بعد أن اقتيدت رنيم نحو ذلك المبنى في جانب القلعة، أدخلها الجندي إلى غرفة في طابق علوي في المبنى ذات نافذة عريضة تطلّ على الساحة وما حولها.. كان المبنى من الداخل أكثر تطوراً وتحضراً مما بدا عليه من الخارج.. فللمرة الأولى ترى رنيم مصابيح غاز بهذا الشكل المتطور وترى بنادق الجنود الغريبة التي تختلف تمام الاختلاف عن البنادق المعتادة في بقية أرجاء العالم.. لاحظت بضع أشياء دلّتها أن حبّ الكشميت للعلوم والتطوير لم يكونا مجرد ادعاءٍ لا معنى له..
ولما دلفت الغرفة مع الجندي، رأت رجلاً يقف في الجهة التي تحتل النافذة العريضة أغلب ذلك الحائط، وقد أدار لها ظهره مراقباً ما يجري في الساحة بصمت.. وبعد أن تبادل الجندي معه بضع كلمات، فإنه أجبر رنيم على الجلوس على أحد الكراسي وقام بتقييد يديها بقيد حديدي وهي تتلفت حولها بقلق ممتزج بشيء من الفزع.. كيف ستتفاهم مع هؤلاء الكشميت؟.. بل الأسوأ من ذلك، كيف ستتخلص منهم وهم على ما هم فيه من كره للعرب ولمملكة بني فارس بالتحديد؟..
رأت ذلك الرجل يلتفت إليها بصمت ويتأملها بملامح جامدة.. فتأملته رنيم بشيء من التوجس، ثم قالت بحيرة "هل.. هل يعرف شخص هنا العربية؟"
ثم دمدمت وهي تتلفت حولها "يا إلهي.. كيف سأتفاهم مع هؤلاء؟.."
أتاها صوته يقول ببرود "هؤلاء.. يعرفون من لغتك ما يكفي لطرح هذا السؤال عليك.. ما الذي تفعله عربية في وسط مملكة كشميت وفي قلب قلعة (جمجات) المرهوبة من الجميع؟"
نظرت له بدهشة وقد فهمت ما يقوله رغم لغته السيئة، فقالت بتردد "أنا.. أنا لست عربية.. أنا من الهوت.."
نظر لها الرجل باشمئزاز قائلاً "وتظنين أنك تستطيعين خداعي؟.. ملامحك البلهاء تدلّ على هويتك بوضوح..كفي عن الكذب وأجيبيني.. ما الذي تفعله فتاة عربية وسط هذه القلعة؟.."
ومال تجاهها قائلاً بصرامة "والأهم من ذلك.. ما الذي تفعله فتاة عربية على ظهر تنين؟"
تذكرت ما فعله الجنود بالتنين، فقالت بتوسل "ما الذي تنوون فعله بالتنين يا سيد..؟.. أطلقوا سراحه رجاءً.."
قال الرجل بأنَفَة "نادني بمولاي الأمير.."
ترددت للحظات، ثم قالت "أنتَ لست مولاي ولن تكون.. أيها الأمير.."
نظر لها بنظرة جامدة لا تظهر الغضب الذي يشعر به، ثم دار حولها معلقاً "التنانين، كما أعرف، لا تطاوع أي شخص سوى الهوت.. لذلك، كانت صدمتي كبيرة عندما عرفت أنك عربية رغم اختراقك لأسوار القلعة على ظهر ذلك التنين.. فكيف تمكنت من تطويعه؟.. ما الذي فعلته لجعله يغضّ البصر عن هويتك الحقيقية؟.."
بدا لها مهتماً لأمر التنين أكثر من اهتمامه بسبب وجودها هنا.. فقالت بتوتر "لن أجيب على سؤال كهذا.. أطلق التنين ودعني أرحل.."
قال الأمير بابتسامة ساخرة "المفترض أن تكفّي عن طلبٍ سخيفٍ كهذا.. أظننت أننا سنعتذر لك بكل تحضر ونطلقكما مع تمنياتنا لكما برحلة موفقة؟.."
لم تتوقع رنيم هذا، لكنها لم تتردد وهي تقول "رغم ذلك.. لن تحصل مني على أي إجابة.. لذلك إطلاقي خيرٌ من سجني بدون أي فائدة.."
نظر لها الأمير ببرود شديد وهي تبادله النظرات متحدية، ثم قال "إن لم أحصل على إجابات لأسئلتي فسأسلمك لرجالي لتقومي بتسليتهم قليلاً.. هذا المعسكر يحوي سبعون جندياً على الأقل.. ستكون أوقاتاً طويلة وممتعة حقاً بالنسبة لك.."
صاحت رنيم بحدة "أهذا كل ما يفلح الرجال بفعله؟.. هل تهديدي والتعدّي علي سيريحكم ويمنحكم نوماً هانئاً هذه الليلة؟.."
قال الأمير بهدوء "لكي تعرفي أنني لن أتوانى عن فعل أي شيء للحصول على إجابات.. ولا يهمني ما سيجري لك قيد شعرة.."
تراجعت رنيم خطوة مقدرة ما ستخسره، فقال لها "ما الذي جاء بك لهذه القلعة بالذات في مثل هذا الوقت؟.. أهو أمرٌ يخصّ الهوت؟.. أم التنين؟.."
نظرت له بدهشة واضحة، ثم اندفعت تقول "أنتم تحتجزون تنيناً لديكم.. أليس كذلك؟"
ظل على صمته وهو يستمع لها، فقالت بجرأة أكبر "لهذا السبب ثار كاجا وبدأ يضرب جدران ذلك المبنى.. لقد سمعت صوت تنينٍ آخر من ذلك المبنى رغم ضعف صوته.. فكيف وضعتم يدكم عليه؟.. وما السبب الذي لأجله تحتجزونه هنا؟"
ثم أضافت باهتمام أكبر "ولهذا السبب أنتم تختطفون الهوت.. أليس كذلك؟"
وجدتـه يقـبض على مجمع ملابسها ويرفعها قائلاً بلهجة باردة حملت شيئاً من الاستنكار "هل تستجوبينني؟"
نظرت له بتوتر لا محدود، فأطلقها بقوة وهو يقول بصرامة "ما الذي جاء بك للقلعة؟.. أأنت جاسوسة لملك بني فارس؟"
قالت بسرعة "لا.. لست كذلك.."
