ظلت رنيم شاحبة وهي تجلس في جانب المعسكر غارقة في أفكارها، بينما تحدث مجد مع رجاله وأرسل عدداً منهم لاستطلاع الموقع حولهم بحثاً عن أي متسللين آخرين.. ثم توجه للفتاة الصامتة واقترب منها متسائلاً "ما الذي تطلبين منا فعله؟.. هل نقتلهم؟"
هزت رنيم رأسها نفياً بشدة، فعلق مجد "قد يكررون المحاولة مرة أخرى في وقت آخر طمعاً في النقود التي وعدتهم بها الملكة.."
ألقت رنيم نظرة على الرجال المقيدين في جانب المكان والبؤس واضح في ملامحهم، ثم خفضت بصرها وهي تهز رأسها نفياً من جديد.. فزفر مجد وهو يتطلع للموقع حولهم، ثم قال "ربما من الخير لنا اصطحابهم معنا مقيدين حتى نصل للميناء.. يمكننا عندها أن نطلقهم قبل رحيلنا على السفينة التي جئنا بها.. بهذا نضمن ألا يعودوا للملكة ويبلغوها بما جرى قبل رحيلنا بالفعل.."
ظلت رنيم على شحوبها وصمتها وهي تفرك يديها باستمرار.. عندها سألها مجد "أتعلمين لمَ فعلت أمك ذلك؟"
همست رنيم بصوت مبحوح "ليست أمي.. بل زوجة أبي.. إنها الزوجة الأولى للملك.."
فقال مجد "هذا ليس سبباً يدعوها لما فعلته!.."
صمتت رنيم وهي تتذكر سخرية أمها من الملكة الأولى لأن هذه الزيجة جاءت من نصيب رنيم عوضاً عن سهى وهي الوحيدة التي لم تتزوج من بنات الملكة الأولى.. عندها قالت رنيم بخفوت "لطالما أعربت أمي عن الحقد الذي ستشعر به الملكة الأولى تجاهي لأن هذه الزيجة لم تكن من نصيب ابنتها الصغرى.. ربما كانت هذه هي وسيلتها لاستبدالي بابنتها قبل وصولنا للزهراء، خاصة أن زواجاً كهذا لن يتكرر لمملكتنا الصغيرة.. فبجرح في وجهي، لن يتردد ولي العهد في رفضي دون أن يثير غضب أبي الملك ويسيء العلاقات بين المملكتين.."
نظر لها مجد بشيء من التعجب للهدوء الذي تتحدث به رغم شحوبها الواضح، ثم تساءل "ألستِ غاضبة لما جرى؟"
تطلعت رنيم لجانب الموقع وهي تكبت دموعها بصعوبة، ثم قالت بصوت مرتجف "لو كنت أعلم بما تنتويه الملكة، لتنازلت عن هذا الزواج منذ البدء.. لست سعيدة بارتباطي بولي العهد، ولن يهمني لو حظِيَتْ أختي سهى بهذا الشرف.. لماذا تلجأ الملكة لهذه الأساليب الرخيصة لتنحيتي من المستقبل الذي خططته لابنتها؟"
صمت مجد وهو بين مشفق على رنيم من الصدمة التي حاقت بها، وبين متعجب لخنوعها الظاهر.. لو كان الأمر يخصّ أميرة أخرى لملأت الدنيا صراخاً غاضباً لما جرى.. لكن ردة الفعل الهادئة هذه قد فاجأته.. فجلس قربها قائلاً "أتسمحين لي بأن أنصحك بشيء؟.."
نظرت له في استجابة صامتة، فقال "سترين الكثير بين جدران القصر، وستواجهين الكثير بالفعل.. لكن لو تصرفتِ بمثل هذا الخنوع وصُدمتِ لكل خيانة من شخص قريب منك، فلن تعيشي في هذا العالم طويلاً.. كل ما يمكنني أن أنصحك به أن تتجاهلي وتحاذري من الجميع.. المكان الذي ستصلين إليه ليس بأجمل من المكان الذي غادرته.. هذا شأن القصور في كل مكان وزمان.."
خفضت رنيم رأسها وهي تقول بصوت متهدج "أعلم ذلك تمام العلم.. لكني لا أطالب بالكثير.. كل ما أريده هو أن أترك وشأني.. أن أعيش حياتي بهدوء وسكينة.."
