في عالم آخر.. عالم بعيد أم قريب، لا أحد يعرف.. في عالم شاسع، مكوّن من قارتين عظيمتين تحتلان ذلك العالم.. في ذلك العالم، انقسمت الأرض بين مملكتين عظيمتين هيمنتا على تلك القارتين وفرضتا سيطرتهما شبه الكاملة..
في مثل ذلك العالم، ولاء المرء لا ينقسم إلى اثنين.. فإما أن يكون موالياً لمملكة (بني فارس) التي سميت بهذا الاسم نسبة لموحدها فارس بن ظاهر، والتي ملكتها عائلة عريقة من الملوك الأقوياء.. وقد اشتهرت المملكة بمساحتها الكبيرة التي تغطي أغلب إحدى القارتين المكونتين لذلك العالم، وتسمى القارة العظمى.. فمنذ نشوئها، توسعت مملكة بني فارس وهي تلتهم الممالك والولايات الأصغر والأضعف حجماً بكل شراهة.. ولم يسلم من سطوتها إلا بضع ممالك صغيرة وقبائل غجرية في شمال وشرق المملكة في الأماكن الأكثر وعورة وقسوة في المناخ..
وفي الجزء الغربي من القارة الأكثر غنىً بثرواتها الطبيعية، استقرت العائلة المالكة في مدينة كبيرة اتخذتها عاصمة للمملكة، وسميّت (الزهراء)، والتي ازدانت بمساحات شاسعة من الحدائق الغنّاء بأشجارها المثمرة وشجيراتها الزاهرة، وشيّدت
فيها المباني الفخمة والساحات المنظمة والشوارع المرصوفة حتى تعارف على تسميتها بزهراء الممالك لجمال أحيائها وتنظيمها وفخامة قصورها..
أو يكون المرء موالياً لمملكة (كشميت) الواقعة في قلب قارة الثنايا، وهي مملكة محبّة للعلوم والفنون وجميع أنواع المعارف.. شُغف ملوكها بالتطوير والتعمير، وقاموا باستقطاب أصحاب الفنون والعلوم لتطوير مملكتهم، بحيث أصبحت العاصمة التي اختاروها والتي سميّت (كاشتار) مطمحاً للعلماء وأصحاب المعارف المختلفة، وسرت شائعة أن كل من يملك علماً يعامل بأفضل مما قد يجد في باقي ممالك العالم.. ورغم أن ملوك (كشميت) لم يكونوا من عائلة عريقة بل مجهولي الأصل، فإن حكمهم القوي قد جعل من مملكتهم تتمدد حتى تكاد تغطي على قارة الثنايا بأكملها..
وكما هو معروف ومتوقع، فإن عداءً قوياً قد تأصّل بين المملكتين لاختلافهما في الأهداف والتطلعات، وامتد ذلك الخلاف لمئات السنين واستهلك عشرات وآلاف الأرواح والممتلكات في حروب ضارية خاضتها المملكتان دون تردد.. ورغم أن الحرب الأخيرة، التي انتهت باتفاقية مؤقتة للسلام، مضى عليها ما يزيد على خمس وعشرين عاماً، إلا أن مثل هذه الاتفاقية لم تتمكن من إرساء سلام كامل في العالم ولم تهّدئ القلاقل التي تحدث بين وقت وآخر عند أطراف المملكتين وعبر بحر السلام وهو بحر يفصل بين القارتين ويحمل في اسمه أمنية تمناها الأجداد.. بأن يسود السلام بين المملكتين وتنقطع الحروب الشرسة بينهما والتي أزهقت أرواح المئات من أبنائهم ودمرت القرى الواقعة على ساحل ذلك البحر من جهتيه..
وبسبب هيمنة هاتين المملكتين، وجدت الممالك والدول الأصغر والأقل تأثيراً أنها مجبرة على تحديد ولائها لمن يملك مصالحها أو من تخشى من بطشه أن يطالها ويتهدد أمانها.. وهذا كان حال مملكة بني غياث الصغيرة التي تحتل جزيرة لا تتجاوز مساحتها مساحة إقليم من الممالك الأكبر حجماً، وتحتوي على أقل من عشر مدن رئيسية وبعض القرى المتفرقة ومساحات جبلية احتلت معظم تضاريس الجزيرة.. مما جعل معيشة سكانها صعبة وقاسية، وجعل المملكة فقيرة وذات اقتصاد ضعيف.. وفقرها هذا جعلها غير قادرة على بذل المال لتجهيز جيش مدرب بعتاده لحماية المملكة من أي عدو يهدد أمنها وسلامة شعبها.. وهذا جعلها بحاجة ملحة لحليف قوي يدرأ عنها الأخطار ويساندها في أي أزمة تمر بها..
