الجزء 14

بعد مرور ثلاثة أيام من غيبوبة دام فيها مغمض العينين مكبلا بأجهزة مزعجة بين ما يقيس ضرباته و ما يقبع على أنفه يساعده إلى التنفس و إبر مغروسة بأوردت ، فضلا عن الجبائر التى كست ذراعه و قدمه اليسرى ، إلى جانب الكدمات المغطية وجهه و أجزاء جسده برعونة ، فى غرفة يكسوها اللون الأبيض فى أغلب معالمها ، يتحرر من أسر اللاوعى أخيرا حينما يفتح عينيه ببطء شديد مبعدا اهدابه عن بعضهم فى محاولة لتخليص انكماشهما ، بحذر يحاول استعادة نظره إلى ما حوله من جديد ، و بينما هو فى خضم المحاولة المريرة واتاه صوت هيدى التى هتفت عن قرب منه بلهفة تخالطها الدموع:
_ أشرف إنت صحيت؟ ، أشرف سامعنى؟
بالكاد استطاع أن يحرك فكه فى قول كلمات باهتة تملؤها اهاته:
_ آه ، انا ، فييين؟ اه
لم تجبه و إنما صاحت و هى تقترب من الباب قائلة فى سرعة:
_ ثانية انادى الدكتور
عاد إلى التأوهات المعبرة عن آلامه المبرحة و قد باتت الرؤية المشوشة تتضح قليلا ، و مرت الثوانى حتى دلف الطبيب بسرعة متحمسة و كأنه كان منتظرا على أحر من الجمر سماع هكذا خبر ، او كأنه كان فاقدا للأمل عن ان يستيقظ بعد حادث خطير كهذا ، وقف إلى يمين أشرف ثم أخذ بمعصمه يقيس نبضاته الآخذة فى الانتظام ، كما يطالع مؤشرات الأجهزة لتعتلى ابتسامة رصا على ثغره ، حيث يقول بحبور:
_ حمد لله عالسلامة يا أستاذ أشرف ، تجاوزت مرحلة الخطر
أطلقت هيدى تنهيدة ارتياح مسموعة خرجت من أعماق صدرها بينما يتحدث أشرف بوهن:
_ يعنى هخرج امتا؟
قال الطبيب بعملية:
_ هتشرف معانا شوية لحد ما حالتك تستقر ، و كما كام يوم هنعيد التحاليل مرة تانية عشان تبقى عملنا فحص لكل حاجة

_ ما بتعاملش مع رجالة انا ، بتعامل مع حيوانات!
تشدق بها سيد و هو يكز على أسنانه ساخرا بينما يجيب من بالطرف الآخر من سماعة الهاتف ببعض من الدهشة و التوتر الذى بدا على صوته و العرق المتفصد على جبينه:
_ يا معلم و الله قلبت عربيته خالص ، قلت خلاص الله يرحمه ، ماعرفش ازاى فضل عايش؟!
سمع صور زفرة ضيق انبعثت من فم الآخر دون كلام ، ليبادره قائلا بسرعة:
_ طب انا هروحله المستشفى و اموته ماتخافش يا معلم
أسرع يقول ناهيا و قد بدا التوجس على قسماته:
_ لا لا اوعى ، أنت تستخبى لك يومين لحد ما البوليس يهدى شوية ، و لما الاقيله حل ابقى اكلمك
_ ماشى يا بيه سلام
_ سلام
قالها ثم أغلق الهاتف سريعا ، ليقلبه ثم يزيل غطاءه الخلفى و بعده البطارية تلتها ااشريحة التى عقد بها اتصاله الهاتفى ثم ألقاها بإهمال و وقف قائلا بامتعاض و قد بات وجهه محتقنا:
_ اكبر غلط انى حاولت اموتك علطول يا أشرف ، الموت ليك رحمة ، الفلوس اللى بعدت بيها زينة عنى انا هخسرهالك بنفسى
ثم تشدق فى نفسه متوعدا:
_ استلقى وعدك يا حلو