فقال مجد متأملاً ملامحها "إذن لمَ لا تتحررين من هذه القيود؟.. لمَ لا تفصحين عن رغباتك بوضوح وحزم؟.."
صمتت للحظات وهي تتذكر مواجهاتها البسيطة مع الملك والملكة في السابق، ثم أدارت وجهها جانباً مغمغمة بمرارة "هذا مستحيل.. هذه ليست أنا، ولا يمكنني أن أكون أكثر حزماً وقوة.. لا يمكنني مجابهة الآخرين دون أن أخضع وأنكسر بسهولة.."
علق مجد بحزم "ربما لم يَفُت الأوان لتغيير ذلك.."
هزت رنيم رأسها بشدة واستنكار، فتنهد مجد وقال "لن تستفيدي أمراً من هذه السلبية.. وأنا أعني ما أقوله.."
وغادرها عائداً للرجال المقيدين بحراسة بضع جنود تابعين له.. بينما زفرت رنيم وهي تنظر للأرض العشبية بصمت.. كيف يطلب منها مجد مثل هذا الطلب؟.. إنه لا يعرفها، ولو عرفها حقاً لأدرك أن حالها ميؤوس منه.. لو كان بإمكانها التغيير لما كانت في هذا الموقع وتخوض مثل هذه التجربة التي خلّفت مرارة في حلقها..
مضى اليوم التالي على الموكب في سيره نحو ميناء آرطا الحيوي الذي كان أقرب المواقع من القارة العظمى حيث تحتل مملكة بني فارس جزءاً كبيراً منها.. كان الميناء هو الأكبر على الجزيرة التي تحتلها مملكة بني غياث، وهذا الميناء هو ثاني أكبر مدينة في المملكة بعد العاصمة.. لذلك كانت الحركة على أشدها في أرجاء الميناء وفي المدينة المحيطة به حيث تبقى ساهرة أغلب الأحيان لتلبية احتياجات السفن القادمة للمملكة والتي لا تكاد تهدأ ليلاً أو نهاراً..
أمضت رنيم أغلب هذه الرحلة بصمت تام وهي سارحة في أفكارها الخاصة.. بدأ حماسها في هذه الرحلة يخفت وأفكارها تدور حول تلك الحادثة التي تكشف لها ما كانت غافلة عنه من خبايا قصر أبيها.. يمكن، لو صحّ القول، أن نَصِفَ رأس رنيم بأنه كان معلقاً بين الغيوم طوال سني عمرها.. لم تكن تدرك ما يدور في القصر من دسائس وما يخفيه من أسرار وخبايا.. لم تكن تحمّل أي ابتسامة تراها على وجه شخص في القصر أكبر من قدرها، ولم تكن تتساءل عن مغزى أي كلمة أو تصرف يصدر من أي شخص..
قد يصفها البعض بأنها براءة، رغم نباهتها في أمور أخرى.. وقد تكون مجرد سذاجة.. لكنه في الحقيقة كان انفصالاً عن الواقع.. كانت رنيم تعيش في عوالم أخرى وحكايات أخرى.. قد تنتبه لأدنى قدر من الخبث والنوايا السيئة في إحدى شخصيات رواية تقرؤها، لكنها لا تقتنع أن هذا يمكن أن يحدث في الواقع ومن أقرب الأشخاص إليها..
فكيف، بعد كل هذا، يمكنها أن تقتنع أن زوجة أبيها يمكنها أن تقوم بعمل خسيس كهذا؟.. كيف يمكنها أن تتصور حقداً يعتمر صدر تلك المرأة التي تحمل ملامح نبيلة ورثتها من عائلتها العريقة؟.. كيف؟؟!!!.. هذا ما يكاد يخرج رنيم من طورها ويصيبها بشيء من الكآبة.. ورغم محاولات صفية الدائمة للتسرية عنها والتخفيف من وقع هذه الصدمة عليها، إلا أن رنيم كانت تستمع لها بنصف وعي وهي تراقب ما يمر به الموكب الملكي في سيره نحو ميناء آرطا..
وعند وصول الموكب إلى الميناء في وقت متأخر من ذلك اليوم، فإن المكان كان ينبض بالحياة وكأن اليوم لا يزال في بدايته، والمدينة تغصّ بسكانها وبالبحارة والمسافرين الذين وصلوا على ظهر إحدى السفن أو يستعدون للرحيل على ظهر سفينة أخرى..
