ندم بعد فوات الأوان

وصية الأعزاء الراحلين ينبغي ألا تتعلق بمعصية ، وقطع الرحم معصية مؤكدة حتى ولو كانت رحم من عقنا وبادرنا بالقطيعة من قبل .. يقول الله عز وجل في كتابه الكريم : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ) 224/ البقرة ـ وقد قال المفسرون أن الآية السابقة نزلت في عبد الله بن رواحة حين أقسم ألا يكلم زوج أخته وألا يصلح بينهما ، فنزلت الآية بما هو خير وأقوم للحياة الإنسانية والعلاقات العائلية ..والقسم بالله أعلى شأناً من الوصية الشفوية ، فإذا كنا قد أُمرنا بألا نجعل الله عرضة لأيماننا ألا نصنع الخير ، فإن من الأولي أن نكفر عن يميننا ونصنع من الخير ما كنا قد حلفنا ألا نصنعه 
 
إسماعيل فتى  تعرض لمحنة قاسية صنعها بيديه عندما أصرّ على الزواج من لواحظ رغم اعتراض أبه وأسرته على تلك الزيجة وتحذيرهم له من أنها امرأة سيئة السمعة ذات جمال متوحش مبهر ! لكن الفتى إسماعيل قرر الزواج منها رغم كل شيء واستقر في مدينة الإسكندرية وهجر قريته الصغيرة في أعماق الصعيد وقاطعه كل أهله ! يومها حدثت صدمة هائلة لأبيه بسبب عصيان ابنه البكر له .. بدأ إسماعيل حياته الزوجية منقطع الجذور العائلية من كل أسرته وأهله ،

 بل وكل معارفه وأصدقاء طفولته ، واستغرق تماماً في حياته الجديدة ووظيفته المرموقة التي كان يشغلها ، تمر الأيام ويكتشف إسماعيل أن كل ما حذره منه أبيه وأمه قبل الزواج قد تحقق وأن توقعاتهما كانت في محلها وتحققت بالحرف الواحد !.. وكأن عيناه وبصيرته كانت عمياء عن كل عيوب لواحظ ! 
ساعتها قرر إسماعيل طلاقها بعد فضائح كثيرة وبعد أن أنجب منها طفلتين بريئتين ! 
 
مرت الأيام وحاول إسماعيل الزواج مرة ثانية لكنه لم يوفق أبداً في الارتباط بأي إنسانة ومعه طفلتاه الصغيرتان ، وعادت طليقته لواحظ تحاول من جديد نصب شباكها حوله وتواصل الاتصال به وبطفلتيها تبدي الندم على أخطائها ! ساعتها وجد إسماعيل نفسه تضعف أمام مغرياتها وتزوجها ثانية ، وما أن دخلت لواحظ حياته مرة أخرى وتملكت منه حتى رجعت إلى سيرتها الأولى ، فطلقها طلقة بائنة لا رجعة فيها واحتفظ ببناته معه .. نظر الرجل حوله فوجد أنه قد مضت 15 سنة منذ قطيعته لأهله وأنه لم يبذل أي محاولة للاعتذار أو الندم خلال تلك السنوات الطويلة ... تساءل بينه وبين نفسه : كيف يكون حال أبي الآن ؟!!... 

 ماذا فعلت بحياتي وماذا جنيته منذ عققت أبواي وقطعت رحمي ؟!! ها هي المرأة التي عققتهما من أجلها قد حوّلت حياتي إلى جحيم وفضائح !! والسعادة التي تخيلت أنني سوف أنهل منها رحيق العسل طوال العمر لم تمض شهور بعد الزواج حتى تبددت وحل الفتور محل سراب الحب الملتهب الذي أعماني عن كل شيء ! ترى كيف يكون حال أبي الآن ، وماذا عساه يفعل معي إذا وجدني أمامه فجأة محني الرأس نادماً ، منكباً علي يده أقبلها وأرجوه أن يصفح عني ويمنحني بركته وغفرانه لكي أستطيع مواصلة الحياة ؟ 
اشتعل رأس إسماعيل بالأفكار المتضاربة وقرر الذهاب إلى أبيه للاعتذار له ، وذهب إلى قريته وهناك فوجئ أن أباه قد رحل عن الحياة منذ عامين ..

