الفصل الثاني

وقفت رنيم بشيء من التوتر وهي تلملم أطراف ثوبها وتتأكد من هيئتها مواجهة الأبواب المزخرفة والمذهبة التي تفصلها عن قاعة عرش الملك.. عدّلت خصلات شعرها البني الجميل وشدت جسدها لتمنحه طولاً بالإضافة لما اكتسبه من حذائها ذي الكعب العالي.. ولم تتوقف عن حركتها الملولة والمتوترة حتى سمعت صرير الأبواب وهي تفتح ونداء باسمها يتردد عبر القاعة..


وعندما فتحت أبواب تلك القاعة، تعلق بصر الملك وبقربه ضيفه وسفير مملكة بني فارس بتلك الفتاة التي سارت بخطوات هادئة وابتسامة خفيفة تخفي تحتها توتراً وارتباكاً شديدين.. بينما وقف ولي العهد الأمير غياث قرب كرسي أبيه الملك قصيّ وقد ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه..
كانت رنيم تكره تلك المظاهر والبهرجة التي لا تلائم روحها وتصيبها بالاختناق، لكنها وبتوصيات مشددة من أمها بذلت جهدها بالفعل لتتحكم بانفعالاتها وبتوترها وأن ترسم ابتسامة جميلة على شفتيها على أمل أن تنال إعجاب الوزير الذي سيرفع تقريراً لخطيبها المستقبلي بكل ما سيراه..
بعد وقت بدا لها طويلاً، وهي التي لم تعتد مثل هذا السير الهادئ، وقفت الفتاة بظهر مستقيم وأمسكت جانب ثوبها بيد وهي تحني رأسها بخفة قائلة "مولاي.. يسعدني المثول أمام سموّك وسموّ الوزير الأعظم لمملكة بني فارس العظيمة.. هذا شرف لي لم أطمح به يوماً.."
سمعت الرجل يقول "لست الوزير الأعظم.. إنما أنا أحد الوزراء التابعين لمجلس الوزراء في المملكة.."