كانت عاصمة تلك المملكة هي (بارقة)، والتي أسماها ملوكها السابقون بذلك لأن القادم إليها يرى أول ما يرى انعكاس الشمس على بواباتها الفضية الضخمة.. هي مدينة كبيرة الحجم وتبزّ باقي مدن المملكة مساحة وفخامة.. لكنها أصغر بكثير من مدن الممالك الأكبر وتبدو كمجرد قرية صغيرة جوارها.. لكن الملك حاول جهده للتغلب على ذلك بالكثير من البهرجة والفخامة في قصره الملكي، بالإضافة لابتداع الكثير من المراسم الخاصة به وبالطبقة العليا لا هدف لها إلا إضفاء أهمية مزعومة على مملكته وعلى شخصه..
كان ملك مملكة بني غياث، قصيّ الرابع، رجلاً في الستين من عمره، بطباع جافة ومزاج عصبي وتسلط ظاهر، لا يتردد في عقاب من يخالف قوانينه محاولاً وأدَ أي اعتراض قبل أن يتفاقم لثورة تطيح به وبعائلته.. وكان يملك عائلة كبيرة الحجم بالنسبة لملك مثله، مكونة من زوجتين أنجبتا اثنا عشر ابناً وابنة بالإضافة لصبيين صغيرين أنجبتهما إحدى جواريه.. وقد تراوحت أعمار أبنائه بين الثالثة والثلاثين، وهو عمر أكبر بناته، إلى السنتين، وهو عمر الصبيين التوأمين اللذين أنجبتهما الجارية.. ورغم العدد الكبير لأبنائه، إلا أن الملك لا يكاد يذكر من أبنائه إلا اسم وريث مملكته، غياث الثاني، والذي يعدّه ليحكم المملكة من بعده آملاً أن يتحقق هذا بعد زمن طويل وعمر مديد.. ولا يكاد يذكر من بناته إلا من احتاج تزويجها لشخص ذي مكانة تمنح ملكه شيئاً من القوة أو تمنحه حليفاً جديداً..
لذلك، عندما تردد اسم ابنته السابعة على شفتيه، فإن الأخبار طارت بسرعة البرق في قصره الفخم الذي احتل مساحة يعجز الشخص العادي في تلك البلاد من تصديقها.. هلّلت زوجته الثانية لهذه الأخبار، وهي أم الإبنة السابعة.. بينما تراوح انفعال أخواتها لهذا الخبر بين سعادة لما يعنيه ومط شفاه بغيرة وحسرة..
ومع نهاية ذلك الأسبوع، كانت العاصمة تقيم احتفالاً باهراً عمّ أرجاءها وأحياءها باختلاف طبقاتها.. ولم يكن هناك سبب معروف لهذا الاحتفال، إلا إظهار البهجة والمبالغة بالترحيب بموكب خاص وبادي الأهمية على وشك الوصول لأبواب العاصمة.. فخلال الأيام الماضية، أمر الملك بالشوارع أن تزيّن والمنازل أن تجمّل والمصابيح الزجاجية الملونة أن تعلق في أغلب الأحياء التي سيمر بها الموكب.. انتشرت شجيرات الورد الزاهية حالّة محل الشجيرات التي ذبلت لعدم العناية بها، وازدانت المدينة بشكل لم يُرَ مثله من قبل.. ولما تساءل أحد الشباب بتعجب لرؤية التغيير الذي حدث للمدينة خلال أيام قليلة "ما الذي جرى؟.. من النادر أن يبذر الملك أمواله في تزيين المدينة وبهرجتها بهذه الصورة مهما كانت المناسبة.."
أجابه آخر وهو يتأمل الأعلام الزاهية التي تم تعليقها في مواقع متميزة "ألم تعلم؟.. موكب ملكي قادم من مملكة بني فارس لزيارة الملك.. ويبدو أن أنباء تتردد عن رغبة ملك مملكة بني فارس، الملك عبّاد، مصاهرة ملكنا بتزويج ولي عهده من إحدى أميرات مملكتنا.. لهذا يظن الملك أن رمي هذه الأموال في احتفال فارغ لإبهار ضيوفه سيعود عليه بفائدة عظيمة.."
