الفصل الثاني عشر

بأمر من أرنيف، زعيم قرية الهوت التي تقع وسط السلسلة الجبلية تلك وفي وادٍ ضيق منها، انطلق عدد من الرجال على ظهور التنانين متجهين نحو الممر الجبلي الضيق الذي يربط القرية بالعالم الخارجي.. وعند اقترابهم من جانب الجبل الذي يلقي بظلاله على القرية، رأوا في ذلك الطريق فرقة من الجنود لا يزيد تعدادها عن خمسين رجلاً تتقدم من القرية بثبات وبتسليح خفيف.. فصاح أحد الرجال برفاقه "إنهم قلّة.. لن يُعجزنا التخلص منهم.."


اقتربت التنانين بأصحابها لتبدأ هجومها على فرقة الجنود تلك، ورغم أن الجنود بادروا بإطلاق رصاصاتهم بغزارة، لكن التنانين كانت تناور بسرعتها الكبيرة بينما يهاجم الرجال برماحهم وسهامهم التي انهمرت على الجنود بتصويب محكم فجندلت عدداً منهم بينما صدّها الآخر ن بما يحملونه من دروع.. ورغم أن الهوت لا يتعاملون بالأسلحة الحديثة في ذلك العالم مكتفين بالسيوف والرماح والسهام، لكنهم يملكون نوعاً خاصاً من القنابل المصنوعة يدوياً باستخدام البارود ومساحيق خاصة يستخرجونها من الطبيعة حولهم.. وسرعان ما انهمرت بضع قنابل على فرقة الجنود التي حاولت الاختباء في جانب الجبل من ذلك الهجوم والتقدم ببطء شديد.. ومع انفجار القنابل الذي كان ضعيفاً ولم يسبب الضرر للجنود، فإن سحابة كثيفة صفراء اللون انتشرت في الموقع مسببة السعال والدموع تنهمر من أعين الجنود بالإضافة لغثيان شديد أعجزهم عن الحراك، وفي الآن ذاته بدأ الهوت باقتناصهم دون أن يهبطوا من على ظهور تنانينهم بتاتاً..



وبينما تخبط الجنود في موقعهم، صاح قائدهم "ليتقدم حَملة المدافع ويُسقطوا تلك الطيور اللعينة بسرعة.."
تقدم عدد من الجنود حاملين مدافع صغيرة الحجم ومطورة بحيث تمتاز بالخفة والقوة في الإطلاق.. وبعد تعبئتها بالقنابل، قام الجنود بالتصويب بسرعة وإحكام على التنانين وإطلاق القنابل قبل أن يبتعد الهدف من موقعه..


فوجئ الهوت بالقذائف التي تطايرت نحوهم، ورغم أن أغلبهم تمكن من تفاديها بشيء من الصعوبة، لكن هجومهم أصبح أكثر عسراً من السابق واضطروا للارتفاع والابتعاد عن مرمى قذائف الجنود، ولم تفلح قنابلهم في إحداث أي تأثير في الجنود الذين استمروا في سيرهم ببطء مدروس.. ولما طارت الأنباء إلى أرنيف بتطورات هذا الهجوم، وبعد أن أدرك الجميع أن الجنود سيصلون للقرية خلال وقت قصير، قال أحد الرجال "علينا أولاً أن نبتعد عن هذه القرية.. علينا تأمين النساء والأطفال قبل أن نهجم عليهم هجمة رجل واحد.. لا نريد تكرار ما جرى في السابق، ولن نحقق شيئاً ما لم نباغتهم ونلتحم بهم مباشرة.."
قال آخر بغضب "هذا ما جناه آرجان علينا باختطاف تلك الفتاة.. الآن ستقع القرية كلها تحت طائلة أفعاله.."
لم يعلق آرجان الواقف جانباً بينما صاح آخر به "ما الذي يمكنك فعله لتعويض الأهالي عما سيجري لنا هذا اليوم؟.."
فقال أرنيف "عوضاً عن إلقاء الاتهامات بلا طائل، علينا أن نتضافر لصدّ هذا الهجوم بأي وسيلة كانت.. حتى لو اضطررنا لحرق هذه القرية والانتقال لموضع آخر.."


ونظر للرجال من حوله مضيفاً بحزم "لن نسمح لجندي باختطاف شخص منا هذا اليوم أبداً.."
وفي جانب آخر، استمعت رنيم للحوار الدائر من مخبئها خلف أحد المنازل بعد أن عجزت عن البقاء في مخبئها وسط تلك الأحداث، ونظرت لتوما الشاحب حيث وقف قربها متسائلة بقلق "ما الذي جرى يا توما؟.."


