الجزء 6

المشهد السادس:-

فزع نوعاً ما وأجفل لبرهة بعدما ظن أنه تم ضبطه،حدق في وجه شقيقه الأصغر "ياسر" لبرهة،ثم أجابه محاولاً تلفيق كذبة:-
"آآآ..لقد..صوت"
صمت ثم عاود الحديث وقد حاول تعديل نبرته متظاهراً الجدية:-
"نعم،لقد سمعت صوت وذهبت لكي أرى ما مصدره"
تثاءب شقيقه ثم مر من جواره ينوي الدخول للغرفة بينما يقول:-
"إذاً هل وجدت من أين يصدر؟"
منعه سريعاً بزراعه،ودفعه بعيداً عن الباب بخفة وهو يقول:-
"شيء....كانت قطة،نعم قطة وفتحت لها الباب فانصرفت"
هز الأخير رأسه بملامح ناعسة،ثم قال:-
"حسناً،سأصعد للنوم"
"اصعد وسآتي وراءك"
تركه "ياسر" وصعد للأعلى بخطى غير متزنة من النعاس،فزفر "عثمان" أنفاسه براحة أخيراً،وارتخت قسماته فقد كان ضبطه قريباً لا محالة،ولا يعلم إن رأى الفتاة فما هي حجته لوجودها في ذلك الوقت المتأخر،القى نظرة أخيرة على الباب ثم صعد للأعلى هو الآخر،ثم ولج إلى غرفته وتمدد بظهره على فراشه،بينما يحدق بعيناه على سقف الغرفة محدقاً في اللا شيء،حتى غلبه النعاس أخيراً من كثرة التفكير...

صباحاً،إرتدى بعض الثياب القديمة لتناسب أجواء الورشة الغير نظيفة،ثم تناول طعام الافطار بعدما حضرت والدته السفرة،وقف بعدما التقط بضع لقيمات بسيطة ثم نوى الذهاب لعمله،فأوقفته والدته بقولها:-
"أكمل طعامك يا بني،تلك اللقيمات لن تكفيك"
فعلق عليها بابتسامة ودودة:-
"لقد شبعت يا أمي،سأذهب للورشة حتى لا أتاخر أكثر،فهنالك العديد من الأعمال التي يجب علي إنهاؤها"
ربتت على كتفه بحنان لتدعمه،ثم أردفت بتشجيع:-
"وفقك الله يا عثمان"
دنى إليها ثم طبع قبلة رقيقة على جبهتها،ومن ثم ابتعد وارتدى حذائه،كاد أن يخرج من الباب،لكنه تذكر شيءٍ ما،فعاد بضع خطوات مرة أخرى وهتف قائلاً:-
"هناك العديد من الفئران في الغرفة بالأسفل،لا تقتربوا من الغرفة حتى لا تفزعوا،فقد وضعت مصيدة وعندما أعود سأتولى ذلك الأمر"
"فئران؟!،ومن أين جاءت؟!"
قالتها والدته بتعجب بينما قطبت جبينها،فأجابها متصنعاً الجهل:-
"لا أعلم من أين تحديداً،لكن عندما أعود سأبحث"
"حسناً يا بني،سأحذر أخويك عندما يستيقظان"
هز رأسه لها بالإجاب ثم نزل إلى الأسفل،حدق في باب الغرفة التي تمكث بها للحظات،ولكن تغلب الفضول عليه كثيراً،فلم يستطع الذهاب إلا بعدما ألقى نظرة عليها،فوجدها مازالت نائمة بعد،شقت ابتسامة ثغره دون أن يشعر،ولكنه تدراك ذاته سريعاً وعاد يعبس،ثم أغلق الباب خلفه وخرج إلى عمله.