كانت مها تدير مقود السيارة بكلتا يديها ضابطة المكابح على سرعة هادئة ، تتمايل بكتفيها مع إيقاع الكلمات الأجنبية ، حانت منها التفاتة إلى الجالسة بجانبها عاقدة ساعديها أمام صدرها ، تنظر إلى الأمام بملامح عابسة ، مما دفع مها إلى الميل إلى جانبها بخفة لتغلق هاتفها المذيع للاغانى ، ثم تعتدل لتلتفت إلى الطريق أمامها كى تتحقق من خلوه تماما ، ثم تعود بصرها إلى رزان التى تزفر كل دقيقة بحرارة و ضيق ، لتحاول مها ولطيف الأجواء و هى تمد يدها كى تلكزها فى ذراعها قائلة ببساطة:
_ انا هاخدك معايا لبارتى واحدة صاحبتى عشان تبتسمى شوية مش تفضلى قالبة اليوم كدة يا حبيبتى!
تشدقت رزان مزمجرة:
_ اصريتى نروح البارتى و وافقتك عشان اخلص من الزن ، و نسيت انى كدة سيبت فرصة لأكمل و الهانم يقعدوا براحتهم! ، اى الغباء اللى انا فيه ده؟!
نطقت بالجملة الأخيرة مستهجنة من نفسها ، بينما اجابتها مها و هى تعود برأسها إلى الطريق مجددا:
_ كدة كدة هى مراته
ما ان لحظت النظرات البركانية التى وجهتها رزان نحوها بعد التلفظ بهذه الكلمة ، لتدرك مؤخرا مدى جرم ما اقترفت من خطأ فادح جعل رزان تستشيط غضبا ، ثم سرعان ما حاولت تصحيح خطأها و التهدئة من حدة ثورتها قائلة بصوت ملجلج:
_ بس بس ، خليهم يقعدوا براحتهم ، كدة كدة ك كلها خمس شهور و مش هيشوفوا بعض تانى
عادت رزان تريح ظهرها على الكرسى بعدما كانت تميل للاستماع إلى كلمات مها الحمقاء ، ثم تحدثت أخيرا و بنبرة صلبة جافة:
_ و لو حصل عكس كدة و الله هيشوف منى حاجة ماتعجبهوش أبدا ، و يبقى يشوف السنيورة هتساعده ازاى
التفت مها بكامل رأسها إلى اليمين ، و قد أسبلت جفونها المحيطة بعيونها المنذهلة من قول رزان الأخير بساعة غضبها المعهود ، لتزدرد ريقها ثم تقول بشئ من الخوف بدا فى ترددها:
_ لا لا ، ماتخافيش أكمل هيوفى وعده ، انا متأكدة

_ و الله زى ما بقول لك يا boss ، و انا معلوماتى عمرها ما تفوت أبدا....لا بقى ما تعتمدليش على شوية عيال سيس ، حضرتك بتكلم واحد سابق فى المباحث و له طرقه الخاصة فى جيبة أى معلومة....و هو كذلك ، تشرف ف اى وقت و انا هبقى فى انتظارك
كانت تلك كلمات أكمل التى فتئ بها فى محادثته التليفونية الغامضة ، يريح ظهره على الكرسى الأسود بثقة يكالبها الكبرياء و ابتسامة انتصار تعلو ثغره ، و لكنه سرعان ما نفض نفسه عن الكرسى حينما سمع طرقات الباب التى باغتته فى لحظة تعد سرية للغاية ، مما جعله يقول باختصار:
_ طيب هكلمك بعدين ، سلام
ثم التفت إلى الباب قائلا بصوت ذا نبرة مسموعة:
_ ادخل
دلفت زينة متجاوزة الباب بعدما حصلت على الإذن ، ثم أغلقت الباب خلفها مجددا ، لتشق ابتسامة مرحبة وجه أكمل الذى وقف يقول بحبور:
_ أهلا تعالى يا زينة
اقتربت من المكتب بخطوات متباطئة و هى تدير رأسها يمينا و يسارا تنظر إلى ما حولها بإعجاب حيث هذه المرة الأولى التى تدخل فيها غرفة مكتبة الشديدة الاتساع ، بينما يقول أكمل مفسرا نظراتها المعجبة بخفة:
_ عجبك المكتب؟
_ جوى جوى
قالتها و لم تزح بعد نظرها حتى وصلت عند المكتب ، حيث تلتفت إلى أكمل بقسمات حائرة ، تتبعها بقولها مستفهمة:
_ إنت ليه ما روحتش الحفلة مع أبلة مها و أبلة رزان؟
أبتسم من جانب ثغره قبل ان يستدير حول مكتبه حتى يصبح مجانبا لها ، ليسند يده على كتفها شارحا:
_ دى حفلة عيد ميلاد و أنا ماليش فى الجو ده و بعدين انا ورايا شغل كتير اوى ، مش فاضى انا للجو ده!
_ و خلصت شغلك؟
سألته باهتمام ليحدجها بنظراته العابثة قائلا بخبث:
_ خلصت اول ما دخلتى ، و دلوقتى بقيت انا و انتى و الشيطان تالتنا
غمزها مع جملته الأخيرة مستدرجا ، لتقطب حاجبيها قائلة بتساؤل:
_ يعنى اى الشيطان تالتنا؟
صدرت منه ضحكة بملء فيه مذهولا بوصول براءتها الى هذا المستوى ، حيث يفضل إجابتها بشكل عملى و قد سنحت له الفرصة ، ببغتة وضع يده خلف ظهرها و الأخرى خلف ركبتها حاملا إياها بين ساعديه مما جعل زينة تصرخ بدهشة:
_ واه! ، بتعمل اى يا أكمل؟ ، نزلنييييي
و بالطبع لم يستجب و إنما سار بها متجها إلى باب الغرفة و هو يدنو برأسه منها قائلا بمكر:
_ هفهمك يعنى اى الشيطان تالتنا الأول
و أكمل طريقه إلى خارج الغرفة و منه إلى غرفتها بالأعلى حيث يشرح لها معنى التعبير تفصيلا دون ملل حتى فهمت الصغيرة درسها جيدا

