لقد ورد ذكر قصّة سيّدنا سليمان عليه السّلام في القرآن الكريم في عدّة سور، ومنها سورة الأنبياء، والنّمل، وسليمان عليه السّلام هو واحد من أعظم الأنبياء الذين تحدّث عنهم القرآن الكريم، وقد كان ملكاً ونبيّاً عظيماً، وابن ملك ونبيّ عظيم، وهو داوود عليه السّلام، قال الله سبحانه وتعالى:" وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ "، النمل/16.
وقال ابن كثير:" ورثه في النبّوة والملك دون المال، لأنّ مال الأنبياء لا يورّث وما تركوه صدقة، وقد خصّه الله تعالى بأشياء قصّها علينا القرآن الكريم، منها أنّ الله تعالى علمه منطق الطير... وملكه على الإنس والجنّ والطير... قال الله تعالى:" وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ "، النمل/17 ".
قال الله سبحانه وتعالى:" فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ* وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ* وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ* هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ* وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ "، ص، وقد عاش سليمان عليه السّلام قرابة الاثنين وخمسين عاماً، وكان ملكه أربعين عاماً، وقد نقله ابن كثير في قصص الأنبياء عن الزّهري وغيره، وقال ابن جرير كان عمره نيفاً وخمسين سنةً.
وعندما حضر أجل سليمان عليه السّلام، رغب في أن يعلم الإنس أنّ الجنّ لا تقدر على علم الغيب، فقام يصلي متوكّئاً على عصاه، فقبضه ملك الموت وهو على تلك الحالة، فمكث سنةً على تلك الحال، وهم يظنّون أنّه يصلي، قال الله سبحانه وتعالى:" فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ "، سـبأ/14. (1)
خفاء موت سليمان على الجن
لقد قصّ الله سبحانه وتعالى خبر وفاة سليمان عليه السّلام في القرآن الكريم، وكيف أنّ موته قد خفي على الجنّ، وذلك حتّى يعلم النّاس أنّ الجنّ غير مطلعين على أمور الغيب، ولم تذكر المدّة التي بقي فيها الجنّ يعملون دون أن يعلموا أنّ الله سبحانه وتعالى قد قبض روح سليمان عليه السّلام، ولم يذكر كذلك حال أهله أعلموا أم لا، وقد ذكر أصحاب التّفسير القصص الكثيرة حول ذلك، ومنها أنّه كان عليه السّلام يتبتّل فترةً، حيث يخلو فيها بنفسه، ويتزوّد لها، ولا يدخل عليه أحد في حينها، وقد صادف موته تلك الفترة، قال البغوي:" قال أهل العلم: كان سليمان عليه السّلام يتجرّد في بيت المقدس السّنة والسّنتين والشّهر والشّهرين، وأقلّ من ذلك، أو أكثر، يدخل فيه طعامه وشرابه فأدخله في المرّة التي مات فيها ".
وقد ذكر ذلك الطبري أيضاً، وابن كثير، وغيرهما، وذكر القرطبي روايةً أخرى فقال:" وقيل: كان رؤساء الجنّ سبعةً، وكانوا منقادين لسليمان عليه السّلام، وكان داود عليه السّلام قد أسسّ بيت المقدس، فلمّا مات أوصى إلى سليمان في إتمام مسجد بيت المقدس، فأمر سليمان الجنّ به، فلما دنا وفاته قال لأهله: لا تخبروهم بموتي حتى يتمّوا بناء المسجد، وكان بقي لإتمامه سنة.."، وقال أبو جعفر النّحاس:" وهذا أحسن ما قيل في الآية، ويدلّ على صحّته الحديث المرفوع (وفيه) قول سليمان: اللهم عم عن الجنّ موتي حتى تعلم الإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب.. ".
وقال الطاهر بن عاشور:" إنّ تلك المدة لم تطل كثيراً، فقال في التحرير والتنوير: " فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ "، إلى آخره، لا شكّ أنّ ذلك لم يطل وقته، لأنّ مثله في عظمة ملكه لا بد أن يفتقده أتباعه ". (2)
دروس من قصة سليمان وبلقيس
هناك مجموعة من الفوائد والدّروس التي من الممكن للمسلم أن يستفيدها من قصّة سليمان عليه السّلام مع بلقيس ملكة سبأ، ومنها: (3)
حسن التقدير والاحترام والفهم، وذلك لمحتوى الرّسالة التي قام الهدهد بإلقائها على قوم بلقيس، حيث قالت:" قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ "، النمل/29-31.
الشّورى، وذلك لأهل الاختصاص والأمر، وأن لا يكون هناك ديكتاتورية في الحكم، حيث عرضت بلقيس ملكة سبأ قضية كتاب سليمان على الملأ من قومها، والذي التي يترتب عليه ان يتمّ تغيير عقيدتهم، وعبادتهم، وسيادة مملكتهم، حيث قالت:" قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ "، النمل/32، وقد أجابوها بحسن ظنّهم بها، وتقديرهم لفكرها، واعتزازهم بمملكتهم، وثقتهم في قوّتهم الماديّة، حيث قالوا:" قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ "، النمل/33.
العلم بتاريخ الملوك، والأمم، والغزاة، حيث قالت:" قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ "، النمل/34.
حسن تقيم الموقف السياسي والعسكري: حيث قامت بلقيس بإرسال هديّة إلى سليمان عليه السّلام، لتعرف إن كان ملكاً من ملوك الدّنيا، فإنّه سيفرح بها، ويقبلها، وبالتالي يخفّف ذلك من التّوتر بين المملكتين، وإن كان نبيّاً مرسلاً من عند الله سبحانه وتعالى فإنّه سيرفض الهجية،
ولن يرضى إلا بتغيير العقيدة وإعلان الإسلام، إضافةً إلى أنّ الرّسل الذين أرسلتهم سيقدرون على تتبّع أخبار سليمان عليه السّلام، وملكه، وجنده، فوافقها عامّة الشّعب على ذلك، وأرسلوا بالهدايا إلى سليمان عليه السّلام، وأسرفوا فيها لكي تليق وتحظى بالقبول عند سليمان عليه السّلام.
وعندما جاء الرّسل إلى سليمان عليه السّلام قام برفض هديّتهم، وأصيبوا بالدّهشة من ملكه وجنوده من الإنس والطير والحيوانات، وأعلن رفضه بقوله:" فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ "، النمل/36-37، وعندها قرّرت بلقيس أن تذهب مع كبار قومها إلى سليمان عليه السّلام، وذلك لكي تصل إلى حلّ سلمي ودِّي، بما يستقرّ عليه التفاوض فيما بينهما، سواءً أكان في العقيدة أو الملك.
الذّكاء والفطنة، حيث كانت الرّحلة بين سبأ واليمن إلى القدس حيث يقيم سليمان عليه السّلام تستغرق قرابة الثّلاثة أشهر، وأراد سليمان عليه السّلام أن يقوم باختبار ذكاء الملكة بلقيس، وذلك من خلال أن يظهر لها فضل الله عليه، وأن يريها ملكه الذي لا ينبغي لأحد أن يملك مثله، فأراد أن يحضر لها كرسي عرشها من مملكتها إلى مملكته ويجلسها فوقه،
فقال لجنوده:" قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ "، النمل/38، فأجابه عفريت من الجنّ:" أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ "، النمل/39،
أي أنّه سيقوم باحضاره في غضون ساعات، ثمّ قال الذي عنده علم من الكتاب لسليمان:" أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ "، النمل/40.