الجزء 3

المشهد الثالث:-

"لقد أخبرتك يا ليالي وأنت لم تستمعِ إلي"
قالتها "لين" بعصبية بينما كانت تجوب في الغرفة ذهاباً وإياباً،بينما كانت "ليالي" جالسة تتابع حركتها على الفراش دون أن تنبس ببنت شفة،فعاودت "لين" الحديث قائلة:-
"قلت لكِ ابتعدي عن ذلك الرجل ولا تستفزيه،ولكنك تشبثتي بعنادك اللعين ذاك"
"هل انتهيتِ؟"
بادرت بتلك الجملة ببرود شديد،فاقترب منها "لين" وقد جن جنونها من لا مبالاتها تلك وصاحت فيها:-
"اقسم إن لم تتخلِ عن عدم اكتراثك ذاك سأبرحك ضرباً"
جذبتها "ليالي" من يدها حتى أجلستها عنوة بجوارها،فقالت بينما تتنهد:-
"تقولين ألا أستفزه يا لين،لكني كنت أدافع عن شرفي،هل كنتي تريدينني أن ابتسم لرجل عرض علي مالاً مقابل ليلة؟!!"
كانت كلماتها منطقية قليلاً،فلانت نبرتها وقالت:-
"سيؤذيكي يا ليالي،أولاً تعرض لكي أكثر من مرة،وثم جعل رجاله يتعرضون لكي أيضاً،ومن ثم أرسل رجالاً لخطفك وقمتي بطعن رجلين منهم!!"
"كان يتوجب علي فعل ذلك!"
"أعلم...أعلم جيداً،ولكن سيعود عليك بالضرر"
بسطت كف يدها على وجهها،وقالت باقتضاب:-
"وماذا سأفعل؟!"
تريثت "لين" لبرهة قبل أن تأتيها فكرة،فأجابت:-
"يجب أن ترحلي لفترة"
"ماذا؟!!"
صرخت بها بعدما انتفضت محلها كمن لدغتها أفعى،فعاودت "لين" الحديث:-
"لفترة صغيرة حتى تهدأ الأمور يا ليالي"
هزت رأسها عدة مرات بالرفض،ثم غمغمت بلهجة قاطعة:-
"لا،لن يحدث ذلك،ولن أرحل مطلقاً من هنا"
"ولكن..."
قاطعتها بنبرة حازمة:-
"قراري قطعي"
تنهدت "لين" بقلة حيلة،وعلمت أن صديقتها ذات الرأس الصلب لن تلين أو ترجع عن رأيها،حتى ولو هنالك خطراً على حياتها...