لخّص لها توما الموقف بكلمات مقتضبة، ثم ختم قوله بصوت يرتجف "أبي خرج مع الفرقة التي تقاتل الجنود الآن.. ولا أعلم ما جرى له.."
عضّت رنيم شفتها السفلى بقلق ومرارة واضحة.. ها هي تتسبب في كارثة لهذه القرية المسالمة، رغم أن هذا لم يكن ذنبها حقاً.. لكن لولا وجودها هنا، لما وصل الجنود للقرية وهاجموا سكانها دون رحمة..
نظرت حولها وهي تفكر بسرعة بحثاً عن حل لهذا المأزق.. رجال القرية قد يُقتلون عند محاولتهم صدّ هذا الهجوم.. وآرجان لن يكون أفضل حالاً منهم.. عندها، ما سيكون مصير توما وكاينا وبقية من في القرية؟..
عندها نظرت للأعلى وفكرة واحدة تختمر في عقلها.. يجب أن تخرج بنفسها للقاء جنود الملك.. مهما كان الأمر، هي الوحيدة التي تقدر على منع كارثة كهذه بأخف ضرر ممكن.. وعليها، فوق كل ذلك، أن تصل لموقع الهجوم بأسرع وأسهل وسيلة ممكنة لتفادي مصائب جديدة..
التفتت إلى توما القلق، ثم قالت وهي تربت على رأسه "لا تقلق يا فتى.. ستنتهي الأمور على ما يرام، وسيكون أباك بخير بإذن الله تعالى.."
نظر لها توما بعدم اقتناع، بينما استدارت رنيم راكضة نحو منزل آرجان، وبعد لحظة قصيرة قضتها فيه، خرجت من المنزل ثم تجاوزته لموضع أعلى في جانب ذلك الجبل دون أن تخفف خطواتها رغم شعورها بالتعب.. وهناك، رأت كاجا الذي يتسكع في تلك المواقع في المعتاد ما لم يغلبه جوعه ويدفعه للرحيل بحثاً عن طريدة يصطادها.. اقتربت رنيم من التنين الذي أقعى جانباً بصمت، ولما رآها نهض واقفاً وتقدم نحوها خطوة.. فوجدت السرج على ظهره بتأهب، ويبدو أن آرجان قد وضعه في وقت سابق مما أراحها بشدة.. ربتت على خطم كاجا قائلة "أأنت مستعد يا صديقي؟.. أريد منك خدمة سريعة.."
وجدته يتشمم ملابسها بشيء من اللهفة، فقالت بتوتر "ليس الآن يا كاجا.. عندما نعود بإذن الله تعالى.."
وبشيء من المشقة، اعتلت ظهر التنين الذي لم يُظهر ممانعة لذلك وأمسكت بلجامه وهي تشعر بيديها متعرقتان لشدة توترها.. وقبل أن تشد العنان بالفعل، سمعت صيحة من بعيد ورأت آرجان يتقدم منها راكضاً.. ولما وصل لموقعها اقترب قائلاً بحنق "ما أنت فاعلة؟.. لو لم يبلغني توما بما جرى لما وصلت قبل أن ترتكبي هذه الحماقة.. كيف تتصرفين بهذه الصورة ودون استشارتي؟"
قالت رنيم بسرعة "يجب أن أفعل شيئاً لإيقاف هجوم الجنود على القرية.."
قال آرجان بعبوس "نحن من سيفعل ذلك.. ترجلي بسرعة ولا تقومي بأي تصرف متهور.."
قالت رنيم وهي تجذب العنان "لا.. يجب أن أذهب.. الهجوم على القرية لن يتوقف حتى أظهر للجنود.."
وأضافت معتذرة "سأتحمل أي عقاب تقرره عليّ بعد عودتي.. لكن الآن لا يمكنني الاستجابة لك.."
وجذبت العنان دون تردد وهي تضغط على بطن التنين، بينما قفز آرجان نحوها صائحًا "لا تفعلي هذا.."
لكن التنين كان قد استجاب لها وارتفع بسرعة تاركاً آرجان على الأرض ينظر لهما بصدمة مغمغماً "تباً.. ليس مع كاجا.. ليس مع كاجا يا حمقاء.."
لكن رنيم لم تسمعه وهي تدير التنين ليطير نحو الموقع الذي تعالت منه الأصوات العالية في جانب القرية.. كانت تلك المرة الأولى التي تطير فيها مع كاجا وحيدة ودون معاونة آرجان.. في الواقع هذه هي ثاني مرة تطير فيها مع أي تنين في حياتها كلها.. لكنها لم تتردد رغم أن بعض القلق قد ساورها لقدرتها على التحكم بهذا الكائن المعروف بشدّته.. لكن ما غلب تفكيرها في تلك اللحظات هو إيقاف ذلك الهجوم على القرية ومنع كارثة جديدة من أن تحدث لأهلها وتزيد نقمتهم عليها وعلى المملكة..


دار التنين دورة حول الموقع ورنيم تتشبث به جيداً.. بينما كانت بقية التنانين تطير على مسافة آمنة تراقب فرقة الجنود التي تقدمت بثبات، وتحاول إعاقتها دون أن تخاطر بإسقاط التنانين بضربة غاشمة.. ووسط ذلك، شقّ كاجا طريقه بسرعة وقوة بينها أثارت دهشة بقية الرجال قبل أن ينتبهوا أن الراكب على ظهره لم يكن آرجان، بل كان فتاة يتطاير شعرها الطويل المتماوج في الهواء.. ولما اقتربت رنيم من موقع الجنود، لاحظت على الفور توترهم الشديد لرؤية التنين المندفع نحوهم وهم يرفعون البنادق نحوها متأهبين.. ربتت رنيم على رقبة التنين قائلة "حاول ألا تصاب بأسلحتهم يا عزيزي.."
زمجر التنين وهو يحلق قريباً من الجنود دون أن يخفف تقدمه، بينما رفعت رنيم رأسها لتبدو واضحة وهي تصيح "توقفوا أرجوكم.. لا تطلقوا النار.."
لم يسمع الجنود كلمة مما قالتها ورصاصاتهم تتطاير نحو التنين الذي استدار بحدة وهو يرفّ بجناحيه ويرتفع قليلاً.. فجذبت رنيم العنان ليدور حول الموقع وهي تصيح بصوت أعلى "توقفوا.. لا داعي لإطلاق النيران.."


ضاع صوتها من جديد مع تلك القذيفة التي انطلقت من أحد المدافع نحوها محاولة إسقاطها.. تجاوز كاجا القذيفة بمهارة تامة بينما اتسعت عينا رنيم بقلق خشية أن يصاب التنين بسبب تهورها، فصاحت بصوت أعلى مع استدارة التنين في الموقع "توقفوا باسم الملك.."


كان هذا ما دار في ذهنها لجذب انتباههم، ورغم ذلك ما كاد التنين يقترب من الجموع حتى عادت الرصاصات تتطاير بغزارة والتوتر الشديد بادٍ على أوجه الجنود.. لم تستطع رنيم لومهم، فهي نفسها كادت تموت ذعراً عندما رأت هذا الكائن المهيب للمرة الأولى، ولا يمكن لمن يراه دون أن يكون معتاداً على التعامل معه إلا أن يصاب بالتوتر والقلق الشديد.. لكن كيف السبيل للتفاهم مع الجنود وإجبارهم على التوقف عن الهجوم على القرية؟..
أخيراً، قررت رنيم القيام بمخاطرة كبيرة، فجذبت عنان التنين وهي توجهه للهبوط على شيء من المبعدة من الموقع في جزء شبه منبسط من الوادي.. كانت فرصتها ضعيفة في أن تقنع الجنود بالاستماع إليها، لكنه كان السبيل الوحيد.. ورغم اعتراضه، فإن التنين قد أطاعها وهبط بحدة وقوة في جانب المكان، فأسرعت رنيم تهبط من على ظهره وهي تسمعه يطلق زمجرة عصبية.. ربتت على كتفه مهدئة، ثم استدارت مواجهة الجنود الذين استداروا إليها بتحفز وهي ترفع ذراعيها عالياً وتصيح "توقفوا أرجوكم باسم الملك.."


