الجزء 4
المشهد الرابع:-
أجفل لبرهة من سؤالها المباغت،تنحنح حتى يعدل من نبرة صوته وقال متصنعاً البراءة:-
"أي فتاة؟!،لا أفهمك!"
اقتربت منه أكثر وقد ارتفع حاجبها في ازدراء،ثم قالت:-
"لا تتظاهر..لقد رأيتك من النافذة وأنت تدخل معها إلى هنا،والآن أخبرني من تلك"
"قلت لكِ ليس هنالك أي فتاة هنا،وأيضاً إن كانت فتاة هنا بالفعل فذلك ليس من شأنك قط!"
قال كلماته بوجه مكفهر من تدخلها في ما لا يعنيها،مطت شفتيها ثم تشدقت في تحدٍ ساخر:-
"ليس من شأني ها!،إذن سأذهب لعائلتك الآن وأخبرهم أنك تأتي بالفتيات في الليل دون أن يعلموا"
"هل جننتي؟!!"
هتف بها ذاهلاً،فدفعته هي بغتة حتى تراجع ثم ولجت للداخل بوقاحة أثارت دهشته،وقفت محلها تتأمل المكان الفارغ أمامها من أي شخص بصدمة،وصدم "عثمان" هو الآخر لكنه أدرك إختبائها في أي مكان،التفتت "سمر" له وقد غلف وجهها الدهشة،فقال هو في ضيق مصطنع:-
"أرأيتي؟!،تلك الفتاة كانت في خيالك المريض فقط!"
تمتمت بصدمة:-
"ولكن...ولكن لقد رأيتك"
قاطعها بقوله متصنعاً العصبية:-
"اذهبي من هنا يا آنسة سمر قبل أن أحزنك بكلماتي"
حملقت فيه لبرهة،ثم نوت الإنصراف بعدما شعرت بالخجل،لكن في ذات الوقت لا تصدقه،لكن أبصرت شيء جعلها تتراجع،فتقدمت نحو الطاولة ثم التقطت كيس الثلج الذي عليه،ورفعته في وجهه قائلة باستهجان:-
"وماذا عن كيس الثلج ذاك؟!!"
"هل يجب علي أن أبرر لكِ احضاري لكيس من الثلج!!"
تساءل ساخراً،فأجابته الأخرى في ثقة:-
"ذلك الكيس ليس لك،وأيضاً ثمة رائحة نسائية هنا"
تقلصت قسماته من تدخلها اللامتناهي،فأشار بإصبعه نحو الباب وهتف آمراً:-
"هيا إلى الخارج،ولا تأتي إلي مرة أخرى يا سمر،لا أريد رؤية وجهك بعد الآن"
سارت معه بتردد وكانت تتلفت حولها بحثاً عن أي دليل،وصلت إلى الباب وخطت أولى خطواتها للداخل،فاستمعت إلى صوت جلبة عالية صادرة من إحدى الغرف،فتشبثت بالباب وحاولت الدخول وهي تقول:-
"ابتعد،سأدخل"
ولكنه باغتها بإغلاق الباب مسرعاً وأوصده من الداخل،فصرخت هي بغيظ بينما ضربت بقبضتها على الباب:-
"صدقاً سأعلم من هيا يا عثمان رغماً عنك"
انهت جملتها ثم انصرفت عائدة إلى منزلها ونيران الغيرة تتفاقم داخلها،ركض هو مسرعاً نحو الغرفة ليرى سر الجلبة،فوجدها تقف في منتصف الغرفة حاملة عصا خشبية بين يديها،فتساءل قلقاً:-
"ماذا هناك؟!"
التفتت له ورمقته بنظرات بريئة،ثم ألقت العصا وقالت:-
"أعتذر،لقد ارتعبت بعدما رأيت فأراً هنا"
زفر أنفاسه بصوت مسموع على مراحل،ثم غمغم في ضيق:-
"لقد كدنا ننكشف بسبب خوفك من فأر!!"