****

مر يومان لم يحدث بهما جديد،حيث ظلت "ليالي" في منزلها ولم تخرج قط علهم يتركوها وشأنها،ولم تتركها "لين"،بل ظلت ترعاها خفية دون أن يراها أحد حتى لا تتأذى هي الأخرى،ولم تلبث "ليالي" إلا وقد سئمت من ذلك الوضع،وقررت العودة إلى عملها مرة أخرى كنادلة في مطعم كبير..
خرجت من مقر عملها سيراً على الأقدام حتى تصل إلى موقف الباصات،فتلك هي الوسيلة الوحيدة لعودتها،وقفت تنتظر الباص الذي سيقلها إلى حيها،ولم يكن هنالك الكثير من المرة نظراً لتأخر الوقت،فقد كان هناك سيدتين وطفل،وأيضاً رجلين لم تريحها نظراتهما،توجست خفية بعدما رأت نظراتهما المصوبة عليها،وعلمت داخلها أنهما من رجال المدعو "ظافر"،فحاولت تصنع البرود والتفتت بعدما تظاهرت أنها نسيت شيء يخصها.
أسرعت من خطواتها قليلاً،وحانت منها نظرة للخلف فوجدت الرجلين يلحقانها،لم تشعر بنفسها إلا وهي تركض مسرعة،وهما خلفها ينادونها بعلو صوتهما أن تتوقف عن الركض،ولكنها لم تنفذ حديثهما وزادت من سرعتها بينما علت وتيرة أنفاسها من الرعب،وأثناء نظرها للخلف التوى كاحلها،فتوقفت عن الركض وكادت أن تسقط على وجهها ولكنها حفظت اتزانها،صرخت بألم من كاحلها الذي ينبض بعنف،ورأت الرجلان يقتربان منها،فحاولت الوقوف مرة أخرى ولكن ما لبثت أن صرخت متألمة.
انتهز الرجلان تلك الفرصة،فاقتربا منها وعلى ثغرهما ابتسامة مستخفة،فتحدث أحد الرجلين قائلاً:-
"لقد وقعتي في يدنا أخيراً أيتها العاهرة"
تأوهت عندما جذبها لتقف عنوة رغم ألمها،ومن ثم عاود الحديث:-
"أولاً سنرسلك إلى السيد ظافر ليتسلى بك،ومن ثم سنتسلى نحن أيضاً بعده،ثم سنشوه وجهك الجميل ذاك حتى لا يتعرف أحد على ملامحك"
قالها وهو يملس بإصبعيه على وجنتها،فتقززت هي من لمسته وأبعدت وجهها عنه،وببغتة منها بصقت على وجهه وصاحت:-
"اللعنة عليك وعلى ذلك المعتوه الذي أرسلكما"
كفف وجهه من بصقتها،ثم رمقها بنظرات مغلولة اشتعلت بغضب،ومن ثم هوى على وجنتها بصفعة أطاحتها أرضاً وأدمت شفتيها..
"سأريك كيف تلعنينني وكيف تبصقين علي أيتها الفاسقة"
تلفتت حولها لتبحث عن أحد ينقذها منهما،ولكنها وجدت نفسها في زقاق مظلم وحيدة معهما،فحاولت الصراخ لعل أحدهم يسمعها:-
"أنقذوني،أنهما يحاولان خطفي،النجدة...أبعد يداك القذرتان عني واللعنة!"
صرخت بعدما حاول جذبها مرة أخرى وتكميم فاهها،فما كان منها إلا وعضت باطن يده بعنف فصاح هو متألماً.
أشرقت ملامحها بأمل بعدما سمعت اقتراب شخصٍ منهم ولكنها لم تستطع رؤيته لتحكم الرجل بها،ولكنها سمعت صوته يقول:-
"ماذا تفعلان بتلك الفتاة!!"
فأجابه الرجل بحدة:-
"ليس من شأنك،أذهب من هنا قبل أن نؤذيك"
لم يجفل الرجل من تهديده بل عاد يهتف:-
"اتركا تلك الفتاة الآن وابتعدا عنها"
شقت بسمة مستخفة على ثغر أحد الرجال،فاقترب منه وهو يغمغم قائلاً:-
"وإلا ماذا ستفعل أيها الرجل الشهم،هل ستنقذ عاهرة لم يعجبها البقشيش الذي أعطناه لها لأنها أرادت المزيد؟!"
ظهرت بوادر التردد على وجه الشاب،فهنا صرخت "ليالي" قائلة بينما تتملل حتى يحررها:-
"اللعنة عليك وعلى أكاذيبك أيها الفاسق،العاهر هنا هو أنت"
لا ينكر أنه شعر أن ذلك الصوت الأنثوي يعرفه،ويعرفه جيداً،فببغتة من "ليالي" ركلت الرجل في بطنه مما جعله يحل وثاقها ويصرخ متألماً،وإستطاعت رؤية الشاب أخيراً،فلم تلبث واتسعت عيناها بدهشة كبيرة ثم هتفت في ذهول:-
"أنت؟!!!"
ذهل "عثمان" بشدة،فآخر شخص تخيل رؤيته هي تلك الفتاة،ولكنه تحكم في ذهوله ثم جذبها حتى باتت خلفه،ولكم الرجل الآخر حتى فقد اتزانه وسقط أرضاً،ومن ثم ركل الآخر بين قدميه،فصرخ الرجل متألماً ولم يستطع الحراك من شدة الألم،جذب "عثمان" يد "ليالي" ثم حاول الركض قبل أن يصلا إليهما الرجلان،إلا أن الأخرى كانت لا تستطيع الركض وكانت تسير عرجاء من كاحلها،فهتف "عثمان" لها:-
"هيا أسرعي،سيمسكون بنا"
"لا أستطيع،كاحلي يؤلمني"
قالتها بتلعثم من ألمها،فزفر "عثمان" أنفاسه في ضيق وتمتم:-
"اللعنة على هذه المصائب"
"عودا إلى هنا،اقسم أني ساقتلكما معاً"
ما إن سمع صوت الرجل يهتف بتلك الكلمات،مال بجذعه إليها ثم حملها كشوال البطاطا وحاول الركض بها بأقصى سرعة استطاع الوصول إليها،بينما كانت الأخرى تصرخ بصدمة جلية من الوضع الذي هي عليه.