ثم بشيء من التردد قالت "لقد أتيت هنا بحثاً عن رجل.."
نظر لها الأمير رافعاً حاجباً، فأضافت "اسمه آرجان.. لقد تم اختطافه وبيعه لكم في سهول الأكاشي، وأنا أريد إنقاذه بأي صورة كانت.."
مالت شفتا الأمير بابتسامة هازئة وعلق "حقاً؟.. لم أكن أعلم أن من تقف أمامي جندي بأعلى مستوى من مملكة بني فارس.."
قالت رنيم بحزم "لست أنتمي لمملكة بني فارس.."
قال الأمير بشيء من السخرية "إذن لمن؟.. الهوت؟.."
قالت هازة رأسها "لا.. لست أنتمي لأي مملكة.."
ورفعت رأسها مضيفة "السماء هي موطني.. ولا وطن آخر لي.."
طوّح الأمير رأسه بضحكة فاجأتها متخليّاً عن هدوئه المعتاد، وقال من بين ضحكاته "أتحاولين إقناعي بأنك ملاك؟.. وهل الملاك يقع في الأسر بهذه السهولة؟.."
قالت رنيم مقطبة "لست ملاكاً.. إنما أنا فتاة عادية.."
قال الأمير بابتسامة ساخرة "فتاة عادية؟.. أنت تذكرينني بفتاة أخرى تصرّ أنها عادية لا تستحق اهتمامنا، ولم تكن نهايتها تسرّ الأنظار.."
نظرت له رنيم بفضول وشيء من الدهشة، أهو يعني فتاة من الهوت؟.. إنها لم تعرف إلا فتاة واحدة قبض عليها الكشميت، والتي لأجلها بدأت رنيم رحلتها الغريبة والطويلة هذه.. فتساءلت بشيء من الحذر "هل تعرف فتاة اسمها جايا؟.."
رمقها الأمير بنظرة صامتة تخلو من أي انفعال، ثم قال "جايا.. أظنني سمعت اسماً كهذا من قبل.."
ظلت رنيم تنظر له بدهشة.. بدا واضحاً أنه يعرف الاسم، ويعرف صاحبته.. فصاحت "هل تعرفها؟.. أين رأيتها؟.. أهي هنا في القلعة؟.."
تساءل الأمير بسخرية "هل تبحثين عنها هي أيضاً؟"
لم تعلق رنيم وهي تفكر بالأمر مبهوتة.. ربما كان القبض على آرجان واقتياده عبر رحلة طويلة لهذا المكان ليس سيئاً في النهاية.. فهو قاده للموقع الذي سجنت فيه جايا بالذات، وحقق هدفه من هذه الرحلة التي قام بها برفقة رنيم..
علق الأمير بعد صمتها "هذه الفتاة قد قدمت لي خدمة جليلة لن أنساها لها أبداً.."
نظرت له رنيم بدهشة، فقال ضاحكاً "لقد سرقت تنيناً كان الملك عبّاد يحتفظ به في سجن خاص في (الزهراء).."
تساءلت رنيم بدهشة "(الزهراء)؟.. كيف وصل التنين هناك؟"
قال الأمير بسخرية "يبدو أنني لم أكن الوحيد الذي يحاول معرفة طريقة تسخير هذا الحيوانات، بل فكّر الملك عبّاد بالأمر ذاته.. لكن لحماقته فإنه اكتفى بسجن ذلك التنين دون أن يعرف طريقة ملائمة للحصول على ولائه.."
ومال تجاه رنيم مضيفاً بشغف "لكني لست أحمقاً مثله.. باستخدام الهوت، يمكنني أن أحكم سيطرتي على هذا التنين وغيره من التنانين ما إن أضع يدي عليها.."
قالت رنيم بحدة "لماذا تفعل هذا؟.. لمَ تسعى خلف هذه الكائنات بالذات؟"
ضحك الأمير معلقاً "أنت حمقاء أيضاً.. هذا ليس غريباً على عربية.."
ثم أضاف ملوحاً بإصبعه "أتعلمين ما الذي يمكن لتنين أن يفعله في هذه الحرب التي لا يستخدم فيها الطرفان إلا قواتهم البرية والبحرية؟.. عندما يمتلك أحد الطرفان قوة جوية، فإنه يملك نقطة تفوق وفرقاً شاسعاً في القدرات، ويعني حسم الحرب هذه بأسرع الطرق وأسهلها.."
وقال بابتسامة ظافرة "عندها، تخيّلي ما سيجري لمملكة بني فارس عندما يفاجؤون بسربٍ طائر من التنانين التي تحمل جنود الكشميت بكل عتادهم المتطور.. ستسقط (الزهراء) خلال ساعات معدودة بعد أن صمدت أمامنا لمئات السنوات.. وستصبح مملكة كشميت هي الأقوى في هذا العالم.."
شحبت رنيم وهي تفكر فيما يسعى إليه ذلك الأمير المجنون.. رغم اتفاقية السلام الظاهرية بين المملكتين، لا يزال الطرفان يسعيان خلف التفوق واستكمال تلك الحرب رغم كل الخسائر التي حاقت بهم في السابق.. أي متعة يجدها هؤلاء في قتل جنودهم وقتل الأبرياء للحصول على بضعة أميال جديدة تضاف لمملكتهم؟.. أي هناء يشعر به هؤلاء القوم وهم يشعلون محرقة تحرق العدو والحليف في آن واحد؟.. هذا شيء لم تفهمه قط..
أخيراً، بحلق جاف لشدة توترها، تساءلت "ما الذي فعلته بالهوت؟.. ما الذي فعلته بجايا؟"
قطب الأمير شيئاً ما قائلاً "الأحرى بك القلق لما سيجري لك بدل القلق لأمر فتاة أخرى.."