قال الأول بدهشة "وما الذي يجعل ملك تلك المملكة العظيمة يسعى لمصاهرة ملك مملكة صغيرة ومتواضعة كمملكة بني غياث؟.. ما الذي سيجنيه من هذا؟"
ربت الثاني على كتفه قائلاً بابتسامة "وما الذي يهمك من هذا؟.. المهم أننا سنحصل على طعام وشراب مجاني هذه الليلة.. وسنرقص حتى الفجر.. فكن مستعداً.."
غمغم الأول وهو يتبع رفيقه "لكن ما يجري لا يمكن ابتلاعه بسهولة من ملك بخيل كملكنا المبجل.."
وفي جانب من قصر الملك، حيث الخدم والخادمات يعملون بأقصى سرعتهم استعداداً لذلك الاحتفال ولاستقبال الضيف في أبهى صورة، اندفعت إحدى الخادمات عبر أرجاء الحديقة هاتفة "مولاتي.. مولاتي أين أنت؟"
وتوجهت لأحد الخدم حاملة تساؤلاتها بقلق شديد، لكن الخادم نفى معرفته بموقع من تبحث عنها.. ولما ابتعدت الخادمة صاح خلفها "ابحثي عنها عند الحظائر.."
حوّلت الخادمة وجهتها نحو الحظائر التي كانت تحتل الجهة الجنوبية من حدائق القصر الواسعة.. وقد استغرقها الأمر عدة دقائق لتعبر طرقات معقدة وسط حدائق مزينة بشكل هندسي جميل، تقودها إلى الحظائر والاسطبلات التي تحتوي على عدد لا يحصى من الحيوانات اللازمة لإعاشة المئات الذين يعيشون في القصر، بالإضافة لعدد كبير من الخيول الخاصة بالملك والأمراء والتي خصص بعضها لجرّ العربات الملكية..
وقرب أحد الإسطبلات، رأت ما جعلها تقترب منه هاتفة "مولاتي...؟!.."
رأت، عند كومة من القش، تلك الفتاة التي استلقت قربها وهي تضع كتاباً بالي الأطراف تغطي به وجهها من أشعة الشمس التي كانت على شيء من الحدة، بحيث لا يبدو من رأسها إلا تلك الخصلات الكثيفة المتماوجة، وتعقد ذراعيها على صدرها بسكون تام.. وقربها قبع كلبٌ ضخم بشعر طويل بني يكاد يغطي عينيه وهو يستلقي بصمت وسكون.. اقتربت الخادمة من الفتاة هاتفة "ما الذي تفعلينه هنا يا مولاتي؟"
فتحت الفتاة عينيها شيئاً ما وهي تزيح الكتاب عن وجهها وتقول بصوت ناعس "ما الذي ترينه؟.. أستمتع بغفوة تحت أشعة الشمس الدافئة.."
قالت الخادمة باستنكار وهي تغطي أنفها بكُمّ ثوبها "في هذا المكان؟.. كيف يمكنك احتمال هذه الرائحة من الحظائر القريبة؟"
لم تعرها الفتاة اهتماماً وهي تغمض عينيها وتستسلم للنوم من جديد، لكن الخادمة اقتربت منها وقالت بإلحاح "مولاتي.. عليك أن تعودي للقصر حالاً.. أمك الملكة الثانية تطلبك حالاً، وعلينا ألا نجعلها تنتظر.."
قامت بطرد الكلب الذي أصدر زمجرة منزعجة وهو يبتعد خطوات ويجثو في موقع آخر، بينما قالت الفتاة بضيق "ما الأمر هذه المرة؟.. لمَ عليكم أن تقاطعوا غفوتي بشكل يومي؟.."
قالت الخادمة بعصبية "مولاتي الملكة ستعاقبني إن لم أعد بك حالاً.. أرجوك يا مولاتي لنعُدْ للقصر.."
نهضت الفتاة متأففة والخادمة تنفض القش الذي علق بشعرها وهي تقول بحنق "كيف يمكنك أن تفعلي هذا بنفسك؟.. وفي يوم مهم كهذا اليوم.. لن يكفينا الوقت لتجهيزك بشكل ملائم قبل وصول الضيف.."