لكن الرصاصات تطايرت نحوها وأصابت الأرض عند قدميها بشيء من الغزارة دفع رنيم للتراجع بسرعة وشيء من الفزع حتى سقطت أرضاً، بينما أطلق التنين صيحة غاضبة وهو يكشر عن أنيابه بتهديد واضح.. لكن رنيم صاحت به "كاجا.. توقف.."
زمجر التنين باعتراض إنما لم يملك إلا أن يطيعها، في نفس الوقت الذي سمعت فيه رنيم صياحاً جهورياً يطلب من الجنود الكف عن إطلاق النيران.. ولم تلبث أن رأت رجلاً من الجنود يتقدم منها قائلاً بدهشة "رنيم.. أهذه أنت؟"
نظرت رنيم بذهول لمجد الذي اقترب منها وأمسك بيدها ليساعدها على الوقوف.. كان هذا آخر شخص تتوقع رؤيته بين الجنود هؤلاء، وبدا لها مختلفاً قليلاً بشكل لم تستطع تحديده في البدء.. لكن أدركت بعد ذلك أنه يبدو متعباً مهموماً بشكل بدا بوضوح في ملامحه.. لكنه ابتسم لها ابتسامته المعهودة قائلاً "حمداً لله على سلامتك يا فتاة.. لقد خشيت ألا أعثر عليك أبداً.."
تشبثت بذراعيه هاتفة "أين كنت؟.. لقد يئست من انتظارك طوال تلك الأيام.. لقد تيقنت بعدها أنك... أن......."
وخفضت بصرها مضيفة بصوت مرتجف "تيقنت أنني لا أعني لك، ولا لأحد في هذا العالم، شيئاً.."
قال مجد "هذا ليس صحيحاً.."
فقالت بشيء من المرارة "كيف يمكنني أن أصدق غير ذلك؟.. لقد تم اختطافي من القصر بكل سهولة.. ولم يلاحق المختطفين أي جندي من جنود مملكة بني فارس.. ورغم مرور الأيام والأسابيع فإن أحداً لم يحاول الوصول إليّ.. فما الذي يعنيه هذا؟"
زفر مجد للحظات بصمت، ثم قال "ما حدث بعد رحيلك منعني من الوصول إليك بالسرعة التي أرجوها.. وإنني أقدم اعتذاري لك يا رنيم.."
لم ترفع رنيم بصرها وهي تشعر بدموعها وشيكة الهطول.. رغم أن بقاءها مع الهوت لم يكن بالسوء الذي توقعته، ورغم أنها شدّت عزمها على عدم العودة لذلك العالم، لكن ما أحزنها أن وجودها غير مهم في مملكة بني فارس وفي قصر الملك.. وأكثر ما أساء إليها أن تشعر أنها لا تحتل من اهتمامات مجد أي جزء يذكر، وهو شخص تحمل له معزة خاصة في قلبها..
وجدت مجد يركع على ركبته ويمسك يدها شادّاً عليها وقال وهو ينظر في عينيها "أرجوك اقبلي اعتذاري.. لا يمكن أن أغفر لنفسي ما جرى لك لو لم تسامحيني.."
شعرت رنيم بدموعها تسيل على وجنتيها وهي تقول بصوت متهدج "لماذا؟.. لماذا جئت الآن؟.."
شدّ على يدها قائلاً "عندما حدث الهجوم، ظننا أنهم سيستهدفون الملك أو ولي العهد.. لذلك لم أعتقد ولو للحظة أن أحدهم قد يلجأ لاختطافك.. لذلك هرعت مع من معي من حرس القصر لتأمين الملك والملكة والأمير زياد.. وحاولنا القضاء على الدخلاء بأسرع ما نستطيع.. لكن اكتشفت أنهم بمساعدة من الفتيات اللواتي جلبهن الملك من الهوت، فإن الدخلاء تمكنوا من التسلل في ممرات القصر وأروقته متجنبين أي صدام سيؤخرهم عما جاؤوا لأجله.. وبعد أن تمكنت من تتبع أثرهم فوجئت باختطاف ذلك الرجل لك.."
لم تعلق رنيم وهي تمسح دموعها بينما أضاف مجد "لقد كسرت ذراعي بعد سقوطي وأنا أحاول إنقاذك.. وهذا ما تسبب في تأخيري عن اللحاق بك وإنقاذك من يدهم تلك الليلة.. ورغم أنني أرسلت بعض الرجال لتتبع فوج التنانين الطائرة، لكنهم لم يتمكنوا من اللحاق بهم لأنها كانت أسرع ولا تعترضها أي عواقب في طيرانها في السماء.. ثم حدث ما لم يكن بالحسبان.."


عاد يزفر بشيء من الحدة ورنيم تستمع له بصمت، قبل أن يقول "لم تمضِ ساعات معدودة على ذلك الهجوم حتى فوجئنا بأن الملك عبّاد قد أصيب بمرض شديد لم نجد له تفسيراً، ولم ندرك أنه تم تسميمه بواسطة إحدى الفتيات قبل هربهن إلا بعد موته بالفعل.."
غمغمت رنيم "لقد سمعت بذلك.."


أدرك مجد أنها سمعت به من ذلك الرجل من الهوت الذي جاء للقائه بعد اختطافها بعدة أيام.. فقال دون تعليق "حصلت معمعة في المملكة وفي (الزهراء) بالتحديد لموت الملك المفاجئ.. ورغم أن الأمير زياد قد تولى الحكم بسرعة لتلافي أي انهيار يصيب المملكة بعد موت ملكها القوي، وعيّنني قائد جيشه لأساعده في تثبيت حكمه، إلا أن الأمير زياد أضعف من أن يستطيع إحكام قبضته على المملكة حتى بمساعدة أمه الملكة.."
لم تدرِ رنيم بمَ تعلق على ذلك ومجد يقول "وخلال أيام، وصلتنا أنباءٌ أن مملكة كشميت المعادية تستعد لإنهاء الصراع الذي طال بينها وبين مملكة بني فارس مستغلة عدم استقرار أحوال مملكتنا.. وهذا جعلني مقيداً وغير قادر على التحرك بعيداً عن (الزهراء).. ولقد شدد الأمير زياد عليّ بأن حمايته وحماية مُلكه أهم بكثير من البحث عنك وإنقاذك.."
لم تشعر رنيم بحزن لهذا، فهو كان متوقعاً من شخص كالأمير زياد.. ومع ما قاله مجد، فإن حزن رنيم بدأ يخفت وهي تتفهم ما مرّ به خلال الأيام الماضية.. فكيف لها أن تحزن على نفسها بينما عانى مجد الأمرّين في هذه الأوقات المضطربة؟.. انتبهت لمجد الذي قال "هل تغفرين لي تقصيري فيما جرى لك يا مولاتي؟"
ابتسمت رنيم شيئاً ما وهي تمسح دموعها قائلة "بالطبع.. لا يمكنني أن أغضب مما جرى وأنا أدرك أي ظروف مررت بها في الأيام الماضية.."
فنهض مجد واقفاً وقال "شكراً لك.. أعدك ألا أسمح بتكرار أمر كهذا ما حييت.."
نظرت له رنيم متسائلة "كيف سمح لك الأمير زياد.. أعني.. الملك زياد بالقدوم إليّ وإنقاذي الآن؟"
أجاب مجد "بعد استقرار الأمور في المملكة وبعد أن تكرر رفض الملك طلبي الرحيل للبحث عنك، تقدمت باستقالتي متخلياً عن منصبي.. ومع صدمته، فإن الملك رفض هذا بإصرار.. لذلك استسلم أخيراً وسمح لي بالرحيل مع فرقة صغيرة من الجنود للبحث عنك مع وعد بالتنازل عن تلك الاستقالة والعودة بأسرع ما أستطيع.."