 رحل وهو غاضب عليه وأوصى من حوله بألا يسمحوا له بوداعه في فراش الموت ولا بالسير في جنازته حين يحمّ القضاء ! 
كانت الصدمة هائلة على الرجل .. لقد زلزلت كيانه ، وحاول كثيراً مع أمه كي تصفح عنه فوجدها أصلب من الحجر وتأبى إلا تنفذ وصية أبيه ، بل واتهمته بأنه السبب في موت أبيه وخراب البيت ! تلك صورة للعاطفة الوجدانية البائسة التي تغلبت على لغة العقل والحوار الهادئ بين إسماعيل وأمه وسابقاً بين إسماعيل وأبيه ، هو حقيقة نادم على ما فعل وأدرك متأخراً أنه كان يجب ألا يفرط في صلة رحمه بتلك السهولة حتى لو أراد الزواج من إحدى الحور العين ، فليس في الدنيا كلها ما يستحق أن يقطع الإنسان رحمه وما بينه وبين والديه وإخوته وأهله ! لقد استسلم الرجل كلياً لرغباته وأهوائه ودفع الثمن غالياً من حياته وسعادته ، وتغافل عن إننا لا نحيا وحدنا في الحياة وأنه يمكنه هكذا ببساطة الاستغناء عن أهله وأصدقائه من أجل امرأة سيئة السمعة ، فالله وحده جل في علاه هو الغني المستغني بنفسه ولا يحتاج لأحد ، أما نحن البشر الضعفاء فنحتاج إلى الأهل ودفء العلاقات العائلية والإنسانية ومن واجبنا أن نصل أرحامنا حتى ولو قطعها البعض منا . 
 
وصاحبنا إسماعيل قطع صلته بأهله 15 عاماً وهي فترة طويلة جداً تصيب القلوب بالصدأ والجفاء ، وقد قالوا قديماً في الأمثال : البعيد عن العين بعيد عن القلب ، وإسماعيل كان بعيداً عن قلب أبيه وأمه وطبيعي أن يزداد الجفاء وتكون المشاعر باردة ، لقد علمنا فقهاؤنا الأعزاء أن المعصية لو كانت بين العبد وربه فإن شروط التوبة منها ثلاثة هي أن يقلع المرء أولاً عنها ويندم عليها وألا يرجع إليها أبداً ، فإذا كانت تتعلق بحق إنسان آخر أضيف إليها شرط رابع هو أن يبرأ من حق صاحبها ، أي يعيد إليه حقه إذا كان له حق لديه أو يعتذر له عما أساء إليه أو يستسمحه فيما أخطأ به في حقه حتى يصفح ويعفو ، وصاحبنا إسماعيل لم يفعل شيئاً من ذلك وما زالت نظرته للأمور أنانية ،

 فهو قد فكر باللجوء لأمه لحاجته ‘ليها كي ترى أولاده ، أي أن ندمه لم يكن صادقاً ، لذلك فقد صدته أمه في غلظة وجفاء شديد قائلة له أن تلك وصية أبيه ، ولها كل العذر في ذلك ، فهي لم تر منه أي بادرة على حسن النية والندم الحقيقي على ما فعل ، لكن ورغم كل شيء فإن قلب الأم لا يعرف الكراهية لأحد أولادها على طول الخط ، هي فقط غاضبة مما حدث ومع الأيام سوف تصفو النفوس بعد أن يثبت إسماعيل للجميع صدق نواياه وصفاء توبته . 
 



إعدادات القراءة


لون الخلفية