تساءلت بشيء من التوجس "ما الذي تنوي فعله بي؟.."
لم يجبها الأمير وهو يقول "سأمنحك بعض الوقت للتفكير فيما طلبته.. وسأعود لك لأعرف أجوبة أسئلتي.. عليك أن تتوقعي أمراً لا يسرّك لو فكرت بالإصرار على عنادك هذا.."
واستدار مغادراً، فزفرت رنيم بحدة وهي تفكر بكل ما جرى.. الآن تدرك أن وجود جايا هنا ليس مستغرباً أو مستنكراً.. فما دام الكشميت يسعون خلف الهوت، لن يكون مستغرباً أن يكون لهم يد فيما جرى لجايا بعد اختفائها من قصر (الزهراء) ومن السفينة التي انطلقت من ميناء (مارِج).. فهل تمكنوا من القبض عليها قبل أن تتمكن من الفرار فعلاً؟..
عليها أن تصل إلى آرجان بأي طريقة، وعليها أن تبلغه بما اكتشفته.. هل سيكون سعيداً بعثوره على جايا في هذا الموقع بالذات؟..
في تلك الأثناء، كان الأمير يهبط درجات القلعة تاركاً سطح الأرض خلفه ومتعمقاً في طابق أرضي من المكان يمتدّ بحجم القلعة ذاتها ولا تنيره إلا بضع مصابيع تعمل بالغاز.. بالإضافة إلى مراوح ضخمة في جانب المكان تؤمن التهوية الملائمة له عبر بضع أنابيب لها فتحات تؤدي للهواء الطلق.. وقد تم حجز جانب من المكان بأبواب معدنية مصمتة وتقسيمها كسجون ضيقة تقطعها ممرات أكثر ضيقاً..
سار الأمير عبر الممر الضيق محاذراً أن تتسخ ملابسه من الجدران الرطبة المكونة لذلك القبو، حتى وقف أمام باب معدني سارع أحد الجنود بفتحه له بصمت ودون سؤال.. فدلف الأمير عبر الغرفة الضيقة حتى وقف أمام فتاة أجبرت على الوقوف بربط ذراعيها بسلسلة مثبتة في جوانب الغرفة بوضعية الطائر، ورأسها متدلٍ على صدرها بصمت في غيبوبة عميقة.. ولما دخل الأمير ووقف أمامها، سارع الجندي للطمها بقوة ليعود لها وعيها.. ولما انتبهت من غيبوبتها ورأت الواقف أمامها، ابتسمت بجانب فمها قائلة "هل عدنا لهذا من جديد؟.. مرحى.."
قال الأمير بهدوئه الشهير "وسنعود لهذا كل مرة حتى تخضعين لما نطلبه منك.."
غمغمت الفتاة بتعب ورأسها يهوي من جديد دون أن ترفع بصرها "لمَ؟.. لمَ أنا بالذات؟"
قال الأمير بابتسامة جانبية "لأنك صاحبة ذلك التنين.. هذا هو السبب الوحيد.."
ثم مال تجاهها قائلاً بتشفٍ "هذا هو قدرك.. فهل تملكين الاعتراض عليه؟"
لم تجب الفتاة بكلمة ورأسها يهوي على صدرها بصمت.. هل يمكن لأحد تغيير قدره بيديه؟..
في صباح اليوم التالي، وبعد شروق الشمس بقليل، وجد آرجان من يفك القيد الذي يقيده للحائط ويستعيض عنه بقيد حديدي حول رسغيه.. ثم وجد جندياً من الجنديين اللذين وقفا في زنزانته يجرّه معه خارجاً منها وعبر الدرجات التي تعود بهم لسطح الأرض.. ولما خرج من ذلك المبنى وواجهه نور الشمس القوي، شعر آرجان بألم حارق في عينيه وهو يجد الجندي يجذبه قسراً نحو ذلك المبنى الكبير في جانب الساحة..
وبعد دخوله من باب المبنى، لاحظ وجود ذلك الأمير الذي رآه في اليوم السابق عند قدومه للقلعة.. ورأى التنين ذاته الذي كان حبيساً بالأمس، وهو لم يزددْ إلا ضعفاً ومرضاً في الساعات القليلة الماضية..
الإضافة التي رآها آرجان في هذا الموقع هو كاجا الذي وقف في جانب آخر مقيّدٍ بقيود حديدية أخرى وهو يستعيد وعيه بعد غيبوبة عدة ساعات.. فزفر آرجان بضيق وهو يرى أسوأ توقعاته قد تحقق.. لهذا السبب لم يحاول استدعاء رنيم وكاجا فور دخوله للقلعة.. فلدى رؤيته هذا التنين في سجنه، ومعرفته بمَ يهدف إليه الكشميت من اختطاف الهوت، فإنه أدرك الخطورة التي تحيق بكاجا لو دخل بنفسه لهذه القلعة التي لن يضيّع جنودها فرصة ذهبية كهذه للحصول على تنين آخر..
ولما واجهه الأمير، قال آرجان بحدة "أين الفتاة؟"
ابتسم الأمير بجانب فمه معلقاً "إذن أنت هو بالفعل.. أنت من تبحث عنه الفتاة.."
واستدار إلى كاجا مضيفاً "وأنت صاحب هذا التنين.."
لم يجب آرجان وهو عاقد حاجبيه، بينما أطلق كاجا صيحة متألمة وهو يحاول الإفلات من قيوده التي تتغلغل في جسده بقوة كلما حاول المقاومة أكثر.. فقال الأمير "ألا تتمنى إطلاق سراحك وسراح هذا التنين؟.. سأطلق سراح الهوت جميعاً، لو أنك قد أبلغتني بكل ما أريد معرفته عن هذه التنانين.."
قال آرجان بجفاء "لن أتحدث حتى أرى الفتاة.. أين هي؟"
مال الأمير نحوه قائلاً "أتظن أنك تستطيع إجبارنا على الانصياع لك؟.."
كرر آرجان بتأكيد "لن أتحدث ما لم أرَ الفتاة.."
قال الأمير بهزة من رأسه "لا بأس.. هذا مطلبٌ عادل.."
