الجزء 15
الفصل الخامس عشر:
و فى كبد ظلام دامس كان يقود سيارته على الطريق الفارغ كفروغ قلبه من اى معالم بعد وقوع الخبر على رأسه كالضربة القاضية قبل نصف ساعة ، ستظل ذكرى هذا المشهد الأليم بذهنه محفورة مادام حيا! ، يذكر جيدا كيف كانت ردة فعله بعد سماعه لهذا الخبر الصاعق ، حين انتفض عن كرسيه واقفا و قد تغضنت ملامحه يدب بقبضته على المكتب حتى كاد يتشقق من وقع قوتها عليه ، يصرخ بالطبيب الواجم ناهرا:
_ كلام اى اللى بتقوله ده يا دكتور؟ ، أنت مجنون؟!
أجابه الطبيب على الفور بحزن:
_ للأسف دى الحقيقة يا أستاذ أشرف ، أنا آسف
اسبل جفنيه محدقا به بنزق قبل ان يردف بعدم تصديق:
_ يعنى إيه؟ ، يعنى مافيش علاج لكدة؟
_ لأ للأسف
دب بقبضته على سطح المكتب بقوة أكبر جعلت الثانى ينتفض فى جلسته و قد أرعبه أكثر هذه المرة ، بينما يهدر بشراسة:
_ يعنى اى لا؟ ، يعنى هفضل كدة من غير ما يجيلى ابن يحمل اسمى و أملاكى؟!
وقف الطبيب عن مجلسه ثم نزع نظارته موافقا بأسى:
_ أيوة و علشان كدة انا طلبت تعمل تحاليل تانى بعد ما تتعافى قلت يمكن يكون الجهاز غلط او عشان جسمك كان تعبان ، لكن طلعت كل شكوكى صح ، اعتذر يا أشرف بيه ، دى حاجة خرجت من بين ايدينا
خرج من دوامة أفكاره المؤلمة حينما فوجئ بقدوم سيارة على عكس اتجاهه كادت تصطدم به لولا أن فتح عينيه عن آخرهما ليدير المقود سريعا متفاديا حادثا كان ليفتك به هذه المرة! ، مال بسيارته إلى الجانب سريعا ليوقفها ثم يعيد ظهره إلى الوراء و قد بدأ يفك رابطة عنقه محاولا التقاط المزيد من الأنفاس متجاهلا السباب اللاذع الذى أطلقه قائد السيارة الأخرى ، فتح الباب ثم خرج من السيارة جاذبا بعض الهواء من الخارج و لكن أصبحت رئتاه غير قابلتين للمزيد و قد وجدتا أن لا أمل من العمل مجددا كما بقية أعضائه التى باتت ترغب الموت فى الحال ، خانته عبراته للخروج من محابسها متجاهلة كونه رجل أعمال محترم فى طريق عام ، فقط انطلقت هاربة من قدرها الحتمى للكتمان ، كما انطلقت صرخة حبيسة بصدره عالية الصوت مزلزلة الأرض تعبر عن قليل مما يجيش بقلبه علها تخفف من حدته!
