الجزء السابع والأخير

وقفت في مكاني غير مصدقة، شعرت أن العالم من حولي يدور. ركزت نظري على طليقي، وقلبي يرتجف. هل يعقل؟ هل هذا ممكن؟! لم أستطع تمالك نفسي، تكررت كلماتي، كأنني أريد أن أسمع نفس الجواب مرة بعد مرة، لكن كل مرة كانت تقتلني أكثر:
"هو... الولد اللي بالخارج؟"
قال بهدوء، وصوته يحمل ندمًا ثقيلًا: "نعم، هذا عزيز، هذا ولدكِ."

شعرت أنني أختنق. أعيد نفس السؤال مرات ومرات، وكأنني أبحث عن إجابة مختلفة، أبحث عن شيء يطمئن قلبي.
"عزيز؟ ولدي؟"
كانت كلماته كالمطرقة على قلبي: "نعم، هذا هو عزيز، ولدك."
في لحظة، شعرت أن كل شيء يتلاشى من حولي، لم أعد أشعر بنفسي، وجدت قدمي تركض خارج البيت، أركض في الشارع كالمجنونة، أنادي عليه، أبحث عنه. أين هو؟ أين طفلي؟ ركضت حتى شعرت أنني لا أستطيع التنفس. رأيته، هناك، يقف مع صديقه، كانا في طريق العودة من البقالة.

توقفت، قلبي يكاد ينفجر.
"عزيز!"
التفت إليّ الطفل، كانت عيناه مليئتين بالحيرة، لا يفهم لماذا أناديه بهذا الاسم. نظرت إلى وجهه، كان صغيرًا لكنه يشبهه تمامًا. نفس النظرات، نفس العيون التي تخيلتها لسنوات طويلة. ركضت نحوه، ضممته بكل قوتي، كأنني أريد أن ألتحم به، أن أطمئن أنه حقيقي، أنه ليس سرابًا. كان جسده صلبًا، ليس كما كنت أتخيله في أحلامي. كنت أبكي، لم أستطع السيطرة على دموعي، صرخت بألم:
"أنت عزيز؟!"
نظر إليّ بذهول، ثم قال: "نعم، أنا عزيز."

ad


ضمت ذراعيه الصغيرتين، وألصقته بصدري، وأنا أبكي بحرقة لا يعلمها إلا الله. شعرت أن سنوات من الألم تنفجر بداخلي. كيف لم أعرف؟! كيف لم أشعر؟! عزيز، طفلي، كان هنا، أمامي طوال هذا الوقت. حاول أن يتملص من بين يديّ، نظر إليّ بخوف، عيناه تملؤهما الحيرة، ثم قال بصوت صغير: "خالة... ماذا هناك؟!"
كانت كلماته كطعنة أخرى، خالة؟! لماذا يقول لي خالة؟! شعرت أن قلبي يتمزق. فجأة، جاء أبي، أمسك بي بلطف، وحاول تهدئتي.
"تعالي، يا ابنتي، تعالي ندخل."

نظر عزيز إليّ، ثم جرى بسرعة إلى والده، وكأنني وحش يريد الهرب منه. نظرت إليه، كانت عيناي تملؤهما الدموع، والحرقة تأكل قلبي. لماذا يجري مني؟ لماذا يخاف مني؟!
كنت أراقبه وهو يركض نحو أبيه. زوجي السابق، أو الرجل الذي كان يومًا زوجي، نظر إليه بحزن، ثم قال لي بصوت منخفض:
"أخبرته أنكِ... ميتة."
تجمدت في مكاني، شعرت أنني تلقيت ضربة على رأسي.
"ماذا؟!"
لم أعد أستطيع الكلام. أخبر طفلي أنني ميتة؟! لماذا؟!

بعد يومين، عاد عزيز إلى البيت مع والده. كنت أنتظر هذا اليوم بشغف وقلق، كنت متلهفة أن أحتضنه من جديد، لكنني لم أكن أعرف كيف أتحدث معه. دخل معي بخطوات مترددة، عيناه تتحركان بفضول وحذر. حاولت أن أبتسم، أن أبدو طبيعية، لكنني كنت أشعر بالارتباك. جلست أمامه، حاولت أن أقترب، لكنني شعرت بحاجز غير مرئي بيننا. مددت يدي للمسه، لكنه تراجع، وكأنني غريبة عنه.

