الجزء 7

المشهد السابع:-

"وأنتِ ماذا تدرسين يا علياء؟"
بادرت والدة عثمان بذلك السؤال في ود،فأجابتها "ليالي" بابتسامة متوترة:-
"لقد أنهيت جامعتي،فنون تطبيقية قسم ديكورات"
"ما شاء الله،حفظك الله يا بنيتي"
مال "عثمان" في تلك اللحظة نحوها وتساءل:-
"هل درستي ذلك القسم بالفعل؟"
ضغطت على شفتيها ثم أجابته بنفاذ صبر بنبرة خافتة حتى لا يسمعهما أحد:-
"بالطبع لا أيها الأحمق!"
صرّ على أسنانه حتى سمعت صوت إصطكاكهم ببعض،ثم قال في غيظ جلي بينما يرمقها بنظرات مشتعلة:-
"إن أطلتي لسانك أكثر أقسم أني سأقصه لك حتى تصمتي تماماً"
رمقته بنظرات متحدية،ثم أجابته وقد تغلب كبريائها عليها:-
"وهل تظنني سأرتعب من تهديدك أيها الفظ؟!"
بادلها ذات النظرات ثم تشدق بسخرية:-
"أفضل أن تأخذي الأمر بجدية لأني سئمت من طوله ذاك الذي تخطاك"
"لن تستطع فعل شيء"
"بلى أستطيع"
"لا"
"بلى"
"قلت لا!"
ابتسم بإصفرار وأردف بينما يحدق بعينيها مباشرةً:-
"وأنا قلت بلى،هل تريدين أن أثبت لكِ؟"
كادت أن تفتح فاهها للرد عليه وتوبيخه لكن قاطعما صوت "سمر" الممتلىء بالغيرة:-
"عن ماذا تتهامسان هكذا؟!"
فتشدقت "ليالي" ساخرة لتستفزها:-
"وماذا سيكون غير العمل يا آنسة سمر!!"
ضمت شفتيها بعدما استطاعت استيقاد غضبها،وتمتمت محدثة نفسها:-
"اللعنة على ذلك العمل!"
حملقت فيها "ليالي" لفترة قصيرة،قبل أن تلتفت برأسها "لعثمان" وقالت هامسة في تهكم:-
"أقسم أن نيران الغيرة تشتعل من عيني تلك الفتاة"
فأجابها بالنفي رافضاً تصديق الأمر أو محاولاً الهرب منه:-
"لا تبالغي في الأمر!"
"سترى أني على صواب بالنهاية"
تقوس ثغره بابتسامة متهكة ثم قال:-
"كفِ عن تلك الثقة العمياء في ذاتك"
"يعجبني ذلك الأمر يا سيد عثمان الفظ"
بادلته ذات البسمة وحدقا في عينين بعض مطولاً،ثوانٍ وعادا يتحدثان مع أفراد العائلة عن التغييرات الكاذبة في الغرفة،ولم يخلُ ذلك من المعارك الخفية بينهما....