وجده آرجان يتقدم منه فيمد يده ويقبض على رأسه بقوة، وضغط بأصابعه أسفل جفنيه بشكل مؤلم قائلاً بصرامة "سأحضر الفتاة، لكن في البدء سأخلصك من عينيك حتى لا تراها البتة.."
قال آرجان بحزم "إذاً لن تحصل مني على كلمة.."
قال الأمير وهو يتراجع خطوة "إذن أنت لن تخضع للتهديد.."
واستدار فارداً ذراعيه قائلاً "حقاً.. ما الذي سيجبرك، أو يجبر بني قومك، على الاستجابة لطلباتي؟.. لم يتحلّى شعبك، مع التنانين، بهذا العناد الذي لم أرَ مثله من قبل؟.."
ونظر لآرجان مضيفاً "أنتم شعبٌ أناني.. لمَ يجب على التنانين أن تطيع الهوت فقط ولا تطيع أحداً غيرهم؟.. ما الجريمة التي سنرتكبها باستخدام هذه الكائنات المذهلة؟.."
قال آرجان مقطباً "نحن لم نختر التنانين، بل هي من اختارنا.."
التمعت عينا الأمير وهو يقول "حقاً؟.. وكيف فعلت ذلك؟.. أهناك وسيلة أو خطوات معينة لحدوث ذلك؟"
قال آرجان بسخرية "تظن أنني سأجيبك بكل بساطة؟.."
أجاب الأمير بابتسامة "قطعاً لا.. لكن ماذا عن الفتاة؟"
وبنظرة للخلف، فإن آرجان استدار بدوره ينظر خلفه ليجد جندياً يتقدم منه دافعاً رنيم أمامه مقيدة اليدين.. تقدم آرجان خطوة نحوها وهي تنظر له بعينين متسعتين، لكن الجندي القريب أوقف آرجان رغماً عنه والأمير يقول "وجود هذه الفتاة سيصبّ في صالحي حتماً.. فهي لم تكتفِ بإحضار تنين جديد لي، لكنها منحتني فرصة للضغط عليك بصورة أفضل من أي وسيلة للتعذيب.."
هتف آرجان بحنق "الفتاة لا تعرف أي شيء عما تريد معرفته.."
قال الأمير بابتسامة متسعة "لكن أنت تعرف.. أليس كذلك؟"
قاد الجندي رنيم للموقع الذي ربط فيه كاجا والذي استمر بمحاولته للتخلص من قيوده.. عندها، قام بربط يدي رنيم خلفها في أحد الأعمدة الخشبية التي تنتصب وسط المبنى.. بينما قال الأمير "هذا التنين لم يحضَ بأي طعام منذ الليلة الماضية.. فحتى متى يمكنه الصمود على جوعه ذاك؟.. ولو طغت عليه حاسته الحيوانية، هل سيلتهم الفتاة التي كانت يطيعها بالأمس، أم أنه سيصبر على جوعه لأمدٍ غير مسمّى؟.."
نظرت رنيم بشيء من القلق لوجه كاجا الثائر والغضب العارم في عينيه.. كان، في تلك اللحظة، يبدو لها مخيفاً كما كان في المرات القليلة التي رأته يفقد التحكم بنفسه فيها.. لكنها نوعاً ما تشبثت بأملٍ صغير بأنه لن يفعل ذلك.. هل لها أن تثق بعلاقتها بالتنين بحيث تسلّمه حياتها وهي آمنة؟..
سمعت آرجان يقول للأمير بغضب "أخبرتك أن الفتاة لا ذنب لها.. ضعني مكانها لو كنت تريد اختبار فكرتك هذه.."
نظر الأمير للموقف بابتسامة جانبية معلقاً "هل تقول هذا لأنك غير واثقٍ أن التنين سيقاوم جوعه ذاك؟.. إذن يمكننا أن نصبر قليلاً ونرى ما سيحدث لحيوانك الأليف هذا.."
استدارت رنيم إلى آرجان صائحة بانفعال وهي تحاول تخليص نفسها من قيودها "آرجان.. جايا.. جايا هنا.."
اتسعت عينا آرجان بصدمة ورنيم تصيح "جايا حبيسة في هذه القلعة.."
بهت آرجان لوقت طويل وكلماتها لا تكاد تصل لعقله، بينما ضحك الأمير معلقاً "أهذا الرجل يبحث عن الفتاة أيضاً؟.. هذا ممتع.. ربما سأضعها في مواجهة هذا التنين هي الأخرى.. ولنرَ من منكما سيختار لتكون وجبته الأولى.."
فوجئ بآرجان يغافل الجندي القريب ويقفز عليه فيسقطه أرضاً وهو يجثم على صدره.. فأمسك عنقه بشدة رغم قيود يديه وهو يقول بغضب "أين جايا؟.. ما الذي فعلتموه بها؟.."
ابتسم الأمير بجانب فمه بصمت، بينما تلقى آرجان ضربة على جانب رأسه بقوة رمته أرضاً وسط شهقات رنيم المذعورة.. وبينما صمّ كاجا آذانهم بصياحه المهتاج، فإن الجندي لم يتوقف عن ضرب وركل آرجان الذي لم يتمكن من مقاومته بسبب الدوار الذي ألمّ به.. ثم سحبه الجندي بخشونة نحو جانب المكان فقيّد يديه بدوره في أحد العوارض الخشبية والأمير ينفض ملابسه قائلاً "تعجبني هذه الجرأة التي تتحلّون بها عند قدومكم لهذه القلعة.."
رفع آرجان بصره بتعب للأمير الذي أضاف وهو يحدق فيه "ويعجبني أكثر رؤية تلك الجرأة وذلك العناد يتهاويان على يديّ.."
غمغم آرجان "تباً لك من حقير.."
