عندما وصل الموكب الملكي إلى العاصمة (الزهراء)، عاصمة مملكة بني فارس، فإن رنيم لم تملك نفسها من الانبهار بها وهي فارغة فاهها بدهشة تامة.. كانت عاصمة مملكة بني غياث لا توازي (الزهراء) بأي حال من الأحوال رغم كل جهود أبيها الدؤوبة.. ومساحتها الصغيرة التي تحدها الجبال من كل جهة لا تقارن بمساحة (الزهراء) الشاسعة والتي بنيت وسط سهل واسع يمتد على مدّ البصر يقطعه نهر عريض يخترق جانباً من المدينة الكبيرة.. وقد بدت لها المدينة بغاية الجمال والأناقة دون بهرجة رغم أنها لا ترى أي علامات على إعدادات مسبقة للاحتفال بوصولها..
وفوق موقع مرتفع وسط المدينة، ارتفع القصر الملكي بأبراجه العالية وبواباته الذهبية والتماثيل التي تحمل شعار المملكة موزعة في شرفاته وفي مواقع مدروسة من أسواره بحيث تبدو للناظر إلى القصر من بعيد.. وعلى الأبراج رفرفت الأعلام الحمراء الخاصة بالمملكة.. كان منظر القصر بديعاً جعل رنيم تحدق فيه بانبهار تام.. رغم رفضها لفكرة العيش في ظل أسوار القصور، لكن هذا القصر البديع قد جذب انتباهها رغماً عنها.. وشيئاً ما، راودها خاطر أن لا يكون الأمر بالسوء الذي توقعته منذ أسابيع مضت.. لا يمكن أن يكون صاحب هذا القصر الجميل قاسي القلب، كما لا يمكن لحياتها هنا أن تكون سيئة.. عليها أن تتحلى ببعض الأمل، فهو لا يضرّ أحداً..
بعد أن تجاوز الموكب بوابات القصر، وسار لمسافة طويلة بين حدائقه التي ازدانت بعدد لا يحصى من الأشجار ذات الأزهار الزاهية التي حمل النسيم الدافئ شذاها الذي يخلب الألباب.. وبعد بعض الوقت، وجدت رنيم أن العربة قد توقفت أمام سلالم القصر حيث رأت جمعاً من الأشخاص من ذوي المناصب في القصر وبعض الخدم قد استعدوا لاستقبالها، وزيّن الموقع بباقات ورد ضخمة بديعة المنظر..
لاحظت رنيم مجد الذي تقدم من العربة وفتح بابها قائلاً "يسعدني الترحيب بك في العاصمة (الزهراء) وفي قصر مولاي الملك عبّاد.. واعذريني لأي تقصير بدر مني أو من رجالي أثناء تلك الرحلة الطويلة.."
ابتسمت رنيم برقة ملاحظة حديثه بلهجة رسمية، مخالفاً ما كان يفعله في الأيام الأخيرة من رحلتهما تلك.. فأجابته قائلة "شاكرة لك جهودك يا مجد.. أنت لم تدّخر وسعاً في حمايتي طوال الرحلة.."
وتناولت يده ليعينها على الهبوط من العربة بعد أن ظهر عليها التوتر الشديد للأعين التي تحدق بها من لجنة الاستقبال تلك.. ولما استقرت أرضاً، عدّلت رنيم ثيابها بشيء من التوتر وهي تبتسم لمن حولها، قبل أن تستدير إلى مجد متسائلة بصوت خافت "ألن أراك بعد اليوم؟"
ابتسم مجد معلقاً "أنا أعيش في هذا القصر، وأنا كما تعلمين قائد الحرس هنا.. لذلك، سنرى بعضنا بعضاً بكل تأكيد.."
ابتسمت رنيم براحة لهذا الخبر، فيما أحنى مجد رأسه لها باحترام قبل أن يتراجع.. ثم سمعت رنيم صوتاً خلفها يقول "مرحباً بك في (الزهراء) يا مولاتي.. اتبعيني رجاءً.."
استدارت رنيم تابعة المتحدث دون أن تعلم هويته، ملاحظة أن أحداً من أصحاب القصر لم يأتِ لملاقاتها.. لكن ربما كان هذا للأفضل، فلا بد أنها بهيئة بشعة بعد هذه الرحلة وبعد الإرهاق الذي نالها خلالها.. لذلك فهي سترحب ببعض الراحة قبل أن تقابل زوجها المستقبلي، وقبل أن ترى الملك والملكة وتحاول نيل رضاهم عنها بأي شكل من الأشكال..
