"ألا زلتِ في وعيك؟.."
رفعت جايا بصرها حيث كانت حبيسة الجدران المصمتة والقيود تغلّ يديها بقسوة.. لقد مضت عدة أيام منذ قدومها لهذا المكان، وأمير هذه القلعة يهددها باستجواب قاسٍ لو لم تتعاون معه.. ومن بين هواجسها بهذا الشأن، فإنها فوجئت بهذه الجملة التي ألقيت عليها ودفعتها لترفع بصرها نحو المتحدث.. فرأت ذلك الوجه الذي يتكرر أمامها كل يوم بصمت حتى اعتادت وجوده.. كان ذلك أحد الجنود الذين يحرسون المكان في مناوبات متتالية، ولكن عوضاً عن الصخب والعربدة التي يثيرها أولئك الجنود في غفلة من رؤسائهم، فإن هذا الحارس كان يؤدي مهامه بصمت ولا يتعمد إثارة أعصاب السجناء بصخبه أو يتطاول عليهم بالضرب..
أخيراً نطقت جايا بحلق جاف وبالعربية "ما الذي تبغيه مني؟.."
قال وهو يحمل كرسياً ويضعه وسط زنزانتها "لاشيء.. مجرد تبادل الأحاديث.."
غمغمت "لن تعرف مني ما يريده رؤساؤك بهذا الأسلوب.."
ابتسم معلقاً "لست هنا لاستجوابك.. إنما لتبادل حديث عادي كما يحدث بين أي شخصين.."
قالت بضيق "ولمَ لا تتجه للسجناء الآخرين؟.."
هز كتفيه مجيباً "لا أحصل من بقية السجناء إلا الشتائم واللعنات، وهذا لا يُعدّ حواراً ناجحاً برأيي.."
زفرت وهي تدير بصرها جانباً، فقال وهو يسترخي على كرسيه "لا داعي لكل هذا الجفاء، لن يكون الأمر سيئاً صدقيني.."
فقالت بضيق "ما الذي تبغيه مني بالضبط؟.. محاولة استدراجي للحديث فاشلة بالتأكيد.."
قال باعتراض "كما قلت لك، لا أحاول استدراجك.. أنا لا أكاد أغادر القلعة، ولا أجد من أتحدث معه عادة.. وهذا سيصيبني بالجنون.."
فقالت بهزء "ورفاقك؟.. هل يبادلونك الشتائم واللعنات أيضاً؟.."
أجاب بابتسامة "أجل.. هذا ما يحدث عادة.."
نظرت له بشيء من الحيرة، فقال "ألم تلاحظي أنني الوحيد بين الجنود الذي يتقن العربية؟.."
لم يكن لهذا أي معنىً لديها فظلت تنظر له بالحيرة ذاتها، فقال وهو يستند بظهره على كرسيه "أنا لي بعض الجذور العربية.. جدي لأمي كان عربياً، وقد حرص هو وأمي على أن أكتسب اللغة رغم كوني من كشميت.. لذلك يمكنك تخيّل الكره الذي أواجهه من بقية بني قومي وهم يرون الملامح العربية واضحة في وجهي.. ولهذا السبب لم أحصل على عمل يتجاوز عمل جندي حراسة عادي مهما كنت متفانياً.. فلا أحد يقدّر عملي حتى لو كان ربعي عربياً فقط.."
تساءلت "وما الذي يجبرك على البقاء هنا مادمت تجد معاملة الآخرين ظالمة لك؟.. لمَ لا تذهب للعيش مع أجدادك العرب؟.."
قال بابتسامة "أتظنين أن حالي سيكون أفضل في الممالك العربية؟.. لا تنسي أنني أحمل دماء الكشميت، وهذا سيجلب عليّ نقمة العرب أيضاً.."
لم تستنكر قوله، بالنظر للكره الذي يواجه الهوت في الممالك العربية.. فقالت بعد لحظة صمت "أتتوقع مني تعاطفاً وأنا على هذا الحال؟.."
قال ضاحكاً "لست بائساً لهذه الدرجة.."
