الفصل الثالث: الغيبوبة

اما هي فتمتد ... يداها لتلامس براحتيها الناعمتين جبيني وراسي، ارتعش جسدي وسرت في عروقي رعشة يلاحقها تيار احساس غريب جميل، تمنيت ان يدوم طوال العمر، دنت بشفتيها واقتربت كانما تريد تقبيلي، جهدت في محاولات عديدة ان ارفع راسي عن الوسادة لتلثم شفتاي شفتيها الورديتين، وفرغ صبري من الانتظارلأقبلها قبل ان تقبلني لكنها لم تفعل ...داعبت اناملها شعري، ومسحت براحتها حبات عرق تصببت من جبيني ونظرت في عيوني حتى فقدت قدرتي على التركيز وقالت:..

ـ "حسن، قل غادة "..

عجزت عن الكلام ..الحّت على واصرّت ..حاولت ثم حاولت حتى نجحت وقلت:
 

ـ غادة ..
 

رددت اسمها عدة مرات...شعور بالنشاط والحيوية يحثني على النهوض وشعور بالراحة والطمانينة عمل على تهدئة اعصابي..وقالت
 

ـ "حسن، الان ستنهض لتتمشى في الغرفة عدة مرات وستذهب الى المغسلة لتغسل وجهك، وستقوم باستبدال ملابسك".


كانت ترشدني وتدلني على مكان كل شيء، طلبت مني اشياء كثيرة، حتى انتصبت على قدميها واقفة وقالت:


ـ "والان يا حسن انا مضطرة للذهاب، ولكنني ساعود باسرع وقت ممكن ..حسن، بعد قليل من الوقت ستسمع وسترى امور واشياء غريبة حدثت فلا تتفاجأ، واريد منك ان لا تفكر بها كثيرا فكر فقط بانك في صحة جيدة وانك معافى تماما ...


اختفت غادة بهدوء، بدأت انفذ كل ما طلبته مني، وتحول الهدوء الى نشاط وحيوية ...تاكدت انني في غرفة احد المستشفيات، ولكن ما سبب وجودي فيه، نظرت الى امي فهي لا تزال تغط في نوم عميق، ربت على كتفها ...ايقظتها من نومها...فتحت عينيها، ذهلت وقفت على قدميها...خرجت مسرعة لتعود بعد ثوان بصحبة احدى الممرضات ...وما ان وقعت نظرات الممرضة علي حتى استدارت وعادت مسرعة من حيث اتت لتعود بصحبة طبيب، امتلأت الغرفة بالاطباء والممرضين، وكل ما فعلته أني جلست اراقب بهدوء كل ما يجري من حولي من امور لم افهمها .

 

عملت على ان لا اجهد نفسي وفكري في تحليل وتفسير كل ما يجري، وها انا انتظر لأعرف. تقدم احد الاطباء وكلمني باللغة العبرية واخذ اخر يترجم لي باللغة العربية، ولم يكن هناك داع للترجمة لاني اعرف العبرية جيدا، اسئلة كثيرة وجهها إليّ الطبيب، ولكن الذي طير صوابي وافقدني هدوئي بحيث لم استطع ان اتمالك نفسي من الانفعال، اني علمت من حديث الطبيب، انه مضى على مكوثي في المستشفى سبعون يوما كنت فيها في غيبوبة تامة .


صدمة قوية ..لم استطع مواجهة نفسي من هولها، وضعتني امام مخاوف الحياة، ايعقل ان اكون قد مكثت في المستشفى سبعين يوما؟ كيف هذا دون أن احس او اشعر بشيء، وكأنني مكثت يوما او بعض يوم ...شعور عميق يلفه الصمت. عاصفة من الحيرة أخذت تعصف بنفسي ...تذكرت غادة وتحذيراتها عندما قالت :ستسمع وسترى يا حسن اموراً غريبة...نعم اليس الذي انا فيه من اغرب الامور ...؟
 

جلس الي الطبيب شارحا ما حدث، وقال يخاطبني :


ـ انك يا حسن سليم معافى ...وجسمك خال من أي مرض عضوي ...هذا ما اثبتته الاشعة والفحوصات الطبية والمخبرية غير ان ما تعرضت اليه من غيبوبة يبدو انه ناتج عن عامل نفسي…
 

من حديثه يظهر وكأنه لا يملك أية توضيحات علمية لعلتي...ولم يسمح لي بمغادرة المستشفى الا بعد حضور الطبيب الحيفاوي الذي اشرف على علاجي طيلة ايام غيبوبتي، وما هو الا يوم واحد حتى حضر الطبيب، وكان جل تركيزه واهتمامه ينصب حول قدرتي على التحرك والكلام...وقال لي بصراحة:


ـ ان الاسباب التي ادت الى غيبوبتك غريبة بعض الشيء، ولكن الاغرب منها يا حسن قدرتك على الحركة والكلام بشكل طبيعي وكانه لم يحصل لك شيء .