أول ما لحظته رنيم لدى عبورها بوابة القصر الضخمة، هي الرائحة العطرة التي تشبه رائحة الصندل ممزوجة بعبير بعض الزهور الشذية والذي نبع من نافورة ضخمة تتوسط بهو القصر.. اقتربت رنيم من النافورة التي تبدو على شكل عدة أسود ينبع الماء من حلقها وأحدها يرتدي التاج الملكي، ولما بللت يدها بالماء تمكنت من شمّ الرائحة بوضوح من أصابعها.. لكن الرجل الذي اصطحبها بدا نافذ الصبر مما جعل رنيم تتجاهل ما تراه وهي تتقدم خلفه قاطعة البهو الواسع الذي ملئ لوحات فخمة وزخارف بهيجة المنظر.. ومن البهو إلى رواق واسع بدا يتسع لعربة كبيرة الحجم للمرور عبره بسهولة دون أن ترتطم بالجدران ذات الأعمدة المنقوشة ومجموعة التحف الثمينة التي صفّت على طوله بشكل متناسق..
تبعت رنيم الرجل عبر عدة أروقة وقاعات واسعة حتى قادها إلى جناح يتوسط القصر بدا مخصصاً لها وعلى بابه وقفت خادمة من خدم القصر منحنية لها باحترام.. وبينما جالت رنيم في أرجاء الجناح، فإن الرجل قال لها بلهجة رسمية "مولاتي الملكة ستقابلك عند انتصاف هذا النهار.. وسيأتي شخص لاصطحابك في الموعد المحدد.. أتمنى لك الراحة في جناحك يا مولاتي.."
شكرته رنيم وهي تدير بصرها في الجناح الواسع.. ثم توجهت رأساً للسرير الفخم ورمت نفسها عليه قائلة بتعب "أخيراً.. سرير مريح يمكنني أن أستلقي عليه.."
قالت صفية التي تبعتها وهي تتفحص الجناح بدورها "سأتركك لتنالي قسطاً من الراحة يا مولاتي.. وسآتي قبل موعد مقابلتك مع الملكة لتستعدي لها بشكل ملائم.."
لم تعلق رنيم وهي تغمض عينيها بصمت.. لقد أنهكتها الرحلة الطويلة التي تخوضها للمرة الأولى في حياتها.. لا يمكن لمن عاش حياته حبيس منزل أو قصر أن يرتحل مثل هذه المسافة دون أن يصاب بإنهاك شديد وتعب بالغ.. كل ما تريده الآن هو بعض الراحة، قبل أن تبدأ حياتها الجديدة في هذه المدينة..
وبعد بضع ساعات، سارت رنيم خلف أحد الخدم للقاء الملكة في إحدى القاعات الواسعة للقصر، وهي القاعة الزرقاء التي تزهو بجدران ذات لون أزرق بزرقة البحر وكراسٍ سماوية وأرضية بيضاء تبرز زرقة المكان بشكل أكبر.. وفي جانب تلك القاعة، جلست الملكة على كرسي فخم وثير بانتظار ضيفتها..
من اللحظة الأولى، أدركت رنيم أن المقابلة لن تكون ممتعة بحال.. فمع النظرات الباردة التي رمقتها بها الملكة ومع شفتيها المزمومتين وهي تتفحص رنيم بعينٍ غير راضية، أدركت رنيم أن مجهوداً كبيراً يستلزمها لنيل رضى الملكة.. كانت الملكة سليمة تتجاوز الخامسة والأربعين من عمرها، بوجه طويل نحيف وأنف طويل يوحي بالقسوة، وعينين بنيتين تخلوان من أي مشاعر.. شعرها بني أشقر خالطه بياض لا يكاد يبدو لتقاربه من لون شعرها السابق، وهي نحيفة وتبدو بطول يفوق رنيم رغم جلوسها..
انحنت رنيم للملكة بتوتر وهي تقول "سعيدة للقائك يا مولاتي، وسعيدة لتشريفكم لي بهذا الزواج.."