"لا تتهاون بالأمر،لدي فوبيا من الزواحف"
قالتها بعدما كتفت ساعديها أمام صدرها،كاد أن يتحدث لكن قاطعه صوت رنين هاتف غريب،تفقد مصدر الصوت فأبصرها تخرجه من جيب بنطالها ذو خامة الجينز الأزرق،ثم ابتعدت عنه قليلاً وأجابت بصوت خافت:-
"ماذا هناك يا لين؟"
"ليالي هل أنتِ بخير،هل أصابك مكروه؟"
حاولت تهدئة توترها ذاك قليلاً،فأجابتها قائلة:-
"نعم أنا بخير،لما تقولين ذلك؟!"
"لقد أخبرني اكرم أن هناك العديد من الرجال ينتظرون أسفل منزلك،إن كنتي خارجاً لا تأتي مطلقاً،بل لا تأتي إلي أو إلى الحي لأنهم يحاصرونه"
بسطت كف يدها على وجهها وسط أنظار عثمان المعلقة عليها،ثم قالت بينما تتنهد بقلة حيلة:-
"حسناً،سأدبر مكان لأبقى به"
"اعتني بنفسك جيداً"
"حسناً يا عزيزتي لا تقلقي"
اقترب منها بتردد بعدما أنهت حديثها الغامض،ثم تساءل قائلاً:-
"ماذا هناك؟"
التفتت له بكامل جسدها،ثم قالت زافرة أنفاسها بضيق:-
"يحصارون منزلي والحي لكي يجدوني"
"من هؤلاء الرجال،ولما يلحقون بكِ؟!"
فتحت فاهها لتجيبه لكنه أسكتها بقوله:-
"لكن لا أريد الكذب بشأن مالك السيارة الذي حاول التهجم عليك أو ما شابه!"
"ولمَ سأخبرك بالحقيقة وأنا لا أعرفك أو أثق بك!"
قالتها بتلقائية بشفاه مبرم،فاقترب منها أكثر وقال مذكراً إياها:-
"لقد عرضت نفسي للخطر فقط كي أنقذك،وأنت بدلاً من أن تشكريني تحاولين الكذب علي!"
حملقت فيه لبرهة ريثما تفكر في حديثه المنطقي،فتنهدت أخيراً ثم قالت:-
"حسناً،معك حق..."
تريث حتى تتحدث وتابعها باهتمام وفضول شديد،فاستطردت حديثها قائلة:-
"أنا أعمل كنادلة في مطعم كبير منذ أكثر من خمس سنوات،منذ شهر جاء رجل إلى المطعم،ثم عرض علي أن يعطني الكثير من الأموال مقابل ليلة أقضيها معه،ولكني رفضت رفضاً قاطعاً،فتعرض إلى أكثر من مرة،وأيضاً بعث رجاله لتهديدي بإيذائي،حتى تم خطفي في اليوم الذي قابلتك به،واستطعت الهرب منهم بعد أن طعنت رجلين ولا أعلم إن كانا على قيد الحياة أم لا"
"ماذا؟!!!!"
هتف بها في دهشة وذهول،ثم استطرد قائلاً:-
"هل قتلتي رجلين!!!"
هزت رأسها بالإيجاب وهي تضم شفتيها بأسى،ثم أكملت حديثها:-
"والآن يجب علي البحث عن مكان لأقضي ليلتي به"
" حسناً،ابقِ هنا حتى لا تتأذي،فبالتأكيد يلا يزالا يبحثان في الأرجاء"
هتفت بينما اتسعت عيناها في ذهول:-
"هل سأقضي ليلتي هنا؟!!!"
عقد حاجبيه بتعجب،ثم قال حذراً:-
"وماذا في ذلك؟!،لا تقلقي سأتركك هنا وسأعود إلى منزلي"
"هل جننت!!،تريد تركي مع الفئران هنا!!"
