أنشودة الصبر والإصرار

الإبتلاء نعمة من الله عزوجل، وليس نقمة كما يعتقد الجاهلون ،والكثير مـــن عباد الله المُخلَصين كان إبتلاؤهم سبب سعادتهم الدنيوية والأخروية ! ولكن ما شعورك بعد أن كنت تنعم بنعمة السمع والكلام والبصر وغيرها مــن الحواس ،وفجأة يسلبك ربك بفقد نعمة واحدة من كل نعمه العديدة التي لا تــُعد ولا تـُحصى ،تخـّيل معى إنك فجأة فقدت نعمة السمع ومعــها نعمـــــــــة الكلام بالطبع! ما هو شعورك وقد أصبحت تعيش في عالم مجـــــــــهول من الصمت المطبق ؟! ما هو إحساسك وأنت ترى الآخرين يتحدثون إليك وأنت كالــــطير الأخرس لا تستطيع التجاوب معهم ؟!! هذا ما حدث لصاحبي عبد الصبور الذي نشأ فى أسرة بسيطة تتكون من أب موظف صغير لايملك من حطام الدنيا شيئاً ،وأم مسكينة لاحول لها ولا قوة. 
 
 

كان عبدالصبور هو أول أولادهم ،فتركزت فيه الآمال كي يحقق لنفسه شيئاً ذات قيمة ، ولنترك عبدالصبور يحدثنا عن مأساته : 
كنت متفوقاً في دراستي وحصلت على مجموع كبير في الثانوية العـــــامة ، لكنه غير كافٍ لإلتحاقي بكلية الطب البشري ،فإلتحقت بكلية الطب البيطري على أمل واحد هو أن أستطيع بعد التخرج فيها الدراسة بإحدى كليات الطب البشري بعد ذلك ، لكن دائماً تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن كما يقــولون، فقد بدأت خلال العام الدراسي الثاني من دراستي الجامعية أشــــــعر بطنين خفيف ومتصل في أذني ،وحاولت مراراً علاجه بالأسبرين والمسكنات دون فائدة ،ومن حين لآخر كان الطنين يشتد في أذني ويستمر بالساعات ،وبــعد أن كان الطنين يزورني كل بضع ساعات بدأ يلازمني طوال اليوم ،إنه عذاب رهيب يا أخي ! وبدأت أفقد السمع تدريجياً وأشعر بثقل غامض في رأســــي ،ثم فقد قدرتي على تدوين المحاضـرات والدروس العـــملية ووقـــــف زملاء الدراسة بجانبي يدونون لي المحاضرات ،وبفضل مساعدتـهم لــي إستطعت بعون الله النجاح في عامي الجامعي الثاني بل وحصلت على أعــلى التقديرات ... 
 
ولكن لم أشعر بطعم النجاح كما شعرت أسرتي الصغيرة فلـــــــقد فقدت السمع نهائياً مع ظهور النتيجة وحّل الصمت القاتل الثقيل محل الطنين الدائم واستمر إحساسي بالصداع والثقل في رأسي وساءت حالتي أكثر مـــن ذلك فتأثر إتزان حركتي ولم أعد قادراًً على المشي بطريــــقة طبـــــــيعية ،بل وضعفت ذراعاي وأصابع يدي فعجزت عن الإمساك بالقلم ودخلت دوامـــــة العلاج بقسم السمعيات بطب عين شمس ،وبعــــد فحص إجراء للمـــــخ بالكمبيوتر تبين وجود ورمين في مركز السمع بالمخ ونصحني الأطـــــــــباء بضرورة السفر إلى لندن لإجراء جراحة عاجلة بالمخ ،وتم ذلك بالفعل بعـــد أن فعل أبي المستحيل وحصل على قرار بسفري للعلاج على نفقة الدولـــــة وأجريت الجراحة في لندن بنجاح ولكني عدت إلى وطني حطام إنسان يعاني من عدم إتزان في الحركة وشلل عضلات الوجه وضعف الذراعين واليدين .. 
 