زفرت جايا بضيق وهي تنتظر اللحظة التي سيتركها فيه هذا الجندي لتخلو لنفسها ولهواجسها.. لتغرق في قلقها على حال آرجان، وقلقٌ أكبر على حالها هي.. لكن الجندي قاطع أفكارها من جديد قائلاً "الهوت أيضاً منبوذون في مملكة فارس.. أليس كذلك؟.. ما الذي يجبركم على البقاء في الموقع واحتمال ذلك الكره والتطاول من ملك المملكة؟.."
قالت بجفاء "أتتوقع منا أن ننهزم ونولّي الأدبار دون سبب مفهوم؟.. أجدادنا كانوا رحّلاً، لكننا استقررنا في تلك الأرض منذ عشرات العقود.. فلمَ علينا أن نتخلى عن هذه الأرض لأهواء ملك يملك آلاف الأميال من القارة العظمى؟"
غمغم معلقاً "معك حق.."
ثم تلفت خلفه قائلاً "يبدو أن موعد رحيلي قد جاء.."
ونهض حاملاً الكرسي مضيفاً "حسناً.. هذا كان حواراً ممتعاً.. أتمنى أن نكرره مرة أخرى.."
استوقفته جايا قائلة بصوت خفيض "ماء.."
نظر لها بتساؤل، فتجاوزت جفاف حلقها لتقول "على الأقل، اسقني بعض الماء لكي أتمكن من مواصلة الحديث معك.."
لم يجبها الجندي وهو يتلفت حوله، ثم خرج وأغلق الباب خلفه بصمت.. عندها ابتسمت جايا ابتسامة ساخرة وغمغمت "بالطبع لن يعبأ جندي من الكشميت لطلبٍ كهذا.."
وزفرت بحدة وهي تسمع الخطوات التي اعتادت سماعها كل يوم، وتنبئ بأن جلسة استجواب قاسية ستبدأ بعد قليل..
لا تعلم جايا، وهي حبيسة هذا السجن وسط الصحراء، كيف وصلت لهذا المكان.. ولا يمكنها تحديد كيف بدأ هذا كله، وكيف انهارت حياتها المسالمة في أحضان تلك القرية الجبلية برفقة أخيها الذي تحبه وتفخر به كثيراً..
هل يمكنها أن تحدد البداية بذلك الهجوم الغادر الذي قام به الملك عبّاد على قريتها وقتل عدداً من رجالها لتسقط هي وبقية الفتيات في الأسر؟.. هل بدأ هذا كله عندما تم نقلهن لقصر الملك في (الزهراء) ليعملن في خدمة الملك وحاشيته كأي جواري يمتلكهن؟.. أم عندما فكر الأمير زياد، وهو واقع تحت تأثير الشراب، أن يتفاخر أمامها بما يملكه الملك ويحط من قدر الهوت؟.. عندما أخبرها بلسانٍ مثقلٍ أن الملك قد وضع يده على أحد التنانين، وأنه قد قام بأسره في جانب من قصره بعيداً عن الأعين وينوي ترويضه لإضفاء المزيد من الهيبة والقوة لنفسه، فإنها لم تتمكن من الصبر على كل ما تسمعه.. علاقة الهوت بالتنانين علاقة مقدسة بالنسبة لهم، وتتجاوز علاقة شخص بحيوانه المروّض، بل هي أقرب لأخوّة غير مكتوبة وعلاقة وثيقة لم تتمكن معها من الصمت وترك التنين حبيس سجنه.. فالتنين الذي يطول حبسه يسقط مريضاً ويؤدي به ذلك للموت.. التنانين، كما الهوت، كائنات طليقة، تعشق الحرية وتعشق السماء.. تعشق الانطلاق وتكره القيود بأشكالها..
لذلك، كانت فرصة جايا الوحيدة هي في استجواب الأمير زياد.. فدأبت على مجالسته كل ليلة وصبّ الشراب في كأسه حتى يثقله السُّكر وينطلق لسانه بكل ما تريد معرفته عن ذلك التنين.. وأخيراً، بعد أيام طويلة، تمكنت من التسلل لذلك المبنى الذي سجن فيه التنين حاملة ورقة ممهورة بتوقيع الأمير زياد.. فأطلقت التنين السجين وهربت معه عائدة لقرى الهوت..
