الجزء 9
اتفضلى ادخلى يا قمر
نطقت بها رزان و هى تشير نحو الداخل مرحبة ، تتحرك نحو الأمام مفسحة الطريق لزينة التى تجاوزت الباب الداخلى لقصر أكمل السيناوى ، حيث يزداد انبهارها اضعافا حينما تلتقط عيناها هذا المحيط الشاسع ذا الأثاث الحديث و التحف الراقية ، تنظر الى ما حولها و فمها مفتوح إلى آخره بينما تقول رزان بحبور:
_ أتمنى يكون القصر عجبك
أجابت زينة دون ان تزيح بصرها بإعجاب:
_ جوى جوى
التفتت رزان إلى المطبخ ثم نادت بأعلى صوتها:
_ أمينة ، يا أمينة
أتتها المدعوة أمينة مهرولة و هى تقول بسرعة:
_ نعم يا هانم
أشارت رزان نحو زينة قائلة بلهجة آمرة:
_ خدى مدام زينة لاوضتها براحة ، و اوعى تتكعبل او تقع
أبعدت بصرها عن ديكور الصالون و ما به من قطع مادية ، لتلتفت إلى رزان بعينين التمعتا سعادة بعد قدر الاهتمام الذى لاقته منذ اليوم الأول ، قائلة بامتنان:
_ شكرا يا هانم
ابتسمت رزان و هى تقول:
_ العفو يا قمر ، على اى يعنى؟
بعدما انتهت من وجبة الغداء المتضمنة المسلوق دون اى من الدهون ، حتى مدت لها الممرضة بقرص الدواء الخاص بعد امتلاء المعدة ، تناولته بفمها ثم تبعته بكأس ماء تجرعته و عقلها أصبح مغيبا بمكان آخر حتى لم تلحظ أو تجيب صوت الممرضة و هى تتمنى لها الشفاء العاجل ، و إنما ظلت صامتة و كأن على رأسها الطير ، حيث اليوم هو يومها الثالث بالمشفى و لم يأت زوجها بعد! ، فى البداية أرجعت عامل التأخير إلى عدد الساعات التى يقتضيها السفر من القاهرة إلى قنا ، و لكن مر يومان و الثالث خلفهما دون ان ترى هيئته او تسمع صوته ، دون ان ياتى إليها معتذرا عما بدر منه ، دون ان يشد من ازرها فى احلك الأوقات سوادا ، تراب الانتقام غمر عقله بحيث اعماه عن رؤية ما عدا قتل زينة _و عشيقها_ ، على الرغم من كونه الطفل الذى كان يوبخها لسنين طوال بسبب عدم قدرتها على إنجابه ، و حين رزقها الله بهذا الحلم أخيرا ، ذهب أدراج الرياح دون رجعة؟! ، و لكن أين هو الأب من ذلك؟ ، أليس هو الشق الثانى بهذه الأسرة ، و عليه ان يكون معها بحلوها و مرها؟ ، لم التصرف معها بهذه الأنانية إذا؟ ، إنه يراها تقريبا كماليات لن يضر وجودها من عدمه ، و لهذا قررت أن تغير هذه النظرة فى هذا التو و هذه اللحظة ، ترى ماذا ستفعل؟
كانت تجلس أمام التلفاز ، تضغط على أزرار جهاز التحكم و هى تتنقل بين القنوات بملل شديد فهى ليست من هواة الجلوس دون عمل لتعود بذكراها إلى ما حدث قبل يومين من كلمات طلاق ألقيت على مسمعها كالصاعقة المهلكة ، قطع انسجامها بأفكارها المتألمة صوت دقة خفيفة على باب الغرفة لتجفل سريعا ثم تلتفت نحو الباب قائلة:
_ ادخل
ولجت أمينة الى داخل الغرفة و هى تجر عربة صغيرة بها أصناف من الطعام أمامها ، تحركت بها بانسيابية على أرضية السيراميك العالى الجودة ، حتى توقفت أمام السرير الذى تتسطح به زينة ثم أخذت شريط دواء بعينه عن بقية الأدوية حيث تناولها إياه قائلة:
_ اتفضلى الدوا اللى قبل العشا يا هانم
رمقتها زينة بحنو و هى تقول شاكرة:
_ شكرا يا أمينة
ثم تحدثت ببعض الجدية:
_ بس ما تجوليش هانم دى
قطبت أمينة حاجبيها بدهشة لترفع بصرها نحو زينة قائلة بدهشة:
_ امال اقولك اى؟
تحدثت زينة ببساطة:
_ زينة بس يا جمر ، انى زيى زيك لا هانم و لا معايا أملاك ، بس ضيفة اهنه لناس فى العلالى ، عشان اجده تسمعى الكلام و تجولى يا زينة ، زينة و بس
اماءت أمينة برأسها بخفوت و قد ثار الذهول بعقلها ، حيث تقابل أخيرا من يعترف بكونه الأقل بكل تواضع ، على خلاف من لا يملك شيئا و يرفع من شأنه أمام الخدم المساكين بل و يترفع عليهم أيضا!