ظلت رنيم تراقب الأحياء والشوارع التي يمر عبرها الموكب لافتاً أنظار الجميع دون استثناء.. ورغم انشغالها بما تراه، فإنها لم تُبدِ حماسة أو تُظهر شغفاً بما تشاهده للمرة الأولى في حياتها.. وهذا أقلق صفية نوعاً ما وهي تقول مشيرة عبر نافذة العربة "أترين هذا يا مولاتي؟.. هذا هو الميناء الذي تدور حوله هذه المدينة.."
ثم أضافت بابتسامة "لا يمكنك تصديق ما يمر عبر هذا الميناء كل يوم من بضائع نفيسة.. يقال إن من يتمكن من السطو على هذا الميناء ولو لمرة واحدة، سيغدو ثرياً ما بقي له من العمر.. لكن طبعاً هناك حراسة قوية وفرق كاملة من الجنود تحرس الميناء من السرقات ومن أي هجوم متوقع من دولة معادية.."
لم تعلق رنيم بكلمة وهي تحدق من النافذة بصمت كعادتها مؤخراً.. عندها قالت صفية بإشفاق "لا تُتعبي نفسك بالتفكير فيما جرى يا مولاتي.. ما فعلته الملكة الأولى ليس غريباً عليها حقاً، لكنك لم تعرفي شخصيتها الحقيقية من قبل لأنك لا تهتمين لأمور القصور وما يجري فيها.. أنت بريئة التفكير ولا يمكنك تخيّل الدسائس التي تجري من حولك في القصر.."
غمغت رنيم "تقصدين أنني بلهاء لأنني ظننت أن الملكة الأولى سعيدة لزواجي كما هي أمي.."
أسرعت صفية تقول "لستِ بلهاء يا مولاتي.. بل ساذجة.. هناك فرق بين الاثنين.."
ابتسمت رنيم ابتسامة هازئة دون أن تعلق، فأضافت صفية "انسي ما جرى يا مولاتي.. لا نعلم متى سترين الملكة الأولى من جديد.. ثم إن مجد قد تمكن من حمايتك بنجاح حتى الآن، ولن يعجز عن فعل ذلك فيما بقي لنا من الرحلة.."
تنهدت رنيم وهي تعود بأفكارها لمجد.. وكلماته التي اختتم بها تلك الليلة المشؤومة لا تزال تتردد في ذهنها طوال الوقت.. (المكان الذي ستصلين إليه ليس بأجمل من المكان الذي غادرته).. أحقاً ستعيش في (الزهراء) حياة مشابهة للحياة التي عاشتها في قصر أبيها؟.. ما فائدة زواجها إذن؟.. أهي مجرد قطعة في رقعة شطرنج يحركها أبوها كيفما يشاء دون إرادة؟.. يبدو أنها فعلاً كذلك.. إنها تدرك ذلك منذ مدة، لكن لا تملك تغيير واقعها بشيء بتاتاً..
لاحظت أن الموكب قد توقف عن سيره، ولما نظرت من النافذة رأت ملامح الميناء واضحة لعينيها.. رغم أنها لم ترَ ميناء من قبل في حياتها، وهي التي لم تغادر العاصمة قبلاً، إلا أنه لم يكن من الصعب عليها إدراك مدى ضخامته.. وتبدّت لعينيها أعداد لا تحصى من السفن مختلفة الأحجام وقد توزعت في جوانبه بينما رسى بعضها في موقع أبعد قليلاً وسط الخليج بانتظار فراغ موقع قريب من رصيف الميناء.. ومع الحركة الشديدة في أرجاء الموقع، فإن الجنود فور وصولهم قد شكلوا طوقاً حول عربتها لمنع المتطفلين من الاقتراب منها حتى صعودها على السفينة القريبة..
هبطت رنيم من العربة متلفتة حولها وقد لاحظت كثرة الأعين الفضولية التي ترمقها من بين المتحلقين حول الموقع.. لكنها لم تعلق وهي تتقدم برفقة مجد ووصيفتها خلفها نحو السفينة القريبة.. غنيّ عن القول أن رنيم انبهرت بضخامة السفينة وحجمها وبهائها وهي تصعد إلى سطحها.. وخلال وقت قصير، كانت العربات الملكية قد حملت إلى قلب السفينة عبر معبر خاص، ومعها أغراض رنيم التي جلبتها معها..