بدا أن الملكة كانت ستعلق على هذا القول، لكنها عزفت عن ذلك وهي تشير لرنيم لتجلس على كرسي قريب.. فجلست رنيم بتوتر بالغ وهي تعدل ثوبها وتدير الخاتم في إصبعها بشكل متكرر.. وبينما ظلت الملكة تتفحصها بشكل صريح ووقت طويل، فإن رنيم ظلت على صمتها بانتظار أن يسمح لها بالحديث.. تخشى إن حاولت التحدث دون إذن ألا تنال رضى الملكة وأن تظهر بمظهر يسيء إليها.. وبعد بعض الوقت، قالت الملكة "اسمك رنيم.. أليس كذلك؟.. يبدو الاسم جميلاً بشدة، ولا يناسبك شيئاً ما.."
نظرت لها رنيم بصمت ودهشة.. أهي تسخر من هيئتها؟.. ثم غمغمت وهي تخفض رأسها "شاكرة لك يا مولاتي.."
كانت أصول اللياقة تقتضي منها أن تتقبل كل ما يقال لها مهما كان جارحاً، بل وتشكر قائله بحرارة وكأنه أسدى لها معروفاً، ما دام القائل يفوقها منصباً ومكانة.. ألم يكن الأحرى بالمتحدث أن يمتلك بعض التهذيب على الأقل؟..
قالت الملكة بابتسامة جانبية "هل أذهلتك (الزهراء)؟.. سمعت أن (بارقة) عاصمة مملكتكم صغيرة جداً وذات شوارع ضيقة.. لا أظن أن الموقع يسمح بإنشاء قصر ضخم ومهيب يناسب ملك مملكة.. أليس كذلك؟"
غمغمت رنيم بحلق جاف "هو كذلك يا مولاتي.."
تساءلت الملكة "هل يملك ولي العهد قصراً خاصاً به؟.. لابد أنه كذلك بالنظر لمكانته في مملكة أبيه.."
قالت رنيم "لا.. لا يملك غياث قصراً خاصاً به.."
رفعت الملكة حاجباً معلقة "سمعت أنه متزوج.. كيف لا يملك ولي العهد قصراً خاصاً به بعد زواجه؟.. الأمير زياد له قصر خاص في جانب (الزهراء)، وسينتقل للسكنى فيه بعد زواجه.. ظننت هذا ما هو متبع في بقية الممالك.."
غمغمت رنيم بخفوت "لست أدري عن ذلك شيئاً يا مولاتي.."
أضافت الملكة وهي تدير وجهها جانباً بابتسامة متسعة "لا أدري حقاً لمَ تسمى تلك مملكة.. المفترض أن تكون مجرد ولاية تابعة للممالك الأكبر حجماً والأكثر تأثيراً في هذا العالم.."
كانت الابتسامة قد غابت عن شفتي رنيم وهي تستمع لتلك الكلمات المهينة وتغمغم بلا انقطاع "هو كذلك يا مولاتي.."
بدت لها الملكة وكأنها تتعمد ترديد تلك الإهانات مقللة من شأن رنيم بكل وضوح.. ما الذي يعنيه هذا؟.. في النهاية، عجزت رنيم عن التعليق وظلت صامتة خافضة وجهها الذي بدا شاحباً بشدة.. عندها قالت الملكة بابتسامة جانبية "أتمنى ألا تكون تعليقاتي قد ضايقتك يا فتاة.. إنها المرة الأولى التي نستقبل فيها أحداً من مملكة بني غياث.. لذلك غلبني بعض الفضول فيما يخص مملكتكم القصيّة.. لا تأخذي كلماتي على محمل الجد يا عزيزتي.."
فضول؟.. بدت لها الكلمات تجريحاً متعمداً واستهانة بها أكثر من كونه مجرد فضول.. لكن رنيم لم تعلق وهي تقول بابتسامة "لا تقلقي يا مولاتي.. لا يمكن أن أسيء الظن بأي شيء تقولينه.. فنحن سنصبح عائلة واحدة قريباً.."
بدا أن جملة رنيم قد أساءت للملكة التي غابت الابتسامة عن شفتيها وهي ترمق رنيم قائلة ببرود "حقاً.. سنصبح كذلك.. لكن، من يدري؟"
ثم لوحت بيدها منهية المقابلة بقولها "لا بأس.. استعدي للقاء الملك والأمير زياد غداً.."
نهضت رنيم وانحنت للملكة باحترام، دون أن تلتفت الملكة إليها.. وقبل أن تستدير مغادرة سمعت الملكة تقول بابتسامة "سنرى إن كنتِ ستنالين إعجاب الأمير زياد غداً.."
