الفصل الثاني عشر: اعتذارات النفس وجروح الماضي

كلما تذكرت الماضي، شعرت بغضب عارم يعتريني. كلما تذكرت الماضي، أحسست بهبوط في نبض وجداني، بألم يعتصر صدري ويكتم أنفاسي. كأن صرخة حبيسة تقبع في فؤادي، ترافقني، لتذكرني بوجوه تسببت في إيلامي. كرهت أعدائي، وكأنني أيضاً بدأت أكره أحبائي. كلما تذكرت الماضي، شعرت بشرارة توشك أن تشعل نيراناً في أفكاري، وأصبحت سجينة لآلامي.

الماضي لم يعد مجرد ذكرى، بل هو ندوب محفورة في داخلي، ذكريات تجلب معها أوجاعاً لا تُحتمل. طفولتي كانت بداية كل شيء، ما أقاسيه الآن هو نتيجة لذلك. لا أدري هل أنا قوية لأنني ما زلت أتحمل، أم أنني ضعيفة لأنني لم أستطع التخلص من تلك الذكريات. ربما يرى البعض أنني ضعيفة، لكنهم لم يقرأوا قصتي بعد. البعض الآخر قد يراني قوية، ولكن الحقيقة الوحيدة التي أعرفها هي أنني ذقت مرارة الواقع بكل ما فيه.

السنة الرابعة: القاع

السنة الرابعة في الجامعة كانت أسوأ سنوات حياتي. نفسيتي محطمة، صحتي متدهورة، وعلاقاتي مع أقرب الناس لي تدهورت كذلك. لم أعد قادرة على التركيز في دراستي، أذاكر لكني أنسى بسرعة. لم أعد تلك الفتاة الذكية سريعة البديهة. خسرت القدرة على التركيز والحفظ، وخشيت أن أرسب. في تلك السنة، مرت علي مآسي لا أستطيع حتى وصفها بالكلمات، انتهت السنة، ونجحت بتقدير سيئ، أصابني إحباط شديد.

كنت طوال حياتي أحصل على علامات مرتفعة وأتصدر دائماً، لكن الآن تغير كل شيء. الظروف كانت أقوى مني. حاولت، بذلت جهدي، لكن المشكلة في دماغي، وليس بيدي شيء لأفعله. لم أعد متفائلة كما كنت، لأن كل سنة أسوأ من التي تسبقها. أمي كانت تقول لي دائماً: "الإحباط يزيد من حالتك سوءًا، كوني قوية ولا تستسلمي. الله معك ولن يتركك."

تخرجت في النهاية، وتحصلت على المركز الثالث على مدى السنوات الدراسية. جاءت عائلتي وأقاربي ليحتفلوا بتخرجي، لكن لم يروا الفرح في وجهي. تساءلوا: "لماذا لستِ سعيدة؟" لم أستطع أن أضحك أو أفرح، فبعد كل هذا العذاب الذي ذقته، لم تعد الابتسامة تجد مكانًا لها على شفتي.

حوار مع الذات

كثيراً ما أجلس وحدي، أفكر في كل شيء حولي. أصبح البرد قارساً والمكان موحشاً. مشاعري مكبوتة، وكأن زلزالاً يهز كياني. كلماتي حبيسة في داخلي، قلبي مثقل بالهموم، وأتمنى أن أغمض عيني وأمسك أحلامي بيدي. ولكن تلك الأحلام تظل مجرد خيالات بعيدة.

أصبحت أجري حواراً مع نفسي كل ليلة، كأنني في محكمة أواجه ذاتي. ألوم نفسي على كل شيء، أحاسبها بقسوة. أقول لنفسي إنني عديمة الفائدة. لماذا أصبحت أعتمد على الآخرين لأعوض ما فقدته في حياتي؟ أصبحت حساسة جداً، أبكي لأبسط الأشياء. لا أدري ما الذي أوصلني إلى هذا الحال. أهو اليأس أم الغيرة من الآخرين الذين يعيشون حياتهم كما تمنيت أن أعيشها أنا؟

البحث عن الحزن والهروب من الواقع

ما الذي حدث لي؟ أصبحت أبحث عن أي شيء حزين يجعلني أبكي. لا أقرأ سوى الروايات الحزينة، ولا أشاهد إلا الأفلام المليئة بالحزن. أبكي بشدة، ليس على تلك القصص، بل على نفسي. وكأنني أعتذر لنفسي عن كل ما جنيته بحقها. أعتذر لأنني أصبحت عاجزة عن الابتسام، أعتذر لأنني لا أستطيع البوح بأسراري لأحد، أعتذر لأنني أصبحت مهملة في كل شيء.

العزلة والكآبة

اعتزلت الجميع، لم أعد أخرج من البيت، وأصبحت أسيرة لحزني. لا أتصل بصديقاتي، ولا أرغب في أي شيء. تأتيني نوبات كآبة تجعلني أكره نفسي وكل ما حولي. أعلم أنني إذا استمررت على هذا الحال، سأفقد عقلي. أمي نصحتني بأن أقرأ القرآن كل يوم لتخفيف همومي. بدأت بقراءة القرآن، ودموعي تنهمر على حالي. أصبحت الدموع رفيقي الذي لا يريد أن يتركني.

التضرع والدعاء

دائماً أتوجه إلى الله بالدعاء، أسأله أن يمنحني القوة لتحمل هذه المصاعب. لماذا لا أعيش حياتي كما أريد؟ لماذا يجب علي أن أتحمل كل هذا الألم؟ الحياة كانت قاسية علي، وقلبي يعتصر من الألم. حاولت ترك كل الأحزان خلفي، لكن السعادة لم تكن ترغب في استقبالي. كثيراً ما أسأل نفسي: لماذا يحدث لي هذا؟ لماذا أنا بالذات؟

ثم أستغفر الله على هذه الأفكار. أعلم أن هناك حكمة وراء كل هذا الابتلاء. ربما عندما أشفى، سأنسى كل هذه المآسي، وستصبح كأنها لم تكن. ثقتي بالله كبيرة، وأعلم أنه سيعوضني عن كل شيء.

الاعتذار للذات والحياة

أعتذر للحياة عندما اتهمتها بالقسوة. أعتذر للطبيعة عندما اعتقدت أنها صامتة. أعتذر للدموع التي لم أمنحها الفرصة لتُظهر قوتها. أعتذر لصندوق الذكريات الذي فتحته بعد أن دفنته، وأعتذر لأحلامي التي أرهقتها بأمنيتي الكبيرة.

أعتذر لأوراقي، لأنني كتبت فيها ثم أحرقتها. أعتذر للسعادة، لأنني عشقت الحزن أكثر من الحياة. أعتذر لأمي، التي تحملت كل هذا معي، ولأني لم أستطع أن أفرحها بما حققته. أعتذر لقلمي الذي أرهقته بكتابة كل هذه الآلام. أعتذر لنفسي، لأنني نسيت كيف أبتسم.

الواقع المرير

أصبحت أعيش في عالم مليء بالخيال، أهرب من واقعي. أعتذر لنفسي لأنني لم أتمكن من إعادة بناء ذاتي، وأصبحت عالقة في دوامة من الحزن. ربما يوماً ما سأتغلب على كل هذا، وربما سيبقى الحزن جزءًا من حياتي.



إعدادات القراءة


لون الخلفية