الفصل العاشر
مضى الوقت وجاء موعد وجبه الغذاء سريعاً ، دلفت حياة غرفه الطعام على مضض فوجدته يجلس على قائمه الطاوله باسترخاء ينتظرها ، نظر إليها بتمعن يتأمل ملامحها المتجهمة فاسترخت تقاسيم وجهه على الفور ، حتى وهى فى حالتها تلك تستطيع تبديل بنظره منها ، فكر بحب انها اصبحت كالمخدر بالنسبه له ولكن مخدر من نوع اخر ، مخدر يجعل الزمن يتوقف عن الحركه وينسى معها ماضيه وما يخشاه من حاضره مستقبله.
قررت هى تجاهله والتصرف بلامبالاه مثله ، لذلك توجهت مباشرة نحو احد المقاعد البعيده عنه نسبياً لتجلس فوقه بهدوء ، نظر إليها ملياً اولاً نظره خاليه قبل ان ينطق جملته متشدقاً :
-بصى كده كويسه هتلاقى انى الحمدلله معنديش مرض معدى .. ولا احنا فى نص الشهر والقمر بدر فخايفه اتحول واقوم اعضك !!..
نظرت إليه بصدمه قبل ان تستوعب حديثه ، انتظر هو رد فعل منها ولكن دون فائده لذلك تمتم بنفاذ صبر قائلاً بتهديد:
-هتتفضلى تقعدى جنبى من نفسك ولا تحبى اجى اشيلك ..
قفزت من مقعدها على الفور بمجرد سماع جملته فكلاً من نبرته ونظرته كانت توحى بجديته التامه ، جلست فى المقعد المجاور له دون ان ترفع نظرها نحوه حتى لا ترى نظراته البارده التى يرمقها بها منذ الصباح ،
فى تلك الأثناء دلفت السيده عفاف داخل الغرفه تحمل الوعاء الخاص بالطعام ، وضعته فوق الطاوله وشرعت فى بدء عملها عندما تحركت حياة من مقعدها وهى تتحدث بود :
-متتعبيش نفسك يا دادا انا هكمل ..
قبض فريد على معصم يدها بقوه يمنعها من الحركه وهو يرفع نظره إليها بنظره غاضبه اصابتها بالارتباك ثم تحدث بنبره منخفضة ولكن حاده :
-اقعدى مكانك .. انا مش جايبك هنا تشتغلى ..
فتحت فمها لتعارضه ولكنه نظرته التحذيرية التاليه التى رمقها بها مع زياده ضغطه على معصمها جعلتها تتراجع ، عادت تجلس فوق مقعدها بغضب قبل ان توجهه نظره معتذره فى اتجاه السيده عفاف فبادلتها الاخيره نظرتها بايماءه خفيفه من راسها وأبتسامه متفهمه قبل ان تشرع فى استئناف عملها والخروج بهدوء من الغرفه بعد استئذانه ،
امسكت حياة بملعقتها لتبدء فى تناول طعامها قبل ان تعقد حاجبيها معاً بأشمئزاز !!! ان الحساء يحتوى على جميع المكونات التى تكرهها فعلاً ، دفعت الوعاء بعيداً عنها قليلاً فهى لن تتناول ذلك الطعام تحت اى ظرف كان ، كان فريد يراقب ما تقوم به بتركيز تام وعندما دفعت الوعاء من امامها حدثها بنبره آمره :
-حياة كملى أكلك انتى مش طفله !!!! ..
حدجته بنظره غاضبه قبل ان تجيبه بحنق قائله وهى تقلد نبرته :
كويس انك عارف انى مش طفله !.. ولا اقولك تعالى اكلنى غصب عنى زى ما اتجوزتنى غصب ..
شعرت بالانتصار عندما رأت اثر الصدمه واضحاً على ملامحه ولكن سرعان ما تحولت نظره انتصارها إلى قلق عندما وجدته يرفع احدى حاجبيه بتحدى ويضع معلقته فوق الطاوله وهو يستعد للتحرك ، شهقت برعب وهى ترفع كفها فى اتجاهه لتوقف وهى تتمتم برعب :
-اوعى تقرب منى انا مش هاكل اكل الناس العيانه ده ..
