الجزء السادس

لم أكن أتصور أنني سألتقي به مرة أخرى. كنت أقف أمامه، متجمدة في مكاني، بينما عاد الزمن يجرني إلى الوراء. كل تلك الآلام والجروح التي ظننت أنني دفنتها عادت لتفتح من جديد. كنت أرى طليقي أمامي، يقف مبتسمًا، وكأنه سعيد برؤيتي. كلماته الأولى كانت كالصاعقة:
"أريد التحدث معك في أمر مهم."
شعرت بألم عميق يمزق قلبي، فقلت له ببرود: "لا يوجد بيننا شيء لنتحدث عنه، لقد انتهى كل شيء منذ زمن."

كنت على وشك أن أدير ظهري وأخرج، لكن أبي أمسك بيدي فجأة. نظرت إليه، وقلبي يرتجف من نظراته. كانت عيونه مليئة بالدموع، كأنها تعكس كل الآلام التي عانيتها. بكى والدي، الرجل القوي الذي لم أره يبكي يومًا. شعرت بالقلق، لم أفهم ماذا يحدث. همس لي بصوتٍ متهدج:
"أرجوكِ، اسمعيه إلى النهاية."
ثم جلس بجانبي، وضع يده على كتفي كأنه يحاول أن يحميني من عاصفة قادمة، يحاول أن يخفف عني ألمًا لا يعرف كيف يواجهه.

نظرت إلى طليقي، لم أعد أرى أمامي سوى ظله، لم أعد أستطيع حتى التركيز. قلت بصوت متحشرج: "قل ما لديك بسرعة."
جلس طليقي، بدا متوترًا، ثم بدأ بالكلام.
"هل تذكرين فلان؟"
أومأت برأسي، شعرت بالغضب يتصاعد في صدري. طبعًا أتذكر ذلك الخبيث، وكيف لا أتذكره وهو من دمّر حياتي؟!
قال بصوتٍ هادئ: "جاءني واعترف لي بكل شيء."
تجمدت في مكاني، حدقت فيه، لا أصدق ما أسمعه.
"اعترف؟ اعترف بماذا؟"
تابع، وكلماته تخرج كالشظايا، تقطعني واحدة تلو الأخرى: "اعترف بأنه كان يكذب علي، اعترف أنه كان يخطط لتدميرنا. لقد كنت بريئة، كل ما قاله كان كذبًا."

ad


شعرت أنني أغرق في دوامة، لم أعد أسمع سوى صوته. كانت عبارات الاعتذار تتوالى، وكل كلمة منه كانت كالسيف يغرسه في قلبي. قال بصوت يملؤه الندم:
"أنا أحبك. لم أتزوج بعدها لأني لم أكن أريد أحدًا غيرك. قضيت هذه السنوات وأنا أعيش على أمل أن أراك، أن أطلب منك السماح."
تمنيت لو أستطيع إيقاف هذا الحديث. لا أريد أن أسمع شيئًا. لا أريد أن أصدق. كنت أتحرك كأنني في حلم، رأسي يدور، وأصابعي ترتعش.

ثم فجأة، قال كلمة أيقظتني من شرودي.
"أنا وعزيز..."
توقفت أنفاسي. عزيز؟! هذا الاسم كان لي. كان لطفلي. تذكرت اللحظات التي كنت أتخيله فيها، كيف كنا نتناقش أنا وهو على الاسم، ثم اتفقنا أخيرًا: "عزيز". كان ذلك قبل أن يأتي ليخبرني أن طفلي مات. قبل أن يدمر كل شيء.
"من عزيز؟" قلت بصوت مخنوق.
نظر إليّ بحزن، ثم همس: "عزيز... ولدنا."
نهضت من مكاني، شعرت أنني أفقد عقلي: "ولدنا؟ ولدنا مات! لقد قلت لي إنه مات!"

أطرق برأسه، وكأنما ندمه يثقل كاهله، وقال:
"لقد كذبت... كنت غاضبًا، كنت أريد أن أنهي كل شيء. لم أرد أن يكون هناك شيء يربطنا. قلت لك إنه مات حتى أقطع كل صلة بيننا."
صرخت بألم لا يوصف: "طفلي! كل هذه السنوات... طفلي كان حيًا؟! وأنت حرمتني منه؟!"
كانت عيناه تفيض بالدموع، حاول أن يقترب مني، لكنني دفعته بعيدًا بكل ما تبقى لي من قوة.
"الله يحرق قلبك مثل ما حرقت قلبي!"
انهالت يداي عليه، أضربه على صدره، أصرخ، أبكي، كأنني أريد أن أخرج كل الألم من داخلي. كيف يمكن أن يفعل هذا بي؟! كيف يمكن أن يحرمني من طفلي؟!

ثم فجأة، تذكرت الطفل الذي رأيته اليوم، الطفل الذي كان يلعب مع ولد خالتي. عادت صورة وجهه إلى ذاكرتي، عيناه، نظراته... شعرت بشيء غريب يجذبني إلى تلك اللحظة. صرخت وأنا أحدق في وجه طليقي: "الطفل الذي كان هنا... هل هو...؟"
رأيت الدموع تنهمر من عينيه، هزّ رأسه موافقًا، وقال:
"نعم، هو. هذا هو عزيز."

شعرت أنني على وشك الانهيار. لم أعد أصدق ما يحدث. كان طفلي أمامي؟! كل هذه السنوات، وهو أمامي، وأنا لا أعلم؟!

ركضت خارج المجلس، لم أكن أعرف إلى أين أتجه. كنت أبحث عنه، كنت أريد أن أراه، أن أضمه. وجدت نفسي في الحوش، ألهث من شدة البكاء. رفعت عيني، فرأيته يقف هناك، ينظر إليّ بتعجب. كان ولد خالتي بجانبه، ينظران إليّ وكأنهما لا يفهمان لماذا أركض نحوهما.

وقفت أمامه، أنظر إليه بعينين مملوءتين بالدموع.
"عزيز...؟"
لم يفهم، نظر إليّ باستغراب. "من أنتي؟"
انحنيت، أمسكت بوجهه بيديّ المرتجفتين، وقلت بصوت مخنوق: "أنا... أنا... أمك."
أطلق ولد خالتي ضحكة صغيرة وقال: "يا خالة، هو مو فاهم. هذا صديقي."

لكن عزيز لم يتحرك، كان ينظر إليّ بعينيه الواسعتين، شيء ما في داخله بدأ يتغير. ثم فجأة، أطلق ابتسامة صغيرة، نفس الابتسامة التي كنت أتخيلها في أحلامي. شعرت أنني أعيش في حلم، لا أريد أن أستيقظ منه.

هل هذا حقًا هو طفلي؟ هل هذا هو ابني الذي حُرمت منه كل هذه السنوات؟!

لكن، ماذا بعد؟ ماذا سيحدث الآن؟ هل سأستطيع أن أستعيده؟ هل سيفهم من أنا؟ وهل سيعوضني هذا اللقاء عن كل ما فقدته؟

ad




إعدادات القراءة


لون الخلفية