لم تعلق رنيم وهي تستدير مغادرة بصمت.. ترى، ما الذي يعنيه هذا؟.. لمَ تعاملها الملكة بهذه العدائية والبرود المتعمد؟.. هل أخطأت رنيم الظن أن الملكة كارهة لارتباطها بابنها الأمير زياد؟.. هذا شيء لم تتوقعه رنيم بتاتاً..
في اليوم التالي، استعدت رنيم للقاء الملك والأمير زياد في وقت مبكر.. ورغم أنها لم تحضَ بنوم طويل بعد أن أصابها أرق شديد وهي تعيد كلمات الملكة مراراً وتكراراً بقلق، إلا أن التوتر لم يسمح لها بالخمول والراحة لوقت طويل.. وعندما جاء أحد الخدم لاصطحابها لمقابلة الملك، فإنها زفرت بشدة لإفراغ توترها وهي تستدير لتتبعه، بينما همست لها صفية قبل أن تغادر "كوني واثقة من نفسك يا مولاتي.. أنت أجمل مما قد يتمنى الأمير زياد.."
لم تعلق رنيم على قولها الذي بدا خالياً من الصحة، بل سارت خلف الخادم متخذة طريقاً لم تسلكه من قبل في القصر وهي تلتزم الصمت التام.. كان منظر الحدائق التي يطل عليها القصر بهيجاً، لكن رنيم التي ألقت عليها نظرة عابرة لم تكن ببالٍ يسمح لها بالتفكير في جمالها.. كل ما تطمح إليه هو أن تمضي الساعة القادمة على خير، ففي هذه الساعة سيتحدد مصيرها في الأيام والشهور وربما السنوات القادمة..
وصلت رنيم إلى رواق يؤدي لبوابة ذهبية ضخمة وقد نحت نصف وجه الأسد، وهو شعار المملكة بتاجه الملكي، على كل جانب من البوابة بحيث يكتمل الوجه عند إغلاقها.. كان الشعار يدل بوضوح أن البوابة تؤدي لقاعة العرش الخاصة بالملك عبّاد، وقرب البوابة، استطاعت رنيم أن تلمح مجد الذي وقف يتحدث مع بعض الحراس..
ابتسمت رنيم بتوتر لدى رؤيته، بينما اقترب منها مجد قائلاً "سعيد برؤيتك مجدداً يا مولاتي.. هل أتيتِ لمقابلة الملك والأمير زياد؟"
هزت رنيم رأسها إيجاباً، فقال مجد "إذن لابد أنك قد قابلت الملكة سابقاً.. فكيف جرى ذلك اللقاء؟.."
انثنى فم رنيم بابتسامة مرتبكة وهي تخفض بصرها بصمت، وقبل أن تفتح فمها بكلمة، سمعت مجد يقول زافراً "لا بأس.. لا حاجة بك لقول شيء.. يمكنني توقع ما جرى مع شخصية كالملكة سليمة.. لابد أنها أحالت تلك الدقائق لجحيم بالنسبة لك.."
لم تعلق رنيم وهي تتذكر استقبال الملكة البارد لها وتعليقاتها التي لم تخلُ من استهزاء بها وبمملكة بني غياث عموماً.. وهذا جعلها تتساءل حقاً عن سبب قدومها لهذا القصر لو كان أصحابه غير مرحبين بها.. ولدى هذا الخاطر فإنها شعرت بتوترها يزداد أضعافاً مضاعفة ويربكها.. فقالت لمجد القريب منها بصوت حمل توترها وقلقها "ألن تتمنى لي حظاً موفقاً؟.. أنا على أبواب نقطة فاصلة في حياتي، وبحاجة لحظ كبير كي أوفّق فيها.."
لم تسمع من مجد استجابة إلا زفرة بيّنت لها ضيقاً شديداً يشعر به.. فالتفتت إليه بابتسامة متوترة وعلقت "لا تقل لي إنك قد وقعت في غرامي وتشعر بضيق لزواجي من الأمير؟.."
لكن ملامح مجد الصامتة لم تبدُ مرحبة بهذا التعليق الساخر، فعادت ببصرها للبوابة التي بدأت تفتح مضيفة "لو كنت واقعاً في غرامي حقاً، فما رأيك بأن تختطفني من هذا القصر وتذهب بي لموقع بعيد لا يصل إليه أحد؟.. أشعر برغبة شديدة في الهروب من هذا المكان.."