غاص قلب رنيم في صدرها لهذا الخطأ الذي قد يكلفها الكثير وهي تلاحظ الضحكة التي كبتها غياث بصعوبة.. لمَ لمْ تنتبه لتوصيات أمها المطوّلة وسرحت في عوالم أخرى في وقت حرج كهذا؟.. تداركت الأمر بما تملكه من لباقة قائلة "أنا آسفة.. عندما لمحتك يا سيدي عند دخولي القاعة، تيقنت من رؤيتي للأبّهة التي تبدو عليك أنك لا يمكن أن تكون أقل من الوزير الأعظم.."
وأحنت رأسها من جديد مضيفة "اعذرني لهذا الخطأ يا مولاي.. رغم أنني لازلت مصرة أن منصب الوزير الأعظم يليق بك أكثر من أي شخص آخر.."
لمحت بطرف عينها ابتسامة متسعة على شفتي الوزير وهو يلتفت للملك قائلاً "لديك ابنة جميلة وذات أخلاق عالية.. لا أظن ولي العهد يطمح بالحصول على أفضل منها.."
غمرت الراحة رنيم لرد فعل الوزير على قولها بينما علق الملك بفخر "طبعاً.. يكفي أنها ابنتي.."
جلست رنيم على أحد الكراسي المذهبة المصطفة في وسط القاعة على جانبي الممشى بالسجادة الحمراء ذات النقوش الكبيرة على شكل تعريشات ورود وعصافير زاهية الألوان.. بينما أضاف الوزير بابتسامة "ولي العهد قد خطب عدداً من فتيات العائلات المالكة في أرجاء القارة، لكن أياً منهن لم ترُق له.. لكن أظن أنه سيعثر على مبتغاه عندك يا مولاي بالتأكيد.."
لم يبدُ الاهتمام على وجه رنيم لهذا القول.. هي لا تهتم بالمناصب وليس الزواج من طموحاتها الحالية.. لكنها مضطرة لمجاراة البقية مع الوعيد الذي هددتها به أمها الملكة.. يجب أن تنجح هذه المقابلة، وتنال إعجاب الوزير ومن ثم ولي العهد.. ويجب أن يتم هذا الزواج بأي صورة كانت.. لكن ماذا عنها هي؟.. في الواقع ليس لرنيم أي طموح ثوري، ولا تملك القدرة على تغيير واقعها أو اختيار مستقبلها بأي شكل كان.. كل ما تملكه هو إحناء رأسها وترك العاصفة تمر، واستراق بعض المتعة من انغماسها بقراءة الكتب ورعاية الحيوانات التي تحبها بشكل يفوق أفراد عائلتها الكبيرة..
ورغم وصايا أمها، لكن رنيم مقتنعة أنها لن تنال إعجاب ولي عهد مملكة عظيمة كمملكة بني فارس التي تتقاتل بقية الممالك للحصول على حظوة لدى ملكها.. هي لا تملك الجمال الذي يجذب الأنظار، خاصة بالنسبة لشخص يرى أنواعاً وأشكالاً من الفتيات الساعيات لنيل إعجابه والحصول بالتالي على مكانة في قصره.. فقامتها التي لا تملك أي طول يتجاوز الطول العادي، وجسدها المتوسط بغير أن يبدو لافتاً للنظر بدون الملابس الزاهية والمشدّ الذي يمنحها خصراً لا تملكه، وبشرتها التي تحمل شيئاً من السمرة بسبب طول مكثها في الشمس، كلها تجعلها تبدو عادية المظهر ولا تحمل جمالاً مبهراً كالذي قد يرجوه ولي عهد مملكة بني فارس.. إن استثنينا شعرها الطويل البني والذي يتموج تموجات جميلة.. وعيناها الخضراوان اللامعتان بنباهة ملحوظة.. هي فتاة نبيهة وتملك صفات لا تتحلى بها فتيات أخريات، لكن تلك الصفات لا تفيدها كزوجة لولي العهد والملك المستقبلي.. كل ما هو مطلوب ممن يختارها الأمير هو جمال فائق وابتسامة جذابة وخصوبة عالية لتنجب ولي عهده المستقبلي بأسرع ما يمكن.. وبهذا تضمن لنفسها مكانة في تلك المملكة، وتضمن لزوجها أن يستمر نسله في وراثة تلك المملكة التي توارثتها عائلته لخمسة عشر جيلاً.. هذه هي الحقيقة المؤسية لمنصب زوجة الملك والذي تتنافس عليه الأميرات أشد التنافس.. ولهذا السبب بالذات فإن رنيم تودّ التنازل عن هذا الشرف بكل أريحية، لكن رأيها مرفوض جملة وتفصيلاً في قصر أبيها..
بعد أن أنهى الرجلان حديثهما القصير، ورنيم صامتة في خيالاتها الخاصة وهي تراقب السماء من النوافذ العريضة، فإنها انتبهت عندما لوّح لها الملك بيده علامة الانصراف.. فلم تعلق رنيم وهي تقف محنية رأسها بخفة، ثم استدارت رافعة رأسها وسارت بهدوء حتى غادرت القاعة واختفت عن ناظري الملك وضيفه.. وبعد أن أغلقت الأبواب خلفها، زفرت رنيم بقوة وهي تحني كتفيها متخلية عن تلك الاستقامة وهي تغمغم "تباً.. هذا عسير حقاً.."
وسارت بخطوات واسعة وسريعة عائدة لجناحها للتخلص من هذه الأثقال التي تقيدها، وسرعان ما لحقها شقيقها الأكبر وولي العهد غياث وقال "أتعرفين أنني شعرت بالذهول عندما رأيت تلك المسرحية في قاعة الملك؟.. عليك أن تقدري الصدمة التي شعرت بها عندما رأيت تلك الأميرة التي استبدلت القرد الصغير الذي هو شقيقتي.."
قالت له رنيم بابتسامة جانبية "اهزأ كما يحلو لك.. لو سمعت جانباً من الوعيد الذي صبّته أمي على رأسي فستدرك مقدار الجهد الذي كان عليّ بذله لأبدو في تلك الصورة.."
غمغم غياث وهو يتبعها بخصوات واسعة "أنا واثق أنها سعيدة بهذه الفرصة التي تمكنها من التفوق على الملكة الأولى بشيء ما على الأقل.."
همست رنيم "وما ذنبي أنا؟"