ابتسم الأمير بجانب فمه، بينما لم يتردد الجندي في ركل آرجان على وجهه ركلة مؤلمة.. ولمدة ساعة تقريباً، جلس الأمير في جانب المكان يتأمل بشغف واضح الضربات واللكمات التي تصيب آرجان من الجندي حتى أصيب الجندي بتعبٍ بالغ، بينم ظل آرجان على صمته وهو يلهث بشدة.. فصاحت رنيم المرتعبة التي أجبرت على رؤية كل ما جرى "أهذه وسيلة لاستجواب سجنائك؟.. هل تنوي قتلهم قبل الحصول على أي كلمة منهم؟"
قال الأمير وهو يسترخي في موقعه "لم يكن هذا استجواباً.. بل عقاباً له على تجرؤه لمسي.. وليشكرني لأنني لم آمر بقطع يديه هاتين لما اقترفتاه بحقي.."
ظلت رنيم تستمع له بارتياع وهي تنقل بصرها بين آرجان الصامت وبين كاجا الذي كان لا يفتأ يحاول تحرير نفسه.. بينما قال الجندي للأمير "يبدو أنه فقد وعيه لشدة الضرب.. هل أوقظه ببعض الماء البارد؟"
قال الأمير باشمئزاز "لا.. لن أضيّع وقتي معه.. سأرى إن كان سيتحدث بعد أن يشاهد حيوانه الأليف يلتهم رفيقته.. عندها أشك أن يكون أكثر عناداً مما هو الآن.."
ونهض نافضاً ملابسه، ثم استدار مغادراً المكان وهو يقول للجندي "ليبقَ جندي حراسة خارج هذا المكان طوال الوقت.. ولتخبرني فور هجوم التنين على الفتاة بلا إبطاء.."
سارع الجندي ليفتح للأمير باب المستودع، ثم يغلقه بعد أن يغادره تاركاً المكان يغرق في ظلام جزئيٍ إلا من بعض النور الذي تسمح نوافذه العلوية بمروره..
تلفتت رنيم حولها بيأس وهي تحاول التخلص من قيودها، ثم صاحت "آرجان.. هل أنت بخير؟.. تحدث إليّ أرجوك.."
سمعته يزفر قبل أن يقول بصوت خافت "لا تقلقي.. أنا بخير.."
قالت وعيناها مغرورقتان بالدموع "كيف يمكنك أن تقول هذا بعد كل ما جرى؟.."
عاد آرجان يزفر للحظات، ثم رفع وجهه بالكدمات التي ظهرت واضحة عليه وسألها "كيف علمتِ بأمر جايا؟.."
أجابت "لقد أخبرني الأمير أنها سرقت هذا التنين من (الزهراء)، ثم تمكن الكشميت من القبض عليها وعلى التنين وإحضارها إلى هنا.."
نظر آرجان للتنين بدهشة وغمغم "أهذا هو الكنز الذي تحدثت عنه تلك الملكة؟.. ذاك الملك وهذا الأمير.. ما الممتع في تعذيب هذه الحيوانات البائسة؟.. تباً لهم.."
تساءلت رنيم وهي ترمق التنين "ما سبب تشبثهم بهذا التنين رغم مرضه؟"
قال آرجان زافراً "لا أظنه مريضاً إلا بسبب هذه القيود.. التنانين تبغض الأسر والقيود، ولو لم تتمكن من الإفلات من سجنها فإنها تمرض وتضعف مع امتناعها عن تناول الطعام والشراب حتى تموت.. حريتها أهم بالنسبة لها من حياتها ذاتها.."
نظرت رنيم للتنين المريض بإشفاق وهي تدرك شعوره تمام الإدراك.. ألم تكن تشعر بالأمر ذاته وهي في سجنها المزخرف ذاك؟.. ثم سمعت آرجان يتسائل بشيء من اللهفة "هل رأيتها؟.. كيف هي؟"
فهمت أنه يعني جايا، فهزت رأسها قائلة "لم أرها.. فقد احتفظ بي الأمير في مبنىً آخر ولم أرَ أحداً من الهوت.."
خفض آرجان رأسه بشيء من اليأس، وقال "لو كانت موجودة حقاً، فكيف سيكون حالها مع هذا الرجل المجنون؟.. كيف سأراها؟.. بل كيف سأنقذها؟.. نحن في أسوأ حالٍ ممكن في هذه القلعة.."
صمتت رنيم دون أن تخبره بما قاله الأمير في نهاية جملته.. لقد قال إن مصير الفتاة لم يكن أمراً يسرّ الأبصار.. فهل يعني ذلك أنها قد قضت نحبها؟.. تفزعها هذه الفكرة، وما قد يشعر به آرجان لو علم ذلك حقاً.. لذلك فضّلت الاحتفاظ بهذه المعلومة لنفسها حالياً وهي تجاهد بإصرار للتخلص من قيودها بأي شكل كان.. بينما التزم آرجان الصمت بتعبٍ شديدٍ وهو يفكر في أمر جايا.. وبينما سكن التنين الضعيف أسود اللون بشكل شبه تام، فإن كاجا قد استسلم لتعبه بدوره وهو يسقط جانباً ويلهث بقوة وقد بدأت بعض السجحات تظهر على جناحيه مع شدة جذبه لهما للتخلص من قيوده المعدنية..
قالت رنيم وهي تراقب تعب التنين "اهدأ يا كاجا.. هيجانك هذا سيزيد من تعبك وألمك وجوعك.. عليك أن تحتفظ بطاقتك حتى نتمكن من إخراجك من هذه القلعة.."
سمعت آرجان يعلق دون أن يرفع بصره "كاجا لن يلتهمك.. فلا تخشي شيئاً.."
لم تكن خائفة من هذا الأمر، لكنها علقت رغماً عنها بتوتر "لقد حاول كاجا التهام صبي على إحدى الجزر التي مررنا بها لما عجز عن تجاوز جوعه.."
قال آرجان بإصرار "كاجا لن يفعل.. أنا أثق به.. وعليك أن تثقي به أنت أيضاً.."
ظلت رنيم تنظر للتنين الذي أخذ يلهث بشدة.. ودّت لو كانت طليقة لتربت على عنقه وتمسح على رأسه.. لو كانت قادرة على إطلاقه من سجنه الذي يبغضه بشدة كما بدا من هيجانه.. لكنهم بحاجة لمعجزة كبيرة ليطلقوا أنفسهم من هذا الأسر.. ولا يمكنها أبداً أن تعوّل على المعجزات في المحنة التي هي فيها الآن..