_ اتفضل
نطق بها أشرف و هو يقف عن الكرسى احتراما لمن فتح الباب ثم دلف و اغلقه دون إصدار أصوات عالية إشارة إلى رزانته فى كل ما يقدم عليه ، اقترب من مكتب أشرف _الذى ينظر إليه بحبور يشوبه القلق_ بخطى ثابتة حتى توقف أمام أشرف ليتبادلا عناقا عاديا ، حتى ابعده ناصر قائلا بهدوء:
_ عامل اى يا ولد؟
_ الحمد لله تمام ، كدة برضه تغيب كل ده؟
ضرب ناصى ساعده بخفة ثم ابتعد حتى جلس على الكرسى المقابل للمكتب و كذلك فعل أشرف ، تشدق ناصر باستنكار:
_ ما لو كنت جيت على بالك ، كنت رفعت سماعة تلفون حتى!
أردف أشرف معتذرا:
_ معلش بقى يا عمى ، عليا انا المرة دى
ابتسم ناصر ثم قال:
_ ولا يهمك
ثم أردف بتساؤل:
_ جولى بجى ، أنت ليه طلجت مرتك يا ولد؟ ، زينة كانت زينة البنات و اجملهم ، ما كملتش معاها لييه؟
مط أشرف شفتيه بحزن مصطنع حيث يقول واجما:
_ طلقتها و خلاص يا عمى بلاش تسأل
عقد ناصر حاجبيه بتعجب قائلا بتصميم:
_ انى اللى جبتهالك ، يبجى لازم اعرف سبب الطلاج يمكن اعرف ارجعكم تانى
هتف أشرف بحدة:
_ لا مش عايز اشوفها تانى ، و مش عايز ارجع لها ، و بلاش تسأل عن السبب عشان ده كلام ف أعراض
و كانت جملته الأخيرة بمثابة القول القاطع و الكلمة الأكثر بركة من جرنال! ، حيث يضيق مقلتيه للوهلة الأولى ثم سرعان ما تجحظ عيناه بذهول و قد الجمت الصدمة فمه حيث يحرك لسانه بصعوبة بالغة ينفى ما قيل تماما و هو ينطق بتردد:
_ ل لا ل لا مش ممكن ، ا أنى ع عارف زينة ك كويس؟ ، م ما تعملش اكدة و واصل
أردف أشرف بتهكم و قد ازدادت بغضاؤه من هذه _الزينة_ بعد كل هذه الثقة الموضوعة بها:
_ و اهو عملت يا عمى ، و صورتها قبل ماطلقها تحب تشوف الصورة؟
ثم أمسك بكوب الماء الموضوع على سطح المكتب ، و اخذ يرتشف منه محاولا استكمال الحديث مع ناصر بثبات انفعالى كى لا يوضع بمحل شك ، و حينها لن يخرج حتى يعترف!
وقف ناصر عن الكرسى قائلا بعدم تصديق:
_ لا ، يستحيل تكون زينة عملت اكده ، دى أنجى من الحليب ، بعدين دى ماكملتش شهرين على بعض ، يبجى معجول لحجت تظبط واحد و تكلمه و تجيبه سريرك كمان؟؟
علقت المياه بقصبته الهوائية بدلا من الوصول إلى المرئ كى يبدأ فى سعال فجائى ، وضع يده على فمه محاولا خفض صوت سعاله بينما يمسك ناصر بيده فوق سطح المكتب قائلا بقلق:
_ سلامتك ، سلامتك يا ولدى
أخذ بحاول التهدئة من روعه تدريجيا حتى ذهبت آثار المياه عن جهازه التنفسي ، ليلتفت إلى ناصر قائلا بصوت منهك به بعض الوجوم:
_ ياريت ما نتكلمش فى الموضوع ده تانى يا عمى
أومأ ناصر برأسه موافقا و هو يقول:
_ اللى تشوفه يا ولدى
ثم وقف عن كرسيه قائلا:
_ استأذن بجى
و قف أشرف عن كرسيه و هو يقول باصطناع:
_ مانت لسة قاعد!