_ فين زينة يا أمينة؟
أردف بها أكمل قبل ان يقضم من خبز التوست و المربى بيده ، لتحتقن الدماء بعروق رزان التى بدأت تكز على أسنانها بغضب من فرط غيرتها ، بينما أكملت أمينة:
_ راحت تاخد دوش بعد ما مشيت النص ساعة يا بيه
_ طب تمام
ثم عاد يقضم من الخبز المعلق فى يسراه ، بينما أمسكت رزان بالملعقة بيدها بعنف حتى كادت تنثنى بين أناملها القاسية ، حتى سمعت صوت مها و زينة بنفس واحد:
_ صباح الخير
اجفل الاثنان ثم التفتا برأسيهما إلى جانب السلم كى ينظرا إلى مها التى تمسك بيد زينة و هما تخطيان الدرج معا بخطوات حذرة صغيرة نظرا إلى حمل زينة الذى أثقل على جسدها ، ما أن اقتربتا من السفرة حتى جلست زينة بجانب أكمل لتصير مقابلة لرزان التى أشاحت بوجهها إلى الجهة الأخرى ، بينما جلست بجانبها مها التى شرعت فى تناول الطعام دون مقدمات ، و كذلك أكمل الذى استرسل يقضم من قطعة الخبز يملأ معدته الفارغة ، حتى قاطعته زينة عن الإكمال للمرة الثانية حينما أصدرت صوت آهة عالية و هى تمسك ببطنها متألمة ، التفت إليها أكمل بملامح قلقة ثم بادر بوضع يده على منطقة ألمها قائلا بخوف:
_ مالك يا زينة؟ ، فى اى؟
اجفلت كل من رزان و مها حيث تنظران إليها حينما رفعت رأسها و هى تنظر إليه قائلة بتألم:
_ مابجاش يضرب زى الأول ، لا ده بجى يوجعنى جوى جوى
عضت رزان على شفتها السفلى كابحة غيظها الذى وصل إلى منتهاه بينما ربتت مها على فخذها أسفل السفرة إشارة الى أن تهدأ ، ثم التفتت إلى زينة قائلة بابتسامتها الصفراء المعهودة:
_ معلش بقى يا زوزو ، هانت ده آخر شهر
قال أكمل دون ان يزيح نظره او يده عن بطنها:
_ انا هتصل بالدكتور النهاردة و نطمن ان كل حاجة سليمة
قالت زينة بوهن:
_ أن شاء الله
بينما وقفت رزان عن كرسيها ثم غادرت المكان دون ان تنبس ببنت شفة تحت أنظار الجالسين المشدوهين ، فلم تعد تطيق الاحتمال أكثر من ذلك ، تسعة أشهر من الاهتمام و الدلال الذين سرقتهما زينة منها بكل وقاحة جعلتها تطحن أسنانها من الغضب عازمة على إخراجها فور الحصول على الطفل حتى و إن كانت ستضطر لقتلها و قتل أكمل معها
أنهى الطبيب فحص زينة على مرأى أكمل الذى كان يقف على مقربة ، يرمق الطبيب بتركيز الذى اعتدل و هو يقول بتفاؤل:
_ عال جدا ، خلاص مش اكتر من أسبوع و تولدى يا مدام
تحدثت زينة و هى تتحس بطنها بتعب:
_ و ليه الوجع ده كله؟
_ طبيعى ييجى فى التوقيت ده ، ده وجع الطلق ، هى حاجة خفيفة كدة ، و لو الوجع زاد لدرجة ما تتحمليهاش يبقى تتصلوا بيا فورا
مد أكمل يده إلى الطبيب قائلا بامتنان:
_ شكرا جدا يا دكتور
_ العفو
قالها الطبيب و هو يحمل حقيبته مبتعدا إلى الخارج ، بينما بقى أكمل بجانب زينة يجاذبها أطراف الحديث و ابتسامة سرور مرتسمة على ثغره ، حيث قد اقترب تحقيق امنيته المنشودة قبل سنون ، و ما عاد يفصله عن ظهور طفله سوى بضعة أيام!
و على الجانب الآخر توجد رزان التى تستشيط غضبا حتى باتت تطلق زفرات ساخنة تكاد تحرق الأخضر و اليابس ، تهدر فى مها بغضب و استنكار:
_ هى دى خطتك مش كدة؟! ، ده باين عليه انه هيقعدها معانا خلاص!
أمسكت مها _التى اعتراها الخوف من رؤية رزان بهذه الشراسة للمرة الاولى_ بيدها محاولة بث ترياقها المسكن بقولها ببعض الخوف الذى سكن حبالها الصوتية:
_ يا رزان مش هيحصل صدقينى ، أكمل بيعمل كدة عشان ماتشكش ف حاجة لحد ماتولد و اهى خلاص قربت
تجاهلت كلماتها و كأن فى أذنيها وقرا اعاقها حيث تزمجر متوعدة:
_ اقسم بالله لو ماحصلش هفتح كل القديم ، و نبقى نشوف بقى هيقعدها ازاى معانا إذا كان هو ذات نفسه مش هيقعد؟!