مع قرب ذلك المساء، ومع تطاول الساعات على رنيم وآرجان اللذين أنهكهما التعب والقيود التي تغلّ أيديهما، ومع الجوع والعطش الذي استبدّ بهما، فإن الصمت كان يخيّم عليهما بشكل كامل.. ومع اقتراب الشمس من مغيبها، رأت رنيم كاجا ينهض بعسر وغضب وهو يطلق صيحة حانقة ويشدّ السلسلة التي تقيد عنقه للعارضة الخشبية خلفه بقوة دون فائدة..
ظلت رنيم تراقب الهياج الذي كان فيه وهو يطوّح ذيله يميناً ويساراً بحنق شديد، وهي مدركة أن الجوع قد استبد به فوق طاقته.. ولما التفت إليها، ورأت الغضب الشديد في عينيه، فإن رجفة أصابت جسدها رغماً عنها.. من قال إن التنين لا يأكل البشر عندما يستبدّ به الجوع الشديد؟.. لم تكن ترى في عيني كاجا أي تعقل أو لطف مما عهدته سابقاً، بل كانت عيناه الخضراوان تلتمعان بجوعٍ حيواني وهو يزمجر بقوة تهزّ أرجاء المكان ولعابه يسيل من شدقيه.. اتسعت عينا رنيم وهي تنظر لثورته غير المتعقلة، وهمست بارتجافة "كاجا........"
لم تكن عينا كاجا طبيعيتان.. كانتا أقرب لطبيعته الحيوانية مما عهدته طوال حياتها.. لذلك، لم يكن صعباً عليها تخيّل ما قد يفعله التنين الهائج الذي تضوّر جوعاً لساعات طوال بها وهي وسيلته الوحيدة لسدّ ذلك الجوع..
رأته ينقضّ عليها بسرعة مما أفزعها وهي تغمض عينيها بشدة، بينما هتف آرجان بقوة "لا تفعل يا كاجا.."
تردد صدى صوته في المكان الخالي، بينما غاص قلب رنيم في ضلوعها لشدة الفزع.. لكنها شعرت بهزة قوية تهز العمود الذي قيّدت إليه وترجّها بقوة، ولما فتحت عينيها متوجسة رأت كاجا ينشب أنيابه في العمود الخشبي ويشدّه بقوة.. كرر ما يفعله عدة مرات وهو يقضم العمود بكل ما أوتي من قوة ويجذبه بيده ورنيم تراقبه مذهولة.. وبينما زفر آرجان بشيء من الراحة لما رأى ما يفعله كاجا، فإن الأخير لم يتوقف عما يفعله حتى بدأ العمود يتهشم تحت أنيابه الحادة، ولم يطُل به الوقت حتى انفصل عن جزئه العلوي ورنيم تجد نفسها تسقط أرضاً مع الجزء المهشم من العمود وهي تطلق صيحة متألمة.. وبسرعة، حاولت تمالك نفسها وهي تنهض وجذبت قيودها عبر العمود الخشبي حتى أخرجت القيد من الجزء المهشم وغَدَت حرة بشكل جزئي، وإن لم تتمكن من الخلاص من القيود التي تقيّد يديها بشكل كامل..
سمعت التنين يزوم بألم ورأت الدماء تسيل من شدقيه ممتزجة بلعابه، لكنه لم يلمسها وهو يمسح رأسه بذراعيها.. فقالت رنيم متنهدة وهي تمسح الدماء عن فكيه "شكراً لك يا كاجا.. وعذراً لما سببناه لك من شقاء.."
سمعت آرجان يصيح بها وهو يتلفت خلفه "يبدو أن بعض الجنود قادمين بسبب هذه الأصوات العالية.. عليكِ استغلال هذه الفرصة.."
لم تدرِ رنيم ما عليها فعله، لكن كل ما دار بذهنها أنها لن تسمح للجنود بأن يعيدوها للقيود من جديد.. تناولت أقرب أداة معدنية يمكنها استخدامها كسلاح مرتجل، وركضت نحو الباب وهي تسأل آرجان بقلق "هل يمكننا إغلاق هذا الباب حتى نخلّص كاجا من أسره؟"
أجاب آرجان "أظن ذلك.. عليك أن........"
وجدا الباب يفتح وأحد الجنود يدخل المبنى متفحصاً ما جرى فيه، ويبدو أنه لم يتوقع رؤية الفتاة طليقة إذ بقي واقفاً مشدوهاً للحظة كانت كافية لرنيم القريبة لترفع الأداة في يدها وتعاجله بضربة قوية على رأسه بكل ما تملك.. سقط الجندي متألماً بينما صاح آرجان "اجذبيه نحوي.. عليكِ بإغلاق الباب قبل قدوم المزيد منهم.."
استغلت رنيم سقوط الجندي فسحبته من مجمع ثيابه بأقوى ما تستطيع نحو آرجان القريب دون أن تدري من أين واتتها القوة لفعل ذلك.. وقبل أن تصل إليه فوجئت بالجندي يقبض على يديها بقوة وهو يدمدم بغضب شديد.. وحاول الاعتدال ورنيم تجذب يدها لتحاول ضربه من جديد، لكنه لم يكد يعتدل حتى فوجئ بركلة قوية من آرجان الذي كان خلفه أسقطته أرضاً ليفقد وعيه هذه المرة..
ظلت رنيم واقفة ودقات قلبها متسارعة، بينما صاح بها آرجان "الباب يا رنيم.."