_ مرة تانية يا ولدى
قالها ناصر مجاملا ، ثم اتجه نحو الباب كى يخرج ، و لكن قبل ان تمس يده المقبض التفت إلى أشرف الذى للجلوس يقول بنبرة ثاقبة يسكنها الشك:
_ يعنى انت زعلان على روحتها اكده؟ ، ولا ما عجبتكش جوم لجيت غيرها فى الوجت الجصير ده؟!
ازدرد ريقه بصعوبة و قد تفصدت بعض قطرات العرق على جبينه بتوتر بالغ ، حيث يردف بمقت و استهجان:
_ الاقى مين بس يا عمى؟ ، زينة كرهتنى فى كل صنف الحريم ، حسبى الله و نعم الوكيل فيها
تحدث ناصر بعبوس:
_ معلش يا ولدى
هم ليدير المقبض و لكن اوقفه صوت أشرف هذه المرة قائلا:
_ ياريت ما تتصلش على أهلها يا عمى
استدار ناصر نحوه و هو يرمقه بعينين متسائلتين بينما يجيبه أشرف على الفور و هو ينظر أرضا:
_ عشان مايقولوش انى حكيت لك و فضحت سرهم!
أردف ناصر مطمئنا إياه بحزن:
_ ماتخافش ، ما هكلمهمش واصل
ابتسم أشرف بامتنان ، بينما خرج ناصر من الغرفة ليقع أشرف على كرسيه و هو يمسح على وجهه بتعب ، بعد هذه المناقشة و الأسئلة الخطيرة التى يلقيها ناصر بعناية يكشف بواسع خبرته اجاباتها من تعبيرات الوجه قبل ان ينطق اللسان ، فكاد أن يفضح أمره تماما ، و هنا كان الخوف قريبا ، و لكن ذهاب ناصر بهذه الطريقة دون ان يزيد فى الأسئلة حتى يدفعه للاعتراف أوحى إليه بنقطة جديدة لم يكن محيطا بها!
دخل معها إلى الغرفة و هى تستند علي كتفه متخذة إياه دعامة لسيرها البطيئة خطواته ، حتى وصلا إلى السرير ليزيح الغطاء عنه كى يفسح لها المجال لتجلس ، ثم تتسطح على السرير برفق مع بعض آهات خافتة أطلقتها ، أمسك بطرف الغطاء ثم وضعه على جسدها كاملا يدثرها ، التفت إليها ثم قال برفق:
_ سلامتك يا بت الغالى
تجاهلت كلماته بقولها بتجهم:
_ عمى ، انى عايزة اتكلم معاك ف موضوع
_ تاكلى الاول و بعدين.....
قاطعته تقول بتصميم:
_ دلوك
زفر بوجوم و قد وشت تعبيرات وجهها المكفهر عن ماهية الكلام الذى ستقوله ، جلس على الكرسى بجانب السرير ثم قال بهدوء:
_ نعم يا بتى
تشدقت بشكوى:
_ يرضيك اللى عمله ولدك فيا؟ ، مش بس ضربنى و موت ولده ، لا كمان ما يجيش حتى يطمن عليى؟
تلعثمت الكلمات بلسانه لما لم يجد ردا مناسبا يوارى به خطأ ابنه ، حاول استجماع الحروف و هو يقول بمواربة:
_ انتى عارفة يا بتى ان موضوع زينة ده....