ابتسمت رنيم معلقة "بالطبع، فالملك لن يجد شخصاً موثوقاً أكثر منك لحمايته.. خاصة بعدما جرى مع الملك السابق.."
ثم أمسكت يدي مجد قائلة "أنا شاكرة لك ما فعلته لأجلي يا مجد.. تخلّيك عن منصبك قرار كبير، وتضحية كبيرة لا أستحقها منك.. لذلك أنا سعيدة أن الملك رفض طلبك بإصرار.."
دمدم مجد بضيق "من قال إنك لا تستحقين ذلك؟........"
قاطعته قائلة "وما يحزنني أكثر أن جهودك قد تكون بلا طائل.."
نظر لها مجد بدهشة، ثم قال "ماذا تعنين يا رنيم؟.. أهناك ما يمنع عودتك إلى (الزهراء)؟.."
ضحكت رنيم بشيء من السخرية وقالت "(الزهراء)؟.. أتظنني سأكون محلّ ترحيب هناك بعد كل ما جرى؟"
أسرع مجد يقول "لازلتِ خطيبة الملك.. فهو لم يعلن حلّ ذلك الارتباط رسمياً بعد.."


قالت رنيم بابتسامة "لأنه لم يجد داعياً لذلك مع اختفائي.. أتعلم أن زياد والملكة كانا يخططان لاتهامي في عِرضي والتخلص مني بطريقة مخزية قبل أن يحدث ما حدث تلك الليلة؟.."
نظر لها مجد باستنكار، ورنيم تضيف "أتظن أن أحداً منهما سيكون مسروراً بعودتي بعد ذلك؟.. لقد جاءتهما الفرصة للتخلص مني على طبق من ذهب، فمن يمكنه أن يلومهما على ذلك؟.."
زفر مجد بضيق لقولها الذي لم يخالف الحقيقة بتاتاً، ثم قال "إذن، من الواجب عليّ أن أصطحبك إلى مملكة بني غياث وأطمئن لسلامتك.. هذا أقل ما عليّ فعله.."
قالت رنيم وهي تدير بصرها جانباً "أتظن أن قصر أبي سيكون أكثر ترحيباً بي من قصر الملك زياد؟"
نظر لها مجد بدهشة، فنظرت في عينيه قائلة "أنا غير مُرَحَّب بي في أي مكان على هذه الأرض.. لا في قصر أبي ولا في قصر زوجي المزعوم.. لقد فقدت هويتي التي ألصقت بي رغم إرادتي.. وفقدت معها الانتماء الذي يعيدني لأكون سجينة تلك القصور.."
هتف مجد "هذا غير صحيح.. كيف يمكنك أن تجزمي بكل ذلك؟"


قالت رنيم بحزم "أنا أثق بما أقول ثقة مطلقة.. لقد أراد مني الجميع أن أكون شخصاً آخر.. أن أكون أي شيء غير ما أنا عليه حقيقة.. تعذبت لسنوات طوال وأنا أخفض رأسي وأحاول مجاراتهم لأنال رضاهم الذي كان صعب المنال.. لكن رغم ذلك، لم أهنأ بأي شيء من هذا، ولم يتردد أحدهم في التخلص مني عند أدنى بادرة.. فهل تريد مني العودة لكل هذا من جديد؟.."
قال مجد بدهشة "إذن ما الذي تنوين فعله؟"
نظرت رنيم للسماء التي ازدهت بزرقة جميلة وغيوم متماوجة عكست نور الشمس القوية، ثم قالت بابتسامة "الآن، يمكنني أن أكون كما أنا حقيقة، وأن أبقى في الموضع الذي يناسبني كما أنا دون تغيير.."
صاح مجد بغير تصديق "ستبقين مع الرعاع الذين اختطفوك؟"


نظرت له رنيم قائلة بشيء من التأنيب "ليسوا رعاعاً كما تطلقون عليهم.. إنهم أناسٌ يعيشون حياتهم بحرية تفتقدها شعوب الأرض أجمعين.. فلماذا تستنكرون عليهم هذه الحرية التي عشتُ حياتي شوقاً إليها؟"
ظل مجد ينظر لها بغير تصديق، ملاحظاً للمرة الأولى الابتسامة التي تفيض سعادة على شفتيها.. ابتسامة لا تشوبها شائبة كما كان يراها سابقاً.. وبدا في عينيها الجميلتين تصميم وعزم لم يره فيهما من قبل.. ورغم أنها هي رنيم التي يعرفها، لكنها بدت الآن شخصاً آخر.. شعر بروحها متوهجة وجميلة وتختلف عن ذلك الخيال الميت الذي كانت عليه في (الزهراء)..


عاد يجادلها بشيء من العناد "ما الذي تنوين فعله مع الهوت حقاً؟.. بضع أسابيع تختلف تمام الاختلاف عن الشهور والسنوات القادمة.. ما تحملته وأعجبت به في الأيام الماضية، سيصبح قاسياً مع مرور الشهور والسنوات.. لكن عندها ستكون عودتك لعالمك السابق مستحيلة تماماً.."
قالت رنيم دون أن تبدو عليها لمحة قلق لذلك "أدرك ذلك طبعاً.. لكن عودتي لما كنت عليه من آخر الأشياء التي قد أتمناها في حياتي.. لو استعصى عليّ البقاء مع الهوت، سأبحث لي عن سبيل آخر ومكان آخر أعيش فيه بحرية.. ومهما كانت الحياة شاقة وتعيسة هنا، فهي ليست أتعس من حياة تغيب عنها أشعة الشمس وسط الجدران العالية المذهبة المحيطة بالقصر.."


ونظرت له بتصميم قائلة "صدقني.. أنا أدرك ما أريده من حياتي بالتحديد.. وأتخذ قراراً نيابة عن نفسي للمرة الأولى.. فلا تنزع الأجنحة التي نبتت لي بعد طول شقاء، خاصة أنك كنت أول من شجعني على اتخاذ طريقي بنفسي.."
زفر مجد بضيق وهو تائه بين رغبته في استعادة رنيم وحمايتها وبين رغبته في سعادتها.. وهذان الاثنان لا يجتمعان بتاتاً.. رآها تتقدم منه خطوة وتمسك يديه بيديها قائلة "أنا راحلة يا مجد.. شكراً لك على كل شيء.. لكن لا تنْسَني أرجوك.."
ابتسم مجد رغماً عنه معلقاً "لا أظنني بقادرٍ على ذلك مهما حاولت.."