عدت الى البيت ...وبقيت اياما يحيطني بها الاقارب والاصدقاء والاهل، وعشرات الاسئلة الفضولية تنهال علي ..كيف يا حسن؟ وشو صار يا حسن؟ وانت ماشعرت يا حسن؟ الخ... وبالطبع أنا لا املك الاجابة على أي سؤال ...وكل الذي فهمته ان امي وجدتني ملقى في الحديقة، فحاولت ايقاظي، وبعدها ايقظت نصف البلدة على صراخها وتم نقلي الى مستشفى عربي، وبعدها قام اهلي بتحويلي على حسابهم الى مستشفى اسرائيلي، حيث عجز الاطباء عن تشخيص حالتي وتم وضعي تحت اشراف طبي مكثف ..

امي المسكينة لم يعجبها ما قاله الاطباء عن حالتي، فقررت ان تتصرف هي بطريقتها الخاصة .


توجهت الى الفتاحين والمشعوذين، واول "دجال" توجهت اليه دفعت له الف دينار ليعطيها النتيجة التالية (عمل سحر )لابنك، وتصادف في نفس الوقت بأن اصابته عين حسود (سحر+حسد=غيبوبة) وقام باعطائها حجاباً ضد الحسد، ولهذه النتيجة توجب على امي دفع مبلغ ألفي دينار اذا هي ارادت ان يستخرج لها (العمل -السحر ). ودفعت امي المسكينة المبلغ للدجال مقابل قيامه ببعض الحركات البهلوانية ...واخذت امي تتنقل من دجال الى اخر حتى صرفت كل ما تملكه وكل ما استطاعت ان تستدينه من الاقارب لتدفع به لهؤلاء الدجالين الكاذبين، وكلما يئست من واحد تجد من يدلها على اخر، وهي ترتحل من جنين الى نابلس ومن نابلس الى الخليل...


والحمد لله، ان مجموع ما انفقته امي على الدجالين مضافاً اليه الفاتورة التي يجب تسديدها للمستشفى، كان يتطلب منا العمل خمس سنوات حتى نقوم بتسديده. اكثر ما كان يؤلمني هو ما تسببته لأهلي من عذاب، شعرت بأني سبب شقاء هذه العائلة واني عبء عليهم، ليتني لم افق، وبقيت في غيبوبة الى الابد، او حتى مت. ماذا فعلت ليحدث لي كل هذا ؟اتذكر غادة ويعتريني شعور بالغضب عليها. فمنذ عرفتها والمصائب تحل بنا؛ واحدة تلي الاخرى، فهي سبب سهري وقلقي وعذابي، ولكني احبها، نعم ،اقدسها وبجنون، ولكن لماذا تركتني؟ لماذا تخلت عني وانا بأمس الحـاجة اليها لماذا لم تـات لتساعدني وهي تملك القــدرة على ذلك، لمـاذا يا غادة ...؟


وفي وسط دوامة التفكير والهم والغم وانا جالس خلف المكتب في غرفتي، ظهرت غادة وجلست امامي، وما ان رايتها حتى امتزجت مشاعر الفرح والسعادة عندي بمشاعر الغضب عليها لما حصل لي، قالت:


ـ “مابك يا حسن ؟لم اعتد رؤيتك هكذا..”
 

قلت لها:


ـ لا شيء يا غادة ...
 

ويبدو انها قرأت شيئا من افكاري، فتلاشت ابتسامتها ولم تتكلم، ومرت دقائق من الصمت ولم تتكلم، ولم اتمالك نفسي في التعبير عن غضبي، وقلت لها :

ـ لماذا فعلت بي كل هذا يا غادة ..؟لماذا لم تساعديني؟ لماذا تخليت عني وانا الذي احببتك، بل عبدتك ..لماذا انتظرت سبعين يوما حتى تذكرت ان تساعديني...؟
 

اخذت غادة تراقبني بهدوئها الواثق، بنظراتها العميقة، ولم تجب، وكان صمتها يستفزني اكثر واكثر فقلت لها:
 

ـ هل تشعرين بالسعادة الان ...هل نلتُ عقابي المناسب ...