حدق بها داهشاً لبرهة،سرعان ما عاد إلى طبيعته وقال بحيرة:-
"إذاً ماذا سنفعل،لا يجب أن تبتعدي عن الأرجاء هنا حتى لا تتأذي"
هزت كتفيها بعدم معرفة ثم أردفت:-
" لا أعلم،ولكن أفضل المبيت في الطريق وألا أبقى في مكان به فئران"
رمقها بنظرات مغتاظة بشدة،فمطت هي شفتيها ببراءة مصطنعة،رفع زراعه ثم حك خصلاته وقال حائراً:-
"هل آخذك معي إلى المنزل أم ماذا؟!"
رفعت قبضة يدها بعدما ضمتها،ثم لكمته في صدره بعنف وصاحت في شراسة:-
"أجننت؟!!،ماذا تظنني لأبقى معك في منزلك وحدنا،حقاً جننت!!"
" إن لم تلحظي ذلك،أنت معي هنا منذ أكثر من ساعة في مكان مغلق ليس به سوانا،أي إن كنت أريد القيام بشيء لقمت به منذ زمن!"
قالها بعبث وهو يحدق بها بنظرات ذات مغزى،فتسللت الحمرة القانية إلى وجهها من تلميحه ذاك،فعاود هو الحديث لإثارة غيظها:-
"ثم أنتِ لست من طرازي من الأساس"
حدقت فيه لدهشة لبرهة،وتحولت تلك الحمرة من الخجل إلى الغضب،توهجت عيناها بشراسة من جرحه لكبريائها،فقطعت المسافة بينهما ثم قالت من بين أسنانها:-
"ماذا تقصد؟!!،إذاً ما هو طرازك يا سيد كئيب ذو الملابس الكئيبة!"
رفعت إصبعيها وثبتتهما على ذقنها،ثم قالت ساخرة وهي تتصنع التفكير:-
"أتساءل حقاً لمن ترتدي تلك الملابس"
"كفِ عن العبث معي"
أشهرت إصبعها في وجهه ثم قالت بحدة:-
"بل كف أنت عن العبث معي وإلا ستندم"
"أعيدي إصبعك ذاك وإلا كسرت عظامه"
تملك العند منها وتيبس رأسها،فقالت في تحدٍ:-
"لن أعيده"
"أعيديه"
"قلت لك لن أعيده"
"إذا أنتِ من جلبته لنفسك"
قالها ثم قبض على إصبعها وثناه حتى شعرت أنه سيتحطم،رفعت قبضتها الأخرى وظلت تضربه على صدره بينما تصيح:-
" أترك إصبعي أيها الأحمق ستحطمه"
"حذرتك في البداية ولكن تشبثتي بعنادك"
تقلصت قسماتها بألم،فعادت تضرب بقبضتها على صدره:-
"أيها المتوحش البربري،أترك إصبعي،هل من الرجولة أن تظهر قواك على أنثى ضعيفة!!"
ترك اصبعها أخيراً،فتشكلت بسمة ساخرة على زاوية ثغره،وراح يهتف في استهجان:-
"هل الأنثى الضعيفة من طعنت رجلين؟!"
"اللعنة علي،ما كان يجب أن أخبرك"
حملق فيها بابتسامة عابثة ولم يعقب على جملتها،فبادرت هي بالحديث بجدية تلك المرة:-
"أوف...يتوجب علي الرحيل للبحث عن نزل"
"لقد أخبرتك،ستبقين معي في المنزل"
فتحت فاهها للاعتراض،ولكنه قاطعها قائلاً:-
"وقبل أن تثرثي،لست وحدي في المنزل،فأمي وشقيقيّ به،بالإضافة أنك لن تظهري لهم بتاتاً"
قطبت جبينها بتعجب وتمتمت قائلة:-
"مهلاً،كيف؟!!"
"هناك غرفة في الطابق الأرضي كانت مخصصة للمناسبات كإجتماعات العائلة وما شابه،ستبقين بها ولن تصدري أي صوت أو ضجة حتى لا يراك أحد"
فعاود مقاطعتها قبل أن تتحدث قائلاً بسخرية:-
"ولا تقلقي،ليس هناك فئران بها،فأمي تداوم على تنظيفها"
تنهدت مطولاً بينما تتفحصه للحظات،حتى قالت أخيراً بقلة حيلة:-
"حسناً،ليكن ذلك....."