****

مرت حوالي ساعتين،وقد جاءت "سمر" كعادتها إلى والدة "عثمان لتجلس معها ويغرقا في العديد من الأحاديث دون ملل،فقد كانت تتفنن لملئ قلب والدة "عثمان" بتصنعها الطيبة والود،وأيضاً الإحتراف في شئون البيت فقط لكي تصل إلى حبيبها الذي عشقته،رغم أنه لا يبالِ بها،بل وأيضاً يظهر ضيقه من وجودها،فلم تجد طريقة للوصول إليه إلا عن طريق والدته.
"سأجلب أدوات التنظيف من الأسفل"
قالتها مستئذنة من والدة "عثمان" بوداعة مصطنعة،فأجابتها الأخرى بالرفض:-
"لا تذهبي إلى هناك،فقد حذرنا عثمان من أن نقترب من الغرفة"
قطبت جبينها في تعجب وقد تساءلت داخلها عن السر في ذلك،ثم قالت مستفهمة:-
"حذركم!،ولما؟!،ماذا يوجد بالأسفل ليحذركم؟!"
فأجابتها والدته ببساطة:-
"قال يوجد العديد من الفئران بالأسفل،وقد وضع مصيدة لهم"
لم تصدق في البداية ذلك السبب،وقد ملأ الشك قلبها،فابتسمت لوالدة "عثمان" وقالت بنبرة رقيقة:-
"لا تقلقي"
ثم عاودت التساؤل:-
"أين ياسر أو سائر؟"
"سائر في عمله،وياسر بغرفته..لما؟"
"حسناً،قولي لياسر أن يأتي معي إلى الأسفل،فيمكنني تدبر أمر الفئران"
"أمتأكدة يا بنيتي؟!"
بادرت بتلك الكلمات في قلق شديد،فأجابتها الأخرى:-
"نعم يا أمي،أنا لن أخاف من فأر صغير"
"كما تريدين"
ولجت والدة "عثمان" للداخل لتحضر "ياسر" كما قالت الأخرى،فوقفت "سمر" تحدق في الفراغ وكان حدثها يخبرها أن ذلك الأمر لا علاقة له بالفئران قط.
أبصرت قدوم "ياسر" ووالدته من الداخل،فرسمت بسمة صغيرة على شفتيها ثم رحبت به بود سافر،ومن ثم توجهوا ثلاثتهم إلى الأسفل لكي يحضروا أدوات التنظيف الذي تم نسيها،وأيضاً لرؤية الفئران الذي يقصدها الآخر....
كانت قد استيقظت من نومها،فحدقت لبرهة في أرجاء الغرفة فوجدتها غريبة،فظنت في البداية أن تم خطفها،فوثبت من على الأريكة سريعاً تتلفت في المكان من حولها،جال في ذاكرتها ما حدث بالأمس وعلمت أنها في بيت "عثمان"،رفعت زراعها وعبثت بخصلاتها وهي تلعن حماقتها داخلها،ثم سارت تبحث عن المرحاض من بين الغرفتين حتى وجدته،فولجت للداخل وعدلت خصلاتها المشعثة بأصابعها وغسلت وجهها بالماء،ثم خرجت وبين يديها منشفة تجفف بها وجهها،
فأبصرت الصينية الموضوعة على الطاولة،اقتربت منها وهي تبحث عنه بحدقتيها ولكن لم تجده،فكرت أن تذهب للبحث عنه ولكنها خشيت أن يراها أحد،فجلست على المقعد وكشفت عن الأطباق،وبدأت في تناول اللقيمات بسرعة كبيرة من الجوع،وفي لحظة وجدت الباب يفتح بينما كانت تلتقط لقيمة والأخرى في فمها..
حدقت في الثلاثة الذين أمامها في ذهول،وقد تشوش عقلها لبرهة فلم تستطع فهم ما يحدث،حملق فيها ثلاثتهم بتعجب شديد،أما "سمر" فقد شعرت أن تلك الفتاة من رأتها بالأمس.
"من أنتِ"
بادرت والدة "عثمان" بالسؤال وهي تعقد حاجبيها،فتركت "ليالي" اللقمة وابتلعت الأخرى سريعاً،ثم وقفت محلها ولم تستطع الرد أو تلفيق أي كذبة،فاقربت منها "سمر" بوجه مكفهر،ثم تفحصتها من أعلاها لأسفلها بنظرات أثارت رجفتها،ثم تساءلت بحدة:-
"من أنتِ،وماذا تفعلين هنا؟!"
تنحنحت عدة مرات،ثم حاولت إخراج الكلمات من فمها:-
"شيء...آآآ"
"هل ابتلعتِ لسانك فلا تستطيعين الرد؟!"
قالتها "سمر" في سخرية وفظاظة،فهدأتها والدة "عثمان" بعدما اقتربت ووضعت كفها على كتف الأخرى،وقالت:-
"انتظري يا سمر،اتركيها لتجيب"
ثم نظرت إلى "ليالي" لتحثها على الحديث،فحدقت بها الأخرى ببلاهة ولم تعلم ما ستجيبها به،هل تعترف بالحقيقة وتفضح أم لا؟!،فتحت فاهها للرد وللحظة جاءتها فكرة،فرسمت بسمة خفيفة على ثغرها ثم مدت يدها لمصافحة والدة "عثمان" وقالت بود مصطنع:-
"مرحباً،أنا السيدة علياء وقد أرسلني السيد عثمان لأرى تلك الغرفة حتى أجري بعض التعديلات على ألوانها"
صافحتها والدة "عثمان" ثم قالت بتردد:-
"هل يريد عثمان تغير الألوان؟!"
فأجابتها متظاهرة الجدية:-
"نعم لقد طلب مني أمس ثم اصطحبني من ساعة تقريباً لأراها وعاد إلى عمله ثانية"
ساور "سمر" شعور الشك من صدق حديثها،فأردفت متسائلة بنبرة شبيهة بالسخرية:-
"هل ترككِ هنا مع الفئران؟!"
"مهلاً...ماذا!،فئران..أتوجد فئران هنا!!"
قالتها برعب حقيقي بينما تتلفت حولها بفزع شديد ولم تستطع التحكم بجسدها من شدة الرعب،فبتاتت تجول بحدقتين مرتجفتين في أرجاء الغرفة،فقالت "سمر" بإذدراء:-
"هل تخشى الأميرة الفئران!!"
لكزتها والدة "عثمان" بحدة لتكف عن الثرثرة والسخرية،ثم وجهت حديثها إلى "ليالي" قائلة:-
"لا تقلقي يا بنيتي،أظن أنه قال ذلك ليجعل أمر التغيير مفاجأة"
زفرت "ليالي" أنفاسها الضائعة براحة شديدة،فأردفت الأخرى موجهة حديثها لابنها:-
- اتصل يا بني بعثمان،وأخبره أننا علمنا بشأن مفاجأته"...