لكن، إن لم تكن تلك هي البداية، فهل كانت عندما غافلها بعض قطاع الطرق وأسروها مع التنين الذي كان واهناً بعد سجنه لوقت طويل في (الزهراء)؟.. لا تدري لمَ تم نقلها لميناء (مارِج)، ولمَ تم بيعها لرجل أدركت من النظرة الأولى أنه من الكشميت.. ولا تدري لمَ سيقت لمملكة كشميت ولقلعة (جمجات) بالذات رغم محاولاتها المتكررة للهرب..
لكن هنا، في هذه القلعة المحصّنة، وجدت القيود تطوّق يديها وعنقها، وبدأ أمير القلعة استجوابها بكل صرامة محاولاً الوصول لسرّ الهوت مع التنانين.. لمَ يعشق الجميع أسرَ تلك الكائنات الرائعة بهذه القسوة والعنف؟.. لماذا لا يؤمنون أن التنين لا يتخلّى عن حريته إلا بالموت؟.. لشد ما تجهل سبب ذلك..
واليوم، لم يتوانى الأمير عن استجوابها مستخدماً بعض العنف لإجبارها على إطاعته.. تباً له.. وتباً للكشميت.. وتباً للملك عبّاد وللعالم كله.. متى ستتمكن من الراحة من كل هذا الهمّ؟..
في تلك الليلة، وبعد أن أظلم المكان بشدة وجايا جالسة في موقعها بتعب وإنهاك بعد أن حرمها الأمير من الماء ومن الطعام إلا ما يمنعها من السقوط جثة هامدة، انتبهت لخطوات خافتة تقترب من بابها.. ولما فتح الباب، ورأت وجه الجندي الذي حادثها في ذلك الصباح، قالت بضجر وتعب "ارحل الآن.. لست في مزاج، ولا حالة، تسمح لي بالاستماع لتفاهاتك.."
لكنه لم يغادر وهو يتلفت حوله بحذر، ثم يقترب منها هامساً "عليك أن تقدّري المخاطرة التي أقوم بها بعصيان أوامر الأمير الصارمة.."
رأته يقدم لها كوباً فخارياً بائس المنظر يحوي بعض الماء، فلم تتردد جايا من تناوله وشرب الماء سيئ الطعم حتى الارتواء.. ولما أعادت الكوب إليه، قال بابتسامة جانبية "عليك أن تصبري كل يوم حتى الليل.. لا يمكنني منحك أي شيء في وضح النهار.."
تساءلت "ما هدفك من هذا كله؟"
نهض واقفاً وقال بابتسامة متسعة "كما قلت لك.. مجرد تبادل الأحاديث.."
ذهب ليخفي الكوب عن الأنظار، ثم عاد وجلس جانباً متسائلاً "أخبريني عن قرى الهوت.. كيف هي؟.."
قالت بسرعة "لن أتحدث عن أي شيء يخص الهوت أو التنانين.. اسأل عن أي شيء عدا ذلك.."
زفر مفكراً للحظة ثم قال "إذن ماذا عن (الزهراء)؟.. سمعت أنك كنت أسيرة لدى ملك بني فارس.. فكيف هي؟.. هل تختلف كثيراً عن (كاشتار)؟.."
قالت "لم أرَ (كاشتار) هذه في حياتي.."
فقال الجندي "إنها مدينة كبيرة ومنظمة كثيراً.. لكن ما يعيبها هو كثرة الأسوار حولها.. هناك ثلاث أسوار عالية تحيط بها.. الأول يحيط بقلعة الملك وحاشيته، ويضمّ أيضاً العلماء وأي شخص يمكن أن يساهم في تقدم المملكة وتطورها.. الثاني يحيط بالعامة من الشعب.. والثالث يحيط بالبشر الأكثر فقراً والمهاجرين من المناطق الأخرى.. في الواقع بدأ الكشميت في استيطان المناطق خارج السور أيضاً بحيث تمددت المدينة أكثر مما رُسم لها.."
تساءلت جايا "وفي أي جزء عشت أنت؟"
هز كتفيه قائلاً "أنا لم أكن هناك.. لقد جئت إليها فقط عندما حاولت الانضمام للجيش.."
فسألته جايا بشيء من الفضول "كيف قبلوا بضمّك للجيش رغم كرههم لك وللدماء العربية في عروقك؟.. هذا لا يمكن الاقتناع به.."
