، ويقطع أطرافهم، ويفعل بهم الأعاجيب، وكان فنانا في استعمال الخازوق .. والخازوق هو وتد خشبي مدبب الرأس يدفع بالقوة داخل جسد الإنسان، غالبا عبر فتحة الشرج، ثم يرفع ويثبت إلى الأرض بصورة عمودية، فيرتفع المخوزق معه حتى لكأنه جالس فوقه، ويبدأ رأس الخازوق في الغوص داخل جسده أكثر فأكثر بفعل الجاذبية الأرضية، حتى يخترق الأحشاء ويخرج عبر الفم أو الصدر،
وتختلف سرعة وقوع الموت بحسب خبرة الجلاد وإتقانه لعمله، فكلما كان رأس الخازوق مدببا ومدهونا أكثر، كلما كان مروره أسرع، وكلما أقبل الموت أبكر. ولم يكن دراكولا يكتفي بخوزقة الناس في أدبارهم، وهي الطريقة الشائعة، بل خوزقهم في بطونهم وأقدامهم وأيديهم ورقابهم أيضا، وخوزق بالمقلوب!، أي من الفم إلى الدبر، ولم يستثن من ذلك النساء والشيوخ، ولا حتى الطفل الرضيع. فالرجل كان ساديا مجنونا .. في إحدى المرات أمر بتثبيت عمائم السفراء الأتراك بالخوازيق إلى رؤوسهم لأنهم رفضوا أن يخلعوها احتراما له حين دخلوا بلاطه. وفي مرة اجبر رجل من أعداءه على أكل كبد زوجته المذبوحة!، وكان يروق له أن يطبخ الناس في قدور كبيرة، ويتلذذ بقطعهم إلى نصفين بالسيف وهم أحياء يصرخون.
أما قلعته فكانت مسلخ بشري مجهز بكل ما يخطر على البال من وسائل القتل والتعذيب. كانت مكانا مرعبا لا يتخيل الإنسان رؤيته في أبشع كوابيسه، فزائر تلك القلعة الرهيبة كان عليه أن يجتاز دربا طويلا للوصول إلى قاعة البلاط الرئيسية، وعلى جانبي ذلك الدرب الموحش كانت تنتصب غابتان من الخوازيق يجلس عليها مئات الناس ما بين حي وميت،
ومع كل خطوة يخطوها الزائر كانت أنات وتوسلات المخوزقين تشنف آذانه وتملئه رعبا، وهي أصوات كان دراكولا شغوفا بسماعها لأنها بالنسبة أليه كانت أعذب من زقزقة البلابل، ولم يكن يحلو له تناول طعامه إلا وهو يستمع إليها ويمتع ناظريه بمشهد جلاديه وجلاوزته وهم يقومون بتقطيع أوصال الناس وسلخهم أمامه. ويقال بأنه كان يستمتع أحيانا بشرب عدة كؤوس من دماء ضحاياه بعد مزجها بالخمر، ولهذا أشتهر بين الناس كمصاص دماء. والظاهر أن الرجل لم يكن سويا وكان يعاني من اضطرابات نفسية ومشاكل حقيقية في عقله، فخلال فترة سجنه التي امتدت لعدة سنوات في بلغاريا، كان يقوم بمطاردة الحشرات والجرذان في زنزانته ليقوم بخوزقتها باستعمال عصي خشبية صغيرة!.
ولعل أعظم مآثره، أو بالأحرى مجازره، هي تلك التي ترافقت مع بداية عهده كأمير على والاشيا، حيث قام بدعوة البويار إلى حفل ضخم أقامه على شرفهم، وخلال الحفل سئل دراكولا نبلاء البويار عن عدد الأمراء الذين عاصره كل منهم خلال حياتهم، فطفق هؤلاء يعددون، بعضهم قالوا بأنهم عاصروا أكثر من عشرة أمراء،
وأقل واحد فيهم كان قد عاصر سبعة أمراء، فاستشاط دراكولا غضبا عند سماعه لذلك، وقال لهم أنكم ما عاشرتم كل هذا العدد من الأمراء إلا بسبب مؤامراتكم الخبيثة، فلا يبقى الأمير في منصبه سوى سنوات قليلة حتى يقتل أو يخلع بسبب دسائسكم وخياناتكم؛ ثم ذكرهم بقتلهم لأبيه، وقرعهم على تعذيبهم لأخيه ودفنهم إياه حيا، وفي النهاية أعطى إشارة لجلاوزته فانقضوا كالوحوش الكاسرة على البويار، يقطعونهم أربا أربا ويضعونهم على الخوزايق، حتى أفنوهم عن بكرة أبيهم، لكن دراكولا لم يكتف بذلك، بل أرسل جنوده يلاحقون البويار في طول البلاد وعرضها، ينهبون ممتلكاتهم، ويغتصبون نسائهم ويستعبدون أطفالهم، ويقال بأنه خوزق عشرات الآلاف منهم.
أخيرا فأنه وبغض النظر عن قسوة دراكولا ودمويته إلا أنه يعتبر بطلا قوميا في بلاده، فهو برأي البعض لم يفعل ما فعل إلا دافعا عن استقلال رومانيا، ويرى المؤرخين الرومان بأن أغلب القصص الدموية التي رويت عنه هي أما مبالغ فيها أو من اختراع وتلفيق أعدائه، خصوصا الهنغاريين، الذين كانوا يبررون تقاعسهم عن مؤازرة دراكولا في حربه مع العثمانيين بترويج هذه القصص عنه واتهامه بالجنون، ويجدون في ذلك وسيلة لتبرير تبذيرهم وتبديدهم للأموال التي كان يرسلها لهم بابا روما لإقامة حلف مسيحي يدافع عن أوربا بوجه العثمانيين.
وفي المقابل فأن أغلب القصص والأخبار التي لدينا اليوم عن دراكولا أتت من مصادر أوربية معاصرة له، خصوصا الألمانية والبولندية والروسية، لذلك فأنه من المستبعد كون جميع تلك القصص ملفقة، والأرجح بنظري أن دراكولا كان قاسيا فعلا، لكنه لم يكن فريدا من نوعه في ذلك الزمان، فهو عاش في حقبة قاسية كانت المجازر والمذابح ترتكب فيها من قبل جميع الأطراف.