"إلى أين إذاً؟"
قالتها "ليالي" بينما كانت تسير مع "عثمان" خارج المنزل،بعدما أخبرتهم أنها يجب أن ترحل لأن لديها العديد من الأعمال حتى لا تنكشف خدعتهما أمامهم ويعلموا أنها قضت ليلتها هنا من البداية،فهز "عثمان" رأسه بقلة حيلة ثم قال:-
"لا أعلم،لن تستطيعي البقاء في الغرفة بعد أن كشفنا،وأيضاً ستخافين إن بقيتي في الورشة بمفردك"
وصلا أخيراً إلى الورشة،فتوقفت هي عن السير بعدما عبست ملامحها قليلاً،ثم قالت بنبرة خافتة:-
"أظن أن هذا نهاية لقائنا"
قطب جبينه بتعجب شديد ثم تساءل في حيرة:-
"لا أفهمك،ماذا تقصدين؟!"
تنهدت مطولاً تقاوم ذلك الشعور داخلها الذي لا تعرف ما هو،فقالت بابتسامة خفيفة:-
"ينبغي علي الرحيل،سأبحث عن مكان آخر لأمكث به،وربما سأعود إلى منزلي"
"وماذا عن الرجال"
ضمت قبضتها ثم وكزته بخفه في زراعه وقالت مازحة:-
"لا تقلق سأتدبر أمري،لقد مررت بأسوأ من ذلك"
في البداية تردد على موافقتها الأمر،فقلقه عليها كأنثى وحيدة يتفاقم داخله،لكن بالنهاية هز رأسه بالإيجاب،فزادت هي من ابتسامتها قليلاً :-
"أعتذر عن كل ما بدر مني"
بادلها الابتسامة أيضاً وعلق عليها قائلاً:-
"وأنا أيضاً أعتذر عن فظاظتي يا علياء"
كادت أن تضحك من اسمها الخاطئ الذي يتلفظه دائما ولكنها تحكمت بذاتها،فمدت كفها له تنوي مصافحته وقالت:-
"سررتُ بمعرفتك يا سيد عثمان"
فصافحها هو الآخر ثم قال بنفس نبرتها:-
"وأنا أيضاً سررتُ بمقابلتك يا سيدة علياء"
حدقت بعينيه لفترة من الوقت،قبل أن تتدارك ذاتها ثم ابتعد عنه للوراء بضع خطوت،ومن ثم التفتت ناوية الرحيل بعدما أشارت له بكفها ب"الوداع"،فبادلها هو الآخر الإشارة،وظن أن ذلك نهاية علاقتهما ببعض...هكذا ظن..
لكن القلق غزا قلبه،ففكر أن يطلب منها رقم هاتفها فقط للإطمئنان عليها حتى يقل القلق،فطفق يهتف باسمها قائلاً:-
"علياء...انتظري"
لكنها لم تستمع له بسبب أصوات السيارات،فسار بخطى مسرعة خلفها حتى يستطيع اللحاق بها،وللحظة ارتجف قلبه بفزع بعدما رأى تحرك رجلان خلفها خرجا من إحدى البنايات،فأسرع من خطواته بعدما تملكه الرعب وعلم أن "ظافر" ذاك يعرف مكانها ولن يتركها لحالها،خطواته السريعة صارت ركضاً فلمحها تدخل إلى أحد الشوارع الجانبية وخلفها الرجلين.
سارع باللحاق بها حتى أبصر اقتراب الرجلان منها،فعاد يصيح قائلاً:-
"علياء...انتبهي!"
التفتت تلك المرة على صراخه بعدما وصله إلى مسامعه،فأبصرت الرجلين خلفها تماماً،ابتلعت غصة متوترة توسطت حلقها وراقبتهما برعب،بينما أشار أحد الرجلين إلى الآخر أن يتدبر أمر "عثمان"،فنفذ أوامره سريعاً وأخرج سلاحاً أبيضاً من جيبه بينما يبتسم إلى "عثمان" بشر،فتعامل الآخر معه بحذر،وحاول استمالته قائلاً:-
"اتركا الفتاة وشأنها وسأعطيكما كل ما تريدون"
فزادت بسمة الرجل ثم أشهر السلاح في وجهه وقال ساخراً:-
"السيد ظافر يدفع أكثر"
وفي نفس اللحظة اقترب الرجل الآخر من "ليالي"،فدست يدها في حقيبتها بينما تتقهقر للخلف،ثم أخرجت زجاجة رذاذ تحوي على عطرها،وببغتة منها رشت الكثير منه في عين الرجل ثم ركضت مبتعدة عنه،فصرخ الرجل متألماً بعدما لم تعد تتضح الرؤية له،فانتهز "عثمان" الفرصة وقال صائحاً حتى يشوش الرجل:-
"انظر...لقد هربت الفتاة"
