الجزء 8
المشهد الثامن:-
رفرفت بأهدابها عدة مرات لتستوعب تلك القنبلة التي ألقاها في وجهها وقد اتسعت عيناها في صدمة شديدة وشل تفكيرها تماماً،ثم قالت في ذهول:-
"ماذا؟!،ماذا تقصد...زواج ماذا!!!"
كادت أن تنفلت ضحكة منه على مظهرها ذاك،ولكنه تنحنح ثم اصطنع الجدية قائلاً:-
"نتزوج..أنا وأنتِ"
عاودت التحديق فيه ببلاهة،فهزت رأسها عدة مرات لتشوش أفكارها من جملته المباغتة،ثم هدرت به:-
"زواج ماذا!،هل جننت أنتَ الآخر؟!!"
تأفف بنفاذ صبر للسانها السليط،ثم حذرها قائلاً:-
"لا تطيلي لسانك !"
جن جنونها من بروده ذاك،فانتفضت واقفة كمن لدغتها أفعى،ثم هدرت في عصبية وقد ظنت أن مبتغاه سيء:-
"لا تقم بتهديدي يا هذا!،ماذا تظنني لأتزوج منك،هل أنا أعلم من أنتَ،هل أعلم إن كنت رجل ذو أخلاق أم كسائر الحثالة؟!!!"
وثب هو الآخر وقد طغى الغضب على محياه،فقد أهانته الآن،فصرخ بها بينما يميل نحوها قليلاً:-
"لا تصرخي،واعلمي الحديث الخارج من فمك ذاك!"
فعاودت الصراخ بنفس نبرته:-
"لا تجعلني افقد صوابي ثم تخبرني ألا أصرخ،هل تسمع أذناك ما يخرج من فمك الآن!!،من أنت لتطلب مني الزواج!!"
زفر أنفاسه في ضيق شديد وقد تملكه الغيظ من أسلوبها،فحاول تهدئة نبرته قليلاً:-
"ليس الزواج الذي تظنينه"
رفعت حاجبها في سخرية ثم صاحت قائلة:-
"وهل للزواج أنواع!"
صمتت لبرهة بعدما ترجم عقلها كلامته بصورة خاطئة،فضمت قبضتها ثم راحت تضربه بشراسة على صدره بينما تصيح:-
"أيها الحقير،تريد استغلالي والزواج مني بعقد عرفي!..سأقتلك أيها الحقير عديم الشرف"
صُدم من كلماتها في البداية،فثبت يدها بكفه وقال مصححاً:-
"ليس كذلك،اصمتي واستمعي لي"
لم تنفذ حديثه بل ظلت تلكمه بيدها الأخرى،بينما تصرخ بالعديد من السباب الغاضب في حقه،فكبل يديها ووضعهم خلف ظهرها،فبات وجهها في الجهة الأخرى وظهرها له،ثبت زراعيها بيد واحدة ثم بكفه الآخر كمم فاهها حتى لا يفضح أمره في المكان،وهدر بها قائلاً:-
"كفي عن السباب يا ذات الرأس السميك،وا....."
قطع جملته وصرخ متألماً بعدما غرزت أسنانها بباطن يده،فحرك كفه في الهواء من شدة الوجع وتفحص مكان أسنانها قليلاً فوجد أن كفه ينزف قليلاً من قوة عضتها،رفع وجهه لها يحملق فيها بدهشة شديدة،فهدرت هي به:-
"سأريك أيها المتحرش القذر،سأشتكيك للشرطة"
فالتفتت تنوي الرحيل لتنفيذ تهديدها ولكنه أسرع بالإمساك بزراعها رغماً عنها،وحاول تهدئتها قائلاً:-
"علياء،رجاءً استمعي إلي،لا أريد إصابتك بسوء...ذلك الزواج يصب في مصلحتك أنتِ فقط"
رمقته بشفاه متقوسة بتهكم،ثم تمتمت ساخرة:-
"ما ذلك الزواج الذي سيصب في مصلحتي يا سيد عثمان؟!!"
مسح بكف يده على وجهه بنفاذ صبر،ثم قال باصفرار:-
"اجلسِي وسوف أخبرك بكل شيء"
جذبت زراعها عنه بعنف،ثم كتفت ساعديها أمام صدرها وقالت بعناد بينما ترفع حاجبها في كبرياء:-
"لن أجلس"
امرها بحدة حتى يلين عقلها المتيبس:-
"قلت اجلسي يا علياء"
تمسكت بقرارها،ثم تحدته وهي تهز رأسها بالرفض:-
"وأنا قلت لن أجلس يا سيد عثمان"
أخذ شهيق عميق ثم زفره على فترات متقاربة،ثم باغتها بجذبه لها وأجلسها قسراً على المقعد وسط تذمرها وكلماتها الغاضبة،ثبتها على الكرسي ثم جلس هو الآخر مقابلاً لها،وأردف:-
"تلك الزيجة الهدف منها حمايتك فقط لا غير"
قطبت جبينها بتعجب ثم تساءلت فيما أشبه بالسخرية:-
"وما علاقة الزواج بحمايتي؟!!"