ومع كل لحظة تمضي، كانت رنيم تتساءل وهي تجول في أرجاء السفينة "ألن تغرق السفينة مع حجمها الهائل هذا؟"
لكن مجد كان يجيب على أسئلتها القلقة بابتسامة جانبية وثقة شديدة.. ولما بدأت السفينة رحلتها الطويلة، تأكد لرنيم أن مخاوفها لم يكن لها أساس من الصحة.. كانت السفينة تقطع البحر وأمواجه بكل سلاسة وقوة والهواء المندفع يقوّس الأشرعة للأمام.. قضت رنيم الساعة الأولى تراقب رحلة السفينة مذهولة لهذه القدرة الخفية على الطفو فوق سطح المياه العميقة رغم وزنها الثقيل.. لكن لم يطُلْ بها الوقت قبل أن يداهمها غثيان شديد ودوار عنيف جعلها تتكوّم في جانب السفينة بتعب..
اقتربت منها صفية بقلق شديد وهي تهتف "مولاتي.. ماذا أصابك؟.. أأنت على ما يرام؟"
لوحت لها رنيم بيدها وهي عاجزة عن الإجابة، ولم تلبث أن أفرغت معدتها من فوق حاجز السفينة رغم مقاومتها لذلك.. فقالت صفية وهي تمسح جبهتها التي بدأ العرق ينضح منها وتناولها منديلاً "يحسن بنا أن نتجه للغرفة المخصصة لك.. هناك يمكنك أن تنالي قسطاً من الراحة حتى يعتاد جسدك على حركة السفينة وتمايلها.."
سمعتا صوت مجد الذي اقترب قائلاً "لا.. على الأميرة أن تلجأ لغرفة أخرى.. سأنقل أمتعتها لغرفة ثانية تتوسط السفينة، وستكون أفضل بدون شك.."
تساءلت صفية بدهشة "أليست الغرفة الأولى هي الرئيسية في هذه السفينة؟.. لماذا تريد نقل الأميرة؟"
أجاب مجد "كما قلت لك، ستكون الأخرى أفضل لها وأكثر راحة.."
قالت صفية بشيء من الحدة لم تملكها "ليس من مقام الأميرة البقاء في غرفة صغيرة.. لقد تفحصت أغلب غرف السفينة وتلك التي تقع في مقدمتها هي الأكبر.. هل تهدف للتقليل من شأن الأميرة؟"
قال مجد وهو يعاون رنيم على النهوض "قطعاً لا.. لمَ أنت محتدة هكذا؟"
لكن رنيم قاطعت جدالهما وهي تجبر نفسها على السير بمعاونة مجد.. لم تكن تقوى على البقاء في موقعها والغثيان يزداد حدة مع كل لحظة تمضي.. بدأت الأرض من حولها تميل بشدة وبدت ساقاها لينتان تكادان لا تقويان على حملها.. ولولا اعتمادها على ساعد مجد القوي، لتهاوت بعد الخطوة الأولى أرضاً..
وعند وصولها للغرفة التي حددها لها مجد، أدركت رنيم أنها أصغر وأكثر ضيقاً من الأولى بكثير.. لكنها لم تقوَ على الجدال وهي تستلقي على السرير البسيط بعد أن غادر مجد متمنياً أن تسترد عافيتها بسرعة.. وبينما أغمضت رنيم عينيها بتعب، فإن صفية أخذت تجول في الغرفة الصغيرة وهي تقول بحنق "ما الذي يعنيه هذا؟.. أهو يتهاون بمقام الأميرة؟.. ألن تكون زوجة مولاه؟.. كيف يمكنه أن يتخذ تصرفاً كهذا دون الرجوع إلينا؟.."
لم تعلق رنيم بكلمة، لكن ما قالته قد دار في ذهنها لوقت طويل.. لقد لاحظت سخرية مجد منها في الأيام الماضية، وهي مبطنة بابتسامته الجانبية دون أن يتخلى عن تهذيبه الدائم.. ولقد بدأ هذا منذ رآها مهتمة بالفرس الخاصة به.. فهل بدأ يتهاون بمقامها حقاً؟.. لم تكن تهتم بتلك المقامات والدرجات الاجتماعية، لكنها لا تريد سخريةً من شخص ينتمي لزوجها المستقبلي مما قد يفسد زواجها لأمر أو لآخر.. فما الذي عناه مجد حقاً بهذا التصرف؟..