مرّت الأيام، وكل محاولة مني للتقرب منه كانت تقابل بصمت، أو ابتسامة باهتة. لم يكن يعرفني. كنت أنا التي أحلم به كل ليلة، لكن بالنسبة له... أنا مجرد امرأة لا يعرفها. كنت أتساءل: هل سيحبني يومًا؟ هل سأنجح في بناء علاقة معه؟ كنت أريد أن أخبره كم اشتقت إليه، كم بكيت لأجله، لكن الكلمات كانت تعلق في حلقي. كان يناديني "خالة"، وكانت هذه الكلمة تقتلني في كل مرة أسمعها.

لم أكن أعرف كيف أتصرف، لم أكن أعرف ماذا أقول له. حتى بعد أن حاول والده أن يشرح له كل شيء، كان عزيز غاضبًا، غاضبًا مني ومن والده. لم يفهم لماذا لم أكن معه كل هذه السنوات، لماذا لم أبحث عنه. كيف يمكن أن أشرح لطفل صغير أنني كنت أعيش في جحيم؟ كيف يمكنني أن أخبره أن والده حرمني منه؟!

حاول والده أن يعيد العلاقة بيننا، حاول أن يقنعني أن أعود إليه، لكنني رفضت. كيف أعود؟! كيف أثق به بعد كل ما فعله؟! أخبرته أنني لن أسمح له بالتحكم في حياتي مرة أخرى. أخذت عزيز معي، قررت أن أبدأ من جديد، أن أحاول تعويضه عن كل شيء. لكن الحقيقة كانت أصعب مما تخيلت. مرّت السنوات، وكبر عزيز، لكن بيننا كان هناك فجوة كبيرة، فجوة لم أستطع ملأها.

أحيانًا، كنت أراه ينظر إليّ بحزن، وكأنه يحاول أن يفهم، يحاول أن يجد مكانًا لي في قلبه. كنت أخاف أن أقترب، كنت أستحي أن أضمه. لم أكن أعرف كيف أكون أمًا له. كان يناديني "خالة" حتى بعد أن عرف الحقيقة. كان يحترمني، يحاول أن يتعامل معي، لكنه لم يكن يراني كأمه. لم يكن يشعر بذلك الدفء الذي يشعر به الأطفال مع أمهاتهم. وكنت أشعر بالضعف، بالخوف، من أنني لن أستطيع أبدًا كسب حبه.

الآن، صار عمره 17 عامًا. نحن نحاول جاهدين أن نتقرب من بعضنا، أن نبني جسورًا بيننا. لكنه لم يعد طفلًا، لقد كبر، وأنا لم أكن جزءًا من طفولته. أدري أنه يحبني، لكنه حب مختلف. ليس كحب الأم. وأنا أيضًا أحبه، لكن ليس كما تحب الأم ابنها. هناك شيء مفقود، شيء ضائع لا يمكن استعادته.

أحيانًا، أجلس وأتساءل: هل كان يمكن أن يكون الأمر مختلفًا؟ هل كنا سنكون أمًا وابنًا بحق لو لم يحدث كل ذلك؟
لكن كل هذه التساؤلات لا فائدة منها الآن. لقد حُرمنا من بعضنا، وكنا مجرد ضحايا لصديق خبيث، ولرجل ضعيف لم يستطع أن يميز الحقيقة من الكذب.

مرّ ذلك الرجل الآن، رحل عن هذه الحياة. لكنني لا أستطيع أن أسامحه. لا أستطيع أن أغفر له كل ما سرقه منا. أما طليقي، فهو أيضًا ضحية. لكنه كان له الحق أن يحرمني من طفلي؟! كان له الحق أن يدمرني ويدمره؟! لا، لن أسامحه أبدًا.

كل ما أطلبه الآن هو أن يؤلف الله بين قلوبنا، أنا وولدي، أن يحنن قلبه عليّ، وأن أستطيع أن أعوضه ولو قليلًا عن كل ما فقدناه. أدعوا لنا، أن نصبح كما كنا يجب أن نكون... أم وابن، لا أكثر ولا أقل.

النهاية

عزيزي القارء اذا وصلت الى هنا لاتنسى ان تقييم الرواية بنجمة وان تكتب تعليق على الرواية  يسعدنا ان نسمع ارائك واقتراحاتك

شكرا لكم 

ad




إعدادات القراءة


لون الخلفية