نظرت لها الفتاة بغير فهم متسائلة "أي ضيف؟"
قالت الخادمة بضيق "مبعوث مملكة بني فارس، والذي أرسله الملك عبّاد لطلب يدك من والدك الملك.. أنسيتِ الأمر بهذه السرعة؟"
هزت الفتاة كتفيها معلقة "لا.. لكني ظننت أن سمعي قد خانني عندما ذكر أبي الملك اسمي في ذلك اليوم.. لابد أنه لم يكن يعنيني بتاتاً"
عقدت الخادمة حاجبيها قائلة "كيف يمكن أن يخطئ الملك في أمر كهذا؟.. كفاك تجاهلاً للأمر ولنسرع.."
دفعتها الخادمة نحو القصر وهي تنفض ملابسها مضيفة "مولاتي الملكة الثانية شديدة العصبية الآن.. يعلم الله ما الذي ستفعله بنا لكل هذا التأخير.."
زفرت الفتاة وهي تسير خلف الخادمة ضامّة كتابها لصدرها.. ماذا لو تركوها تستمتع بغفوتها تحت أشعة الشمس لمدة أطول؟.. ألابد أن يعيدوها لذلك القصر البارد بهذه السرعة؟.. وكأنهم يستكثرون عليها متعة صغيرة كهذه..
"رنيم.. ألم أطلب منك مراراً الكف عن الذهاب للحظائر؟.. أنت أميرة ولك مكانتك.. ألا تخجلين من هذه الرائحة التي تخلفها الحيوانات على ثيابك الغالية؟.. هل يعقل أن يصدر هذا من فتاة على وشك الزواج من وريث مملكة بني فارس؟.."
وقفت الملكة الثانية على شيء من المبعدة وهي تغطي أنفها باشمئزاز من الرائحة التي غمرت الجناح الواسع، بينما قالت رنيم وهي تنزع ثوبها الطويل محتفظة بقميص داخلي يصل لركبتيها "لا يهمني اشمئزازكم من هذه الرائحة.. أنا أستمتع بوجودي هناك أكثر من وجودي في هذه القصور الخانقة.."
لوّحت الملكة بيديها لوصيفتها وهي تقول بضيق "كفى هذراً.. اذهبي للاستحمام بسرعة وارتدي الملابس التي أعددتها لك.. لم يبق إلا القليل على وصول الضيف، وبعد لقائه بالملك سيطلب مقابلتك بالتأكيد.."
دمدمت رنيم متذمرة وهي تسير مجبرة خلف وصيفتها الخاصة، بينما رفعت الملكة الكتاب الذي وضعته رنيم جانباً قائلة باشمئزاز "ولازلت تُتْلِفين عينيك بقراءة هذه الكتب البالية.. إن رائحتها العفنة ستلتصق بأصابع يديك التي من المفترض أن تضوع برائحة أفخم العطور.. عليك أن تكفّي عن هذه الهوايات الغريبة.."
ورمت الكتاب من نافذة الجناح العريضة بينما رنيم تهتف محاولة الإمساك به "لا تفعلي هذا.. إنه كتاب قيّم.."
قالت الملكة بصرامة وهي تواجه رنيم "الكتاب الذي سأعثر عليه بين يديك في المرة القادمة سأقوم بحرقه.. أتفهمينني؟.."
واستدارت مغادرة وهي تقول للخادمات بعصبية "أين رئيسة الخدم؟.. أحضرنها لي حالاً.."
التفتت رنيم لوصيفتها وهي تقول بلهجة منذرة "لو لم يعد لي الكتاب خلال لحظات فسأقتلك يا صفية.. أفهمتِ؟"
ابتسمت صفية وهي تدفع رنيم ناحية الحمام الفخم الملحق بجناحها قائلة "حاضر يا مولاتي.. أتظنين أنني لا أعرف ما عليّ فعله بعد السنوات التي قضيتها في خدمتك؟"
وبإشارة من يدها، انطلقت خادمة أخرى لاستعادة الكتاب وإخفائه عن عين الملكة المسلطة على رنيم.. أما الملكة الثانية، ففور مغادرتها الجناح المخصص لابنتها فوجئت بضرّتها، الملكة الأولى، تقترب منها وخلفها حاشيتها دون أن تحاول إخفاء ملامح الامتعاض من وجهها.. فاضطرت الملكة الثانية للانحناء للأولى التي تفوقها مكانة ومنزلة في القصر.. بينما تجاهلتها الأولى وهي تقول بصوت بارد "هل استعدّت ابنتك المتشردة لاستقبال الضيف؟.. لم يبقَ الكثير على وصوله.."
