في إحدى المدن كان هنالك صديقان أحدهما يملك بعيراً (جملاً) و الآخر لا يملك ، كانا يمشيان و قد نفد من عندهما الماء ، فوصلا إلى بئرٍ منعزلة لا يوجد فيها دلوٌ لاستخراج المياه ، فتبرَّع صاحب البعير بالنزول في البئر لجلب الماء على أن يساعده الآخر .
و بالفعل لفَّ حول وسطه حبلاً و نزل في البئر ، ملأ قربتي الماء و ربطهما بالحبل فسحبهما صاحبه الذي طمع بالبعير فأفلت الحبل بعد أن أخذ قربتي الماء و ولَّى هارباً ، تاركاً الرجل المسكين وحيداً في قاع البئر .
احتار الرجل ماذا يفعل ، فالبئر عميقة و في منطقة شبه مهجورة ، جلس مستسلماً لقدره و قد حل الليل .
كان القمر مكتملاً ، و عند انتصاف الليل اجتمع حول البئر مجموعةٌ من الأشخاص ، استغرب الرجل ما يحصل لكنه التزم الصمت و أخذ ينصت لأحاديثهم التي عرف من خلالها بأنهم مجموعةٌ من السَحَرة يجتمعون كلَّ عامٍ حول هذا البئر ، يعرض كل واحد فيهم أعماله خلال السنة ، قال أحدهم متباهياً أنه صنع سحراً لفلان جعله يخسر تجارته ، قال آخر بأنه عطَّل زواج إحدى الفتيات ، و قال ثالث أنه تسبَّب بموت فلان ، تكلَّم الكل إلا ساحر عجوز كان صامتاً يبتسم بخبثٍ طيلة الوقت ، سألوه عن أعماله فقال : أما أنا فقد قمت بعملٍ عظيم ، لقد سحرت ابنة حاكم هذه المدينة و جعلتها تصبح مجنونةً لا يستطيع أحدٌ الاقتراب منها ، لقد جلبوا لها أمهر الأطباء و لم يفلحوا في إعادتها إلى طبيعتها ، لا أحد يعرف دواءها غيري ..
سألوه : و ما دواؤها ؟
أجاب : أن يُرشَّ عليها من ماء هذا البئر .
أخذوا يضحكون و يتسامرون إلى أن لاحت الشمس في الأفق ، عندها رحلوا ..
صاحبنا كان قد استمع إلى كلِّ أحاديثهم و صمَّم على إنقاذ ابنة الحاكم إن قُدِّر له الخروج من هنا .
شاء الله و وصل إلى البئر مجموعة من الرجال ، احتاروا في كيفية إخراج الماء منه ، فصرخ الرجل الحبيس في قاعه قائلاً أنه يستطيع مساعدتهم إن وعدوا بإخراجه ، فزع الرجال و أرادوا الهرب ، لكنه سارع إلى طمأنتهم ، قال لهم بأنه إنسيٌّ و ليس عفريتاً من الجنِّ كما اعتقدوا ، و قصَّ عليهم كيف صديقه غدر به و تركه في قاع البئر .
مدّوا إليه حبلاً فملأ قربهم بالماء و من ثم ربط الحبل حول وسطه و ساعدوه على الخروج ، شكرهم صاحبنا و كان قد ملأ لنفسه أيضاً من ماء البئر .
مضى في طريقه قاصداً قصر الحاكم ، و عند الباب قال بأنه جاء لمعالجة ابنة الحاكم المريضة ، سخر الحراس منه قائلين بأن أمهر الأطباء لم يقدر على ذلك لكنهم بنفس الوقت أوصلوه إلى الحاكم الذي كان يائساً تماماً من شفاء ابنته ، لذلك عندما استقبل صاحبنا لم يتحمَّس كثيراً و قال له : سأدخلك عليها لكن لا شأن لي إن أصابك مكروه بسبب جنونها ، فطمأنه الرجل قائلاً : أنت فقط دعني أراها و كل شيء بعدها سيكون على ما يرام بإذن الله .
مضوا به إلى غرفةٍ منعزلةٍ في القصر كانت الفتاة محبوسةً بها ، دخل عليها فوجدها ممزقة الثياب تملأ وجهها الجروح و شعرها أشعث ، و ما كادت تراه حتى هجمت عليها محاولةً قتله لكنه سارع برشِّ مياه البئر عليها فسقطت مغشيٌّ عليها بضع دقائق و بعدها صحت و قد عادت إلى طبيعتها ، أخذت تتساءل عما حدث لها و لماذا هي في هذه الغرفة ..