****

كان جالساً في ورشته يقوم ببعض الأعمال الخاصة بصنع الأساس،حتى قاطعه رنين هاتفه،فوقف ثم سار نحو المكتب والتقطه من عليه ثم جلس على الكرسي بتعب،فوجد أن المتصل شقيقه "ياسر"،فتح الخط ومن ثم أجابه:-
"ماذا تريد؟"
"لم يكن عليك أن تخفي مفاجأتك"
قطب جبينه بتعجب،ومن ثم حك خصلاته بجهل وقال:-
"أي مفاجأة؟!!"
"أوووه ما زلت تكذب،لقد علمنا بشأن التغييرات التي ستجريها بالغرفة،فقد أخبرتنا السيدة علياء بذلك"
وعند انهاء شقيقه جملته انتفض جسده من على المقعد بفزع،وصرخ قائلاً:-
"ماذا؟!!!!!"
"وكنت تكذب بشأن الفئران أيضاً أيها الماكر"
وهنا أغلق الخط ومن ثم ترك أعماله وركض مسرعاً نحو المنزل،وخوفه من انكشاف الأمر كان يزداد،وصل في وقت قياسي،فولج للغرفة عندما وجدها مفتوحة،فأبصرهم جالسين مع "ليالي" وهي تقوم بشرح التغييرات الكاذبة التي ستجريها،ركض نحوهم سريعاً ثم هتف من بين أنفاسه:-
"علياء،أقصد سيدة علياء...ماذا حدث"
وقفت مبتسمة ثم اقتربت منه حتى وقفت جواره وأجابته:-
"كان يجب عليك أن تخبرني أن التغييرات كانت مفاجأة"
تنحنت عدة مرات،ثم همست بعدما مالت عليه قليلاً:-
"لقد ورطتني بذلك الأمر،كدنا أن ننكشف أيها الأحمق لولا ذكائي"
قالتها ثم ابتعدت عنه وهي تهز رأسها بابتسامة واسعة،فتصنع هو الضيق وصفع جبهته بينما يقول:-
"أوووه يا أمي،لما جئتي إلى هنا وكشفتي الأمر رغم تحذيري!"
ضحكت والدته قبل أن تقول:-
"الصدف يا بني،كانت سمر تريد أدوات التنظيف ورؤية الفئران أيضاً،فعندما دخلنا وجدنا السيدة علياء هنا"
خطت "ليالي" حتى وقفت جواره ملاصقة له،فحدق هو ب"سمر" في غيظ شديد،بينما يصر على أسنانه،فتظاهر ببسمة خفيفة وتمتم من بين أسنانه:-
"اللعنة على الإناث التي تأتين علي بالخراب"
تقلصت قسماته وصدرت عنه تأويهة خافتة متألمة بعدما وكزته بقوة في بطنه بمرفقها،ثم قالت بتحذير محاولة عدم إظهار المعركة التي بينهما:-
"حسن حديثك عن النساء وإلا قتلتك"
حدق فيها بنظرات مغتاظة تشع وهجاً غاضباً،ثم ضغط بأسنانه على شفته بقوة ليقاوم غضبه،وقد لعن اليوم الذي رآها به مراراً....


إعدادات القراءة


لون الخلفية