ثم نظر في عينيها قائلاً بحزم "لا يمكنني الاعتراض على ما تريدينه يا رنيم لو كنتِ واثقة مما تفعلينه حقاً.. لكن كل ما أقدر على فعله هو أن أدعو لك بالتوفيق.. ولا تترددي في العودة إليّ في أي وقت كان.."
ابتسمت له رنيم ابتسامة متسعة، ثم استدارت مبتعدة دون تردد.. ولأول مرة في حياتها لا يخالجها أي تردد في اتخاذ قرار يخصها.. لأول مرة تكون سعيدة بامتلاكها زمام أمورها دون أن تنتظر من الآخرين تسيير حياتها كيفما يشاؤون.. تسارعت خطواتها وهي تبتعد مستشعرة انطلاق ساقيها وخفة جسدها مقارنة بالسابق.. ثم توقفت فجأة واستدارت متطلعة إلى مجد الذي ظل في موقعه ناظراً إليها.. لوهلة ساورها قلق أن ترى ملامح خيبة الأمل على وجهه، وهو أمر كانت تخشى رؤيته من الجميع لذلك لم تكن تجرؤ على مقاومة ما يُفرض عليها.. لكن الآن، لم تكن تريد رؤية هذه الملامح.. وليس من مجد بالذات..


لكن مجد كان ينظر لها بثبات وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه.. ابتسامة بدت لها سعيدة.. لا تدري لمَ شعرت بنظراته تحمل فخراً بما حققتْه، وكأنه أبٌ فخور بابنته التي شبّت عن الطوق بعد طول انتكاسٍ.. ابتسمت رنيم بدورها ووضعت يديها حول فمها ليصل إليه صوتها وصاحت "أتعلم؟.. لو كنتَ أصغر بعشرين سنة لأعجبت بك بكل تأكيد.."


اتسعت ابتسامة مجد وهو يعلق بصوت واضح "لو كنتُ أصغر بعشرين سنة لكنت سعيداً بذلك بالتأكيد.."
لوحت له رنيم بيدها ثم استدارت منطلقة بعد أن تقطعت الخيوط التي كانت تربطها بماضيها وبحياتها السابقة وبكل ما كانت تكرهه.. شعرت بنفسها حرة.. شعرت بنفسها كمولود جديد لا يعلم ما تخبئ له الأيام، لكنها ستكون أكثر رحابة مما سبقها بكل تأكيد..
الآن، خدشت رنيم الطبقة القاسية التي كانت تغلف روحها، وخرجت من ذلك الظلام كطائر وليد يسعى بحثاً عن النور رغم أنه لا يبصر شيئاً بعد.. بحثاً عن الحياة التي ليس لها معنى دون حرية تزيدها إشراقاً وبهجة..
وبينما انطلقت رنيم براحة شديدة، فإن مجد راقبها وهي تتقدم من ذلك التنين الضخم دون خوف فتربت على أنفه بكل ألفة، ثم تمتطيه بسهولة ليرفرف التنين بجناحيه العريضين للحظات.. وفي غمضة عين، كان قد ارتفع بسرعة نحو السماء وفوقه تلك الفتاة التي يتطاير شعرها المموج خلفها وهي ترفع بصرها عالياً.. راقب مجد كل هذا بصمت ودهشة، ثم غمغم بابتسامة جانبية "لشدّ ما تغيرت هذه الفتاة خلال أيام قليلة.."
اقترب أحد جنوده قائلاً بقلق "سيدي.. لماذا تركت مولاتي رنيم تغادر؟.. المفترض أن نعيدها لمولاي الملك بأسرع ما نستطيع.."
قال مجد وهو يراقب التنين الذي انطلق مبتعداً "الملك لا يعبأ لأمر رنيم قيد شعرة.. ولا يريد استعادتها أبداً.. لذلك سيكون أسعد الناس بفشل مهمتنا هذه.."
ثم نظر للجندي قائلاً "اجمعوا عتادكم.. سنغادر إلى (الزهراء) في الحال.."
رغم دهشته، إلا أن الجندي لم يعترض وهي يؤدي التحية ويغادر مسرعاً نحو البقية.. بينما اتسعت ابتسامة مجد وهو يغمغم "هذه المرة، ربما كان عدم اهتمام الملك برنيم من حسن حظها بالفعل.. ترى، إلى أين ستأخذك الرياح معها يا فتاة؟.."

*********************
بعد أن توقف الهجوم، وخفتت الضوضاء الصادرة عن التنانين الثائرة وهي تحلق في السماء بغضب، فإن أهل القرية قد اجتمعوا في جانب منها بقلق وصمت بانتظار ما ستسفر عنه الأمور.. وبينما بقي الرجال على ظهور التنانين لمراقبة ما تفعله فرقة الجنود التي لملمت عتادها وشرعت في العودة عبر ذلك الطريق الضيق، فإن آرجان قد وقف في الساحة وسط القرية والقلق يمتزج بالغضب على وجهه وهو يحدق بالأفق.. لم يتوقع لوهلة أن تتصرف تلك الفتاة الخانعة بهذه الطريقة، ولم يتوقع أن تواجهه بحزم وتعصي ما طلبه منها دون أن يرف لها جفن.. ألم تجد سوى كاجا لتغامر بالرحيل معه؟.. ذلك تنين شرس، وهو يسيطر عليه بصعوبة، فكيف تمكنت من تطويعه في فترة زمنية قصيرة؟..
سمع عدة صيحات من أهل القرية ورآهم يشيرون لموقع في السماء.. وبنظرة لذلك الموقع، أدرك أن تلك النقطة البيضاء هي لكاجا الذي يحلق نحوهم بشكل حثيث.. ظل آرجان يراقب التنين بقلق شديد بحثاً عن أثر لرنيم.. لو كان السرج على ظهر كاجا خالياً، فهذا معناه أنه تخلص من الفتاة في مرحلة ما.. وكاجا عنيف عندما يسيطر عليه الغضب.. زفر آرجان بحدة وتوما القريب يسأله بقلق "أتظن أن رنيم على ظهره؟"
لم يجبه آرجان وبصره معلق بذلك التنين الذي اقترب منهم بسرعته الكبيرة.. ولما تبيّن ذلك الشعر المتموج الذي تطيّره الرياح، تنهد براحة شديدة بينما صاح توما بلهفة "أستطيع رؤيتها على ظهره.."