_ نجاة ، نجاة ، يا نجااة
كانت تلك هى الكلمات التى استطاعت اذناها التقاطها أخيرا مع ضربات من كف السيدة المسنة التى تناديها بقلق ، حيث كانت منخرطة فى اغمائتها الفجائية ، حاولت فتح عينيها ببطء لتطالع ما حولها ، حيث وجدت نفسها مستندة بظهرها على يد هذه السيدة المرتدية اللباس الاسود القاتم و خلفها العديد من سيدات بلدتها يرتدين نفس الزى ، قالت نجاة بوهن مختلط بصوتها الذى لا تزال نبرته دامعة:
_ خالتى نفيسة!
أخذتها نفيسة بين ذراعيها محتضنة إياها بحنان أمومى حيث تبدأ عبراتها فى الانهمار و هى تردف متفجعة على صغيرتها:
_ جلبى عندك يا بتى ، ربنا يصبرك على بلوتك
و كذلك كان حال بقية النساء الباكيات بالغرفة حيث يحاولن التماسك أمامها لئلا تجزع فى مصيبتها ، بينما أبعدت نجاة جسدها عن خالتها و هى تقول مستنكرة:
_ بلوة اى يا خالتى ، ده كان كابوس و راح لحاله ، حسنى لسة عايش و هيخلص الزرع و ياجى علطول
ارتفعت همهمات النساء حولها مرددين (لا حول ولا قوة إلا بالله) جزعا على ذهاب الصغيرة بهذا الشكل المخيف! ، بينما ظلت نجاة تردد بهستيرية:
_ هو ، هو جالى هياجى بليل ، و و كان عايز صنية الفطير اللى بيحبه و و كان فاكر انى ماهعملهوش عشان زعلانة
ثم أطلقت العنان لعبراتها الساخنة كى تشق وجنتيها بانهمار ، حيث استطردت تقول بألم:
_ و الله عملت له الفطير ، و و الله عملته ، انى انى مش زعلانة منه ، جولوله ياجى ياكل
عادت نفيسة تحتضن نجاة التى يكاد برج عقلها يطير بعيدا بينما عادت تصرخ نجاة و قد تيقنت من كونها على أرض الواقع و زوجها قد قتل بالفعل كما سمعت قبل ان يغشى عليها بعدما لم تستطع تحمل الخبر! ، أخذت تضرب على جسد خالتها بقوة مقهورة:
_ يا خالتى جوليله ياااجى ، هو المخبل ده فاكر انى عشان زعلانة ما هعملش الفطير ، انى السبب أنى استاهل ضرب الجزمة ياريتنى ما كلمته ولا خبرته ، انى اللى جتلت جوزى بيدى ، أنى اللى جتلته ، آاااااه
_ يا بت وحدى الله مش اكده
فتئت بها نفيسة التى لا تملك حيلة سوى مواساتها للصبر على مصيبتها المفجعة ، و لكن نجاة زادت فى البكاء أكثر بعدما تذكرت كون مقتل زوجها ردا للثأر حقيقة تمت لا كابوسا كما كانت ترجو! ، و اشتدت العبرات فى الانهمار كما علت أصواتها أكثر فأكثر حتى صمت الجدران التى شعرت بالأسى لحالها ، وردة تطوف فى بستان العقد الثالث قطفها شر الترمل مبكرا! ، لتعيش البلاء طوال حياتها!

