حين وصلنا إلى بيت أهلي، كنت على شفير الانهيار. كل ما أردت معرفته هو مصير طفلي، أين هو؟ لماذا لم أره؟ ماذا حدث له؟ كانت هذه الأسئلة تدور في رأسي كدوامة لا تنتهي. دخلت المنزل بصعوبة، أمسك بيدي والدي، وكنت أترنح بين الوعي والغياب، وقلبي يحترق. جلست على الأريكة، وأنا أكرر بصوت مبحوح: "أين ولدي؟" نظرت إلى زوجي، وكانت عيناه باردتين، لا تحملان أي تعاطف أو شفقة.
التفت والدي إلى زوجي وسأله بحدة: "ما الذي يحدث هنا؟ لماذا هي في هذه الحالة؟"
نظر إليه زوجي، ثم قال ببرود لا يوصف: "ولدت الطفل ميتًا، ودفناه. كل شيء انتهى الآن، وما كان بيننا انتهى أيضًا."
توقفت أنفاسي. كلمات زوجي كانت كخناجر مغروسة في قلبي، شعرت بأن الأرض تهتز من تحت قدمي. لم أستطع تصديق ما سمعته. كيف انتهى كل شيء بهذه السهولة؟! الطفل؟ دفن؟ متى؟! لماذا لم يخبرني؟! لم أشعر سوى بصرخة تخرج من أعماقي، وكأنها تعبر عن كل الألم المتراكم داخلي. شعرت أنني على وشك الجنون، لم أعد أرى شيئًا، كل ما حولي كان يختفي ويتلاشى، ثم سمعت كلماته الأخيرة:
"الشيء الوحيد الذي كان يربطنا قد ذهب، الحمد لله. الآن يمكننا إنهاء هذا الزواج."
ثم التفت إليّ، وبكل برود، قال: "أنتِ طالق."
خرج بعدها، وأغلق الباب خلفه، وكأنني صفحة قديمة يريد أن يمزقها من كتاب حياته. تحطمت كل أحلامي في لحظة واحدة. لم أعد أستوعب ما يحدث. صرت أصرخ كالمجنونة، أحاول فهم ما يجري. هل هذا حقيقي؟ هل أنا في كابوس؟ كنت أصرخ وأبكي، أضرب رأسي وأحاول إخراج كل هذا الألم من داخلي. أذكر أن والدي حاول تهدئتي، لكنني لم أكن أسمع شيئًا. شعرت أنني أسقط في هاوية لا قاع لها.
مرّت الأيام، وأنا في حالة من الصدمة. كنت كالمشلولة، جسدي وعقلي قد تخدّرا. لم أكن أنام، لم أكن آكل، فقط أعيش في عذاب متواصل. ثلاث شهور مرت، وأنا في هذا الجحيم. لا أتكلم مع أحد، أعيش في صمت قاتل. في الليل، كنت أسمع صوت طفل يبكي في كل مكان، يلاحقني في أحلامي وكوابيسي. كنت أركض في أرجاء البيت كالمجنونة، أبحث عنه، أناديه، أريد أن أضمه، أريد أن أسمع صوته يناديني. بدأت أتكلم بأشياء غريبة، أقول كلمات غير مفهومة، وكأنني انفصلت عن الواقع.
أحضر لي والدي طبيبًا نفسيًا، وبدأت أتناول المهدئات، علّها تخفف من جنوني. عشت على الأدوية لسنوات، خمسة أعوام وأنا لا أعلم ما الذي يحدث من حولي. غارقة في عالمي الأسود، عالم من الحزن والجنون. كنت جسدًا بلا روح، تمزقني ذكريات ابني الذي لم أره، وزوجي الذي تركني في أسوأ حالاتي.
ثم، شيئًا فشيئًا، بدأت أخرج من هذه الدوامة. دعم أهلي كان السبب الوحيد الذي جعلني أعود إلى الحياة. كانوا صبورين معي، تحملوا صراخي، تحمّلوا انهياراتي، وكان حبهم هو ما أعادني من جديد. بدأت أتعافى، ببطء شديد، لكنني بدأت أعود إلى نفسي. كان الحزن في عيون والدي ووالدتي، كان الألم في نظرات أختي، هو الدافع الذي جعلني أحاول أن أكون قوية من أجلهم. لا أريد أن أكون سبب حزنهم، لا أريد أن يروني محطمة أكثر.
مرت السنوات، ولم أعد تلك الفتاة المكسورة. لكن جرح قلبي لم يلتئم أبدًا. علمت بعدها أن طليقي تزوج مرتين، وفشل في كلا الزواجين. شعرت بالحزن عليه، ورغم كل ما حدث، لم أستطع إخراجه من قلبي. كنت أحبه، حتى بعد كل تلك المعاناة، كنت أحبه. أدركت أنني كنت ضحية لمؤامرة حقيرة، كان هو ضحية لصديقه الخبيث، لكن كان من الصعب أن أنسى كيف تخلى عني. كنت أتساءل بيني وبين نفسي: كيف صدق كل ذلك؟ كيف لم يمنحني فرصة للدفاع عن نفسي؟ كيف تركني أتحطم أمامه ولم يحرك ساكنًا؟
خلال كل تلك السنين، نقل طليقي وظيفته إلى منطقة الجنوب، وانقطعت أخباره تمامًا. لم أعد أعلم عنه شيئًا. كان جزءًا من ماضٍ مؤلم حاولت أن أدفنه. ركزت على حياتي، أكملت تعليمي، وبدأت العمل في أحد البنوك. حاولت أن أبدأ من جديد، أن أبني لنفسي حياة، وإن كانت فارغة من الحب.
وفي أحد الأيام، كنت عائدة من العمل، منهكة بعد يوم طويل. دخلت البيت، وكان الوقت بعد العصر بقليل. رأيت ولد خالتي الصغير يلعب في الحوش مع طفل آخر في نفس عمره. كانا يضحكان، يركضان، بدا الجو مليئًا بالحيوية والبراءة. ابتسمت لهما وسألت ولد خالتي: "من هذا؟"
قال بفخر: "هذا صديقي."
ضحكت، ثم أخرجت من حقيبتي بعض النقود، وأعطيتهما: "خذوا هذه، اذهبوا إلى البقالة واشتروا ما تشاؤون."
اقترب الطفل الثاني مني، ونظر إليّ بعيون واسعة، ثم انحنى وقبّل رأسي: "شكرًا يا خالة."
شعرت بالدهشة، كان كبيرًا بعض الشيء على أن يفعل هذا. لكن شيئًا ما في داخلي اهتز، شعرت بشيء غريب يجذبني إليه. وقفت في مكاني، أراقبهما حتى اختفيا خارج البيت.
دخلت إلى الداخل، ما زلت أرتدي عباءتي، نزعت النقاب، وإذا بي أرى والدي يقف عند مدخل الرجال.
قال بلهجة جادة: "خلي عباءتك عليكِ، وتغطّي، تعالي معي."
نظرت إليه باستغراب: "لماذا؟ هل هناك أحد هنا؟"
ظننت أنه عمي، فقد كان من المفترض أن يزورنا اليوم. قلت: "سأسلم عليه، ثم سأذهب للنوم، أنا متعبة."
دخلت المجلس، وكل خلية في جسدي تجمدت. كان هو... طليقي، يجلس أمامي، وكأن الزمن قد عاد بي إلى الوراء. عيناه تراقبانني بنفس النظرات التي كنت أفتقدها، ولكن... كان هناك شيء مختلف.
هل كان هذا لقاءً جديدًا... أم أنه مجرد صفحة أخرى ستضاف إلى قصة معاناتي؟