لم يعلق غياث بينما زفرت رنيم وهي تتركه وتسير بخطوات سريعة وقوية عبر ممرات القصر.. ولما دلفت جناحها، وجدت جمعاً من الفتيات هنّ شقيقاتها الخمس وثلاث من بنات عمّها واللواتي هتفن فور رؤيتها "ما الذي جرى؟.. هل نلتِ إعجاب الضيف؟"
علّقت صافيناز "أتمنى ألا تكوني قد تصرفتِ على طبيعتك وأحرجتِ الملك أمام ضيفه.."
غمغمت رنيم بشيء من الضيق "طبعاً لم أفعل.. لست حمقاء لأفعل فأجد أسنان أمي تطبق على رقبتي بغلّ.."
ضحكت الفتيات من قولها بينما صاحت شقيقتها الصغرى سهى التي تفوقها جمالاً ورقة وكل صفة أخرى تتمنى رنيم لو كانت تتحلى بها "يا لحظّك الباهر.. ولي عهد مملكة بني فارس؟.. من أين لنا بزوج مثله بعد أن اقتنصتِه أنت؟"
مطت رنيم شفتيها قائلة "بودّي التنازل عنه لك لو كان لي الخيار.. أنت تعلمين أن هذا الزواج هو آخر ما قد أتمناه في الحياة.."
قالت ابنة عمها الثانية بعتاب "هل تحاولين إثارة غيرتنا بهذا القول؟.. أنت تعلمين أن نصفنا يحلم بزواج كهذا.."
قالت رنيم وهي تخلع زينة شعرها "لكني لا أكذب.. أنا حقاً لا أتمنى هذا الزواج.."
ونظرت من النافذة للمدينة القريبة مضيفة بتنهيدة "لو كان لي الخيار في الزواج من ملك أو من غجري من الغجر الرحّالة، لاخترت الأخير دون تردد.. على الأقل، سأرى في ترحالي معه عوالم لم أرَها إلا من نافذة جناحي الضيقة.."
قالت صافيناز بحزم "أتظنين أن أباك سيزوجك من غجري أو حتى من شخص يقل عنك مكانة بهذه السهولة؟.. سيفضّل دفنك في هذا القصر عن منحك الفرصة لأن تضعي رأسه في التراب.."
تنهدت رنيم معلقة "لو كان سيفعل، فأفضل أن يحبسني في أعلى برج في القصر حيث يمكنني رؤية السماء.. أو أن يغلق عليّ أبواب مكتبة القصر الضخمة.. بعدها لا أطلب شيئاً من دنياي هذه.."
ضحكت سهى معلقة "يا لك من جاحدة.. الدنيا فيها من المسرّات ما يفوق بضع كتب ستؤدي بك للجنون بكل جدارة.. لماذا تقسين على نفسك بهذه الطريقة؟"
قالت رنيم وهي تخلع ثوبها بالمشدّ الضاغط على خصرها "لستُ أقسى ممن أجبرنا على ارتداء هذه الملابس المستحيلة لنمتع أنظارهم.."
تضاحكت الفتيات على قولها الذي لم يكن غريباً عليهن بينما سارعت صافيناز لمعاونتها.. كن يعرفن رنيم حق المعرفة، ويعرفن أنها تكره تلك المظاهر التي تتطلبها حياتها كأميرة.. كانوا يعلمون أنها تتوق للخروج من هذه المملكة ومن قيود القصر التي تجد أنها لا تطاق.. وتتوق لرؤية عالم آخر أكثر بهجة وانطلاقاً من العالم الذي تعيش فيه.. وبما أن تحقيق ذلك مستحيل، فقد استعاضت عن ذلك بالانغماس في قراءة أصناف وأشكال متنوعة من الكتب التي تحمل ذلك العالم إليها، ولا تكون بحاجة إلا لبعض الخيال لتعيش في تلك العوالم بالفعل..



في تلك الليلة، قالت الملكة الأولى لزوجها الملك وهي تتناول العشاء معه "ما الداعي لاستدعاء رنيم لمقابلة الوزير؟.. ملك مملكة بني فارس لم يحدّد ابنة معينة من بناتك للزواج من ابنه ووريث عرشه.. أما كان المفترض أن تقدم له أجمل بناتك؟.."
قال الملك "هل منبع اعتراضك أن رنيم ليست ابنتك؟.."
قالت الملكة بسرعة "لا.. لكن رنيم معروفة بعدم تقيدها بالقوانين وبكونها لا تتحلى بأي ميزة بين الأميرات.. إن ابنتي سهى أجمل وأكثر لطفاً وحصافة منها.. ماذا لو استاء الملك أو ابنه من تصرفات رنيم؟.. سنكون بذلك خسرنا زوجاً لابنتك، وفوق كل ذلك خسرنا حليفاً قوياً كان من الممكن أن يعين مملكتنا بشتى الطرق.."