بعد أن ساد الظلام أرجاء السفينة، وخلدت وصيفتها للنوم في غرفة جانبية قريبة من غرفتها، نهضت رنيم بعد أن استردت شيئاً من قواها وراودتها رغبة قوية بالخروج من هذه الغرفة الضيقة.. فتحت بابها متطلعة للممر خارج الغرفة والذي سادته ظلمة موحشة، لكنها لم تعبأ بهذا وهي تغادر بصمت وخطوات خافتة متخلية عن حذائها لئلا يصدر صوتاً يجذب إليها الأنظار.. كان الغثيان قد خفت قليلاً إنما لا تزال تشعر بمعدتها متقلبة وكأنها ستخرج من فمها في أي لحظة.. تجاوزت ذلك الممر بأبوابه المغلقة حتى وصلت للسلم الخشبي الذي يقودها لسطح السفينة، فنظرت عبر الفتحة للحظات خشية وجود شخص على السطح قد يعترض على خروجها في ذلك الوقت المتأخر.. سارت رنيم عبر سطح السفينة الخشبي بخفة وهي تتنفس بقوة والهواء المنعش المشبع برائحة البحر يملأ رئتيها.. وللدهشة، بدأ الغثيان يخفت أكثر فأكثر وشعرت أنها ستغدو على ما يرام خلال لحظات.. لذلك شتمت مجد في سرها بعد أن أجبرها على البقاء في تلك الغرفة الخانقة..
سارت مستطلعة جوانب السفينة الواسعة، حتى وصلت لمقدمتها حيث رأسها المزخرف والذي يحمل علامة مملكة بني فارس المميزة بشكل بارز، بالأسد المزمجر والتاج الملكي على رأسه.. فوقفت قرب الحاجز الخشبي لتنظر للأفق المظلم وتطلّ على المسطحات المائية الشاسعة التي لم ترَ مثلها من قبل.. لم تعرف من قبل، مع كل ما تسمعه عن البحر، أن له سطوة كاسحة تُشعر ركاب السفينة بالضآلة والضعف.. كانت تتوق سابقاً لرؤية البحر وخوض غماره، لكنها الآن مع الضعف الذي تشعر به، فإن سطوة البحر بدت مهيمنة عليها وتثير رجفة في أعماقها بشدة..
ظلت رنيم تراقب الأمواج والهواء البارد يعبث بشعرها، ولما طال وقوفها على السطح الذي تمايل مع تمايل الأمواج تحته، عاد لها الشعور بالغثيان بقوة حتى أجبرها على إفراغ معدتها من فوق ذلك الحاجز.. ظلت رنيم في موقعها وهي تكاد تفقد قواها مع التعب والغثيان القوي، لكنها تشبثت بحد السفينة بإصرار وهي تلهث بقوة عندما فوجئت بضحكة تتعالى من موقع ما خلفها.. أدارت رنيم رأسها عابسة لترى، في موقع مرتفع من السفينة وعلى أحد صواريها، مجد ينظر لها بابتسامة جانبية كما أصبح يفعل في الأيام الأخيرة.. وسمعته يقول "لم أتوقع من أميرة نبيلة أن تفرغ معدتها بهذا الحماس أمام الآخرين.."
قالت بعبوس "ما الذي جاء بك لهذا المكان في مثل هذا الوقت؟"
أجاب رافعاً حاجبيه "للمرء الحق بأن يصاب بالأرق.. أليس كذلك؟.. كان حريّاً بك البقاء في غرفتك وإطاعة ما طلبته منك.."
لم تجبه رنيم وهي تبحث في ثوبها عن منديل تمسح به فمها، ولما لم تعثر على واحد قالت بضيق "تباً لهذه الرحلة المشؤومة.."
شعرت بشيء يسقط على رأسها، ولما مدت يدها إليه وجدت منديلاً سقط عليها بخفة بينما تعالى صوت مجد قائلاً "لا تلقي لعناتك على رحلتنا، فأنا سأكون الملام الوحيد لو لم نصل لوجهتنا سالمين.."