ابتسم الجندي مجيباً "لحسن حظي، أو لسوئه، كان أمير هذه القلعة موجوداً عندما تقدمت للانضمام للجيش.. كان في بداية تخطيطه لهذه العملية، وبحاجة لأي معاونة كانت للقبض على التنانين والهوت معهم.. لذلك عندما رآني، ولمح ملامحي العربية الواضحة، طرأت له فكرة ضمّي للجيش واستخدامي كجاسوس له في مملكة بني فارس.. بهذه الصورة، وبإتقاني للعربية، لن يشك أحد في أمري لو جُبتُ أرجاء المملكة بحثاً عن التنانين.."
غمغمت بغير اقتناع "لكنك مجرد جندي حراسة الآن.."
فقال دون أن تخفت ابتسامته "لأنني فشلت في مهمتي من اللحظة الأولى.. أتعرفين السبب؟"
وإزاء نظراتها المتسائلة، ضحك الجندي بقوة قائلاً "لأن العرب قد شكوا بكوني جاسوساً وقبضوا عليّ منذ البدء، وحجتهم بذلك أن ملامح الكشميت واضحة فيّ بشدة.. أرأيت شيئاً أكثر سخرية من هذا؟"
قالت جايا بتعجب "كيف يمكنك أن تهزأ من أمر كهذا؟.. ألا تشعر بالضيق للتناقض الذي تعيش فيه.."
هز كتفيه مجيباً "لا.. بل أراه يدعو للسخرية.. فبعد كل هذه الأعوام، لم تعد هذه الأمور تثير مرارتي وغضبي بتاتاً.."
ثم تلفت خلفه معلقاً "يبدو أنني أنا من قام بكل الحديث هذه الليلة.."
ثم لوّح بإصبعه نحوها مضيفاً "دورك في المرة القادمة أن تحدثيني عن الزهراء.. اتفقنا؟"
وغادر دون أن يحصل على إجابة منها وهي تغمغم "من الذي وافق على ذلك أيها الأبله؟"
كانت الأمور تزداد سوءاً لجايا يوماً بعد يوم، وبدأ الأمير يستخدم قسوة واضحة لإجبارها على التعاون معه، وكلف جندياً من الجنود للتفنن في تعذيبها لعلّها تتخلى عن عنادها.. ورغم ذلك، دأب الجندي على الجلوس معها بضع ساعات كل مرة والحديث في مواضيع شتى متفادياً التحدث عما لا تحبه.. كانت لا تزال تحتفظ بشكّها فيه، لكن ذلك لم يمنعها من استغلال وجوده لتناسي الحال التي هي فيها والمخاوف التي لا تتناساها لحظة واحدة..
ولما فقدت جايا عينها اليسرى، فقدت الوعي أيضاً لشدة الإنهاك والضعف في جسدها.. ولما استيقظت، وجدت أنهم تركوها حيث هي والجرح في وجهها ينزف دون أن يعبأ شخص لما قد يحدث لها..
أصدرت أنيناً متألماً ويداها المقيدتان متباعدتان عاجزتان عن الوصول للجرح وإيقاف الدماء بأي شكل كان.. لم تدرِ كم من الوقت مرّ عليها، ولما رأت الباب يفتح، أصابها شيء من الارتعاب خشية أن يعود الأمير لاستجوابها وهي في حالة يرثى لها.. لكنه كان ذلك الجندي الذي يصرّ على التحدث معها أثناء مناوبته.. رأته يقترب منها متعجلاً، وبقطعة قماشية وبعض الأدوية قام بتنظيف موضع الجرح وهو يتمتم "اصبري قليلاً.. سيزول الألم بعد أن ننتهي.."
نظرت له مغمغمة "ما الذي تفعله؟.. سيعاقبونك.."
قال بسرعة "لن يفعلوا بالتأكيد.."
نظرت له بحيرة، فقال بتوتر "لقد حملت شكواي إلى الأمير قبل قليل.. أخبرته أن الجندي المكلف باستجوابك سيتسبب بقتلك بسبب سوء تقديره، وأنك مهمة لنجاح التجربة التي يقوم بها، لذلك وافق على أن أقوم بعلاجك متجاوزاً أمره السابق لمرة واحدة.."
قالت بصوت خافت "لمَ تفعل ذلك؟.."