وخرجت غادة عن صمتها وقالت بنبرة غضب :


ـ “اي احمق انت ...ما ذنبي بالذي حدث لك ...لماذا تصر على ايلامي دائما ؟حقاً انتم بنو البشر من اضعف المخلوقات، ولكم طريقتكم الغريبة في تفسير واستيعاب الامور، ويا لبراعتكم في القاء اللوم على الاخرين ...”
 

وبلغ غضب غادة ذروته حينما قالت :


ـ يبدو لي انه حان الوقت لتواجه نفسك الضعيفة، هل تريد ان تعرف من الاحمق والضعيف الذي فعل بك هذا ؟ يجب ان تعرف ,انت تستحق ان تعرف الحقيقة التي لن تسرك. وبحركة سريعة ومفاجئة اقتربت مني ووضعت كلتا يديها على راسي وابهام يدها اليسرى وابهام يدها اليمنى ضغطت على جبهتي، وما ان ضغطت حتى شعرت بان حر الدنيا قد بدا يخرج من رأسي، وبصوت هادىء متقطع قالت :

ـ "انظر في عيوني.. انظر في عيوني"..


فقدت كل قدرة على التركيز لم اشعر براسي أوجسمي، لم اعد ارى شيئا أو اشعر بشيء. أسمع بضع كلمات شبيهة بالاحلام تقول لي :

ـ "انت الان تقترب من الحديقة ،انت الان بالحديقة "..


ارى حديقة منزلنا ..ارى شخصاً ملقىً على الارض ...انه انا ،نعم انا، ارى نفسي ..ارى امي تحضر الى الحديقة تقترب تحاول ايقاظي ..حسن ..حسن تصرخ،تحضر اختي..يحضر الجيران..يحملوني!!! ينقلونني في سيارة...اصل المستشفى ..اطباء .. ممرضات..اجهزة..فحوصات ...ارى بوضوح كل شيء حدث معي، ابتداء من وجودي في الحديقة وحتى لحظة صحوتي من الغيبوبة في المستشفى، بسرعة هائلة تمر الاحداث امامي..كل صغيرة وكبيرة تمر بسرعة .الغريب في الامر اني كنت استطيع ان اصحو في أية لحظة اريد ذلك أن يحدث وانا في المستشفى، لا، لا اريد ذلك ,وبسرعة هائلة ، بدأت اعود الى حيث بدأت، واشعـر بثقل وتعب في كل انحاء جسدي، ترفع غادة يديها عن راسي لتقول لي :


ـ "هل علمت الان ماذا حدث لك؟ ومن المسؤول عن ذلك ؟انا لم اتخل عنك بالرغم من سخافتك ولكني مهما بلغت من قوة لا استطيع ان اجعلك تفعل شيئا لا تريد انت ان تفعله.. انا آسفة...ولكن لا مفر، إذ كان لا بد من قيامك بهذه الرحلة لتعرف حقيقة نفسك".


وفجاة اختفت غادة ...جسمي يرتعش ...شعور غريب...كيف استطاعت غادة ان تفعل هذا ؟ما هي القوة التي تملكها ، نعم لقد استطاعت ان تعيدني الى الماضي لكي اسمع وارى كل ما حدث معي ,فذاكرة الانسان تستطيع ان تعود به الى الماضي، ولكن ليس بهذا الوضوح وهذه الدقة، لقد سمعت كل كلمة قيلت، وكل من كان قريباً مني اتذكره ...حتى اصغر الاشياء التي لا تستطيع الذاكرة ان تسجلها ...رايتها بوضوح ...نظرت الى ساعتي وكانت تشير الى الثالثة صباحا ..كم استمرت هذه التجربة..ساعة..ساعتين ..ثلاث ساعات ..كيف حدث واستطعت ان اعيد تفاصيل احداث سبعين يوما. اكثر ما كان يخيفني مما حدث، هو انني كنت ارى نفسي على بعد امتار وكاني "اتفرج" على شخص اخر! ...هل في داخل الانسان قوة تتحكم فيه ولا يستطيع هو فهمها؟...وذاكرة الانسان تدون فقط الاشياء التي يتذكرها ...ولكن هل بالفعل نحن لا نتحكم بتصرفاتنا ؟يا غادة كم انا ضعيف امامك ...كم مرة اخطأت بحقك وكم اسأت اليك...وكم كانت تصرفاتي سخيفة تجاهك يا غادة ...!



ـ "وانت مجنون من دار اهلك ...ومش ناقصك اللي (يجننك)".