قال الملك "الملك عبّاد مصرّ على مصاهرتنا، لذلك لم يحدد أي أميرة يرغب بتزويجها ابنه.. رنيم تكاد تبلغ العشرين من عمرها ولم يتقدم للزواج منها أي من أمراء وأعيان الممالك الأخرى، وبذلك هي تخسر فرصتها للزواج بسرعة كبيرة.. زواج وريث مملكة بني فارس هي فرصتها الأخيرة، ولو رفضها ذلك الأمير، فيعني ذلك أن أي شخص آخر لن يعدّها مؤهلة للزواج بتاتاً، وستبقى في قصري تأكل من طعامي لآخر يوم من حياتها.."
ونظر للملكة بحدة قائلاً "وهذا ما لن يحدث بتاتاً.. لذلك، من مصلحتها أن تنجح هذه المرة.."
دمدمت الملكة متذمرة "كيف تتوقع من تلك الفتاة أن تتحلى بالتهذيب الكافي لتنال إعجاب الأمير الذي ولاشك رأى أصنافاً عديدة من الأميرات؟!"
قال الملك بحزم "ستفعل ذلك رغم أنفها.."
صمتت الملكة للحظات وهي تعبث بطعامها مفكرة، ثم قالت بابتسامة "أنت تعلم أن كل ولاة مملكتك يتمنون مصاهرتك.. ما رأيك بأن نزوج رنيم أحدهم بينما تتزوج سهى ولي عهد بني فارس؟.. لا نريد أن نخسر حليفاً قوياً بسبب تصرفات ابنتك غير المسؤولة.."
قال الملك بحدة "أتريدين أن أزوج بنتاً من بناتي لوالٍ يعمل عندي؟.. هل جننتِ؟"
قالت الملكة بارتباك "لست أعني ذلك، لكني أفكر بمصلحة مملكتنا الضعيفة أصلاً والتي بحاجة لحليف وسَنَدٍ قوي.. لذلك....."
ضرب الملك الطاولة بيده قائلاً "رنيم ستتزوج ولي عهد بني فارس.. هذا قول قاطع.. أما سهى، فلا تزال في الرابعة عشر من عمرها.. لا تزال تملك فرصة كبيرة لنيل زوج كفء لها.. فلا داعي لإطالة هذا الحديث.."
مسح فمه بمنشفة قريبة ورماها جانباً وهو يغادر قاعة الطعام.. فزفرت الملكة بحنق ودمدمت "لماذا اخترتَ تلك الفتاة بالذات؟.. إنها لا تستحقه.. ولا تستحق ما ستحصل عليه بهذا الزواج.."
ونهضت بدورها عازفة عن إتمام طعامها وفكرة واحدة تدور في رأسها.. لابد من علاج سريع لهذه الزيجة غير المتكافئة.. علاجٌ لن يثير غضب زوجها الملك ولن يغيّر رأي الملك عبّاد في مصاهرتهم.. فأين هذا الحل المثالي؟..