لم تعلق رنيم وهي تمسح فمها وتشعر بالغثيان يعود لها من جديد، بينما هبط مجد من موقعه المرتفع وهو يغمغم "يا لك من عنيدة.. عودي لغرفتك وخذي قسطاً من الراحة.. ستصبحين أفضل حالاً في الصباح.."
رآها تضغط على فمها بيد، قبل أن تقول بصوت متعب "الغثيان لا يخفت أبداً مهما تقيأت.. كيف تريدني أن أصدق قولك؟"
قال وهو يقف قريباً "لأنك ترفضين اللجوء لبعض الراحة حتى يعتاد جسدك على حركة السفينة.. ثم إن وقوفك في مقدمتها حيث الحركة أشد وضوحاً كفيل بزيادة تعبك وشعورك بالغثيان.. الموقع وسط السفينة أكثر ثباتاً، لذلك أصررت على أن تبقي في إحدى الغرف القريبة من وسط السفينة.."
نظرت له بشيء من الدهشة.. إذن لم يفعل ذلك احتقاراً لها؟.. هل أخطأت الظن به؟.. شعرت بالسوء نوعاً ما، فأدارت وجهها جانباً وغمغمت "لقد شعرت بشيء من الراحة مع هذا الهواء المنعش، وهو أفضل من تلك الغرفة الخانقة بالتأكيد.."
عندها قال مجد "إذن هناك حل آخر أكثر ملاءمة لحالك هذه.."
نظرت له باستفهام، فأشار للأفق قائلاً "ثبتي بصرك على الأفق لبعض الوقت.. رؤيتك لحركة الأمواج القريبة تزيد من شعورك بالغثيان.. الأفق أكثر ثباتاً، وإطالة النظر إليه ستعيد التوازن لجسدك وسيخفت التعب سريعاً بعده.."
ترددت رنيم للحظات، ثم أخذت بنصيحته وهي تتأمل الأفق المظلم إلا من انعكاس نور القمر الخفيف على الأمواج.. ظلت تراقب الأفق بصمت ومجد يقف في موقع قريب يراقب البحر بدوره.. فتساءلت رنيم عن سر ذلك الاهتمام الذي يبديه مجد تجاهها.. أهذا بسبب مرضها؟.. هل يخشى من تأنيب الملك له لو حدث لها شيء في هذه الرحلة؟.. هل يشعر بالشفقة تجاهها؟.. ليس هذا ما تريده بحال..
بعد قليل، شعرت أنها أفضل حالاً.. ومع كل لحظة تمضي، تشعر أن تعبها وغثيانها يخفت أكثر فأكثر.. لكن ألن يعاودها الغثيان حقاً؟..
ويبدو أن مجد قد سمع تساؤلاتها الصامتة، فقال فجأة محطماً ذلك الهدوء "لو زال عنك الغثيان، فستكونين بخير لما تبقى لنا من الرحلة.. عليك أن تتعلمي التحكم بجسدك بصورة أفضل.."
غمغمت رنيم "وهل هذا ممكن حقاً؟"
أجاب مجد "يمكنك ببعض الإرادة لو كنتِ تملكينها حقاً.."
شعرت رنيم أن قوله يحمل بعض التأنيب لها بسبب ما دار بينهما من حديث في ليلة الهجوم عليها، وما تلاه من تهاون رنيم في التصرف بشكل حازم فيما يخصّ حياتها.. لكن مجد الذي لاحظ انقباض ملامحها بضيق، سارع ليقول "أتعلمين؟.. لم يكن رد فعلي في أول رحلة قمت بها على ظهر سفينة يختلف عما جرى لك.. بل ربما كان أسوأ.."
نظرت له رنيم بدهشة، فقال بابتسامة "رغم أنني كنت رجلاً تجاوز العشرين من عمره بعدة سنوات، لكني قضيت أغلب تلك الرحلة أفرغ معدتي من فوق حاجز السفينة بكل حماس.."
ضحكت رنيم لتعليقه، فيما قال بابتسامة "لذلك، أشعر تماماً بما تشعرين به.."