استدارت على الفور وعادت للباب فأغلقته، وبنظرة إليه أدركت أنه يغلق باستخدام عارضة خشبية توضع على رأسين حديديين ثبتا في جانبي الباب فيمنع من كان خارجه من فتح الباب مهما حاول.. فحملت العارضة بشيء من المشقة ودفعتها لتسقط في موقعها وهي تلهث بشدة.. ولم تكد تفعل حتى وجدت الباب يهتز بقوة وطرقات تضربه من الخارج من بقية الجنود.. تلفتت رنيم حولها، ثم تقدمت من الجندي فاقد الوعي وفتشت جيوبه بسرعة.. لقد خمّنت أنه المسؤول عن مراقبتهما لأنه كان الأسرع في الوصول إليهما من البقية، لذلك لابد أنه يحتفظ بمفاتيح تلك الأقفال معه.. وبالفعل حصلت على سلسلة بها بضع مفاتيح، فهرعت لآرجان وبحثت عن المفتاح الملائم حتى استطاعت أن تفك قيوده التي سقطت أرضاً مصدرةً صوتاً عالياً..
قال آرجان وهو يفرك يديه "علينا أن نحرر كاجا والتنين الآخر.. ثم نبحث عن جايا بأسرع ما نستطيع.."
تساءلت رنيم وهو يفك قيد يديها بدوره "أين سجنك الجنود مع بقية الرجال؟.."
أجابها بسرعة "هناك سجون كاملة تحت سطح الأرض، في قبوٍ كبير بدا أنه يحتل مساحة تقارب مساحة هذه القلعة.. لذلك لا أشك أن جايا ستكون هناك، لو كانت هنا فعلاً.."
هرع إلى كاجا الذي وقف متململاً بضيق شديد، ولما حاول إطلاق سراحه اكتشف أن القيود التي تقيّده لا يمكن فتحها بالمفاتيح، بل يجب أن يتم خلعها من العارضة الخشبية ذاتها.. ظل الطرق على الباب يتزايد بينما تلفت آرجان حوله بحثاً عن وسيلة لتحرير كاجا، ولما عثر على فأسٍ خشبية مرماة في جانب المبنى مع بضع أدواتٍ أخرى، أسرع يحملها ويعود للعارضة قائلاً "سيستغرق هذا بعض الوقت.. أتمنى أن يعيق الباب المغلق بقية الجنود عن اقتحام المكان.."
نظرت رنيم للباب بقلق، بينما حاول آرجان خلع القيد الذي يقيد كاجا بضربات من الفأس في يده.. ورغم الألم الذي ينتشر في جسده كله بسبب ذلك الجندي، لكن آرجان حاول ما بوسعه إحكام ضرباته واستنفار عضلاته للتخلص من القيود بأسرع ما يمكنه.. بينما تعالت الضربات القوية من الباب والجنود يحاولون الدخول للمبنى دون نجاح كبير..
نظرت رنيم للتنين الآخر الذي ظل ساكناً مدة طويلة رغم أن عيناه مفتوحتان وهو يلهث بخفوت شديد.. فتساءلت رنيم بإشفاق "ما الذي سنفعله بالتنين الآخر؟"
قال آرجان عابساً وهو يكمل عمله "سنفعل ما يجب فعله.."
كان جوابه مبهماً بشدة، فتقدمت رنيم من التنين الذي التزم بالصمت وهو يراقبها بعينيه اللتين خبتت لمعتهما كثيراً وبدا بأسوأ حالٍ ممكن.. وقفت رنيم على بعد مترٍ واحد وهي تتأمله بإشفاق، ثم اقتربت بخفوت لئلا تثير غضبه وهي تهمس "أيها التنين الجميل.. أأنت بخير؟"
مدّت يدها وربتت على خطمه، فبدا أضعف من أن يعترض على ذلك.. وسرعان ما لمس العطف الذي تحمله لمساتها الحانية وهي تقول بخفوت "علينا أن نرحل من هنا.. هل تقدر على النهوض أيها الكائن الرائع؟"
سمعته يئن بألم شديد ويغمض عينيه بصمت، فقالت رنيم لآرجان بارتباك "ما الذي حلّ به؟.. إنه لا يفتح عينيه.."
لم يجبها آرجان وهو مستمر بعمله حتى تمكن من إحداث شقٍ على شيء من الاتساع في العارضة مرقت منها السلسلة التي تقيّد كاجا، فسحبها بسرعة وقام بتحرير التنين بشكل تام ليجده ينتفض بقوة وهو يرفرف بجناحيه في المكان الضيق.. عندها هرع آرجان عائداً للجندي واستلّ خنجراً كان موجوداً في جرابٍ في حزامه، ثم عاد إلى رنيم التي قالت بقلق شديد "كيف سنتمكن من تحرير هذا التنين وهو بهذه الحالة؟.. هل يستطيع كاجا نقله بعيداً؟"
غمغم آرجان مقطباً وهو يتأمل التنين "محال.."
سمعا الباب خلفهما يتهشم بقوة للضربات التي تلقاها، وبدأ الجنود يتدافعون في المبنى بغضب شديد.. لكن كاجا الذي قاسى من حبسه طوال الساعات الماضية بالإضافة لتجويعه، لم يتأنّ في الانتقام من الجنود وهو يصيح فيهم غاضباً ويتقدم منهم بسرعة ليلتقط أحد الجنود بفكيه ويرميه عالياً خارج المبنى.. وبينما تلقى بعض الجنود ضربات بيده وأخرى بذيله الطويل، فإن رنيم قالت بانفعال "كيف سنهرب الآن؟"
لم يجبها آرجان وهو يمسح على رأس التنين الذي يعلو صدره ويهبط بأنفاس ضعيفة.. ثم غمغم بلغة الهوت "سامحني يا صاحبي.. من العسير إنقاذك بعد كل هذا.."
ولما التفتت رنيم إليه، وجدته يقترب من صدر التنين فيرفع خنجره عالياً، وبضربة قوية أخمد الخنجر في صدر التنين حتى نصله بينما انتفض التنين بعنف دون أن يملك القوة للدفاع عن نفسه.. شهقت رنيم بذعر لذلك المنظر وهي ترى الدماء التي انبثقت من الجرح فلطخت التنين وآرجان بقوة قبل أن يسكن جسد التنين الذي لم يطلق أنيناً واحداً طوال تلك اللحظات..
غطت رنيم فمها بكفيها وهي تنظر للتنين القتيل بارتعاب، بينما مسح آرجان الدم عن وجهه ويديه وهو يستعيد خنجره ويغمغم "لنرحل.."