زفرت مها بتأفف و قد ضاق ذرعها من ترديد رزان لهذه النبرة كثيرا هذه الأيام ، و لكنها دوما ما تحاول تهدئتها مقدرة وقع المصيبة التى حطت على رأسها بتزويج زوجها لأخرى ، ثم نطقت من بين أسنانها بهدوء:
_ مش هيحصل يا رزان ، انا واثقة انه مش هيحصل
ثم وقفت عن مجلسها جاذبة يد رزان _المتخشبة بمكانها_ و هى تقول بهمة:
_ قومى بقى و خدى دوش بارد و هدى أعصابك كدة ، و على ما تخرجى هكون ظبطت لك الجو عشان أكمل هيبات هنا الليلة و لازم تكون أحلى ليلة
تصنمت رزان بمجلسها غير عابئة لجذب مها ، حيث تردف بسخط:
_ مش عايزة اعمل حاجة ، خليه ييجى ينام علطول
نطقت مها بسخرية:
_ و بعد كدة تقولى خايفة أحسن يقعدها معانا!
التفتت إليها رزان بمعالم جليدية بينما أردفت مها بنبرة ذات مغزى:
_ حسسيه ان الوجود معاكى جنة يا أبلة ، مش تديه فرصة يبص للمفعوصة اللى فى الأوضة التانية دى!
أطلقت رزان تنهيدة طويلة ثم وقفت على مضض قبل ان تردف بخمول:
_ هحاول يا مها ، هحاول حاضر
بعد انقضاء النهار ، خرجت مها من الغرفة بعدما رتبتها و نسقت ورودها و شموعها بما يتناسب مع كونها ليلة رومانسية هادئة تفيض فيها المشاعر بعد طول كتمان ، قبل ان تنزل إلى الدرج وجدت فى طريقها أكمل الذى كان يمسك ببعض الأوراق يحدق فيهم بإمعان دون ان يلحظ الواقفة فى الأعلى حتى نادته:
_ أكمل
أغلق المستند الذى بيده ثم التفت إلى مصدر الصوت ليجد أخته مها التى تستند عند سور السلم ترمقه بابتسامة ، ليقترب منها حتى يصير أمامها ثم يمسد شعرها قائلا بحنو:
_ حبيبتى عاملة اى؟
_ تمام
ثم استطردت تقول:
_ علفكرة رزان مستنياك جوة الأوضة ، سيب الشغل شوية و روح لها
تنهد بخفوت يسكن الضيق معالمه ما ان تردد اسمها عل مسمعه و قد باتت تصرفاتها تزعجه كثيرا هذه الأيام ، يعي جيدا مدى الغيرة التى تعاني بسببها ، و لكن ألم تكن هذه خطتها من البداية؟ ، إذا فلتتحمل عاقبة أفعالها ، قال بهدوء:
_ طيب هخلص اللى ف ايدى و أروح لها
جذبت الأوراق من بين أنامله قائلة بإصرار:
_ لا ما فيش حاجة اسمها شغل ، فى حاجة اسمها جه وقت رزان و لازم تروح لها عشان مستنياك
هم ليتناول الأوراق من يدها لتبعدها الى الخلف قليلا و لكنه وجدها فرصة مثالية لترميم هذا الشقاق الفاصل بين علاقتهما ، ليومئ برأسه قائلا:
_ طب تمام رجعى الأوراق للمكتب و اوعى حاجة تقع
