الجزء 1

المشهد الأول:-

فرت هاربة تركض بأقصى سرعة لديها،بينما وتيرة أنفاسها قد زادت بشدة،من كثرة الركض..والفزع أيضاً!...
فستانها القصير ذي اللون الوردي يتطاير بفعل الهواء المحمل بالأتربة الذي يلفح في وجهها فتحاملت قدر المستطاع ألا تغلق عينيها من الاتربة العالقة بها،وخصلاتها البنية القصيرة صارت مشعثة بفعل الهواء،كانت تحمل بين يديها حذائها الأنيق ذي الكعب المرتفع بعدما خلعته لكي تستطع الركض بأقصى سرعة لتنجو بحياتها من ذلك المأزق الذي وُضعت فيه،أدرات وجهها للخلف بينما تستمر بالركض لترى أهنالك أحداً خلفها أم لا فتنهدت براحة قليلاً بعدما رأت خلو المكان،ولكنها استمرت بالركض علماً منها أنهم سيأتون في أقرب وقت..
تلفتت حولها علها تستطع رؤية أي شخص لينقذها،إلا أنها كانت في صحراء جرداء خالية من البشر تماماً،والأدهى في ساعات متأخرة من الليل!،فمن ذلك المجنون الذي سيكون هنا في ذلك الوقت؟!...
استطاعت رؤية أخيراً الطريق من على بعد،فأشرقت قسمات وجهها بأمل ثم أسرعت ركضاً نحوه،حانت منها نظرة للخلف فوجدت رجلين على مسافة بعيدة عنها يسرعان نحوها وصياحهما سمعته من على بعد،ارتجفت بفزع فور رؤيتهما وعلقت أنظارها على الطريق لعل هنالك أحداً سينقذها من مصيرها ذاك.
ثبتت حدقتاها على إضاءة سيارة قريبة،فخطت مسرعة حتى توسطت عرض الطريق أمام السيارة،فما كان من السائق إلا أنه أوقف السيارة سريعاً وقد ظهرت إمارات الرعب على محياه بعدما كاد أن يرتكب حادثاً وشيكاً.
ركضت نحو الباب ثم فتحته واستقلت السيارة،وحدثت السائق قائلة بسرعة بينما نظراتها على الرجلين القادمين:-
"هيا...أسرع رجاءً"
حدق فيها بنظرات متعجبة من حالتها الرثة،ثم صاح قائلاً:-
"ما الذي تفعله فتاة مثلك في تلك الصحراء وفي منتصف الليل؟!!"
تشبثت بذراعه المعضل،وقالت في توسل لتحثه على الإسراع:-
"سأخبرك،ولكن الآن انطلق قبل أن يلحق بنا الرجلين"
"مهلاً...ماذا؟!!"
هتف بها ذاهلاً،فالتفت بوجهه للجهة الأخرى وقد لمح الرجلين الذين بيد كلاً منهما سلاحاً،فعاود النظر لها وتساءل في توجس:-
"من هذان؟!!"
لم ترد عليه،وببغتة منها ضغطت على دواسة الوقود،فانطلقت السيارة مسرعة وسط شهقته الفزعة من فعلتها المباغتة،وهنا قد صدع صوت العديد من الرصاصات في الهواء،فتحكم أخيراً في عجلة القيادة بعدما أجبرها على تركها قبل أن تنقلب بهما السيارة، ثم زاد من السرعة قبل أن يصاب برصاصة من تلك الرصاصات الطائشة،هدأ من سرعة السيارة أخيراً بعدما ابتعد عنهما بمسافة معقولة،ثم قال للفتاة بلهجة آمرة:-
"أخبريني الآن من أنتِ،وماذا جاء بكِ إلى هنا،ومن هذان الرجلان؟!،وإلا أتوقف على جانب الطريق وأترككِ هنا لهما"
توجست خفية من تهديده ذاك،فقالت سريعاً:-
"حسناً،حسناً...سأخبرك ولكن لا تتركني هنا"
صمت وركز على الطريق ليحثها على الحديث،فبدأت بقص حكايتها قائلة:-
"أدعى علياء،وكنت أستقل سيارة أجرى ولكن مالكها كان ثملاً،فحاول التهجم علي هنا،واستطعت الفرار منه"
التفت لها بنظرات غير مصدقة،وقد ضيق عينيه بشك:-
"تقولين أن مالكها فقط من حاول التهجم عليك...وماذا عن الرجلين؟!،أم أن المالك إنشطر إلى نصفين وتكاثر ميتوزياً!!"
