الفصل الثالث عشر: شفاء الجروح وعبور الألم

علمتني الحياة كيف أبتسم بينما الجروح في داخلي تصرخ وتئن. غريبة هي الحياة، بغرابة من يعيش على هذه الأرض. علمتني أن الناس قاسية تجاه من يخطئ، حتى وإن تاب. علمتني أن أبتسم وأنا أذوب في قمة الحزن، أن أخفي ألمي وحزني بعيداً عن الناس، وأن لا أقول كل ما أعرف ولا أكذب. علمتني ألا أرى الناس كملائكة، لأنهم قد يخذلون أحلامي. علمتني الكتابة كأرقى فنون التعبير.

علمتني أن أضحك رغم بكائي، أن أصمد رغم انكساري، وأن أبتسم في الوقت الذي يتوقع فيه الآخرون أن أبكي. علمتني أن الحياة رحلة قصيرة، فانية لا محالة، وأن علينا أن نعيشها برضا وقوة.

الألم والأمل

ذهبت إلى العديد من الأطباء، لكن لم يعرف أحد منهم سبب مرضي. لم يفدني أي علاج تناولته. أمي كانت تؤمن أن علاجي سيكون من خلال القرآن، لذا بدأت أقرأه لساعات يومياً، أستشعر كلماته وأتذوق لذته في قلبي وروحي. كنت أشعر بالألم يتلاشى تدريجياً مع كل صفحة أقرؤها، وكأن القرآن هو البلسم الشافي لآلامي. تمسكت بالأمل، وقررت ألا أخيب ظني في النهاية.

بعد تخرجي، ذهبنا إلى طبيب من مدينة أخرى. كان مختلفاً عن كل الأطباء الذين قابلتهم. لم يعاملني كمريضة، بل كأنه يعرفني منذ زمن طويل. كان يمزح معي ويضحكني، وفي عينيه لم أرى تلك النظرات التي كنت أعتاد رؤيتها في عيون الآخرين. كان لطيفاً، وشعرت براحة كبيرة في التعامل معه. وبينما كنا نتحدث، سألني فجأة:

الدكتور: "هل تعرضتِ لصدمة في صغركِ؟"

يارا: ارتبكت من سؤاله، لكنني أجبت: "لا، لم أتعرض لشيء."

الدكتور: "هل أنتِ متأكدة؟"

يارا: "نعم، متأكدة. عشت طفولة عادية جداً."

الدكتور: "لكنني أشعر أن هناك شيئًا تخفينه. يجب أن تبوحي به."

يارا: "..."

الدكتور: "ما رأيك في الذهاب إلى طبيب نفسي لتتعافي من هذه الصدمة أولاً؟"

ابتسمت بسخرية، لكنه فهمني.

الدكتور: "لا أقصد أنك بحاجة إلى طبيب نفسي لأنك مجنونة، بل لأن الحديث عن الأمر سيريحك."

يارا: "أمي هي بمثابة طبيب نفسي لي، أقص عليها كل شيء."

الدكتور: "إلا هذا السر، لم تبوحي به لأحد."

ظللت أنكر وجود أي شيء، لكنه كان على يقين بأن هناك سراً أدفنه في داخلي. أعطاني بعض الأدوية، وذهبنا إلى البيت.

القرار الأصعب: البوح بالسر

جلست مع نفسي أفكر في الأمر، وبدأت أتساءل: "هل يجب أن أخبر أمي بما حدث لي في طفولتي؟ هل سأجد الراحة بعد البوح بهذا السر؟" كانت تلك اللحظات من أصعب لحظات حياتي. كنت أخشى المواجهة، أخشى البوح، لكنني في الوقت نفسه كنت أعرف أن عليّ أن أقول لها.

في إحدى الليالي، بعدما غفوت قليلاً، رأيت في المنام ذلك القريب الذي عانيت بسببه. استيقظت مذعورة، وقررت أن الوقت قد حان لأخبر أمي. وجدت أمي وحدها في المطبخ، وشعرت بأن هذه هي الفرصة.

يارا: "أمي، أريد أن أخبرك بشيء."

أمي: "ماذا؟ قولي لي."

يارا: "أعرف الآن ما هي الصدمة التي أصابتني."

أمي باهتمام: "أخبريني، ما هي؟"

يارا: "لا أستطيع أن أخبرك وأنت تنظرين إليّ هكذا."

استدارت أمي: "حسنًا، قولي."

يارا: "الأمر صعب جداً. لا أعرف كيف أبدأ."

أمي: "تشجعي وقولي ما لديك، لا تخافي."

يارا: "عندما كنت في الثامنة من عمري، تعرضت للتحرش."

انصدمت أمي: "ماذا! من هو؟"

يارا: "ستصدمين أكثر إذا أخبرتكِ."

أمي: "من هو؟ قولي!"

يارا: "مراد..." (لم يكن يهم إن كان عمي أو ابن خالي، المهم أنه من العائلة.)

أمي بقيت صامتة للحظات طويلة. بدأت تلوم نفسها على أنها لم تنتبه لي في تلك الفترة. شعرت بالذنب والخوف، لكنني طمأنتها.

يارا: "لم يلمسني، فقط تحرش بي."

البوح والراحة

لم يكن من السهل أن أخبر أمي بكل شيء، لكن بعد أن فعلت، شعرت براحة كبيرة. أخبرتني أمي أنها تتفهمني، وأنها بجانبي مهما كان. لم أعد وحيدة في حمل هذا السر الكبير. لم يعد هذا العبء يثقل كاهلي كما كان. أمي كانت الصديقة الوحيدة التي أخبرتني بأنني لست وحدي.

تغيرت حياتي بعد ذلك. بدأت أتعافى تدريجياً، وشعرت بأنني أستعيد نفسي شيئاً فشيئاً. بدأت أضحك مجددًا، وتغيرت علاقاتي مع من حولي. حتى أنني بدأت أعمل ووجدت وظيفة، وأصبحت نفسيتي تتحسن.

تحرر من ذكريات الماضي

رغم أن ذكريات الماضي تظل تحاول اقتحام راحتي، إلا أنني قررت أن الوقت قد حان للتحرر منها. لا يمكنني أن أبقى سجينة لتلك الآلام إلى الأبد. أيقنت أن التحرر من الماضي هو الطريق الوحيد نحو الشفاء الكامل. الله لا ينسى عباده، وهو من يعطيني القوة للاستمرار.

كل تلك الأحزان والآلام التي عشتها كان لها دور في تشكيل شخصيتي. لقد أصبحت أكثر نضجًا ووعيًا الآن، ولم يعد الماضي يثقلني كما كان. سأترك كل الجروح وراءي، وأفتح صفحة جديدة في حياتي، مستعدة للمضي قدمًا بثقة وقوة.



إعدادات القراءة


لون الخلفية