عادت تقاطعه و هى تقول بحدة ظهرت بين طيات صوتها:
_ و جبل أكده؟ ، طول الوجت ذل و مهانة جدام الصغير و الكبير ، بيضرب على أجل غلط منى ، مافيش رحمة جدام الغلط ولا كلمة تبل الريج جدام الصح! ، يده اتعودت تتمد عليا علطول ، شتيمته ليا بجت عاملة زى اللبانة ف بوجه ، دايما يعايرنى عشان مش جادرة اخلف الواد و يهددنى انه هيتجوز
ثم اردفت بصوت مختنق إثر عبراتها المكبلة بمحابسهن:
_ كان بيعذبنى يا عمى ، كانت نار الجهر بتحرجنى من جوة و ماحدش حاسس بيا
صمتت للحظات تحاول التقاط أنفاسها المتصارعة بينما تلتقط نظرة إلى قاسم الذى يغمض عينيه بألم مشفقا على زهرته المتفتحة التى أغمضها ابنه بكل براعة ، و المصيبة هى كونه يراها شيئا ضعيفا إلى درجة ان يلحق بها عيوبه باحترافية شديدة! ، يرى فيها أداة لتحقيق مآربه و إفراغ قسوته بوعائها الواهى! ، لما رأته إلى هذه الدرجة من التأثر واتتها الفرصة على طبق من ذهب لتكمل قائلة برجاء:
_ احكم يا شيخ البلد ، بس جبل ما تحكم اعتبرنى بتك اللى بريئة من تهمتها دى زى براءة الديب من دم يوسف ، أحكم و انى راضية بحكمك و على راسى من فوج
هنا لم يستطع أن يردع نفسه من أخذها بين ذراعيه فى عناق أبوى يشع بالحنان ، يهتف قائلا بنشيج:
_ اعتبرك اى يا بت انتى؟ ، انتى بتى و ف مجام زينة تمام ، و أوعدك يرجع حسنى و هطلجك منه يا بتى ، كفاية عليكى لحد اكده
جلست بجانبه و هى تمسك بكأسين بهما بعض النبيذ ، ناولته أحدهما و هى تقول برقة:
_ بصحتك
أمسك الكاس من بين اناملها ثم حاوط خصرها بيده الحرة قائلا بحب:
_ تسلمى يا قلبى
مالت عليه حتى اسندت رأسها على كتفه قائلة بتساؤل:
_ هتحدد معاد فرحنا امتا؟
احتل العبوس ملامحه ليبعد يده عنها مما جعلها تبتعد عنه و قد اثارتها الدهشة من تصرفه بينما يقول هو بوجوم:
_ مضطرين نأجل فرحنا خمس ست شهور ع الأقل يا هيدى
قطبت حاجبيها بدهشة يشوبها الغضب و هى تلوى فمها ناطقة باستنكار:
_ ليه بقى؟!
تجرع ما بالكأس على رشفة واحدة ثم وضعه على سطح الطاولة أمامه و التفت إليها شارحا:
_ ناصر عدى عليا بدرى و فضل يناقشنى ف موضوع طلاقى من زينة و كدة ، هو راجل حويط جدا فى كلامه ، و فاجئنى بأسئلته الغريبة دى اللى جابتلى نقطة نسيناها خالص
ثم التفت إليها قائلا بحذر:
_ لو اتجوزتك علطول يبقى هتتأكد شكوك ناصر ف ان انا اللى كنت قاصد اللى حصل عشان اتجوزك ، خصوصا و هو شافك قبل كدة و انتى خارجة من الفيلا ، عشان كدة لازم ناخرها شوية عشان ما يبانش أننا طابخينها
مطت شفتيها بغضب طفولى بينما وقف عن مكانه و أخذ فى الاقتراب منها و هو يقول بود:
_ معلش بقى يا قلبى ، كلها مسألة وقت ، اضحكى بقى
ابتسمت ابتسامة خافتة من جانب ثغرها بينما يمسك أشرف بيدها ليجعلها تقف ثم يقرب فمه من اذنها قائلا بعبث:
_ ما تيجى اقولك كلمة كدة
أطلقت ضحكة خليعة و هى تتبعه متجهين إلى الأعلى حيث يقترفان للمرة التى لا يمكن احصاءها ما نهى الله عنه و شدد على عقوبته!
فى صباح اليوم التالى ، جلس اكمل على رأس مائدة الإفطار و هو ينظر نحو الجالستين على الجانبين قائلا بحبور:
_ صباح الخير
اجابته الاثنتان بصوت واحد:
_ صباح النور
فردت رزان بعضا من المربى على شريحة الخبز بواسطة الملعقة ، ثم ناولتها إلى أكمل قائلة:
_ اتفضل
امسكه منها دون رد ، ثم تناول قضمة منه قبل ان يردف باهتمام:
_ بعتى لزينة الفطار؟
التفتت نحوه مها و قد سلطت انتباهها عليه كليا بينما تشدقت رزان بتعجب:
_ اكيد طبعا بعتهولها ، امال هسيبها من غير فطار يعنى؟
تشدقت مها ساخرة:
_ لا أصل اكمل حاسس بالذنب اوى ناحيتها عشان كدة مش عايزها تنقص حاجة ، اخويا الحنين بقا!
أجاب سخريتها بجدية:
_ أيوة يا مها ، دى مسؤولية و لازم نحافظ عليها لحد ما تمشى من هنا على خير ، احسن ما تبلغ و اتحط ف مشكلة
زال توتر رزان و هى تلتفت إلى زوجها قائلة بحب:
_ معاك حق يا قلبى