لمحت السخرية في نبرته،فحاولت تبرير كذبتها وقالت متلعثمة:-
"كان هنالك سيارة بها صديقه تلحقنا،ولم أكن أعلم"
"حسناً،سأحاول تصديقك يا علياء،ولكن داخلي يظن أنكِ كاذبة"
توترت خلاياها بشدة،فتسللت قطرات العرق على جبينها،ولكنها تصنعت الجدية والحزم:-
"كما تريد،ولكن ماذا سأستفيد إن كذبت عليك أو خدعتك"
لم يجب عليها واكتفى بهز رأسه بينما نظراته مركزة على الطريق من أمامه،حدقت فيه لبرهة تتأمل ملامحه،شاب وسيم في مقتبل عمره،خصلاته الكثيفة سوداء اللون،عيناه حادتان سوداء أيضاً،يزين وجهه شارب ولحية خفيفة،وملابسه..أيضاً سوداء!..
"ليرحمه الله من يرتدي تلك الملابس لأجله"
قالتها محدثة نفسها في لهجة ساخرة،بينما تابعت حوارها مع ذاتها:-
"المرء يرتدي شيء ملون حتى يتفاءل قليلاً فقط!!"
"هل يمكنك الكف عن السخرية من ثيابي؟!"
قالها في ضيق وجمود،فالتفتت له مسرعة وقد اتسعت حدقتاها في صدمة جلية،وتمتمت قائلة:-
"ماذا؟!!"
تقوس ثغره ببسمة ساخرة،ثم قال:-
"عندما تتحاورين مع ذاتك اخفضِ من صوتك قليلاً،وإلا ذلك لا يعد حواراً داخلياً!"
رفرفت بأهدابها عدة مرات لتدارك حماقتها،ثم أشاحت وجهها لجهة النافذة وقد تسللت الحمرة إلى وجهها.
"اللعنة علي وعلى حماقتي تلك،وأيضاً على لساني الذي لا يكف عن وضعي في مواقف كتلك"
مرت عدة دقائق يصاحبها الصمت فقط،فقررت البدء بأي حديث لإيقاف ذلك الملل الذي تشعر به وقالت:-
"لم تخبرني باسمك"
"أهو من شأنك؟!"
أغلقت جفناها بنفاذ صبر من سخريته الدائمة،ثم حاولت إستفزازه قائلة:-
"أتخجل من إخباري اسمك كالفتيات المراهقة!"
ثم تابعت بذات النبرة:-
"لا تقلق لن أخبر أحداً به،يمكنك الوثوق بي"
التفت لها يرمقها بنظرات مغتاظة،لقد استطاعت استيقاد غضبه فعلاً،فهددها قائلاً:-
"اغلقِ فمك ذاك،وإلا أدفنك هنا وسط الصحراء ولن يستطع شخص إيجادك"
كتفت ساعديها أمام صدرها وقالت في كبرياء:-
"وهل من المفترض أن أرتعب؟!"
"فتاة أخرى محلك كان من المفترض أن ترتعب من وجودها مع رجل أعزب في وسط الصحراء"
ضربت كف على الآخر بحماس ولم تعبأ بجملته تلك، ثم قالت:-
"حسناً لقد علمت شيئاً عنك أخيراً"
"ماذا؟!!"