همست رنيم بعينين دامعتين "كيف أمكنك فعل ذلك؟"
نظر لها بصمت للحظات ثم قال "كان هذا خيراً له مما هو فيه.."
رغم رده الجامد، إلا أنها تمكنت من رؤية الأسى واضحاً في عينيه.. فلم تعلق وهي تعرف ما يعنيه التنين بالنسبة للهوت.. أسرع آرجان نحو الباب حيث كاجا يشق طريقه بين الجنود الذين حاولوا عدم إصابته ببنادقهم لئلا يطالهم غضب الأمير، ولما رأى البنادق ذات الفوهة العريضة بأيدي الجنود، صاح بكاجا "ارتفع عالياً يا كاجا.."
قام التنين الذكي بما طلبه منه صاحبه وهو يرفرف بقوة ويرتفع بسرعة خاطفة ليتجاوز المبنى وأسوار القلعة بينما حاول الجنود إسقاطه بشباكهم دون أن يفلحوا بذلك.. ولم يلبث أن عاد لهم بعد أن اتخذ دورة سريعة في الهواء ليضرب مجموعة منهم جانباً بينما قام آخرون بتعبئة بنادقهم بقذائف جديدة تمهيداً لإسقاطه بها..
تلفت آرجان حوله بتوتر مستغلاً انشغال الجنود بكاجا وخوفهم من غضب الأمير لو تمكن من الفرار بالفعل.. كان وجود الجنود قرب الباب يمنعهما من الخروج منه دون أن يسقطا في أيديهم، ثم وجدته رنيم يتناول مشعلاً معلقاً قرب الباب ويعود به إلى مجموعة صناديق وبعض القش الذي وضع جانباً.. فألقى المشعل فيه وتراجع خطوات والنار تلتهم القش وتتعاظم بسرعة لا تصدق..
نظرت له رنيم بدهشة وتساءلت بقلق "لمَ تفعل هذا؟.. كيف سنهرب الآن؟"
أجابها وهو يتراجع خطوات "لنترك الجنود ينشغلون بأمر هذه النار.. ونحن سنهرب من طريق آخر.."
جذبها خلفه وهو يعود لقلب المبنى، وهناك لاحظت رنيم تلك النوافذ التي تقع في موقعٍ مرتفع من حائط المبنى الخشبي.. لم تكن النوافذ مغلقة بل كانت عليها قطعتان خشبيتان متقاطعتان يمكن تهشيمهما بسهولة.. رأت آرجان يقترب من الحائط بحثاً عن طريقه للصعود للنافذة، فقالت بقلق "أنا لن أستطيع صعود هذا الحائط يا آرجان.."
تلفت حوله معلقاً "لا تقلقي.."
راقبت رنيم النار التي اشتدّت بقوة، وصياح الجنود المتعالي خارجاً بعد أن التهمت النيران جانباً كبيراً من هذا المبنى المصنوع من الأخشاب الجافة سريعة الاشتعال.. ثم لاحظت أن آرجان حمل أحد القيود المعدنية ذات السلسلة الطويلة والتي كانت تقيّد كاجا، ثم لفّها حول ذراعه وبدأ صعود المبنى معتمداً على العوارض الخشبية وكل جزء يسهّل عليه تثبيت قدميه أثناء الصعود..
ظلت رنيم تقلب بصرها بينه وبين النار والجنود بقلق، ثم وجدته بعد مشقة يصل للنافذة فيدفع قبضته بضربة قوية تلتها أخرى حتى استطاع تهشيم الخشب الذي يسدّ النافذة، عندها تطلع للخارج محاولاً معرفة الوسيلة الأمثل للنزول دون أن يخاطرا بنفسيهما..
سمع رنيم تقول بقلق "أسرع يا آرجان.."
عندها، دلّى السلسلة المعدنية بالقيد في نهايتها نحو رنيم قائلاً "تشبثي بهذه وسأرفعك.."
قالت بعينين متسعتين "هذا مستحيل.. سأكون ثقيلة جداً عليك.. ألن تسقط مع مجهود كهذا؟"
قال وهو يجلس على النافذة ويلفّ الجانب الآخر من السلسلة حول ساعده "لا تقلقي.. سأبذل جهدي لئلا أفعل.."
بعد شيء من التردد، تقدمت رنيم من السلسلة وتشبثت بها جيداً بيديها، عندها قام آرجان برفعها وهو يسحب السلسلة بذراعيه شيئاً فشيئاً ورنيم تراقبه بقلق كبير.. لكن آرجان استمر بعمله وهو يرفعها بكل ما يملك عندما فوجئ بذلك الجندي الذي ركض إلى رنيم وشدّها من ساقها بقوة.. أفلتت رنيم السلسلة بسبب المفاجأة وسقطت أرضاً بعنف، فصاحت بألم وهي تحاول ركل الجندي بقوة، لكنه جذبها معه وهو يصيح بآرجان بعصبية بلغته.. نظر آرجان للموقف بتوتر، بينما هتفت رنيم به "ارحل يا آرجان.. ارحل واستعد جايا قبل أن يقبضوا عليك مجدداً.."
نظر آرجان للنافذة القريبة، ونظر لرنيم بصمت.. بالفعل هذه هي فرصته الوحيدة لاستعادة جايا قبل أن يمنعه الجنود.. فهل يمكنه أن يفعل؟.. هل يترك رنيم وهو لا يعلم إن كان سيقدر على الوصول إليها من جديد؟.. سمعها تصيح بإلحاح "ارحل يا آرجان.."
ظل الجندي يسحبها مبتعداً وهو يلوّح لآرجان بتهديدٍ واضح، لكن آرجان شدّ عزمه وانسلّ من النافذة بصمت ليهرب من المبنى، بينما رنيم تراقبه بمزيج الراحة وشيء قليل من الإحباط.. ربما كانت في دخيلة نفسها تتمنى لو عاد لها.. تتمنى لو تعرف أنه يهتم بها بقدرٍ كافٍ لئلا يتركها في أيدي الجنود، بعد أن قطعت نصف العالم بحثاً عنه دون يأس..