اتسع فمه بأبتسامه انتصار ثم تحولت بتسليه وهو ينظر إلى ملامحها الغاضبه ، فهو يعلم جيداً ان مذاق الطعام لم يعجبها ولكنها ارادت اللعب معه وعدم الاعتراف. ، زمت هى شفتيها بحنق وهى تفكر بغيظ لقد خدعها ، اذا عليها ان تكون اكثر يقظه عندما تتعامل معه فى المستقبل ، اعادها من افكارها صوته العميق يسألها بأهتمام ونبره حانيه :
-ليه مطلبتيش من المطبخ حاجه انتى بتحبيها ؟!..
اجابته بحنق :
-وانا اعرف منين يعنى !! كنت بحسبك بتاكل زى الناس ..
رمقها بنظره غير مفهومه قبل ان تعود إليه نظرته البارده مره اخرى :
-الناس هى اللى مش بتاكل زيى !!!
تمتمت بخفوت :
-مغرور
فريد :
-سمعتك ..
اجابته بحنق :
-ميهمنيش .. انا كده كده بكرهك ..
اهتزت نظرته قليلاً قبل ان يجيبها بصوت هادئ ونبره تملؤها التهكم المرير :
-مسمعتهاش من امبارح ..
ثم وضع المحرمه فوق الطاوله بعد ان مسح بها فمه وتركها وخرج من الغرفه ..
**************
قررت حياة قضاء ما تبقى من يومها داخل غرفتها حتى تتجنب لقائه ، وفى المساء عند حلول موعد العشاء رفضت النزول بحجه انها ليست جائعه ولكن بعد العاشره بقليل أعلنت معدتها العصيان الكامل عليها فهى لم تتناول شيئاً يُذكر منذ صباح البارحه لذلك قررت التسلل إلى المطبخ بهدوء لعلها تهدء من احتجاج معدتها قليلاً ، صادفت السيده عفاف التى كانت على وشك إنهاء عملها والذهاب لمخدعها ، عندما رأتها فهمت على الفور سبب هبوطها فابتسمت لها بتفهم تمتمت حياة بخجل تقول :
-دادا .. انا جعانه ..
استجابت السيده عفاف لطلبها على الفور وقامت بوضع مائده كامله امامها ، تناولت حياة طعامها بهدوء ثم جلست تتسامر قليلاً مع السيده عفاف عندما شعرت بخيال شخص ما يقف عند مدخل المطبخ ، علمت من هو من رائحه عطره المميزه ، التفت تنظر إليه فوجدته يرتدى زى رياضى اسود يتناسب تماماً مع عضلات جسده ويضع منشفه صغيره حول عنقه وتبدو على ملامحه الارهاق فعلمت انه قد انتهى للتو من تمارينه ، تحدث على الفور بلهجته اللاذعه :
-بيتهيألى مش ناويه تقضى الليل كمان فى المطبخ ..
ثم تحرك فى اتجاهها بعد انتهاء جملته يُمسك بذراعها ليجذبها نحوه ويتحرك بها للخارج دون كلمه اخرى ، نفضت يدها من قبضته فور خروجهم من المطبخ ورفعت راسها بكبرياء تسبقه للاعلى ، كانت على وشك دخول غرفتها عندما اوقفها صوته يقول بأستهزاء :
-مكنتش اعرف ان القاعده مع الخدامين والحرس حلوه كده !! .. الصبح حاولتى تحمى واحد وباقى اليوم قاعده مع التانيه !! ..
التفتت وعادت بخطواتها للوراء حتى توقفت امامه مباشرةً ثم وضعت احدى أصابعها فوق فمها بتفكير قبل ان تميل برأسها نحوه وتقول بثبات وعيونها تطلق شرراً نحوه :
-الخدامين دول امى وامك منهم يا فريد بيه يا ابن رحاب هانم ..