وبدأت معي أمي الحنونة رحلة العلاج الطبيعي وثابرت عليه لمدة عام كامــل وقد أثـّر في نفسيتي كثيراً صبر أبي وأمي في رحلة علاجي ،لذلك قـــــــررت قبول التحدي مع نفسي وعدت مرة ثانية لإستكمال دراستي بكلية الطـــب البيطري ،ووقف بجانبي أساتذة الكلية وزملائي الطلاّب وكانوا يتعامــــلون معي بالكتابة والإشارة وينقلون لي المحاضرات ويشرحون لي ما لا أفـــهمه 
 


وفعلوا معي المستحيل حتى إجتزت فترة الدراسة بنجاح بحمد الله وحصـــلت على البكالوريوس بتقديرات عالية ،ثم عملت في أحد المراكــــز المتخصصة كباحث في العلوم البيطرية ،وعملت أيضاً أميناً للمكتبة بذات المركز وكــوّنت صداقات كثيرة مع العاملين بالمركز وزوّار المكتبة ، وبدأت رحمــــة ربـــــي تتجلى في هدايا السماء وجوائز الصابرين والراضين بأقدارهم فوفقنــي الله سبحانه وتعالى إلى زوجة هادئة ومطيعة تستهدي بقيم الدين علماً وسلوكــاً وخلقاً ،تفهّمت وضعي من البداية فكانت خير عون لي على ظــروف حياتي .. 
 
وبفضلها وفقني الله في الحصول على الماجستير ،وزادني من نعمه وفضلــه بالحصول على فرصة عمل رائعة كأخصائي للتحاليل الطبية في مستشــــــفى خاص لمدة خمس سنوات كاملة ،وكانت أعظم هدايا السماء أن رزقنـــي المولى عز وجل إبناً جميلاً نسخة مكررة مني في الشكل والهيئة فذكـــــــرني بطفولتي ،كما حصلت أيضاً بفضــــل الله وتوفيقه وبفضــــــل إصــــراري على تحقيق الحلم القديم على درجة الدكتوراه في تخصصي ودرجة مــدرس باحث بالمعهد الذي أعمل به ،بل وأنشأت مركز طبىخيري صغير لخدمــــــة البسطاء من الناس ، والآن يا صديقي مرت علىّ عشر سنوات كاملة وأنا في محنتي (الرائعة) التي كانت السبب المباشر لكل ما أنا فيه اليوم ! 
 
وبعد أن قال صاحبي عبدالصبور كل ما عنده قلت له أبشر بجزاء الصــابرين وجوائز السماء التي تمنحهم إياها جزاء صبرهم وإيمــــانهم ويقينهم في الله جل في علاه ، فكفاحك يا صديقي وإنتصارك على إعاقتك بمثابة أنشـــــــودة خالدة لبهجة الحياة والأمل في رحمة الله والرضا بكل ما تحمله لنا المقـــادير ودعوة مخلصة لأن يكتشف كل منّا نفسه ويكتشف الأشياء الجميــــــــلة التي يستطيع أن يحققها لنفسه وحياته إذا إستمسك بالأمل والثقة في النفس وفـي عدالة ما يسعى إليه من أهداف نبيلة ،وتلك الأهداف ذاتها يمكن تلخيصها في كلمات قليلة هي السعادة في الحياة الخاصة والتوفيق في الحياة العملية. 
 
الحكمة البليغة في قصتك ياعبدالصبور هي إنك قهرت اليأس في نفســك ولم تستسلم للعجز ،بل قمت كالطود الشامخ لا يؤثر في معنوياتك كل المعــــــاناة التي عايشتها وتألمت منها ،وكانت السماء سخية وكريمة معك فعوضك ربك بزوجة صالحة وإبن بار بك يذكّرك بطفولتك البريئة ، وأيضاً حبك لفعل الخير للمساكين والبسطاء من الناس يبرهن لنا على أن النفوس المعاقة فإنمــــــــا إعاقتها تكون جسدية فقط لا تتعدى الإحساس والشعور ،وهذا أيضاً يثــــــبت خطأ القول الشائع( كل ذي عاهة جبار !) بل قد تكون إعاقته سبباً ودافـــــــع قوي لنجاحه في مدرسة الحياة ،ويكون هو نفسه سبّاقاً دائماً لفعل الخير ولو في غير موضعه ! 
 



إعدادات القراءة


لون الخلفية