وصل إلى مكان ورشته،ففتحها سريعاً ثم ولج بها إلى الداخل بينما لا يزال يحملها،ثم أغلق باب الورشة بإحكام ووضع "ليالي" الذاهلة أرضاً حتى يلتقط أنفاسه الضائعة.
فتح الباب قليلاً وأطل برأسه ليرَ إن كان هناك أحد،فأبصرهما يبحثان في الأرجاء،عاود إغلاق الباب مرة أخرى ثم أشعل الأضواء وألقى نظرة على تلك التي تحملق فيه ذاهلة،فاقترب منها ثم قال بضيق:-
"لا تظهرين أمامي إلا وتأتين بالكوارث علي،ألم أخبركي أني لا أريد رؤيتك ثانية!"
هزت رأسها بعدما أفاقتها كلماته الساخرة،فعادت لكبريائها وقالت:-
"أتعلم..كنت سأشكرك ولكنك لا تستحق ذلك،وأنا أخبرتك أيضاً أني لست مولعة بلقائك"
"اللعنة على اليوم الذي رأيتك فيه"
كتفت ساعداها أمام صدرها وقالت:-
"إنك أكثر رجل فظ رأيته في حياتي،أظهر الإحترام ولو قليلاً!"
"أنا أظهر الاحترام لمن يستحقه"
قالها بملامح مبهمة،فاقتربت منه بخطوات عرجاء ثم تساءلت بحذر:-
"ماذا تقصد بقولك ذاك؟!"
حاول تغير الحديث فقال بينما ينوي الإنصراف:-
"سأجلب بعض الثلج قبل أن يتورم كاحلك"
جذبته من يده حتى توقف عن السير،وعاودت القول بغضب طفيف:-
"قل لي الآن ماذا تقصد بحديثك ذاك؟!"
"ألم تستمعي لكلام الرجلين عن البقشيش؟!"
أجابها وهو يرفع حاجبه ويرمقها بنظرات فهمتها جيداً،ففغرت فاهها بذهول ثم تمتمت قائلة:-
"أتظنني عاهرة؟!!"
لم يجب عليها بل اكتفى بالتحديق بها بفم مطبق،اشتعلت حدقتاها بوهج غاضب وتقلصت قسماتها،ضمت قبضة يدها الصغيرة ثم لكمته في صدره وهي تصيح:-
"اللعنة عليك وعلى مساعدتك،لا أريد شيء من شخص فظ مثلك"
انهت جملتها ثم سارت بتعرج نحو الباب،فقال بتساؤل:-
"إلى أين تذهبين؟!"
حاولت فتح الباب الحديد عدة مرات وقالت بتقزز:-
"أفضل أن ياخذاني الرجلين على أن أبقى معك هنا"
سار مقترباً منها،ثم جذبها من زراعها حتى يثبط قرارها لكن بلا فائدة،حاولت جعله يترك يدها بينما تقول:-
"ابتعد عني واتركني لأرحل من هنا"
"هل جننتي؟!،ما زال الرجلين يبحثان خارجاً"
"لا يهمني أيها الفظ المتعالي"
ظل يحاول ايقافها لتكف عن جنونها وهي تدفعه عنها بكل قوتها،حتى تعثرت بينما تبعده،فلم يستطع التحكم في إتزانه من ميلها عليه،فسقط أرضاً على ظهره وهي فوقه،تقابلت عيونهما للحظات،كل منهما راح في ملكوت آخر،تأملت ملامحه الرجولية عن قرب لبرهة،وهو أيضاً لم يستطع منع ذاته من تأملها،كانت جميلة رغم ملامحها العادية،خصلاتها القصيرة البنية المشعثة التي تصل بالكاد إلى منتصف عنقها،عيناها البنية المتوهجة،وشفتاها الصغيرتان المطلية بلون وردي،تداركت "ليالي" ذاتها سريعاً،فابتعدت عنه وقد تسللت الحمرة القانية إلى وجهها من شدة الخجل،وحاولت ترتيب خصلات شعرها الثائرة،اعتدل هو الآخر وتنحنح حتى يثبط المشاعر التي تجيش في صدره،ثم قال بنبرة حاول جعلها عادية:-
"سأجلب بعض الثلج من الداخل لكاحلك،كفِ عن ما تفعليه وابقِ هنا حتى لا تتعرضي للأذى"
هزت رأسها بالإيجاب دون أن ترد،ثم وقفت وسارت حيث أحد المقاعد وجلست عليها،وراحت تتأمل المكان المعبأ بالأخشاب من حولها،حتى أبصرته قادماً وهو يحمل كيس به ثلج،اقترب وجثى على ركبتيه ثم خلع حذائها الرياضي عنها ووضع الكيس حيث موضع ألم كاحلها الذي تورم قليلاً،خجلت هي من ذلك الوضع فتناولت الكيس من وهي تقول في استحياء:-
"أستطيع تدبر أمري،اتركه لي"
هز رأسه دون أن ينبس بكلمة،ثم جلس على الكرسي المقابل لها،فبادرت هي بالسؤال قائلة:-
"هل تلك الورشة لك؟"
"أجل،ذلك مشروعي الصغير"
"رائع،وأعمالك أيضاً رائعة"
"شكراً لكِ"
شكرها بجمود ولم يتحدث مرة أخرى،ففضلت هي أيضاً الصمت حتى لا يوبخها ويسخر منها كما فعل قبلاً،سمعا صوت دقات على الباب الحديدي،فارتجف "ليالي" بفزع،طمأنها هو بنظراته،كأنه يخبرها أنه سيحميها.
سار مقترباً من الباب،ثم قام بفتحه قليلاً وأطل برأسه للخارج،عقد جبينه بتعجب وهتف قائلاً:-
"ماذا تريدين يا آنسة سمر؟!"
لم يلحظ وقفتها المتعالية،ولا توهج عيناها بشرر من الغضب،وضعت يدها على خصرها بعدما إتكأت على قدمها،ثم قالت بعصبية طفيفة:-
"من تلك الفتاة في الداخل؟!!!....."


إعدادات القراءة


لون الخلفية