*********************
مرت عدّة أيام على مبعوث الملك عبّاد في قصر الملك قصيّ، لم يلبث بعدها أن رحل عائداً لمملكة بني فارس محمّلاً بهدايا ووصايا من الملك قصيّ فيما يخص هذه الزيجة.. ومع رحيله، فإن رنيم تنفسّت الصعداء بشيء من الراحة ظناً منها أنها ستُترك وشأنها في الأيام التالية.. كل همها كان أن تعود لتقضي وقتها فيما تحب، وتنسى هذا الزواج الذي لم ترْتح له لسبب أو لآخر..
وعندما استدعاها الملك بعد أقل من إسبوعين، فإنها لم تملك نفسها من التأفف بشيء من الضيق.. لقد تردد اسمها على شفاه جميع من في القصر في الشهر الماضي ما يتجاوز سني عمرها كله.. فما الذي جرى؟.. هل يستحق هذا الزواج أن يعكر صفو حياتها بهذا الشكل دون أن تتمكن من الاعتراض؟.. نظرت لوصيفتها صفية التي وقفت قريباً وقالت "أأنتِ واثقة أن الملك قد طلبني أنا؟.. ربما لم يكن يعني أنه يريد مثولي أمامه.."
قالت صفية بإلحاح "بل هو يطلبك حالاً.. لم أنت متكاسلة كثيراً؟.. وكأن من ستتزوج هي فتاة أخرى لا تربطك بها أي صلة.."
دمدمت رنيم وهي تدفن بصرها في الكتاب بين يديها "لم أكد أُنهِ أي كتاب منذ عدة أيام لكثرة المقاطعات التي تلاحقني من كل جهة.."
سحبت صفية الكتاب من يدي رنيم بهدوء قائلة "ليست هذه الكتب هي المهمة الآن.. اذهبي للقاء الملك لكيلا تصبّ الملكة الثانية غضبها عليّ لهذا التأخير.."
لم تتمكن رنيم من الاعتراض وهي تزفر بحدة.. ثم نهضت وتأكدت من هندامها لئلا تواجه تعليقات حانقة من أمها فيما يخص مظهرها، قبل أن تغادر نحو قاعة العرش حيث يقضي الملك أغلب أوقاته في النهار.. وخلال وقت قصير، كانت رنيم تحني رأسها للملك بهدوء قائلة "هل طلبتني يا مولاي؟"
قال الملك ملوحاً بيده "ارفعي رأسك.. لقد أرسل إليّ الملك عبّاد برسالة قبل قليل يؤكد فيه رغبته بمصاهرتنا.."
سمعت رنيم شهقة صدرت من أمها التي وقفت جانباً وملامحها تنطق بسعادة تامة، بينما لم تبدُ أي سعادة مماثلة على ملامح رنيم التي قالت "هذا خبر جيد، مادام سيسعدك يا مولاي.."
لم يعلق الملك على ردها البارد وهو يضيف "أريدك أن تستعدي للرحيل نحو مملكة بني فارس خلال أقرب وقت ممكن.. سيصل موكب ملكي مرسل من الملك عبّاد ليصطحبك لعاصمة المملكة (الزهراء).."
رفعت رنيم رأسها بدهشة وتعجب، ثم قالت "لماذا؟.. ما الذي يستدعي رحيلي لمملكة بني فارس في هذا الوقت بالذات؟"
أجاب الملك بحدة "كي تقابلي زوجك الأمير زياد، ولكي تستكملي مراسم الخطبة والزواج في (الزهراء).."
نظرت رنيم للملك بتعجب قائلة "كيف أرحل للزهراء قبل زواجي من الأمير زياد بالفعل؟.."
أجاب الملك "الزواج لن يتم قبل ذهابك لعاصمة المملكة (الزهراء) ومقابلتك لولي العهد.. فهو قد أصرّ على رؤيتك قبل إتمام هذا الأمر، كما أصرّ الملك على أن يتم الزواج في عاصمة مملكته.. يريد أن يحتفل شعب مملكته بهذا الزواج مباشرة خاصة أن زياد هو ابنه الوحيد.."
تزايد تعجب رنيم وهي ترفع حاجبيها قائلة باستغراب "أفهم موضوع مقابلة الأمير قبل إتمام الزواج، لكن أما كان المفترض به أن يأتي لرؤيتي؟.. ألا يتم الزواج عادة في قصر الأميرة؟"
قال الملك مقطباً "أأنت حمقاء؟.. كيف نطلب من ملك مملكة عظيمة كعبّاد أن يتنزّل ويأتي بنفسه لمملكتنا؟.. ماذا لو تعرض لخطر أثناء تلك الرحلة؟.."
تعاظم استنكار رنيم والملك يضيف بصرامة "ستذهبين أنت إليه، وسيتم الزفاف بعد شهر من وصولك للزهراء وحصولنا على موافقة الأمير زياد.. وعندها، سنتجه نحن بدورنا للزهراء لحضور ذلك الزفاف.."
قالت رنيم باحتجاج "لماذا تفعل هذا لي أنا يا أبي؟.. أليس في هذا التصرف إهانة لي ولك؟.."
ثم أشاحت بوجهها قائلة "لو كان الأمير يريد الزواج بإحدى بنات ملك آخر، عليه أن يسعى لذلك.."
ضرب الملك مقبض كرسيه بقوة وهو يهدر "كفّي عن هذه الترهات.. سترحلين في الموعد تماماً دون أن أكرر قولي مرة أخرى.."
زمّت رنيم شفتيها بحنق وصدمة، بينما سارعت الملكة الثانية تقول بانفعال "لا تقلق يا مولاي.. سأتأكد أنها ستكون على أتم الاستعداد للرحيل في الوقت المحدد.. فطِبْ نفساً وتهيأ لمقابلة ضيوفك الذين سيتقاطرون لتهنئتك من جميع أرجاء المملكة.."
وأسرعت نحو رنيم فدفعتها أمامها وهي تنحني للملك مراراً.. وخارج قاعة العرش، قالت الملكة الثانية بعصبية "ألا بد من كل هذا الجدال أمام الملك؟.."
قالت رنيم بضيق "ألا يحق لي الاعتراض؟.."


قالت الملكة الثانية بحدة "لا.. ماذا لو غيّر الملك رأيه بخصوص زواجك هذا؟.. لا نريد أن يقوم باختيار تلك الفتاة سهى ونبذك أنت بعد أن وصلنا لهذه المرحلة.."