تساءل في تعجب،فأجابته هي:-
"حالتك الإجتماعية،أنك أعزب"
حدق فيها لبرهة وقد تملك الذهول منه،فهز رأسه في قلة حيلة وتمتم:-
"يا الله..اعطني الصبر على هذه المصائب"
"هل تدعوني بالمصيبة الآن أم أنها تراهات؟؟"
قالتها رافعة حاجبها بكبرياء،فحذرها قائلاً وقد عبست ملامحه:-
"اغلقِ فاهك اللعين ذاك"
أجفلت لبرهة من غضبه الظاهر في مقلتيه المشتعلتين،فقالت في براءة زائفة:-
"حسناً، حسناً..ولكن لا تغضب هكذا"
زفر أنفاسه المختنقة على مراحل،فقاطع حدة الأجواء بينهما رنين هاتفه،فضغط على ذر الرد ومن ثم فعل مكبر الصوت حتى يستطيع القيادة،فجاءه صوت رجولي قائلاً:-
"أين أنت يا عثمان؟،لم تأتِ منذ ليلة البارحة!"
طافت على محياها ابتسامة عابثة،وحدقت فيه بنظرات تلمع بانتصار،فرمقها هو بضيق شديد عندما لمح مغزى نظراتها،ثم أجاب بينما عينيه معلقة عليها:-
"كنت قد ذهبت لطلب بعض الأشياء للورشة،وعندما تأخرت قضيت ليلتي في نزل قديم"
"حسناً،أسرع لأن أمي قلقت عليك كثيراً"
"أخبرها أني لست طفلاً صغيراً كي تقلق علي"
"هل تظن يا ولد أنك قد كبرت علي لأنك شارفت على الثلاثين!،ما زلت بالنسبة لي طفلاً يتبول على فراشه أثناء نومه"
جاء صوت والدته تلك المرة بمرح،فكتمت الفتاة ضحكاتها قدر المستطاع،وقد بسطت كف يدها على ثغرها حتى تكتم فاهها،ولكن ذلك لم يقلل من وجهها الذي اصطبغ بالحمرة،فرمقها "عثمان" بنظرات غاضبة ثم علق على حديث والدته:-
"ليس وقت ذلك الحديث الآن يا أمي،والآن أنا مضطر للإغلاق"
أنهى جملته بإغلاقه للخط،ثم التفتت للأخرى وقال في ضيق واضح:-
"هل يمكنك الكف عن رمقي بتلك النظرات،وليس هنالك سبباً للضحك"
كتمت ضحكتها وتنحنحت حتى تعدل من نبرة صوتها،وقالت متصنعة الجدية:-
"أعتذر..ولكن حس والدتك الفكاهي مرتفع"
لم تستطع تمالك نفسها أكثر من ذلك،فأطلقت ضحكة رنانة بعدما تذكرت عبارات والدته،فتأفف بضيق شديد وقال:-
"كفي عن الضحك"
وضعت يدها على وجهها ثم ضغطت بأسنانها على شفتها السفلية حتى تتمالك ذاتها،فقالت لاستفزازه:-
"لقد علمت عنك الكثير رغماً عنك،أولاً أعزب،ثانياً تدعى عثمان،ثالثاً اقتربت على اتمام عامك الثلاثون،ورابعاً....."
لم تستطع إنهاء جملتها وبدأت في الضحك من جديد،فصمت هو بفم مطبق إلى أن توقف،فحدثها قائلاً دون النظر لها:-
"عليكِ أن تحسني ضحكتك قليلاً لأنها تشبه قهقهات الراقصات"
"مهلاً.. ماذا؟!!"
قالتها محملقة فيه بصدمة كبيرة،فتوقف هو على جانب الطريق ومن ثم قال بابتسامة صفراء:
"لقد وصلنا إلى منطقة سكنية،هيا الوداع وأتمنى ألا أراكِ مجدداً"
التفتت حولها فوجدت بالفعل أنها في حي قريباً نسبياً من حيث تسكن،فرمقته بنظرات ماقتة ثم ترجلت من السيارة،وقصدت صفع باب السيارة بقوة شديدة،ثم قالت في سخرية:-
"لست مولعة بلقائك ثانيةً،أنا التي لا أتمنى رؤيتك مجدداً"
أشار لها بيده بالوداع ثم ضغط على دواسة الوقود وأسرع مبتعداً عنها،فوقفت هي تتابع أثر السيارة،وقالت متنهدة:-
"الوداع أيها الفظ الوسيم".


إعدادات القراءة


لون الخلفية