رمقها بنظرات مغتاظة قليلاً،ثم أجابها من بين أسنانه:-
"أنتِ تعلمين أن ظافر ورجاله لن يتركوكِ،وما يقومون به فقط لأنه ليس لديكِ حائطٍ تتكئي عليه"
وعند ختمه لجملته عبست ملامحها وظهرت بوادر الحزن على وجهها،فلديه كل الحق ليس هنالك من يحميها ويتصدى لبطش "ظافر" وتهديداته لها،عندما لاحظ "عثمان" عبوسها أسرع بالقول:-
"لا أخبرك ذلك لكي تحزني،أنا فقط أشرح لكِ الأوضاع،ولهذا عرضت عليكِ الزواج لكي أحميكي،وسيكون صوري فقط،أمام عائلتي نحن متزوجان،إنما من الباطن مجرد أصدقاء فقط،كي أكون الحائط المنيع لكِ حتى لا يصل إليكِ ظافر ويمل بعد معرفته بزواجكِ"
صمتت مطولاً ولم ترد عليه،فقد كانت تحملق به بتفكير فقد،فشعر هو أنها بدأت تلين،فأسرع بالقول:-
"ما رأيك...هل ستتزوجينَ بي؟"
كادت أن تجيبه بالموافقة،لكن لم تعلم ما الذي منعها،فوقفت وكتفت ساعديها أمام صدرها،ثم قالت برأس مرفوع بغرور:-
"لن أتزوج بكَ حتى لو أنت آخر رجل في العالم".....
****
بعد مرور قرابة الساعة أو أكثر...
"مرحباً يا أمي"
بادر "عثمان" بالتحية لوالدته التي كانت جالسة على الأريكة في غرفة المعيشة تتابع أحد البرامج على التلفاز،فالتفتت له بوجهها ثم قالت:-
"أووه مرحباً يا بني،ماذا جاء بكَ مبكراً اليوم"
ثبتت مقلتيها على تلك الواقفة خلفه بملامح عابسة،فوجهت حديثها لها قائلة بابتسامة ودية:-
"علياء ابنتي..ألم ترحلي بعد!"
هزت رأسها بالرفض مع تصنعها بابتسامة خفيفة،ثم أجابتها بنبرة رقيقة:-
"لا يا خالتي،فقد م..."
بتر حديثها "عثمان" تلك المرة وأردف:-
"جئنا لكي نخبركِ بقرار إتخذناه كلانا"
"ما هو يا بني؟؟"
تساءلت قاطبة جبينها،فأجابها بنبرة شبه مازحة:-
"ألم تكوني تريدين أن أتزوج يا أمي؟"
حدقت بكلامهما بحذر،ثم أجابته بتعجب قليلاً:-
"نعم..نعم يا بني"
في تلك اللحظة تحركت يده إلى أن قبضت على كف "ليالي"،ثم شبك أصابعهما ببعضها رغم رفضها الشديد ومحاولتها لحل وثاق كفها،ثم قال مصطنعاً الفرحة:-
"لقد قررت الزواج من علياء"
قالها بينما التفت برأسه محدقاً في عيني "ليالي" مباشرةً،ثم ابتسم حتى يتظاهر بالحب،فبادلته نفس البسمة رغم أن عينيهما كانت لها رأي آخر،فوثبت والدته من مجلسها وتقدمت منهما بينما تهتف متعجبة:-
"حقاً...هل تمزح يا بني؟!!"
"لا يا أمي..لقد وقعت في عشق علياء منذ أن رأيتها،فقررت الزواج بها"
ختم جملته باحتوائه لكتفي "ليالي"،فمالت هي نحوه متصنعة الابتسام ثم قالت من بين أسنانها:-
"أبعد يديك عني...اتستغل ذلك الأمر لصالحك!"