لم يعلق آرجان من جديد والتنين يقترب ويهبط بسلاسة وسط أهالي القرية مثيراً عاصفة من الهواء القوي.. فتقدم آرجان منه دون وجل وأسرع نحو الفتاة التي هبطت من على ظهره بابتسامة واسعة على شفتيها.. ولما رأته يتقدم منها قالت براحة "لقد انتهى كل شيء.. الجنود سيرحلون دون إيذاء من........"
وجدت آرجان يقبض على ذراعها بشدة قائلاً بغضب "كيف تفعلين هذا؟"
نظرت له بدهشة وهو يضيف بحدة "ألا تدركين مع من تتعاملين؟.. كان بإمكان كاجا أن يسقطك من على ظهره من ذلك العلو.. إنه تنين شرس ولا يطيع شخصاً غيري.. فكيف.......؟"


قالت رنيم وهي تزيح يده عن ذراعها "لكنني فعلت ذلك دون أن أثير غضب كاجا.. ثم إن لي وسيلة خاصة للتعامل مع الحيوانات.."
رآها تخرج من ثوبها تفاحة حمراء ألقتها نحو كاجا الذي التقطها بفمه وابتلعها دفعة واحدة بتلذذ، ثم دفع أنفه وهو يبحث عن أخرى في يدي رنيم التي ربتت على خطمه بابتسامة متسعة.. أما آرجان، فقد ظل ينظر لها بدهشة وشيء من الحنق.. لم يكن الأمر متعلقاً بتفاحة، فهي وسيلة تافهة لاستمالة تنين بهذه القوة.. ولم يكن تجاوب كاجا معها لأنه مرغم على هذا، بل لأنها تمكنت من استمالته بوسيلة دفعته لإطاعتها بعرض بسيط كهذا.. فما السر في ذلك حقاً؟..
ومن بين أهل القرية الذين وقفوا يراقبون رنيم بصمت ودهشة، تقدم أرنيف قائلاً لآرجان "ما الذي جرى يا آرجان؟.. رجالي يبلغونني عن استعداد الجنود للرحيل.. فما الذي جرى بحق السماء؟"


التفت آرجان إلى رنيم متسائلاً "ما الذي جرى للجنود؟.. كيف تمكنت من إقناعهم بالرحيل؟"
ابتسمت رنيم وأخبرته بما حدث لها مع مجد بينما استمع إليها أرنيف دون حاجة لترجمة، وقربه وقفت كاينا تستمع لما يقال.. وأخيراً، بعد أن أنهت رنيم حديثها وطمأنت الجميع أن الجنود لن يعاودوا مهاجمة القرية في الوقت الحالي، فإن آرجان تساءل بشيء من الدهشة "ولماذا عدتِ أنت؟.. لمَ لمْ تغادري معهم وهي فرصتك الوحيدة لذلك؟"


هزت رنيم كتفيها معلقة "لم أعد أرغب بالعودة.. هذا كل ما هنالك.."
ارتفع حاجبا آرجان بدهشة، قبل أن يقطب من جديد قائلاً بحدة "رغم كل ما جرى، لم يكن يحق لك التصرف بكاجا كما تحبين.. وإياك أن تفكري بامتطائه وحيدة دوني، هذا لو لم ترغبي بأن يتهشم جسدك على هذه الصخور القاسية.."
وابتعد جاذباً كاجا الذي أخذ يزوم باعتراض باحثاً في ملابس آرجان عن مكافأة أخرى.. بينما قال أرنيف مقطباً عبر كاينا "نحن شاكرون لك ما فعلته للقرية، رغم أن هذا كان بسببك في الأساس.."


تعجبت رنيم من حاجته لمن يترجم قوله رغم أنه استمع لها دون ترجمان، ثم تذكرت قول توما من رفض الهوت التحدث بغير لغتهم عدا قلة منهم.. بينما أضاف أرنيف "لذلك، لا يسعنا إلا أن نطلب منك الرحيل عن هذه القرية.."