كان الطبيب يرتب أوراق الفحص بين يديه محاولا انتقاء الكلمات المناسبة التى سيلقيها على مسمع أشرف الذى يرمقه بتفحص و قد تسلل الشك إلى قلبه بعد مرور أكثر من خمس دقائق دون سماع كلمة واحدة ، تنهد أشرف بملل قبل ان يتشدق ساخرا:
_ ما تتكلم يا دكتور ، جبتنى ليه النهاردة؟
اجفل الطبيب مع صوت أشرف المفاجئ حيث يلقى الأوراق على سطح المكتب ثم ينقل بصره إلى أشرف بتوتر قبل أن يشبك كلتا يديه مستندا اياهما على المكتب و هو يبتدئ مرتبكا:
_ بص يا أستاذ أشرف ، وقت الحادثة انا خدت منك عينة دم عشان اطمن على سلامة الأجهزة ، لكن لقيت فى حاجة غريبة جدا ، خليتنى استنيت لحد ما فوقت عشان اعيد سحب الدم من تانى
صمت للحظات محاولا التمهيد لصاعقته المخيفة بينما يزمجر أشرف بضجر:
_ لقيت اى؟ ، ما تقول يالا ، أنت هتنقطنى؟!
أجابه الطبيب بجمود:
_ حضرتك مش هتقدر تخلف أبدا

وضعت الصينية الموضوع بعا كوب الشاى منزوع السكر على المنضدة أمامه ، ليرمقها بهدوء ، و قد أصبح الصمت الرخيم مسيطرة على الأجواء منذ أخذ عزاء الابن البكرى لهذه الأسرة ، همت لتتحرك من أمامه و هى تجر عباءتها السوداء بتعب ، بينما يوقفها قاسم بامساكه يدها بين راحته لتتوقف دون ان تواجهه بعينيها المتألمتين ، بينما يقول هو بصوت يحاول اخلاءه من الجفاء:
_ نجاة يا بتى ، بصيلى
أغمضت عينيها بوهن و هى تضع على شفتيها و قد صعب مطلبه و وصل إلى أعلى درجات المشقة ، و مع شده فى احتضان يدها ، أدارت رأسها نحوه ببطء شديد لتطالعه بحدقتين خاليتين من الحياة لا سيما و هما مغروستان بوجه شاحب شحوب الأموات! ، اردفت نجاة بصوت مبحوح:
_ أنى اللى جتلت جوزى
وقف قاسم عن مجلسه ثم هز رأسه نفيا و هو يقول بسرعة:
_ لا لا يا بتى ، لكل أجل كتاب
عادت تسترسل بخمول:
_ أنى اللى اتصلت عليه و جلت له ياجى ، لولا اكده ما كان جه
أطلق قاسم زفرة قوية تعبر عن قليل مما يعتمل يصدره من جراح غائرة لم تجد من يضمدها فبقيت عرضة للعراء ، وضع يده على منكبها مربتا:
_ يمكن غلطتى لما اتصلتى ، بس أكده و لا أكده كان هياجى ، أن مكانش عرف منك كان عرف من غيرك ، لازم نجبل باللى فيها و ندعيله الله يرحمه
_ أنت كمان كنت زعلان منى!
اماء إيجابا و هو يجيب بصوت متحشرج:
_ صوح ، و ده عشان كنت مجهور على ولدى اللى لسة دمه ما نشف جوة تربته ، لكن دلوك مر عليه أربع شهور ، و الغمامة اتشالت عن الجلب ، و المكتوب عالجبين شافته العين ، و ماحدش بيهرب من نصيبه
ثم جذبها من ساعدها أخذا إياها فى عناق حنون لأول مرة منذ مصرع حسنى ، حيث تجهش فى بكائها المرير الذى صار لها مرافقا ، بينما يردف قاسم و هو يربت على رأسها بحنو:
_ انتى الوحيدة اللى فاضلة من ريحة المرحوم ، بجيت اشوف فيكى ولدى الله يرحمه ، اوعى تبكى و ادعيله بالرحمة يا بنيتى
هتفت بنشيج من بين عبراتها:
_ الله يرحمه ، الله يرحمه


إعدادات القراءة


لون الخلفية