نظر لملامحها المنقبضة بألم مجيباً "الشفقة.. ربما؟.."
ضحكت بهزء معلقة "تشفق عليّ وأنت سجّاني؟.."
قال بتوتر "أنا أطيع الأوامر فقط.. لم أسعَ لما أنتِ فيه ولا يعجبني.. ولا أشارك فيه لو لم تلاحظي ذلك.."
غمغمت "لكنك من الكشميت.."
ربط رباطاً على عينها وحول رأسها قائلاً "كما أخبرتك.. أنا لست من الكشميت.. ولست عربياً كذلك.. في الواقع أنا لا انتماء لي.."
تساءلت "ولمَ لا ترحل؟.."
أجاب وهو يتفحص رباط عينها "إلى أين؟.. لا مكان لي في أي أرض أخرى.. ولا يبقيني في هذا المكان إلا لأنه أفضل من أرض لا أعرفها وبشر لم أرهم قط.."
أمسكت يده بيدها بقوة وقالت "ارحل.."
نظر لعينها التي تبدّى فيها بعض الأمل وهي تقول بشيء من اللهفة "ارحل.. وخذني معك.."
نظر لها بشيء من الاستنكار، فقالت محاولة إقناعه "سآخذك لقريتي.. الهوت لا يكرهون أحداً بسبب هويته.. صحيح أننا منغلقون على أنفسنا في قرانا، لكنهم سيرحبون بك بشدة لو علموا أنك قد أنقذتني.."
قال باعتراض "لا يمكنني خرق الأوامر بهذه الطريقة.."
نظرت له بسخرية قائلة "أوامر من؟.. أتعبأ حقاً بهذه الأوامر وأنت سجين هنا؟.."
نظر لها بدهشة، فقالت بإصرار "بلى.. أنت سجين كما أنا سجينة بالضبط.. وظنُّك أنك تستطيع الرحيل متى شئت هو خدعة بالتأكيد.. قيودك هي الأوامر والتعليمات التي تقيد روحك لهذا المكان ولمدة لا يعلمها أحد.."
ظل يستمع لها بصمت وبعض التفكير، لكن سرعان ما نفض هذا كله وهو يلملم أغراضه ويقف قائلاً بإصرار "مستحيل.. لا يمكنني فعل ذلك.."
وغادر تاركاً جايا تراقبه بضيق، ثم أسندت رأسها للجدار خلفها وهي عاجزة عن الاستلقاء بسبب قيودها القصيرة التي تثبت ذراعيها للجدار.. لوهلة، تناست الألم القوي الذي تشعر به عندما راودها بصيص أمل بأن تتمكن من الخروج من هنا.. لكن ذلك الجندي المستسلم لحياته الشقية قد أزال كل أمل راودها ولو للحظة.. فغمغمت لنفسها زافرة "هذا الجندي يحتاج لدفعة صغيرة، وبعدها سيدرك واقعه بشكل أفضل ويسعى للحرية كما أسعى لها أنا.."
في الليلة التالية، استدعت جايا سجانها من موقعها الذي لا تكاد تغادره، ولما رأته ينظر لها من كوّة في الباب الحديدي، قالت "أتخشى من دخول زنزانتي هذه المرة؟"
تلفت حوله للحظات، ثم فتح باب الزنزانة متسائلاً "ما الأمر؟.. هل عاد الألم من جديد؟"
قالت بابتسامة شاحبة "لا.. لقد سئمت من بقائي وحيدة هنا وأريد تبادل الحديث معك.. أليس هذا ما طلبته مني سابقاً؟"
نظر لها بتعجب، لكنها لم تعبأ لدهشته وبدأت تحدثه عن كل ما عرفته ورأته في سنواتها الأربع والعشرين.. حدثته عن الجبال العالية التي تحتضن تلك القرية الصغيرة في قلبها.. حدثته عن القرية ومنازلها الجميلة وطرقاتها الحجرية.. حدثته عن شعب الهوت الذي يمتاز باللطف، ما لم يعتدِ عليه أحد، عندها ينقلب الكلب الأليف إلى ذئب شرس لا يتردد في الانتقام ممن تسبب في إيذاء رفاقه.. حدثته عن تاريخ الهوت في ذلك المكان.. حدثته عن كل بقعة رأتها في رحلاتها مع أخيها على ظهور التنانين.. تحدثت غير عابئة بجفاف حلقها وبتعبها وألمها على أمل أن تبث بعض العزيمة في ذلك الجندي.. ولما رأت عيناه تتسعان وهو يستمع لها باهتمام، أدركت أنها كسبت هذه الجولة.. بقي فقط أن تحصل على النتائج التي تمنتها..