دمدمت رنيم "أنت قلقة من تغلّب الملكة الأولى عليك في هذا الأمر.. أليس كذلك؟"
أجابتها بحنق "أجل.. لذلك افعلي ما يطلب منك دون تذمر.. وافعليه بطريقة صحيحة لمرة واحدة في حياتك على الأقل.."
وغادرت بخطوات سريعة تاركة رنيم تقف والضيق يعتلي ملامحها، فلم تجد وسيلة للتخلص من هذا الضيق إلا بالانزواء في الجزء المفضل لديها من القصر.. لطالما اعتبرت قصر أبيها كصحراء قاحلة جافة بجفاف من يعيشون في القصر، والواحة الوحيدة في قلب تلك الصحراء الخانقة هي المكتبة الضخمة التي تحتل جانباً كاملاً من ذلك القصر العتيق الذي يعود عمره لمائتي سنة على الأقل، والذي بناه قصيّ الأول بن غياث فور جلوسه على العرش.. والمكتبة التي فيه غنية بما لا يوصف ولا يعدّ من الكتب التي حرص قصيّ الأول على جمعها نسبة لحبه الشديد للقراءة وللعلم ورغبته بأن يصنع مكتبة يصل صيتها لجميع الآفاق.. وهذا هو الشيء الذي لطالما شكرت رنيم جدها الأكبر عليه في كل مرة انزوت في جوانبها مستندة على بعض الأرفف التي تحوي أشكالاً وأنواعاً مختلفة من الكتب والمخطوطات القديمة التي علاها الغبار..
في ذلك اليوم، اختارت رنيم كتاباً يتحدث عن البحر الهائج الذي يقع شمال شرق القارة العظمى ويزخر بعشرات الأنواع من الكائنات الغريبة والمخلوقات التي لم يعرف كنهها البشر.. بالإضافة لجزر يقال إن سكانها من البدائيين يقتاتون على أكباد الغرباء ويعشقونها دوناً عن أنواع الطعام المتاحة لهم.. ورغم أنها بدأت قراءة الكتاب بحماس كبير وشغف بالغ، إلا أنها رغماً عنها تركته في حضنها وسرحت وهي تتطلع للسقف المزخرف الذي يعلو رأسها وتفكر في حياتها القادمة.. أهي مقدمة على الزواج حقاً؟.. وهل ستتزوج ولي عهد مملكة عظمى لتغادر قصر أبيها فتقضي ما بقي من حياتها حبيسة قصر زوجها؟.. ما الذي سيقدمه لها الزواج حقاً؟.. هي متأكدة أن زواج مصلحة مثل هذا سيكون جافاً خالياً من أي مشاعر قد تنشأ بين أي زوجين.. لذلك هي واثقة أن حياتها ستخلو من الحب.. لكن، مع ذلك، قد تتجاوز عن الأمر لو كانت طليقة وتملك الحرية لتغادر القصر متى شاءت.. لكن حياة زوجة ولي العهد أكثر تزمتاً من حياة أميرة مملكة عادية.. ستتكاثر القيود حول عنقها حتى لا تغدو قادرة على التنفس وستموت مختنقة من هذا العالم الكئيب الذي تعيش فيه.. فأي حياة ترجوها بعد الزواج؟..
انتبهت من شرودها وأفكارها التعيسة عندما دخل وجه أخيها غياث نطاق بصرها.. فالتفتت إليه وهي تسمعه يقول "كنت أدرك أنني سأجدك هنا ولابد.. لديّ خبر جديد قد يسعدك لو كنتِ فتاة عادية كبقية الفتيات.."
غمغمت رنيم وهي تعتدل في جلوسها "هذا يعني أنه خبر تعيس بلا شك.."
جلس غياث بعد أن جذب كرسياً خشبياً قريباً قائلاً "الملك أبلغني برسالة وصلته منذ قليل.. الموكب الملكي من مملكة بني فارس سيصل خلال عشرة أيام.. عليك أن تعدّي العدة لترحلي بعد وصوله بيوم أو يومين.."
نظرت له رنيم بصدمة واستنكار.. ثم صاحت "عشرة أيام؟.. بهذه السرعة؟.."
هز غياث رأسه موافقاً، فقالت رنيم بحنق "كيف ذلك؟.. هذا مبكر جداً، أبكر مما توقعته بكثير.."
تساءل غياث "وما سبب اعتراضك على هذا؟.."
قالت بحنق وبالعذر الوحيد الذي طرأ لها "عشرة أيام لا تكفي لتجهيز كل ما أحتاجه كعروس ولي العهد.. هذا الوقت لا يكفي لخياطة ثوب واحد.. فما الذي يمكنني فعله؟.."
قال غياث "رسالة الملك تقول إن عليك الرحيل في الموعد المحدد، وهم سيتكفلون بكل الأمور الثانوية في (الزهراء).. عليك أن تكوني سعيدة لكل هذه التسهيلات التي ترافق زواجك.."
بدت رنيم أكثر غمّاً لهذا القول، فمال غياث تجاهها مضيفاً بابتسامة "هل منبع ضيقك أنك لم تستعدي للزفاف حقاً؟"
زفرت دون أن تعلق وهي تقبض على الكتاب بين يديها بشدة، فقال غياث "أنت قلقة من هذا الزواج بأكمله.. لكن لا تقلقي.. لن يكون الأمر أسوأ مما أنتِ عليه هنا.."
قطبت رنيم لقوله مغمغمة "تباً.. هذا لا يسعدني بحال.."
علق غياث "عليك أن تكفي عن هذه الكلمات التي لا تليق بأميرة.. لمَ أنت مختلفة عن الأخريات؟.."
زفرت رنيم وهي تسند رأسها للأرفف خلفها قائلة "لا أدري.. ربما من الخير لو ولدت صبياً.. عندها ما كنت سأحتاج لهذا التصنع والادعاء والقلق لهوية زوج المستقبل.."