ولج غرفته التى يتشارك فيها مع رزان ، تشهد على جميع لحظات الحزن و الفرح التى تعايشاها معا ، الغرفة برونقها البسيط مزينة بأجمل الورود و أوفى أنواع الشموع العطرية ، يتلفت حوله يمينا و يسارا إلى أن توقف و قد تثبتت عيناه على مقبض باب المرحاض المتحرك ، حتى فتح الباب و خرجت عبره رزان التى كانت ترتدى فستانا حريريا من اللون الأحمر يبرز الكثير من مفاتنها ، تاركة لشعرها القصير العنان إلى ظهرها تضع بعضا من اللمسات على وجهها مما أخفى قليلا من تجاعيده الناتجة عن انفعالاتها المتزايدة يوما بعد يوم ، اقتربت منه بخطى ثابتة حتى صارت أمامه مباشرة ، رمقها بتفحص قبل ان يمسك بعنقها برقة قائلا بافتتان:
_ وحشتيني اوى يا رزان
أدارت وجهها إلى الناحية الأخرى متحاشية نظراته الثاقبة ، تحاول إخفاء معالمها المقتضبة عن مرآه ، تحاول جاهدة كبت رغبتها فى توجيه إصبع الاتهام إليه ، بينما استطاع هو ببراعة قراءة ما تقول ملامحها دون ان تنطق شفاهها حيث يمرر أصابعه على وجنتيها مزيدا من إدارتها لوجهها حيث لا تود للمساته ان تقربها اليوم ، أغمض عينيه للحظات محاولا التفكير بجملة ابتدائية يفتتح بها مجالا للحديث بينهما ، فعلى خلاف كل المرات يشعر بكونها غريبة عنه لابد من اختيار ألفاظ منمقة عند الكلام معها و هى زوجه التى كانت تحتويه و تفهم ما يقوم به من اللحظة الأولى ، و لكن مع دخول زينة اختلف الأمر بحيث صارت عمياء عن قراءة عينيه و صدقهما ، فتئ يقول بحزن يعاتبها:
_ من أمتى بتعاملينى بالقسوة دى يا رزان؟ ، مش انا برضه جوزك حبيبك اللى ماتقدريش تستغنى عنه؟! ، يبقى ازاى كنتى بتشكى فيا للدرجة دى؟!
أدارت بصرها صوبه و قد شعرت بكونها فى خطر أمام نظراته الشاكية ، حدجته بنظرات مبهمة بينما أكمل هو بجمود:
_ انا عارف كويس إن اول حاجة فكرتى فيها هى الاسطوانة اللى معاكى عشان لو فكرت أخلى زينة معايا تهددينى بيهم ، صح؟!
انزلت بصرها ارضا و قد أخذت تنقل عينيها يمينا و يسارا من فرط توترها و قد أيقنت أنه كشف أوراقها حيث تقول بنبرة يعلوها الغضب:
_ مش مهم انت عرفت ولا لأ ، المهم تكون عارف اى اللى خلانى اعمل كدة
قدمت أمينة و معها صينية بها كوبين من عصير المانجو متجهة بهما إلى غرفة رزان تحت أمر من مها التى أرادت أن تضفى جوا من الصفاء بينهما ، ما ان اقتربت من الباب صنعت قبضة صغيرة من يدها و هى تهم بطرقه و لكنها أوقفت قبضتها فى الهواء حينما اجفلها سماع التالى من صوت أكمل الذى بات صلبا جليديا:
_ معروف ان الست الحامل لازم تكون نفسيتها كويسة جدا عشان صحة الولد تبقى كويسة ، و ده اللى أنا عملته مع زينة يا هانم ، كان لازم ماتشكش ف اى حاجة و تحس انها ملكة عشان كل اللى يهمنى ابنى يا رزان