ولما ختمت حديثها، مع طلائع الفجر التي لاحت من النافذة الصغيرة في أعلى الجدار خلفها، غمغم الجندي سارحاً "يبدو أنك عشت حياة جميلة وهانئة في أحضان تلك الأرض.."
ظلت تنظر له بشيء من الأمل وهو يفكر بحيرة بكل ما سمعه، ثم رأته ينهض بصمت ويغادر المكان دون أن تبدر منه إشارة لعزمه على الرحيل.. فزفرت جايا بشيء من الضيق، وحاولت الاستسلام للنوم علّ ذلك يهدئ آلام جسدها العديدة.. لكن هيهات أن تحصل على بعض النوم في هذا المكان البائس..
وبعد نهار طويل واستجواب عسير صمدت فيه جايا وكل ما تفكر فيه هي قريتها المسالمة ووجوه أهلها الباسمة، فإنها مع غروب شمس ذلك اليوم استسلمت لضعفها وذرفت الدموع ببؤس وهي مطرقة في سجنها المظلم الكئيب.. سالت دموعها وهي بلا حول ولا قوة، لا تقدر حتى على مسح ما بلّل خديها.. حتى متى عليها أن تصبر على كل هذ؟.. حتى متى عليها أن تقاوم؟.. حتى متى؟..
وبعد بضع ساعات غرقت فيها جايا في البؤس والعذاب، سمعت الباب يفتح وصوت الجندي يسألها بهمس "أأنت بخير؟"
لم تجبه وهي تودّ لو تسخر من هذا السؤال، لكنها لم تكن تملك أي طاقة لذلك، فتقدم منها متسائلاً بقلق "ما الأمر؟.. سمعتك تبكين لبعض الوقت، وأقلقني هذا بشدة، لكني لم أستطع التدخل قبل الآن.."
قالت بمرارة وصوت يرتجف "ألا ترى في حالي ما يبكي؟.. أترى أنني يجب أن أقضي أيام السجن والعذاب هذه ضاحكة؟.."
زفر وهو يتطلع لدموعها التي عادت تنهمر من عينيها، ثم قال لها "هيا بنا.."
رفعت بصرها إليه بدهشة، ففوجئت به يفتح أقفال يديها وقدميها بمفاتيحه، ثم ساعدها على النهوض وهي تسأله بدهشة "ما الذي تنوي فعله؟"
قال بتوتر "ما تطلبينه مني كل يوم.. أن نهرب من هذا المكان.."
نظرت له باستغراب، فقال "لقد فكرت في حديثك طويلاً منذ البارحة.. ولا أجد ما يجبرني على احتمال هذه الصحراء واحتمال قسوة سكانها.. سنرحل، ولنأمل أن تكون الحياة هناك جميلة كما تصورينها.."
وجدت جايا نفسها عاجزة عن الوقوف بتعب بعد أن هزلت ساقاها لقلة الطعام الذي يُمنح لها ولجلوسها دون حراك ساعات طويلة، فوجدته يحملها على ظهره بخفة وهو يقول "لنذهب.. علينا استغلال هذه الفرصة قبل أن تفلت من أيدينا.."
قالت بخفوت وقلق "ماذا عن بقية الجنود؟"
أجاب الجندي "لقد اجتمعوا للاحتفال في جانب القلعة ولم يبقَ، أو يتطوع، غيري لحراسة السجناء.. فاليوم هو يوم توحيد المملكة، والأمير يسمح لهم ببعض التسيّب لبضع ساعات فقط.."
رفعت جايا حاجبيها بدهشة لهذه المصادفة التي ستصبّ في صالحهما بالتأكيد.. بينما سار بها الجندي بقلق وهو يتلفت حوله حتى عبر الممر الضيق بين السجون ووصل للدرجات التي تؤدي للأعلى.. فهمست جايا "ألن ننقذ البقية؟"
قال بسرعة "هل تريدين الإعلان عن هربنا في هذه اللحظة؟.. علينا أن نهرب بأسرع ما نستطيع لنبتعد عن القلعة قبل أن يفطن أحد لغيابنا.. وبعدها، يمكنك أن تبلغي عشيرتك بكل ما يجري هنا وتطلبي منهم إنقاذ هؤلاء البؤساء.."