نظر لها غياث بدهشة، بينما استطردت رنيم بشيء من الحماس "ربما كان الملك سيطلق علي اسماً رجولياً جميلاً.. مثل ثابت أو غسّان.. عندها سأكون بارعة باستخدام السيف وركوب الخيل.. ولن أضطر لقضاء وقتي بين جدران هذا القصر.. وعندها......."
نهض غياث معلقاً "استيقظي من أحلامك يا فتاة، وابدئي استعدادات رحيلك.. لا تنسي أن الملك سيقيم احتفالاً لك قبل بدء الرحلة بيوم، وبعدها ستنطلقين لحياتك الجديدة.."
وغادر تاركاً رنيم تدمدم بملل "ليت الأحلام تتحقق بمجرد تمنيها.."



عند وصول موكب مملكة بني فارس الملكي الفخم، فإن المدينة بأكملها خرجت لاستقباله والتفرج عليه بشغف تام.. المدينة بأكملها باستثناء رنيم التي انشغلت عن ذلك برعاية فرس مريضة تحبها بشكل كبير في حظائر القصر.. قضت وقتاً طويلاً في رعايتها والاهتمام بها رغم أن الطبيب البيطري قد طمأنها أن الفرس ستكون بخير خلال أيام قليلة.. لكن رنيم رفضت مغادرة الحظيرة وقضت وقتها قرب الفرس برفقة صبي من الخدم يعتني بالخيول الخاصة بالملك.. ولما سمعا صوت الأبواق التي علَتْ من جانب القصر، قال الصبي "مولاتي، أما كان من المفترض أن تذهبي لرؤية موكب مملكة بني فارس؟.."
قالت رنيم بعدم اهتمام "فرسي الجميلة أهم عندي من موكب ملكي سخيف.."
ومسحت على عنق الفرس قائلة بلطف ممتزج بالقلق "ما الذي أصابك يا عزيزتي؟.. كنتِ بأفضل حال بالأمس.."
قال الصبي بشيء من اللهفة "إذن.. أيمكنني أن أذهب أنا لرؤية ذلك الموكب؟.. لم يسبق لي أن شهدت موكباً مثله من قبل.."
أجابت رنيم "اذهب لكن عُدْ سريعاً.. سيغضب منك رئيسك بشدة لو اكتشف أنك تركت الموقع للفرجة على الموكب.."
صاح الصبي وهو يستدير راكضاً "شكراً يا مولاتي.."
ابتسمت رنيم بتعجب لسعادة الصبي.. ما الذي سيجنيه من مراقبة موكب ملكي تافه يسعى لإبهار الآخرين بشكله المبهرج؟..
أما الصبي، فقد سار متجاوزاً جوانب حدائق القصر باتجاه مدخله حيث الأبواب المزخرفة التي تفصله عن باقي المدينة.. وهناك، وقف قرب بعض الخدم الذي تجمعوا لمراقبة الموكب وشيك القدوم من جانب يسمح لهم بعدم الظهور أمامه.. وبعد وقت قصير، وصوت الأبواق يعلو بشكل متناغم معلناً اقتراب الموكب الذي طال انتظاره، فإن البوابة الحديدية المزخرفة لسور القصر فتحت بصوتٍ عالٍ ليدخل الموكب عبره بعد رحلة طويلة منذ غادر أسوار (الزهراء).. كان الموكب مكوناً من عدد من المركبات الفخمة يقود كل منها سائس بزي موحد فخم، وتجرها أحصنة أصيلة بديعة المنظر.. ووسط هذه المركبات سارت مركبة أكبر وأفخم عن البقية، بشعار مملكة بني فارس الذي يمثل أسداً فاغراً فمه وأنيابه بارزة وعلى رأسه تاج ملكي، والزخرفات الجميلة طالت جميع أرجائها حتى دواليبها الذهبية اللامعة.. ومن حول العربات، سار عدد من الخيّالة بأحصنتهم وزيّ الجنود الموحد وسيوفهم التي تدلّت من أحزمتهم..
راقب الصبي الموكب بشيء من الانبهار وهو يسمع إحدى الخادمات تهمس لرفيقتها "أترين هذه العربات؟.. إنها تحمل مهر الأميرة.. ترى كم قطعة ذهبية وكم من الجواهر تحوي في قلبها؟"
علقت الأخرى بشيء من الحسرة "بل كم من الأثواب والحرائر تحوي صناديقها؟.. يا لبؤسنا.. عندما تتزوج الفتاة منا فإن جلّ ما تحلم به هو خاتم ذهبي وبعض الملابس الرخيصة ومنزلٍ متداعٍ.."
قالت الأولى "طبعاً.. فمن نحن جوار الأميرة ابنة الملك قصيّ؟.. حياتها منذ مولدها وحتى مماتها تختلف عنا تمام الاختلاف.. يا لحظها الباهر ويا لحظنا التعس.."
علق خادم آخر وقف قريباً بشيء من الاستهزاء "أتظنين أن مولاتي رنيم ستحصل على شيء من هذه الجواهر والعملات الذهبية؟.. إنها ستنتقل رأساً لخزانة الملك، ولن ترى النور بعدها أبداً.. أما عن الأقمشة، فالملكتين والأميرات الأخريات سيتناهبنها ولن يبقين شيئاً للعروس المجيدة.."
غمغمت الخادمة الأولى وهي تتلفت حولها "صَه.. لا يعلو صوتك بهذا القول أبداً.. لا نريد أن نقع في طائلة مثل هذا القول بتاتاً.."
ظل الصبي يراقب الموكب ويستمع لأحاديث الخادمات والخدم، حتى وجد من يقبض على قميصه ويهزه صائحاً "ما الذي تفعله هنا يا فتى؟.. ألم آمرك أن تتمّ ما عليك من مهام قبل عودتي؟"
رفع الصبي رأسه ليرى أحد الساسة الموكلين بالحظائر ينظر له بغضب، فقال بسرعة "لقد سمحت لي مولاتي رنيم برؤية الموكب للحظات.. وسأعود بعدها لأعمالي.."
ثم تملص من قبضة الرجل وغادر راكضاً بينما الرجل يصيح خلفه "ستنال عقاباً على هذا يا فتى.. أتفهم؟"
لكن الصبي لم يعره أي اهتمام وهو يهرع للحظيرة، وهناك وجد رنيم في موقعها ذاته وهي تمسح على عنق الفرس التي كانت تلهث بصوت مسموع.. وفور أن رأته قالت "حسناً.. هل أعجبك ما رأيته؟.."
قال الصبي بحماس "إنه أمر مذهل.. ليتك أتيتِ معي.. إنه أكبر وأجمل وأفخم موكب رأيته يدخل القصر.."
ابتسمت رنيم لحماسته وانفعاله معلقة "سعيدة بسعادتك يا فتى.. لكن ليته لم يكن قادماً لأجلي.."
هتف الصبي "بل أنا مسرور لأنه قادم لأجلك يا مولاتي.. فأنت تستحقين الأفضل.."
قالت رنيم وابتسامتها تخفت "الأفضل لا يشي بالسعادة دائماً.."