وما إن التفت الآخر حتى اقترب منه "عثمان" ثم لكمه بطول زراعه لكمة أطاحته أرضاً،فقفز سريعاً فوق الرجل وراح يكيل له العديد من اللكمات في أماكن متفرقة،والآخر أيضاً كان يحاول الدفاع عن ذاته لكن بلا فائدة حتى خر أرضاً ولم يعد يستطع الحراك،فباغته الرجل الآخر بلكمة جعلته يتقهقر للوراء مما جعل شفتاه تنزف،ثم اقترب منه ووقف جواره وكاد أن يلكمه مرة أخرى لكن باغته "عثمان" بركلة بين ساقيه،فصرخ الرجل من شدة الركلة،فانتهزها "عثمان" فرصة وراح يهجم عليه بالعديد من اللكمات حتى لم يعد يتحرك..
وقف وحرك قبضته التي آلمته في الهواء قليلاً،ثم مسح الدماء التي سالت على جانب فمه،فاستمع لصوت شيء خلفه،التفت سريعاً فوجد "ليالي" تحمل عصا حديدية ثقيلة وقد ضربت بها الرجل الآخر فسقط مغشياً عليه،حدق بها "عثمان" بذهول شديد،فقالت الأخرى ببراءة مصطنعة:-
"لقد حاول طعنك فضربته"
ظل يحدق بها بدهشة كبيرة أثارت استغرابها،غمغمت هي بتعجب:-
"ماذا؟!!"
اقترب منها ثم فاجأها بتصفيقه لها وبعدها قوله بمرح:-
"أحييكي على تلك القوة،لم أصدق في البداية أنكِ طعنتي رجلين،لكن الآن صدقت"
قفزت على شفتيها بسمة مغترة،فعدلت من ياقة قمصيها قائلة بثقة:-
"ذلك أقل ما لدي"
"من الظاهر أنك لن تتركيني أنتِ ومصائبك وشأني يا علياء!"
ضحكت قليلاً بعدها قالت:-
"لا أعلم لما تتضرر دائماً بسببي،وتظهر بالأوقات التي سأتذى بها!"
سار معها متوجهين نحو الورشة،فقال بغموض لم تفهمه:-
"إنه القدر"
لم تعلق عليه وفضلت الصمت حتى ترى سبب جملته الغريبة تلك،وصلا أخيراً إلى الورشة بحالتهما الرثة تلك،فارتمى "عثمان" على المقعد بتعب شديد والأخرى جلست بجواره أيضاً،حدقت في قسماته المتعبة قليلاً فقد كبر في نظرها أكثر لمواقفه الرجولية معها،باغتته بلمسها للكمة في وجنته وقد تورمت قليلاً،فتأوه بألم ثم قال:-
"مهلاً...لقد آلمتني"
ضحكت بخفة ثم وقفت ودخلت إلى الغرفة وسط أنظاره المتابعة،فعادت وبين يديها كيس من الثلج،عاودت الجلوس جواره ثم وضعت الثلج محل اللكمة،فصدرت تأويهة عنه وأقشعر جسده من البرودة،قهقهت هي ثم قالت مازحة:-
"لقد وضعت الثلج على لكمتك كما وضعته على قدمي،نحن متعادلان الآن"
فتح عيناه ثم قال بعدما رفع حاجبه:-
"وكأن تلك اللكمة ليست بسببك!"
"أياً كان،لقد رددتها لك في النهاية"
لم يعلق على مزاحها بل تساءل:-
"كيف حال قدمك الآن"
"بخير...ألم ترني وأنا أركض من الرجل على قدمي المصابة"
فقال مازحاً:-
"بالطبع..هل يفوتني شيء كهذا!"
صمتت لفترة قليلة بعدما تركت له الثلج ليثبته هو محل ألمه،كلاً منهما كانا يفكران بشيء مختلف تماماً،هي كانت في حياتها التي كانت مليئة بالمتاعب منذ أن ولدت فوجدت نفسها بملجأ بعد أن رماها أبويها دون سبب واضح،ثم بعدما أكملت عامها السابع تبنتها السيدة التي تسكن ببيتها الآن في الحي،تلك السيدة التي توفيت منذ خمسة سنوات من العطاء ومعاملتها كابنة ثانية لها،حتى انتهائها من التعليم المتوسط،وعملها كنادلة لتدفع إيجار المنزل،إلى مقابلتها ل"ظافر" وقلب حياتها رأساً على عقب،أفاقت على شعورها بمراقبة "عثمان" لها،فوجدته يحدق بها بملامح مبهمة،فتساءلت بتلقائية:-
"ماذا؟؟!"
تنحنح ثم حاول إخراج الكلمات من فمه،فقال مستفهماً بجدية:-
"لن تستطيعي العودة إلى منزلك،صحيح؟!"
هزت رأسها بالنفي ثم قالت بينما تزفر أنفاسها بضيق:-
"لا،لن أستطع العودة مطلقاً إلى المنزل،أو الحي،أو حتى المطعم،وعلي الحذر عندما أخطو أي خطوة"
عاود الصمت قليلاً وسط نظراتها المتعجبة،حتى قطع الصمت بعدما أخبر ذاته أن ذلك الصواب،فقال سريعاً:-
"ما رأيك بالزواج بي؟؟"....


إعدادات القراءة


لون الخلفية