قالت الثانية بثبات "لا تقلقي أيتها الملكة.. ستكون ابنتي بأفضل هيئة عند قدوم الموكب الرسمي لمملكة بني فارس"
مطّت الملكة الأولى شفتيها معلقة "عليك تنبيه ابنتك ألا تتصرف كعادتها بكل خرق ولا مبالاة.. لا أريد أن تسبب الحرج للملك أمام ضيفه.."
قالت الثانية بحزم "رنيم تعرف كيف تتصرف كأفضل من أي أميرة في القصر عندما يستدعي الأمر.. فلا تشغلي بالك كثيراً.. لا بد أنها ستنال إعجاب الضيف بكل تأكيد.."
ثم ابتسمت بجانب فمها مضيفة "سأرحب بأي نصائح منك لتجهيزات عروسنا الجميلة.. فهي يجب أن تظهر بأبهى حلة أمام شعب وملك مملكة بني فارس العظيمة.. أتمنى للأميرة سهى أن تحظى بحظ مماثل لحظ رنيم في المستقبل.."
بدت الغيرة واضحة على ملامح الملكة الأولى، لكنها لوت فمها باستنكار وغادرت دون أن تتفوه بكلمة رافعة أنفها بتكبر.. بينما كتمت الثانية ضحكة كادت تفلت منها وهي تغادر بسرعة لتتابع ما يقوم به الخدم.. وقد اشتعل القصر بحركة الخدم التي لا تهمد وهم يتراكضون في أرجائه لإتمام الاستعدادات لاستقبال الموكب فائق الأهمية.. والذي لم يحلم الملك قصيّ باستقباله يوماً في مملكته المتواضعة..
عندما اقترب وصول الموكب لأبواب القصر الملكي، كانت الابتسامة الواسعة تشقّ جانبي وجه الملك قصيّ، وقد كاد يتوجه لمدخل القصر لاستقبال الموكب بنفسه لولا أن استوقفه الأمير غياث قائلاً "مهلاً يا مولاي.. لا يجب أن تحطّ من قدرك بهذه الصورة.. تذكر أن ضيفك ليس إلا وزير من وزراء الملك عبّاد، وليس الملك نفسه ولا ولي عهده.."
قال الملك قصيّ دون أن تزول ابتسامته "أدرك ذلك.. لكن لا تنسَ من يمثل هذا الوزير، ولا تنسَ الفائدة التي سنجنيها لو رحّبنا به بشكل يسرّه.."
قال غياث بحزم "ليس بهذه الصورة.. تكفي هذه الابتسامة التي لم نرَ مثلها منذ سنين عديدة.. دعني أنا أتولى الأمر.."
وهبط بخفة على السلالم بجسده الممشوق وثيابه الرسمية وسيفه معلقٌ في حزامه، متجهاً لبوابة القصر الرئيسية حيث سيصل الموكب الملكي خلال وقت قصير.. بينما وقف الملك قصيّ في موقعه متململاً بانتظار قدوم ضيفه المبجل.. وبعد وقت رآه طويلاً، لمح ذلك الموكب الذي شقّ حديقة قصره سالكة الممر الحجري الواسع قبل أن يقف قرب السلالم المؤدية لمدخل القصر.. ومن عربة تتوسط ذلك الموكب المكون من ثلاث عربات وبضع جنود على أحصنتهم، خرج رجل في أوسط عمره من العربة وهبط بهدوء ليتقدم من سلالم القصر.. كان الرجل عادياً لا يوحي بأي هيبة أو أهمية لو تجاوز الناظر عن ملابسه الفخمة.. فهو نحيل نوعاً ما ويغطي رأسه العاري من الشعر بقبعة ذات ريش أسود، وعلى كتفيه وضع معطفاً ثقيلاً ليتجاوز به برد العاصمة النسبي بسبب موقعها المرتفع وتوسطها عدداً من الجبال العالية..
لاحظ الملك استقبال غياث للضيف وترحيبه به قبل أن يصعد الرجلان السلالم ويدلفا من بوابة القصر الضخمة، عندها سارع الملك عائداً لقاعة عرشه تمهيداً لمقابلة الضيف..