نظرت له رنيم بدهشة، بينما بدا القلق في عيني كاينا وهي تترجم قوله.. ثم استجمعت رنيم شجاعتها قائلة "أتفهم ذلك.. سأغادر بعد أن......"
قاطعها أرنيف قائلاً بصرامة "ترحلين الآن.. في التو واللحظة.. أنتِ غير مرحّب بك في القرية ولا لثانية أخرى.."
نظرت رنيم بشيء من الدهشة لأرنيف ولبقية الهوت الذين رمقوها بحنق وغضب.. كان تصرفهم متوقعاً بعد ذلك الهجوم، لكن لمَ يطردونها الآن بالذات؟.. أهم يخشون هجوماً جديداً من الجنود؟..
لم تتمكن من الاعتراض هذه المرة.. ليس خنوعاً منها كالعادة، بل لأنها لم تُرِد أن تسبب المزيد من الأذى لهذه القرية.. رغم معاملتهم الخشنة لها، فهي كانت تتفهم دوافعهم وتدرك أن ما جرى لهم لم يكن شيئاً يمكن نسيانه بسهولة.. لذلك تغاضت عن كراهيتهم الواضحة وهي تقول ببساطة "حسناً.. لا يمكنني الاعتراض على ذلك.."
نظر لها توما بقلق بينما بدت ملامح الإشفاق على وجه كاينا.. فقالت رنيم وهي تخفض وجهها "أعتذر لكل ما سببه الجنود لكم من قلق وذعر اليوم.. وأتمنى لكم حياة هانئة بعيداً عن سطوة الملك.."
فقال لها أرنيف من خلال كاينا التي تترجم حديثه "رغم أن كل ما جرى لك كان بسبب أحد رجالي، لكن لا يمكنني الاعتذار عن ذلك.. تذكري أن ما فعله ملككم بفتياتنا كان أسوأ وأكثر خسّة.."
قالت رنيم بهدوء "لا أطلب منكم اعتذاراً.. وأنا شاكرة لكم على كل شيء.."
لم تخفت النظرات الغاضبة من الوجوه حولها، فانحنت لهم رنيم انحناءة خفيفة ممسكة جانب قميصها، ثم استدارت مغادرة بصمت وتوما يلحقها بقلق واضح.. ثم سمعته يقول "رنيم.. لا ترحلي.."
ربتت رنيم على رأسه قائلة "لماذا؟.. ما الذي يمكنني فعله في مكان لا يطيق وجودي فيه؟"
قال توما بانفعال "لكن هذا سيتغير.. مع بعض الوقت سينسى أهل القرية ما جرى لهم وسيعتادون وجودك.. فلا ترحلي بهذه البساطة.."
هزت رنيم رأسها قائلة "بل يجب أن أفعل.."
نظر لها توما بشيء من الصدمة، بينما تعالى صوت كاينا من خلفها وهي تقول "هل ستلحقين بالجنود قبل رحيلهم؟"
التفتت إليها رنيم قائلة "يبدو أنني سأفعل ذلك.. فهي الوسيلة الوحيدة لي للعودة.."
قالت كاينا بإشفاق "هل ستعودين لذلك القصر حقاً؟"
هزت رنيم كتفيها بقلة حيلة دون أن تختفي الابتسامة من شفتيها، فعانقتها كاينا هامسة "سامحيني يا عزيزتي.. وددتُ لو لم أكن السبب في كل ما جرى لك.."
ربتت رنيم على كتفها قائلة "لا داعي للاعتذار.. أنا موقنة أن ما جرى لي كان للأفضل.."
ثم نظرت لوجه كاينا مضيفة "اعتني بنفسك وحاذري من السقوط في أيدي الجنود من جديد.."
ابتسمت كاينا وقبّلت رنيم في وجنتها بعاطفة.. وقبل أن تبتعد رنيم، تساءلت متلفتة حولها "أين ذهب آرجان؟.. لقد اختفى مع كاجا منذ بعض الوقت.."
قالت كاينا "لقد عاد لمنزله.. أظنه يعدّ العدة لرحيله أيضاً.."
غمغمت رنيم بخيبة أمل "كنت أود توديع كاجا.. لكن الهوت لن يسمحوا لي بالبقاء مدة أطول في هذه القرية حتى أذهب بحثاً عنه.."
ثم انخفضت في موقعها قريبة من توما الذي وقف مطرقاً بحاجبين معقودين، فقالت له "حسناً أيها الرجل الصغير.. سأودعك فلا أظنني سألقاك بعدها مرة أخرى.."
قال توما بحنق "لماذا عليك الرحيل؟.."
قبلته رنيم في وجنتيه وقالت "هذا هو قدري يا فتى.. ولا يحق لأحدنا الاعتراض عليه.."
فقال توما بانفعال "سأذهب معك.."
لكمته كاينا بقبضتها معلقة "من تظن سيسمح لك بذلك؟"
أمسك توما موضع الضربة بألم وهو يصيح "لمَ تتدخلين في أموري أيتها الحمقاء؟"
وغادر راكضاً بانفعال شديد، بينما نهضت رنيم وتأملت الثياب التي ترتديها والحذاء البسيط الذي تنتعله معلقة "وددت لو أستطيع إعادة هذه الملابس لك يا كاينا، لكن لا يمكنني الترحال بملابسي السابقة.. سيكون ذلك مذلاً بشدة.."


قالت كاينا "لا عليك.. احتفظي بهذه الملابس واذكريني كلما رأيتها.."
استدارت رنيم أخيراً مغادرة القرية بعد أن نفذ صبر الهوت الذين وقفوا يراقبون ابتعادها.. مرة أخرى، تشعر رنيم أن رحيلها يثير راحة لدى الجميع وتكاد تسمعهم يتنفسون الصعداء مع مرأى ابتعادها.. أهي حقاً بهذا السوء كما يُشعرونها؟..
لكن هذه المرة لم تبكِ رنيم ولم تشعر بمرارة لكل ما جرى.. رغم قِصَر المدة التي قضتها في هذه القرية، إلا أن احتكاكها ببعض أصحابها، والأحداث القليلة التي جرت فيها بعيداً عن تسلط وسطوة أبيها والآخرين لكل ما تفعله، فإن رنيم شعرت بتغيير كبير وتدريجي لم تنتبه له في البدء..
ربما لم يكن التغيير كبيراً وحاسماً، ولم يجعلها شخصية رائعة كما تمنّت دوماً، لكنها على الأقل بدأت تمتلك بعض الثقة لاتخاذ قراراتها بنفسها، وأصبحت لا تشعر بتلك المشاعر المتكررة من الإشفاق على نفسها وعلى ما يجري لها ولوم الآخرين لكل ما يحدث لها.. أليس هذا تغييراً كافياً بالنسبة لها؟..



تنهدت رنيم بقوة وهي تجلس على صخرة متوسطة الحجم بعد أن ابتعدت عن قرية الهوت وغابت عن أعين أفرادها.. ظلت في موقعها صامتة وهي تسند ذراعيها على ركبتيها وتضع وجهها على راحتي يديها.. كانت معدتها تطلق أصواتاً مرحة تدلّ على جوعها الشديد، بينما حاولت رنيم تجاهلها لفترة طويلة.. لماذا تخلّت عن تناول إفطارها في هذا اليوم بالذات؟.. رغم أن طعام آرجان لا يمتلك لذة في الطعم ولا جمالاً في الشكل، لكنه يملأ معدتها على الأقل ويدفئها في هذا البرد الشديد..


عادت تتنهد وهي ترمق الأفق بصمت.. كانت موقنة أن مجد وجنود الملك قد ابتعدوا كثيراً عن موقعها.. لكنها في الواقع لم تكن تنوي اللحاق بهم، ولم تكن تنوي العودة للزهراء ولذلك القصر الكئيب.. لقد أثمر فيها حديث كاينا واعتراضها الدائم على استسلامها لما يجري لها.. للمرة الأولى في حياتها تقرر أنها ستعيش كما تحب ودون أي اعتبار لأي شخص كان..



لكن هذه البداية صعبة جداً.. إنها في موضع مقفر، وقرية الهوت القريبة لا تنوي معاونتها بأي شكل من الأشكال، وأقرب الأشخاص إليها هم الجنود الذين لا ترغب برؤيتهم ولا مرافقتهم بأي حال.. ودّت لو كانت قد طلبت من كاينا بعض الزاد لرحلتها هذه، لكن هذا لم يكن معتاداً بالنسبة لها وشعرت بالحرج من القيام به.. كما أنه قد يوحي لكاينا بما عزمت على فعله، وسيملأ ذلك تلك الفتاة الطيبة بقلق لا محدود على مصير رنيم.. وهو أمر لا ترغب به البتة.. تنهدت للمرة العاشرة وهي تضغط على معدتها مغمغمة "كفاك مرحاً أيتها الحمقاء.. جوعنا سيطول كثيراً وستنهكينني بسرعة.."