لم تعترض جايا وهي أضعف من أن تجادل.. لقد كانت قد قررت القرار ذاته عندما هربت بالتنين من قصر الملك عبّاد عازمة على استدعاء بقية الهوت لإنقاذ الفتيات الأسيرات.. ولم تعتبر ما فعلته أنانية أو خسّة منها تجاه الباقيات.. والآن تفعل الأمر ذاته مرغمة مع هؤلاء السجناء..
سار بها الجندي عبر الدرجات الصاعدة، لكنه لم يتوقف عند الطابق الأرضي ويغادر هذا المبنى، بل أكمل سعيه للمواقع العليا منه بخطوات حثيثة.. وفي أعلى موقع تصل بهما هذه الدرجات، رأت جايا أن الباب المفتوح أمامهما يؤدي بهما لسطح المبنى ولموقعٍ قريبٍ من السور المحيط بالقلعة ولا يفصلهما عنه إلا متر واحد يمكنهما تجاوزه قفزاً.. لم يتردد الجندي وهو يطلب منها التشبث به، وركض ليتجاوز بقفزة محدودة تلك المسافة الصغيرة ويصل بها إلى السور الذي يحيط بالقلعة كلها ويطل على مساحات شاسعة من رمال الصحراء.. كتمت جايا تنهيدة وهي تنظر للسماء بشوق واضح، بينما تلفت الجندي حوله قائلاً بقلق "أرجو أن يكونوا مستمرين في عربدتهم لوقت أطول.. وقوفنا هنا سيفضحنا على الفور لو مرّ جندي في ساحة القلعة.."
وتقدم من موقع معين في السور وجايا تسأله "كيف سنهبط الآن؟.. وما الذي سنفعله بعد أن نصبح في الجانب الآخر من القلعة؟"
قال بسرعة "لقد تدبرت الأمر.. جهزت حبلاً أخفيته في جانب السور في موقع غير مرئيّ.. سنهبط بواسطته حتى نصل لموقع هيأته ليعاوننا على تجاوز الخنادق المحيطة بالقلعة.. وهناك سنمتطي حصاناً ينتظرنا في ذلك الجانب سينقلنا لأقرب مدينة يمكننا الاختباء فيها حتى نرحل بواسطة سفينة من السفن.."
فتحت جايا فمها لتعلق على ذلك، عندما تعالى صوت من خلفهما يقول ببرود "ما هذه الخطة الساذجة؟"
استدار الجندي بسرعة وشيء من الارتعاب ليرى الأمير يقف خلفه مع أربعة من جنوده دون أن تبدو على ملامحه الهادئة أي غضب.. فأضاف الأمير "لو كنتَ تفكر بخيانتي، فعليك أن تستخدم خططاً مبتكرة.. بهذا، على الأقل، أشعر بشيء من الإعجاب لجرأتك.. لكن بخطة هزيلة كهذه، ما الذي تأمل بفعله حقاً؟"
تلعثم الجندي وهو يتراجع خطوات متسائلاً "كيف؟.. أنت......"
ابتسم الأمير ابتسامة قاسية وهو يقول "أنا ماذا؟.. أظننت أنني غافل عن أمرك بهذه الصورة؟.. لقد كانت لي شكوكي، وأنت أكدتها عندما توسلت لعلاج الفتاة من ذلك الجرح.. عندها، أدركت أنك ستقوم بتهريبها في أقرب فرصة ممكنة.. ولا يمكن لشخص عاقل أن يقوم بتفويت فرصة كهذه الليلة.."