شعرت بذلك العرق بجانب صدغه قد بدء فى البروز من كثره ضغطه فوق اسنانه لذلك قررت الانسحاب على الفور ولكنه سرعان ما تدارك غضبه فأجابها بسخريه وهى تدير مقبض باب غرفتها :
-حياة هانم طلعت عن شعورها وبتقول امى وامك !! واضح ان تعب رحاب هانم معاكى مجبش نتيجه ..
انهى جملته الاخيره وهو يضغط علي كلماتها بقوه فهمت مغزاها جيداً ،توقفت يدها عن تدوير المقبض ثم التفتت تحدقه بنظرات حانقه قائله له بغيظ :
-بكرهك ..
لوى فمه بسخريه مجيباً وهو مازال يقف امام باب غرفته :
-عارفه ايه الناحيه التانيه للكره ؟!.. خلى بالك تلاقى نفسك واقفه عندها من غير ما تحسى ..
انهى جملته الاخيره ثم دلف غرفته واغلق الباب خلفه بهدوء تاركها تشعر بالرعب مما هو قادم ..
***************
دلفت إلى غرفتها واغلقت الباب خلفها برفق ، واستندت بثقل جسدها فوق الباب ثم اغلقت جفونها بحزن قبل ان تضع كلتا كفيها فوق وجهها لتخفى ملامحها من شده خجلها، فكرت بضيق يالله !! ماهذا الذى تفوهت به منذ قليل !! ايعقل انها أقحمت احب انسانه إلى قلبها فى صراعهم العقيم ونقاشهم الملغم !! ، شعرت بوخز الدموع داخل مقلتيها بسبب شعورها المتزايد بالذنب ، اللعنه على ذلك الفريد ، انه يستطيع اثاره غضبها واخراجها عن شعورها بكلمه واحده منه ، انزلقت بجسدها إلى الارضيه الخشبيه لتجلس فوقها وهى تضم ركبتيها إلى قفصها الصدرى وتحاوطهم بذراعيها وهى تستند بذقنها عليهم مطلقه لدموعها العنان ، فكرت بحزن ان كل ما وصلت إليه حتى الان يعود فضله بعد الله إلى والدتها الثانيه رحاب التى سخرت منها منذ قليل
ففى الحقيقه كانت تعاملها بحنان اكثر من طفلها الوحيد ، حتى عندما قرر السيد غريب والد فريد ان يعهد بتربيته إلى معلمه خاصه لتعليمه كافه أصول الاتيكيت متعللاً انه لايثق فى خادمه لتنشئة ولى عهده اصرت امامه السيده رحاب ان تتلقى حياة نفس التنشئه وتحضر معه كافه الدروس حتى تتعلم كيفيه التصرف كسيده مجتمع منذ صغرها ، وبالطبع لم يكن فريد ليتركها فوافق والده مجبراً، وعندما حان موعد دراستها الاكاديميه اصرت على صديقه عمرها ووالده حياة ادخالها مدارس الراهبات لتتلقى افضل تعليم للفتيات فى ذلك الوقت وبالطبع تكفلت بكل مصاريفها فى مراحل تعليمها الاولى ، حتى بعد وفاتها علمت حياة انها آمنت مصاريف دراستها حتى المرحله الاعداديه وعندما انتقلت بعد ذلك إلى المدارس الحكومية كانت قد حُفر داخل ذاكرتها كل ما تعلمته منذ صغرها فكان يُعجب بأخلاقها ورقتها وفطنتها فى التعامل كل من يراها ، والآن هكذا يكون رد الجميل لها ؟!، السخريه من ذكراها ؟!، فكرت بضيق وحزن انها منذ وصولها إلى ذلك المنزل وهى تشعر بالغضب على الدوام حتى انها أصبحت لا تعرف نفسها فالطالما كانت هادئه ذات نفسيه متوازنه لاتسمح لايا كان ان يؤثر بسلوكها حتى والدها ولن تسمح لفريد الان بان يحولها إلى شخص فظ مثله ، هذا ما قررته وهى تجفف دموعها وتنطلق نحو الباب المشترك بينهم