تساءلت رنيم "وإلى أين كنت ذاهباً على ظهر تلك السفينة؟"
أجابها متطلعاً للأفق "كنت متوجهاً للزهراء في رحلتي الأولى.. فأنا لست من سكان (الزهراء) في الحقيقة، بل نشأت في جزيرة صغيرة من (الأرخبيل الأسود) الذي يتوسط بحر السلام.. وعندما بلغت ذلك العمر، قررت أنني أريد التوجه لعاصمة الملك عبّاد والانضمام لجيوشه.."
استمعت له رنيم بشيء من الدهشة، ثم تساءلت بشغف "ما اسم الجزيرة التي نشأت عليها؟.. وكيف كانت تبدو؟"
أجاب بابتسامة لفضولها "تلك جزيرة صغيرة نسبياً تقع وسط الأرخبيل، واسمها (جزيرة القمة البيضاء).. وبسبب موقعها المتوسط فإنها قد شهدت بعض المعارك بين جيشي المملكتين المعاديتين كان آخرها قبل أن أرحل من الجزيرة بالفعل........"
علقت رنيم "لم أسمع بهذه الجزيرة من قبل رغم كثرة قراءاتي في مكتبة أبي.."
نظر لها مجد باهتمام قائلاً "حقاً؟.. لا أتوقع أن تتحدث الكتب عن جزيرة بغير أهمية كجزيرتنا، كما لم أتوقع بتاتاً أنك تحبين قراءة الكتب.."
علقت رنيم بشيء من التردد "أحبها بالطبع، لكن......"
خشيت للحظة من أن يسيء هذا لصورتها أمام مجد، لكنها وجدته يبتسم قائلاً "رائع.. هذا يثبت لي أنك بالفعل مختلفة عن بقية الأميرات فارغات العقل ممن لا يستهويهن إلا الجواهر والحلي.."
ابتسمت رنيم مع دهشتها لتعليقه، وقالت "في الواقع، تتذمر أمي باستمرار من كوني مختلفة.. وهذا سبب لضيقها مني منذ نشوئي.."
غمغم مجد "لابد أن الملكة تطمح لأن تكون ابنتها كما هن بقية الأميرات.. رغم أن هذا ليس الخيار الأفضل دائماً.."
ثم التفت إليها مغيراً الموضوع "أتعلمين أن أسطورة معينة تتردد عن الجبل الذي يتوسط جزيرتنا؟.. إنها أسطورة قديمة جداً وعلى جانب من الغرابة يجعلها بعيدة عن الصحة بشكل أكيد، لكن كبار السن يؤمنون بها بشكل مطلق.. إنها تقول إن اليوم الذي سيطلق فيه الجبل حممه ويلتهم نصف الجزيرة، سيكون هو اليوم الذي سيخرج فيه شاب من شبابها يملك مقدرة غير عادية على مواجهة هذا الخطر، وسـ........."
استمعت له رنيم بكل اهتمام وشغف.. كانت تحب قراءة الحكايات التي تحكي عن مناطق لم ترها من قبل في هذا العالم الواسع.. والآن، مع استماعها لمجد، فإن شعوراً مشابهاً قد راودها وهي تنصت له بكل اهتمام.. ورغم التعب الذي نال مجد من الرحلة في هذا اليوم، فإنه لم يتنصل من هذا الحديث مع رؤية اللهفة في عينيها وهي تستمع له.. ومع مرور الدقائق بسرعة كبيرة حتى قارب الفجر على الانبلاج، فإن رنيم لم تترك أي جزء من رحلات مجد في أرجاء مملكة بني فارس لم تسأله عنها.. وعندما طالبها أخيراً بالعودة لغرفتها لنيل بعض الراحة، غادرت رنيم عائدة لغرفتها وقد زال عنها شعور الضيق والكآبة اللذين استعمراها منذ تلك الحادثة.. بدأت تدرك أن مجد، رغم صرامته ورغم تصرفاته التي ضايقتها أحياناً، فإنه شخص طيب ولطيف معها.. والأهم من ذلك يملك الكثير من الحكايا التي أمتعتها وأنستها همومها ولو بشكل مؤقت..
وشيئاً ما، شعرت أن ذلك الرجل الذي يقارب في عمره عمر عمها الثاني، قد أصبح أقرب إليها بحكاياته وبلطفه الذي أظهره بشكل باغتها.. وأصبحت ترى أن رحلتها تلك ستغدو أكثر إمتاعاً وثراء مما ظنت بكثير..