فعلق على حديثها هو الآخر قائلاً بنفس نبرتها:-
"استغلال ماذا؟!..أنا أقوم بذلك لأزيد من الدراما"
"اللعنة عليك وعلى درامتك"
فقطع معركتهم والدته عندما اقتربت منهما،ثم ضمتهما معاً إلى صدرها بعدما أشرق وجهها من السعادة،فها هو فلذة كبدها ابنها الاكبر قد قرر التخلي عن وحدته أخيراً بعد عناء،فهتفت في فرح كبير بينما تعانقهما:-
"مبارك عليكما يا بني...لقد فرحت بشدة"
ابتعدت عنهما ثم جذبتهما من زراعيهما ثم جلسوا جميعاً على الأريكة،فأردفت هي متحمسة:-
"إذاً...متى نقيم حفل الخطبة"
فأجابتها "عثمان بتردد:-
"لن يكون هناك خطبة يا أمي"
فصاحت مسرعة بتعجب:-
"لكن لمَ؟!!"
"نود أن نعقد قرآننا دون حفل زفاف حتى،فأنا فقط أريدها لا غير،بالإضافة أن ظروف علياء لا تناسب أن نقيم زفافاً"
ترقرقت عبرات الفرحة بعينيها،فضمت يديها إلى صدرها وقالت متأثرة:-
"حفظكما الله لبعضكما،صدقاً أرى العشق من عينيكما"
في تلك اللحظة كادت أن تنفلت ضحكة من ثغر "ليالي" لكن أسكتها وكزة من مرفق "عثمان"،رفعت وجهها له فوجدته يرمقها بنظرات محذرة،فباغتتها والدته تلك المرة بسؤالها:-
"وماذا عن عائلتك يا بنيتي؟"
فتحت فاهها لتجيب لكن سبقها رد "عثمان" :-
"والديها ليسا هنا،هما مقيمان في دولة أوروبية،أما هي فتعيش مع صديقتها وتعمل معها أيضاً"
"إذا ألن يأتي والديكِ يا ابنتي"
وجهت سؤالها تلك المرة إلى "ليالي"،فترددت هي قليلاً قبل أن تجيبها:-
" هما منفصلان يا خالتي،ولا أراهما قط،فكلاً منهما لديه عائلة،أما أنا فبمفردي هنا،وأعتبر نفسي يتيمة"
تأثرت والدة"عثمان" بشدة،فتناولت كف يدها ثم ربتت عليه بحنان،بينما تقول بتشجيع:-
"نحن عائلتك من الآن يا ابنتي،وناديني بأمي"
ابتسمت لها تلك المرة حقيقة وليس متظاهرة،فقد لامستها نبرتها الحنون بعدما كانت وحيدة،فأردفت:-
"حسناً يا أمي"
قطع حوارهما المؤثر قول "عثمان":-
"سنقيم عقد القرآن بعد ثلاثة أيام يا أمي"
حدقت فيه "ليالي" بنظرات حادة كأنها تخبره بعينيها "أليس مبكراً!"،لكن ابتسم لها ببرود واصفرار،فعلقت والدته قائلة:-
"ولكن شقتك يلزمها بعض الأشياء بعد يا عثمان،أين ستبقان؟!!"
"لا بأس يا أمي،سنمكث في غرفتي ريثما تنتهي"
وهنا قد أصابها السعال بشدة بعدما استمعت لجملته الأخيرة،مدت والدة "عثمان" يدها سريعاً وأعطتها كوب من الماء،فتناولته منها وتجرعته على مراحل،بينما اتسعت ابتسامة الآخر،تركت الكوب ثم ابتسمت هي الأخرى بغيظ شديد،فقالت والدة "عثمان" بقلق:-
"هل أنتِ بخير يا ابنتي؟؟"
هزت رأسها عدة مرات،وقالت بينما أسنانها تصطك ببعضهما:-
"نعم..لقد سعلت بعدما أصابني الحماس"
ربتت والدة "عثمان" على فخذها بحنان،ثم أردفت:-
"حسناً...كما تشاءان،سنوضب غرفتك لكما"..
ولج " سائر" شقيق "عثمان" للداخل بعد أن عاد من عمله،ثم وقف يحدق في الثلاثة أوجه التي أمامه إلى أن ثبتت حدقتيه عليها،تلك الفتاة الذي تذكر أنه رآها قبلاً،ارتعب "عثمان" وخشي أن يفضح شقيقه الأمر،فتقدم منهم بخطى بطيئة وعيناه لم تبرحان عنها،فبادرت والدته بالتعارف:-
"تعرف إلى زوجة شقيقك المستقبلية يا سائر"
دهش في البداية بشدة،ثم التفت بحدقتيه إلى شقيقه الذي كان يهز رأسه بالرفض خفية،فتردد "سائر" قليلاً قبل أن يشير إلى "ليالي" المتعجبة وقال:-
"أليست تلك ذات الفتاة؟!!"......