ومسحت عنق الفرس بيدها مضيفة "لا أعلم لأي مصير سيأخذني هذا الموكب المبهرج، لكن يراودني شعور أنه لن يكون بأفضل من الواقع الذي أعيشه.."
صمت الصبي محاولاً فهم مغزى جملتها، ثم قال "أليس زواجك من ولي عهد مملكة الفرسان هو ما تطمحين إليه؟.."
هزت رأسها قائلة "قطعاً لا.."


وأضافت بابتسامة "لطالما حلمت بأن أرحل مع رجل قوي وطيب في الآن ذاته، بعد أن يشفق عليّ من السجن الذي أعيش فيه.. ومعه، أعرف معنى الحرية وأن أستمتع بحياتي كما أريد دون تسلط أحد.. حتى لو كان يعني ذلك تحمّل شقاء العيش دون رعاية من أبي الملك ودون الاعتماد على أمواله الطائلة.."
أمسك الصبي يديها بيديه بقوة قائلاً بحماس "لو كان هذا ما تحبينه، فأنا أتمنى أن يتحقق لك.. أنت تستحقين الأفضل، فأنا لم أرَ أميرة بطيبتك ولم يعاملني أحد بمثل هذا اللطف حتى بين الخدم.. سأدعو الله تعالى أن يحقق لك ما تتمنينه.."
ربتت رنيم على رأسه بابتسامة متسعة وقالت "شكراً لك يا عزيزي.. لكن أشك أن يتحقق ذلك حقاً.. بعد أن أصل (للزهراء)، ستكون حياتي قد تحددت ولا رجعة فيها.."


ونهضت قائلة "سأرحل خلال أيام قليلة.. لذلك أعهد لك برعاية الحيوانات خلال غيابي.. لا تهملها لئلا يطالك غضبي.."
ابتسم الصبي معلقاً "اعتمدي عليّ.. رغم شكي بموضوع غضبك هذا، فلم يسبق لي أن شهدته من قبل.."
قالت رنيم ملوحة بإصبعها "لا تستهن بغضبي يا فتى لئلا تندم.."
وغادرت بصمت وهي تتأمل أرجاء المكان وتلاطف ذلك الحصان وتمسح على أنف تلك الفرس.. كانت تعلم أن هذه قد تكون زيارتها الأخيرة لهذه الحظائر، فلا شك أن أمها ستمسك بخناقها طوال الأيام الباقية على رحيلها لمملكة بني فارس.. وهي، للأسف، لا تملك الاعتراض على ذلك بتاتاً..
 



إعدادات القراءة


لون الخلفية