وبإشارة من يده، قام أحد المرافقين للأمير بالتقدم من الجندي فجذب الفتاة منه بقوة والتي انهارت على الفور أرضاً دون أن تتمكن من الوقوف.. وبينما تقدم الأمير من الجندي الذي تراجع خطوات أخرى، فإن جايا صاحت بصوت مبحوح "كيف يمكنك أن تكون بهذه القسوة؟.. هل ما تتمنى تحقيقه يستحق كل هذا العذاب الذي نمر به؟.. هل يمكنك أن تنام كل ليلة بعد كل الألم الذي تسقيه لسجنائك؟"
نظر إليها ببرود مغمغماً "أمن المفترض أن يحرك هذا القول مشاعري؟"
نظرت جايا له بمرارة وقد أدركت أن هذه قد تكون فرصتها الأخيرة للفرار، ولو كانت تملك بعض القوة في جسدها لنهضت وقفزت من فوق السور نحو الجانب الآخر من القلعة حتى لو عنى ذلك موتها.. ثم رأت الأمير يتقدم من الجندي ويمسك مجمع ملابسه دون أن يقاومه الجندي المرتعب، بينما قال الأمير بقسوة "كنت أدرك أن دماءك القذرة لن تسمح لك بإطاعة الأوامر بشكل كامل.. أنت لست من الكشميت، ولم تكن منهم أبداً.. كان عليك أن ترحل من هذه المملكة التي لا تنتمي إليها.. لكنك فضلت البقاء وفضلت طعني في ظهري بكل صفاقة، أليس كذلك أيها العربي؟.."
فتح الجندي فمه بتلعثم، لكن الأمير لم يتمهل للحظة وهو يدفعه بقوة، ليجد الجندي نفسه يتجاوز السور ويهوي من ذلك الارتفاع الذي يتجاوز عشرة أمتار ليسقط بصمت وسط الحجارة المدببة التي حرص الأمير على أن تحيط سور القلعة من كل الاتجاهات..
صاحت جايا بارتعاب وهي تشهد ما جرى "ما الذي فعلته؟.. أليس هذا جندياً من جنودكم؟"
قال الأمير وهو يتقدم منها فيجذبها بقسوة من ذراعها "لا.. لم يكن كذلك منذ البدء.."
قرّبها من حافة السور وأجبرها على النظر من فوقه قائلاً "انظري.. هذه هي حريتك.. لقد صارت أشلاء لا رجاء منها.. لذلك، عليك أن تستسلمي وتتعاوني معي.."
صمتت جايا بشفتين ترتجفان وهي تحدق رغماً عنها في ذلك المنظر الذي لن تنساه ما بقي لها من العمر.. حاولت أن تتذكره وهو يحدثها مبتسماً في زنزانتها، حاولت تذكر بعض ما كان يقوله لها في تلك الليالي.. لكن كل ذلك كان يختفي مع منظر جسده الساكن وسط الحجارة المدببة والدماء التي أغرقت جانباً كبيراً من تلك الحجارة وملامح وجهه التي غابت عن عينيها من بين الدماء..
وبينما أفلتت دمعة من عين جايا، فإن الأمير قال بسخرية "أتمنى أن يكون هذا المنظر دافعاً معنوياً كبيراً لك لتتجاوبي معي كما أرغب منك.."
لو كان الكشميت يعاملون رجلاً منهم بهذه الصورة، فما الذي سيفعلونه في قرى الهوت عندما يحاولون وضع أيديهم على التنانين؟.. دفعت جايا نفسها لتقول بصوت مرتجف "لن أتحدث.."
ابتسم الأمير وقرّب وجهها منه بأصابع قاسية وهو يقول "ستتحدثين.. صدقيني يا فتاة ستفتحين فمك ولن تغلقيه إلا بعد أن تخبريني بكل ما أبغيه.."
قالت جايا وهي تحاول تخليص وجهها من أصابعه "أتراهن على ذلك؟.."
اتسعت ابتسامته الساخرة وهو يجيب "أراهنك.. أراهنك على ذلك بحياتي يا فتاة.."
واستدار مبتعداً تاركاً جايا تنظر للجسد الساكن من فوق السور وتغمغم بمرارة "يا للبؤس.. أنا لم أسأله عن اسمه قط..."
وجدت أحد الجنود يسحبها دون رفق عائداً بها لزنزانتها.. وبينما استسلمت جايا ولم تحاول المقاومة، فإنها شعرت بروحها تظلم بشكل تام، وذلك النور الذي كان يبدو لعينها ويتسلل منه الأمل، قد انقطع بشكل تام ولم يبقَ إلا الظلام الحالك الذي ساد كل شيء..