وصل خبر شفائها إلى الحاكم ، فسارع للتأكُّد من الأمر بنفسه و عندما رأى ابنته معافاةً شكر صاحبنا و كافأه بالزواج منها ..
أُعلِنت الأفراح في المدينة و احتفل السكَّان بشفاء ابنة الحاكم و زواجها ، و بعد مدَّة توفّي الحاكم ، و لأنه لم يكن يملك سوى هذه الفتاة فقد أصبح صاحبنا حاكم المدينة بدلاً عنه ..
هل تنتهي قصتنا هنا ؟؟ كلا ، فلابد أن تعرفوا ما الذي حصل لذاك الرجل الخائن سارق البعير .
عصر أحد الأيّام كان الحاكم الجديد يمشي في شوارع المدينة يتفقَّد الرعية ، فلمح صاحبه الخائن يمشي بالجوار فنادى على الحراس و طلب منهم جلبه إلى القصر .
عند عودة الحاكم من جولته أحضره الحراس بين يديه .. اقترب منه الحاكم و قال له : ألم تعرفني ؟
أجابه الرجل بتذلُّلٍ و نظره يلامس الأرض : و كيف لشخصٍ حقيرٍ مثلي أن يعرف شخصاً رفيع المقام كسموِّك ، أنا بحياتي لم أدخل هذا القصر .
قال الحاكم ضاحكاً : تمعَّن بوجهي جيداً ستعرفني .
رفع الرجل نظره إلى الحاكم و ركّز في وجهه جيداً ، عندها صدرت شهقةً منه و سجد عند قدميه قائلاً بتوسُّل :
أرجوك سامحني ، لقد ندمت على ما فعلته بك .. لقد أعماني الطمع .
قال له الحاكم : انهض فقد عفوت عنك ، و أريد أن أشكرك أيضاً ، فلولاك ما كنت وصلت إلى ما أنا عليه الآن .
نهض الرجل غير مصدّقٍ لما سمعه ، سأل مستغرباً : و كيف ذلك ؟؟
فقص عليه الحاكم أحداث تلك الليلة و كيف أن جمعاً من السَحَرةِ يجتمعون مرّةً كل سنة حول ذلك البئر يتحدثون فيه عن أعمالهم ..
مضى الرجل خارجاً من القصر غير مصدِّقٍ أنه نجا من عقاب الحاكم ، أخذ يفكر كيف أن الحظَّ قاد صاحبه إلى السلطة ، لماذا لا يجرِّب حظه هو الآخر و يقبع في ذلك البئر لعله يستمع إلى حكايا السَحَرة و ينوبه شيءٌ من ورائها ..
اتَّجه مسرعاً نحو البئر و قد أغراه الطمع مجدداً ، و كانت تلك الليلة هي ليلة اجتماع السَّحَرة بعد أن مضى عامٌ على بداية أحداث قصتنا .
نزل في قاع البئر و قبع منتظراً مجيء السَّحَرة الذين بالفعل جاؤوا عند انتصاف الليل ، أخذ كلُّ واحدٍ فيهم يسرد أعماله إلى أن حان دور ذلك العجوز فصرخ قائلاً :
أنا غاضب ، بل أكاد أُجنُّ من الغضب ، لقد صنعت سحراً قوياً لابنة الحاكم و مع ذلك استطاع أحدهم أن يشفيها منه ، لا يوجد سوى احتمالين ، إما أنَّ أحدكم قد وشى بالعلاج إلى الحاكم .
فقاطعوه قائلين : لا يوجد بيننا من يفعل ذلك ، فنحن لا نكشف أسرار بعضنا البعض
أكمل العجوز قوله : و إما أنَّ أحدهم عند اجتماعنا العام الفائت كان يتنصت علينا
انتفضوا قائلين برعب : و من ذا الذي يتنصت علينا في هذا المكان المهجور ، ربما هذه البئر مسكونة ، الأفضل أن نردمها و ننقل اجتماعنا إلى مكانٍ آخر
أسرعوا بجمع الحجارة و قذفها في البئر إلى أن ردموه بالكامل ، و هكذا مات ذلك الرجل الخائن و لم يجني شيئاً من وراء طمعه .