خيّل إليها أن صوت معدتها كان أعلى من المعتاد، ثم انتبهت في تلك اللحظة أن ذلك الصوت أتى من موقع يعلو رأسها.. استدارت متطلعة للسماء لترى ذلك الظل الذي خيّم عليها لوهلة قبل أن يعلو صوت الهبوط المدوّي قريباً منها.. وبينما اندفع الهواء بقوة بحيث أجبر رنيم على إدارة وجهها بعيداً وإغماض عينيها، فإنها شعرت بذلك الخطم القاسي الذي عبث بملابسها والصوت الخشن يزوم بشيء من اللهفة.. وقبل أن تتمكن من رؤية ما يجري حقاً، فإنها أدركت هوية ذلك الشيء الذي اقترب منها واندفعت تعانقه بذراعيها هاتفة "كاجا.. لقد تمنيت أن أتمكن من توديعك قبل رحيلي.. ويبدو أن أمنياتي تتحقق بسرعة هذه الأيام.."
سمعت صوت آرجان الذي تقدم منها بعد أن ترجل من على ظهر التنين قائلاً "ظننت أنك ستتمكنين من اللحاق بالجنود نظراً للوقت الذي مضى.. هل أُنهكتِ بعد هذه المسافة البسيطة؟"


التفتت إليه قائلة "لم يمضِ إلا وقت قليل.. وخُذ بالاعتبار أنني قضيت حياتي لا أبذل مجهوداً كبيراً كهذا بتاتاً.."
وقف قريباً يتأمل القرية خلفه وقال "يمكن لأي شخص من الهوت أن يقطع أربع أضعاف هذه المسافة في هذا الوقت القصير.."
ابتسمت رنيم وهي تربت على خطم التنين القريب معلقة "على ظهر تنين طبعاً.."
تأملها بصمت للحظات، ثم قال "هيا.. سأنقلك لموضع قريب من جنود الملك.. أشعر بسوء لاضطرار أميرة منعّمة مثلك لقطع هذه المسافة سيراً على الأقدام.."
قالت رنيم دون أن تنظر إليه "شكراً.. لستَ بحاجة لفعل ذلك.."
قال بتبرير "بل عليّ فعل ذلك.. أنا أخطأت بما قمت به معك، وبجرّك لهذا الموقع البعيد دون وجه حق.. هذا أقل ما أفعله اعتذاراً لما جرى.."
قالت رنيم بخفوت "لست بحاجة لفعل ذلك حقاً.. فأنا لا أنوي الانضمام للجنود بتاتاً.."
قال آرجان بتقطيبة "أين تنوين الذهاب إذاً؟.. هل ستجربين حظك في قرى الهوت الأخرى؟.. لا تفكري بذلك بتاتاً.."
صمتت للحظات وهي تتأمل كاجا الذي أقعى في جانب المكان يمرر لسانه على إحدى يديه، ثم قالت ببساطة "عرضتُ عليك عرضاً في السابق، لكنك تجاهلتني بشكل تام.. فلمَ تهتم لأمري الآن؟"


صمت آرجان وهو يقلّب الأمر في عقله، بينما نظرت إليه رنيم مضيفة "لو أردت رفضي، فعليك أن تكون حازماً بشكل قاطع.. لا يمكنك أن تمنحني بعض الأمل ولو كان صغيراً، فسأتشبث به بكل إصرار.. وعودتك لأجلي هي ما سيمنحني هذا الأمل الخافت.."
نظر آرجان لملامحها الهادئة وابتسامتها الخفيفة، ثم قال بابتسامة جانبية "ولم لا؟.. لا أظن أن بعض الأمل يضير أحداً.."
نظرت له رنيم بدهشة، بينما اقترب آرجان من كاجا وامتطاه بسهولة.. ثم مدّ يده لرنيم بدعوة واضحة.. لكن رنيم قالت وهي تتراجع خطوة "أخبرتك أنني لا أريد العودة للجنود.."


قال آرجان بسرعة "ومن قال إننا سنلحق بهم؟.. وجهتنا هي ميناء (مارِج) كما أظن.. أليس كذلك؟"
نظرت له رنيم بعينين متسعتان، ثم قالت بفرح "هل ستأخذني معك لأرى العالم حقاً؟"
قال آرجان بابتسامة "بل لنبحث عن جايا.. أنسيتِ بهذه السرعة؟.."
لم تكذب رنيم خبراً وهي تتقدم بوثبة سريعة ليلتقط آرجان يدها ويجذبها بقوة خلفه.. ولما استقرت على السرج، قال "تمسكي جيداً يا فتاة.."
لكنها أمسكت ذراعه قبل أن يجذب العنان قائلة "مهلاً.. أنا جائعة.."
ضحك آرجان لقولها "منذ الآن؟.. يبدو أن مواردنا ستنفذ بسرعة.."


وناولها جراب زاده القليل وهو يضيف "ولكن هذا لا يمنع أن تتشبثي لئلا تسقطي فنغادر بدونك.."
تمسكت به رنيم بإحكام وكاجا يرتفع برفّات سريعة من جناحيه، ودار دورة واسعة حول المكان قبل أن ينطلق نحو الغرب مواجهاً الرياح المندفعة بقوة وثبات دون أن يهتز أو يفقد توازنه.. وبينما ملأت رنيم فمها ببعض الفطائر المحشوة والتي تخلو من أي طعم أو رائحة، فإنها نظرت للأرض تحتها ولفرقة الجنود التي بدت كنقاط سوداء تزحف على الأرض.. وبعد أن تجاوزاها بسرعة فائقة، فإن رنيم حوّلت بصرها عن الأرض نحو الأفق الذي سدّته الجبال العالية بقممها الثلجية.. وبينما راقبت الغيوم التي تتسارع مبتعدة عنهما، فإنها قالت لآرجان "لكن.. من هي جايا حقاً؟.. ما زلت لا أعرف إجابة هذا السؤال.."
غمغم آرجان بابتسامة "أمازلتِ تسألين السؤال ذاته؟"



قالت بانفعال "لأن أحداً لا يجيبني على هذا السؤال.. لن أندهش لو علمت أن جايا كانت مجرد خنجر صغير استلبه الجنود منك في السابق.."
ضحك آرجان لتعليقها دون أن يجيبها كعادته.. وجذب العنان بيده اليمنى ليدفع التنين لتجاوز قمة منخفضة لجبل قريب.. وبرفرفة جناحين، وبسرعة تشق الغيوم القريبة، بدأت رنيم رحلتها التي كانت مجرد أحلام تحلم بها وهي نائمة ومستيقظة.. تحلم بها وهي تمسك دفتي كتاب وتسرح في سطوره.. تحلم بها وهي تخشى من التصريح بهذا الحلم وتخشى من أخذه بعين الاعتبار.. والآن، بعد أن أصبح الحلم واقعاً، فإن رنيم كانت أشد انفعالاً ولهفة من أن تصدق هذا فعلاً.
 



إعدادات القراءة


لون الخلفية