ثم أردف و قد تحولت نبرته إلى اللين و الحزن:
_ الولد ده فضلت مستنيه كتير ، كان لازم اعاملها كدة عشان ابقى انا و انتى أب و أم يا حياتى
وضعت أمينة يدها على فمها بسرعة و قد اهالها ما سمعت توا من لسان ذئب كبير تربص بفريسته حتى اوقعها بشباكه و الآن ينوى الفتاك بها بلا رحمة ، عادت ادراجها بخطوات خافتة متسللة لئلا يشعرا وجودها ، ثم اتجهت سريعا إلى غرفة زينة تريد تحذيرها كى لا تقع فى هذه المصيبة القذرة و تخسر جنينها الذى تنتظر حضوره على أحر من الجمر كثرة لهفتها و حديثها عنه أثناء مشيتها الصباحية ، طرقت الباب طرقتين ثم دلفت سريعا دون انتظار الرد لتجد زينة المستلقية على السرير و هى تضع يدها على بطنها ، نظرت الى أمينة التى بات العرق متفصدا على جبينها ثم قالت بدهشة:
_ مالك يا بت يا أمينة؟ ، دخلتى اكده ليه؟
لم تجبها و إنما أغلقت الباب خلفها سريعا ثم اندفعت إلى زينة تقول بصوت خفيض كى لا تلتقطه الجدران:
_ مافيش وقت للكلام ، لازم تمشى من هنا بسرعة
قطبت زينة حديثها دون ان تتحرك قيد أنملة ، بينما تقول باستنكار:
_ اى اللى بتجوليه ده يا بت؟
ما انفكت تقول هذا إلى أن شعرت بتقلصات عنيفة مؤلمة برحمها و ظهرها دفعتها إلى إطلاق آهة متألمة اخرست أمينة عن الكلام ، لتبدل قولها و هى تمسك بذراعها بقلق:
_ مالك يا زينة؟
لم تجبها زينة و إنما أطلقت صرخة أقوى و قد اشتدت لديها الآلام أضعافا تبعتها بقولها مستنجدة:
_ الحجينى يا أمينة ، شكلى هولد ، آااااه
أمسك بخصرها بيمناه و برأسها باليد الأخرى مقربا إياها منه و عيناه مثبتتان على شفتيها الملثمتين باللون الأحمر الزاهى ، الآن و بعدما حل سوء التفاهم الذى كان يطغى على علاقتهما أصبحت الآن فى أتم رضاها عنه ، و قبل أن تلامس شفتاه خاصتيها اجفلتهما طرقات الباب المباغتة ذات الصوت العالى ، مما جعل أكمل يبتعد عن رزان سريعا ثم يتجه للباب ، بينما تزفر رزان بتأفف و قد كانا على وشك الانسجام بلحظة حميمية عادت بعد طول جفاء ، فتح أكمل الباب ليجد أمينة تحاول استرداد أنفاسها اللاهثة بعد عدوها من غرفة إلى أخرى على عجل ، و هنا بادرها يقول بصرامة:
_ فى حد يخبط كدة؟! ، عايزة اى؟
قالت من بين أنفاسها بقلق:
_ زينة تعبانة اوى ، باين عليها بتولد يا بيه
جحظت عيناه فجأة بغير تصديق ، ليمسك بذراع أمينة قائلا بدهشة:
_ انتى بتتكلمى جد؟
اردفت بايجاب:
_ أيوة و الله عمالة تصرخ ، كلم الدكتور بسرعة
حرر ذراعها ثم خرج من الغرفة و هو يقول بسرعة:
_ طيب هكلمه روحى لها انتي
