الروابط العائلية بين أفراد المجتمع المسلم والأسرة المسلمة أراهــــــــا بكل أسف مفككة إلا من رحم ربي ، فالكـــــــل يلهث وراء لقمة العيش وننسى أو نتناسى صلة الرحم في دوامة الحياة القاسية ! لكن هل حقاً الحياة قاسية ،أم أن نفوسنا البشرية أكـــــــــثر قســوة منها ؟! أعتقد جازماً أن الحياة ليست قاسية أكثر من قسوتنا نحـــــن على أنفسنـا !
فقد أصبحنا نقيس كل شيء على الماديات فقط ! وأصبح تعاملنا مــع بعضنا البعض تعامل مادي بحت، لا مجال فيه للروحانيات والقلوب الحــــانية التي تحث صاحبها على صلة الرحم ولو بأقل القليل من ماديات الحياة كما ندعي.
أعرف أشخاصاً كثيرين لا يصلون رحمهم بحجة أنهم لا يقدرون عــلى تكاليف زيارة(محترمة) يصلون بها أرحامهم ! يا سبحان الله ! ومن قال أنه لابد أن تكـــــــون الزيارة (محترمة) أي غالية الثمن ؟
والله إنك لو وصلت رحمك بكيس سكر واحد أو كسرة خــــــبز فأنك بذلك تكون قد أديت واجب إسلامي عظيم دعا إليه رب العزة من فوق سبــع سموات ألا وهو صلة الرحم .
وقصتنا اليوم تجسّد لنا صورة ناصعة البياض لتكاتف الأســــرة المسلمـة ، جائني سامح ،شاب في الرابعة والعشرين من عمره يشع نور الإيمان مــن قلبه وعلى جبينه ، جائني يقول : تفتحت عيناي للدنيـــــا فوجدتني بين أب طيب حنون وشقيقتين وشقيق يكبرونني ،وأدركت في مرحلة مبكرة مــــــن عمري أن أمي رحلت عن الدنيا وشعرت أن بيتنا ينقصه شيء لا أعيه جيداً لكنه هام جداً ،بل ضرورياً ومهماً جداً بدليل وجوده في بيوت من أعرفهــــم من رفاق الطفولة ،وعندما سألت أبي عن هذا الشيء ولماذا لا يوجد فــي حياتنا ؟
دمعت عيناه وأحتضنني، وشيئاً فشيئاً أدركت هــذا الشيء الناقص وعرفت أن أمي يرحمها الله قد رحلت عن الحياة وأن أبي الطيب الحنون رفض أن يتزوج مرة أخرى وواصل كفاحه معنا وأصبح هـــــــو الأب والأم والصديق والنافذة التي نطل منها على الحياة ! ومضت الحياة بنا سعيدة هانئة دافئة بحنان أبي وعطفه علينا ،وفـي كـــــل حين نتذكر أمنــــــــا الراحلة ونترحم عليها ونتمنى لـــــــو كانت بيننا !
لكن الأماني والأيام السعيدة لا تدوم فسبحان من له الدوام ،فقد صحونا أنـــا وأخوتي ذات يوم لنجد أبي قد رحل عن الحياة ولحق بأمنا في الحياة الآخرة .. وأصبحنا في البيت أربعة من الاخوة الصغار أكبرهم (سعيد) في السابعـــــة عشرة من عمره وأصغرهم وهو أنا في الثانية عشرة من عمري وشقيقتين صغيرتين هما ميرفت ومديحة .. سلّمنا أمرنا إلى الله الحي الذى لا ينام ولا يغفل ولا ينسى أحداً من عبـــــاده، وتماسكنا وتداخلنا في بعضنا البعض كما تتداخل أفراخ الطير فـي حضن أمها لتحتمي به من البرد والرياح !
وازداد إلتصاقنا وترابطنا وتكاتفنا معاً وأقسمنا أن نحقق حلم أبينا الراحــــل بمواصلة التعليم رغم كل الصعوبات التي قد تقابلنا ، ولمســـــــاعدة إخوتي عرفت العمل في الأجازات من سن الثانية عشرة وكان كل منــا يهتم بشئون الآخر ويقوم له بما يحتاج إليه ويعطف عليه ،وعشنا هذه المرحلة مــــــــن عمرنا بكل قسوتها وعيوننا جميعاً دامعة في معظم الأحيان ولا تغيب عنــــا ذكرى أبينا الراحل وأمنا الراحلة، وواصلنا الحياة بخيرها وشـــــــرها ،ولا أنسى أبداً منظر المائدة الخشبية البسيطة التي كانت تجمعنا حولـــها وكانت حافلة بطعام بسيط نتناوله بشهية
ونحن نتحدث ونحكي عما حدث لنا فـي يومنا ونستمتع بعد ذلك بشرب الشاي وتبادل الحكايات والروايات ثم نأوى جميعاً إلى فراشنا ونحن راضون شاكرين الله سبحانه وتعالى نعمة وجودنا معاً وحبنا لبعضنا البعض ونجاحنا في المدارس رغم الظروف الصعبة التي نواجهها مع حب الناتس والجيران لنا ،وكنا لا نستسلم للنوم إلا إذا قرأ كــل منا الفاتحة لروح أمنا وروح أبينا رحمهما الله ،ويمضي موكب الحياة بنـــا ونحقق حلم أبينا الراحل بتماسكنا وإتحادنا ،ويحصل أخي الأكبر سعيد على مجموع كبير في الثانوية العامة ويلتحق بإحدى كليات القمة بجامعـــــة الزقازيق ويتخرج فيها والتحق أنا بإحدى الكليات النظرية وأتخرج فيهــــا بتقدير عال وتحصل شقيقتاي ميرفت ومديحة علــــــى شهادتيهما وتزوجت ميرفت بحمدالله وسعدت كثيراً بحياتها ،وما زلت أنا وأخـي وأختي مديحة نعيش في بيتنا الصغير يحدونا الأمل في الحياة والثقة بعـــــــون الله ورعايته لنا .
تلك كانت ملحمة حقيقية رائعة جسّدت لنا قصة الكفاح المُشّرف لهـــــــؤلاء الأخوة المتحابون في الله ،الذين جابهوا كـــــــــل ظروفهم القاسية والدرس المُستفاد من قصتهم هو تعاطفهم الإنساني النبيل وحرصهم علــى روابطهم العائلية وتمسكهم بروح الأمل والتفاؤل في الغد الأفضل مهما كانت الشدائد والآلام .