ـ غادة قولي لي، كيف فعلت هذا؟ وكيف استطعت اعادتي الى الماضي؟ ولماذا لم اكن اتذكر كل هذه الاشياء وحدي؟...



ـ حسن لا داعي لارهاق تفكيرك، كفاك ما عرفت اليوم، ويجب ان اغادر ...


ـ غادة ارجوك فقط اجيبي على هذا السؤال .
 

ـ "حسن ..."


ـ غادة ...ارجوك .


ـ "حسن، كل انسان سليم العقل يستطيع العودة الى الماضي متى شاء، الماضي الذي كان موجوداً فيه فقط الماضي الذي كان يدركه ,فكل الاصوات التي سمعها والصور التي راها يستطيع العودة اليها ولكنكم حتى الان لم تستطيعوا اكتشاف الطريق الصحيح الى ذلك وربما يكون ذلك افضل لكم، فالمئات منكم استطاعوا العودة الى الماضي، وحين وصلوا الى موقف مميز توقفوا عنده لحاجتهم اليه".

ـ غادة ...اذا كانت لدى الانسان القدرة للعودة الى الماضي فهل لديه القدرة للذهاب الى المستقبل...؟
 

ووقفت غادة وهي تضحك وتشير بيدها نحوي :..


ـ "روح يا حبيبي نام احسنلك وسنكمل حديثنا بالغد واختفت من جديد..."


ومع اختفائها توشح الافق بخيوط الشفق الاحمر معلنا بزوغ الصباح .القيت بنفسي على الفراش لاغط في نوم عميق هادىء، لم اصح منه الا في ساعات الظهيرة، بعد الحاح واصرار من امي على ان استيقظ واستعيد نشاطي وحيويتي لاجلس مع قريباتها اللواتي قدمن لزيارتنا لتقديم التهاني بسلامتي وخروجي من المستشفى، غسلت وجهي واستبدلت ملابسي، وخرجت لاسلم على قريباتي جلست معهن ما يزيد عن ساعتين، بدأ الحديث بالسؤال عن صحتي، وانتهى بآخر اخبار فلانة وعلانة...وبصراحة أقول أن الذي جعلني اجلس معهن كل هذا الوقت الطويل الذي كان بامكاني اختصاره -هو ان خالة امي "ام محمد"، والتي لم ارها الا مرتين في حياتي، بدات تروي لنا بعض القصص عن "الجن "القصة تلو الاخرى ومع ان حديثها عن الجن لم يكن يخلو من السذاجة، الا ان حديثها كان شيقا، وكان ذلك الحديث هو الذي دفعني الى الخوض معها في نقاش كنت متاكدا من سخفه حول الجن وامور الجن وهل يتزوج الجن، وكيف يحب الجن،...؟ وجهت لها اسئلة عديدة اربكت من كان موجودا ، اصبحت الجلسة مملة.استأذنت وتوجهت الى المطبخ حيث كانت امي وقالت لي :
 

ـ "اتلاحظ يا حسن انك مهتم بامور الجن اكثر من اللازم...شو القصة ؟".
 

فقلت لها :
 

ـ كلا يا امي فقط اردت ان اجامل خالتك "ام محمد"وقصصها الغريبة ...


يبدو ان حاسة امي الغريزية جعلتها تشك في بعض تصرفاتي...وان شكت امي بشيء فانها لا تجعله يمر مرّ الكرام...انقضت الساعات ، الساعة بعد الساعة، تجاوز الوقت منتصف الليل وانا اسير من الغرفة الى الصالة ومن الصالة الى المطبخ ...وبعد ان نام كل من في البيت ,جلست قليلا في الصالة، احسست باحساس قوي جدا ان غادة الان قريبة مني وانها حتى داخل الغرفة...ركضت مسرعا باتجاه غرفتي وكأني اريد ان اختصر تلك المسافة القصيرة جدا ...وما ان وصلت الى غرفتي حتى وقفت بجانب الباب والسعادة تغمرني، وقلبي يكاد يقفز من مكانه من شدة الفرح، تقف غادة متكأة على حافة النافذة المطلة على الشرق ...تنظر عبرها نحو الفضاء بطمأنينة وهدوء، وعلى ثوبها الابيض تناثر شعرها الاسود الطويل وكان نور القمر يتسلل عبر زجاج النافذة، مما جعلها تبدو وكانها لوحة غاية في الجمال، ثبتت على الحائط المظلم وسلط عليها ضوء كشاف مثبت في الفضاء…



إعدادات القراءة


لون الخلفية