قدم الطبيب إلى الأعلى برفقة أمينة التى ارشدته ليجد فى طريقه أكمل و رزان و مها يقفون عند الباب و القلق باديا على وجوههم ، حيث يطمئنهم بقوله:
_ ماتخافوش ان شاء الله هتبقى بخير
ثم دلف إلى الغرفة سريعا و تبعته أمينة التى حدجت ثلاثتهم بنظرات حانقة يعلوها الازدراء ، ثم أغلقت الباب ، بقيت مع زينة تمسك بيدها تواسيها كى تزيد من احتمالها لألم لا يضاهى ، و مع صرخاتها العالية التى رقت لها الجدران من قوتها و كذلك الموجودين معها ، حيث صغيرة مثلها تصارع تلك الآلام المبرحة ، إلا أن قلوبا كالحجارة كمن بالخارج لم تأبه لصرخاتها و إنما دقت نواقيس الاهتمام بخفقاتهم حينما صدح صوت الصغير الخارج توا إلى الحياة موقفا صرخاتها حينما أغلقت عينيها بالكامل فى إغماءه بعد إجهاد كبير ، لم تستطع أن تختطف نظرة إلى وليدها حتى! ، أجلت ذلك إلى ميعاد آخر و فى حسبانها انها ستستيقظ لتجد طفلها بين أحضانها و أكمل و أسرته الصغيرة يهنئونها على مجئ الصغير الذى سيكون محظوظا بحيث تكون له والدتين لا واحدة! ، غفت و سرقها السكين بعدها ، حيث تكرر المشهد ذاته من جديد حينما أفاقت بعدما شعرت بألم أصاب جسدها كاملا بعدما اوقعها أكمل من السيارة بإهمال ، فتحت عينيها ببطء لتجد جسدها صار مختلطا بالرمال و أوجاع بطنها تكاد تفتك بها ، حاولت أن ترفع جسدها قليلا و لكن لم تستطع فلا تزال مريضة هذيلة ، فقط استطاعت بعينيها ان تلحظ أكمل الذى كان يقف مستندا على باب سيارته الأمامى ، يرمقها بسماجة لم تفهم فحواها بعد و إنما زفرت بتعب قبل أن تقول بألم:
_ أكمل جايبنى اهنه لييييه؟
و كأنه أصم لم يستطع الإجابة حيث تناولت الإجابة محله رزان التى خرجت من السيارة حتى وقفت أمامها مقربة حذاءها ذا الكعب العالى من وجهها المتهدلة معالمه و لم تفهم بعد ما يجرى ، تشدقت رزان بتهكم:
_ انا هقولك ليه
ثم جلست القرفصاء دانية منها و هى تقول ببرود:
_ عشان أكمل لازم يبقى له وريث لفلوسه و أنا مابخلفش و وقت ما انقذناكى من الموت فكرنا ان يبقى فى مقابل ، و كان المقابل ده الوريث اللى عايزينه خصوصا انك كنتى لسة مسقطة يعنى الرحم ما شاء الله شغال
علت أنفاسها أكثر و أكثر حتى صارت تنهج و قد اختنق حلقها من الغصة العالقة به ، حينما تحدثت بصوت منهك متحشرج:
_ بس بس انتو جلتوا انى هبجى التانية و احنا أهل ف بعضينا
تشدق أكمل بسخرية:
_ كدبنا يا قمر ، و دلوقتى خدنا اللى احنا عايزينه و هنسيبك هنا مرمية لحد ما ييجى أجلك لوحده
أطلقت أنة ضعيفة و هى تقول بتعب:
_ و ولدى؟ ، هتاخدوه منى؟!