وفي جانب آخر من القصر، قرب إحدى الشرفات المطلة على مدخله، كانت الملكة الثانية مع عدد من خادماتها تقف مراقبة ما يجري لدى وصول الموكب قائلة "هل استعدت رنيم؟.."
أجابتها إحدى الخادمات "إنها مستعدة بالفعل.. فلا تقلقي يا مولاتي.."
فقالت الملكة الثانية بشيء من الحنق "لماذا كان على غياث أن يستقبل الضيف؟.. لا نعلم ما الذي سيفعله ليفسد هذه الزيجة قبل أن تنجح.. فلا بد أن أمه الملكة الأولى قد دفعته لاستقبال الضيف بنفسه لإقناعه بالعدول عن طلب يد رنيم.."
علقت الخادمة بشيء من التردد "لا أظن ذلك صحيحاً يا مولاتي.. مولاي غياث يحب الأميرة رنيم كثيراً، ويساندها دوماً.. لا يمكن أن يسعى لفعل شيء كهذا بتاتاً.."
قالت الملكة الثانية بحدة "اصمتي أنت.. ما أدراك ما ينتويه هذا الخبيث؟.. يكفي أنه ابن تلك الحرباء.."
نظرت الخادمة حولها بشيء من القلق خشية أن تتنصت إحدى الخادمات لحديثهما وتنقله مع الكثير من البهارات لأذني الملكة الأولى، ثم قالت الخادمة "يحسن بنا أن ننصرف لرؤية ما فعلته مولاتي رنيم.. الوقت يداهمنا بالفعل يا مولاتي.."
زفرت الملكة الثانية بضيق وغادرت موقعها مدمدمة "يحسن بتلك الفتاة أن تكون متأهبة لما سيحدث.. وإلا سيكون عقابها شديداً.."
في الآن ذاته، كانت الملكة الأولى تراقب ما يجري بدورها من خلف إحدى نوافذ القصر قائلة بجفاء "أما كان على الملك أن يحسن اختيار العروس؟.. لمَ اختار فتاة سوقية كهذه لزوج كهذا؟.. هذا سوء تقدير منه.."
جاءها صوت ابنتها البكر صافيناز، وهي الابنة الكبرى للملك، قائلة من موقع قريب "طبعاً لن يعجبك اختيار رنيم، لأنها سترفع شأن الملكة الثانية.. عليك قول ذلك صراحة يا أمي.."
نظرت لها الملكة الأولى قائلة بأنَفَة "مهما ظنت تلك المرأة أنها عَلَتْ شأناً، فهي لن تعلو عليّ أبداً.. أنا الزوجة الأولى، وابني هو وريث عرش هذه المملكة.. عليها أن تعِيَ موقعها جيداً في هذا القصر.."
ابتسمت صافيناز معلقة "عليك أن تفهمي هذا أنتِ أيضاً يا أماه.. لا داعي للقلق والضيق من هذا الزواج.. دعي لها هذه السعادة الصغيرة، فأنت لك مقامك الذي لن يتغيّر أبداً لدى الملك.."
عادت الملكة الأولى تراقب ما يجري ملاحظة وصول الموكب وتقدم غياث من الضيف لاستقباله، وقالت بضيق "هذان الاثنان لا يستمعان لكلمة مما أقولها.. لا الملك ولا غياث يعيران حديثي أي اهتمام.."
تساءلت صافيناز بفضول "ما الذي دار بينك وبين غياث وتجاهلك فيه؟.."
أشاحت الملكة الأولى بوجهها قائلة بحدة "وما شأنك أنت؟.. اذهبي لجناح تلك الفتاة وأنصتي لما يقال.. أريد أن أعرف ما سيجري بالتفصيل.."
قالت صافيناز وهي تبتسم "بل سأذهب لمعاونة أختي الصغيرة.. فهي ستحتاجني في يوم كهذا.. أنا لا أحب التنصّت على الآخرين، ويمكن لأي خادمة من خدم القصر أن تقوم بهذه المهمة بكفاءة تامة.."
واستدارت مغادرة بينما الملكة الأولى تدمدم بشيء من الحنق "أنت أيضاً؟.. لمَ يعاملني الجميع وكأنني مجنونة؟.. هذا لا يطاق.."
وراقبت الضيف الذي غاب في القصر برفقة غياث، قبل أن تكرر من جديد "هذا لا يطاق بتاتاً.."