قاطعتها رزان تقول بصرامة:
_ مابقاش ابنك ، خلاص ده بقى ابنى أنا
هم أكمل ليستدير و هو يقول:
_ سلام يا قمر
قبل ان يتحرك سبقته زينة حينما أمسكت بقدمه ثم صرخت تقول برجاء باكية:
_ ابوس رجلك يا أكمل ما تاخدش ولدى منى ، حرام عليييك
دفعها بقدمه بعنف قبل ان يردف بغضب:
_ حرمت عليكى عيشتك ، إنتى فاكرة انى هدخل واحدة زيك من غير لا أصل ولا فصل ف بيتى؟! ، خدت اللى عايزه زى ما اللى قبلى خد اللى عايزه ، اشمعنا انا اللى هرحمك يعنى؟
ثم ولج سيارته مجددا و كذلك رزان التى اعتدلت فى وقفتها و قد علت ابتسامة انتصار خبيثة ثغرها بعدما تحقق مرادها بعد طول عذاب تاركين زينة التى ظلت على حالها مستلقية دون كلام و قد بح صوتها ، تنحب دون بكاء و قد جفت عبراتها ، ترثى حالها ، فى نفسها تسأل حظها الأسود بحسرة:
_ من بين العديد من الفتيات لم حدث هذا معى؟ ، لم أصبحت عرضة للاستغلال لكل من ابتغى مرادا؟! ، لأجل المال وقع شرفى و لأجل الوريث اختطف ابنى! ، لم حدث هذا معى؟ أريد الجواب
ما انفكت ان انتهت من قولها حتى باغتتها أصوات عواء باتت قريبة منها ، فتحت عينيها عن آخرهما حينما رأت حوافر رمادية تخص الذئاب على ما يبدو ، تقترب منها بشراسة مما جعلها تتحامل على نفسها كى تنهض جالسة فتجد مجموعة من الذئاب تلتف حولها و قد جذبتهم رائحة دمائها ، صاحت فى نفسها بهلع:
_ يا إلهى! ، ذئاب؟!
قبل ان تفكر فى الوقوف كى تهرب باغتتها آلام بالرحم من جديد لتضم بطنها بشدة ثم تستلقى محتضنة الرمال مجددا و قد أعلنت استسلامها بابتسامة مريرة زينت شدقها ، حيث تردف و هى تنظر إلى الذئاب المقتربة منها بقهر:
_ هيا ، اقتربى أيتها الذئاب ، ها أنا ذا ، وليمة شهية تغلق عيونكم الجائعة ، اقتربى و التهمينى ، أقسم أن تفتكى بجسدى أكثر رحمة من أن يمسنى ذئبا بشريا ، لن تكون أنيابك أكثر قسوة من غدرهم ، لن تكون عيونك الشرهة أقسى من جشعهم ، اقتربى أكثر ، اقتربى و التهمى جسدى الميت و اعطينى الراحة من هذه الحياة الغادرة ، اجعلينى أترك هذه الدار الفانية عل روحى تجد فارس الذى تركنى و ذهب قبل أعوام ، ها أنا قادمة يا فارسى المغوار
نطقت بكلمتها الأخيرة ثم أغلقت جفونها بالكامل و قد بلغ التعب منها مبلغه ، ثم سرعان ما رفت رموشها حينما التقطت أذناها صوت قدوم سيارة توقفت سريعة محدثة احتكاك بالرمال ، تبعها صوت فتح بابها و انغلاقه و قد خرج أحد منها على ما يبدو ، ثم صوت رصاصتين انطلقتا فى الهواء أرعبت الذئاب الجائعة ففرت سريعا ، ظلت على حالها مغمضة العينين حتى سمعت صوت اقتراب أقدام منها ، دنا صاحبها منها ثم أسند ظهرها بيد و بالأخرى أخذ يصك وجهها بخفة و هو يقول بصوت اجش يعلوه القلق _تشعر بكونه مألوفا_:
_ لا لا اصحى اصحى ما تغمضيش ، افتحى عنيكى بقولك
تسمعه و لكن غير قادرة على الطاعة و قد وصل ضعفها الى الحد الذى يردعها عن فتح جفونها! ، لما لم يجد منها استجابة وضع يمناه أسفل ظهرها و يسراه أسفل ركبتيها حاملا إياها و متجها إلى سيارته بخفة ، و هنا فقط عادت تهتف فى نفسها مستغيثة بألم:
_ لا لا ، عودى أيتها الذئاب ، لا تتركينى بين براثن ذئب آخر ، ارجوكى
تحاملت على نفسها من جديد محاولة فتح عينيها حيث استطاعت أن تخطف نظرة سريعة إلى حلته الرمادية التى يتوسطها قميص أبيض يبرز عضلاته صدره العريض ، و لكن لم يستطع بصرها ان يتسلق إلى وجهه و معالمه و قد أغلقت جفونها تماما تاركة نفسها إلى القدر و لعبته الجديدة