رغم أن رنيم كانت تمزح بهذا القول في محاولة منها لإزالة التوتر الذي تشعر به، لكنها شعرت لوهلة أنها سترحب بهذا الحل بشدة لو حاول مجد تنفيذه.. لكنها شعرت بمجد يدفعها بخفة لتسير نحو القاعة معلقاً "أنت بالفعل لا تستحقين هذه الزيجة.."
لم تدرِ رنيم إن كان ذلك التعليق موجهاً نحوها أم نحو الأمير زياد.. من الذي لا يستحق الآخر؟.. سيتضح ذلك بعد لحظات عندما تقابله، وتدرك نوع الحياة التي ستحياها بعد الآن انطلاقاً من تلك اللحظة..
سارت رنيم في قاعة العرش نحو نهايتها وهي تخفض بصرها.. ولما وقفت في الموقع المحدد لها كما تقتضي الأعراف انحنت بكل لباقة تملكها قائلة "يسعدني ويشرفني المثول أمامك يا مولاي الملك.. قدومي لهذا القصر هو شرف لي ولمملكة بني غياث.. ومساندتك لأبي الملك جميلٌ لن ينساه لك مدى الحياة.."
أتاها صوت الملك الهادئ وهو يقول "ارفعي رأسك يا فتاة.. اسمك رنيم، أليس كذلك؟"
أجابت رنيم وهي ترفع بصرها للملك "أجل.. هو كذلك يا مولاي.."
كان الملك لا يكبر أباها بكثير، إنما أكثر سمنة وبلحية أطول خالطها البياض حتى لم يبقَ فيها إلا لمحة من سواد قديم.. عيناه الضيقتان ترمقانها بشيء من عدم الاهتمام، وكأنه يستقبلها لأنه أمر واجب منه لا غير، ولو خيّر لفضّل القيام بأعمال أخرى أكثر أهمية من مقابلة خطيبة ولي عهده.. ثم سمعته يقول بعد لحظة صمت "أتمنى أن تكوني عند حسن ظني بك، وأن تتأقلمي في هذا القصر بأسرع ما يمكن.. سيتم زفافك بعد قدوم الملك قصيّ وعائلته، وسيكون الزفاف مشرّفاً وفخماً كأفضل ما يكون.. لذلك، وحتى ذلك الوقت، أتمنى ألا أواجه أي صدام بينك وبين الملكة، وهو أمر حتمي مع رفضها السابق لزواج زياد منك بسبب صِغَر مملكة أبيك.."
دهشت رنيم لتصريح الملك بذلك رغم أنها أدركته في اليوم السابق من الملكة نفسها، لكنها انحنت قائلة "لا تخشَ شيئاً يا مولاي.. أنا رهن إشارتكم وسأكون كما تحبّون وكما تحب الملكة بالتأكيد.."
وبعد حوار بسيط، انتبهت رنيم للصوت الذي أعن عن قدوم الأمير زياد ولي عهد المملكة.. فتوترت بشدة وهي تشد جسدها لتمنحه طولاً واستقامة أجمل وتعدل زينة شعرها بأصابع مرتجفة.. إن هي إلا لحظات ويتحدد مصيرها ومستقبلها.. صحيح أنها جاءت بدعوة شخصية من الملك وولي عهده، لكن لو لم ترُق للأمير فلا تظن أن يتم هذا الزواج حتى لو كانت توابع هذا الرفض كبيرة في العلاقة بين المملكتين.. فالأمير من مملكة أقوى ولا يخشى عواقب أفعاله فلابد أن أباه الملك سيسانده رغم كل شيء..
أمسكت رنيم جانب ثوبها الزاهي بقبضتها واعتصرته بتوتر.. تودّ لو تمكنت من رؤية وجهها في المرآة قبل لقاء ولي العهد.. بودها لو عرفت ما الذي سينال رضاه وما الذي لن يروق له.. لمَ يجب أن يكون الأمر عسيراً هكذا على النساء؟.. سمعت عدة خطوات تقترب من موقعها، فخفضت وجهها وبصرها، ولما لمحت طرف الحذاء اللامع الذي وقف أمامها سمعت صوتاً يقول "أهذه هي العروس المنشودة؟.."
انحنت رنيم بخفة وهي تقول بصوت هامس "لي الشرف بمثولي أمامك وباختيارك لي يا مولاي.. والدي الملك يرسل لك عميق شكره.........."
قاطعها الشاب قائلاً بضجر "أعرف كل ذلك.. كفّي عن اللغو وارفعي رأسك.."
رغم صدمتها، إلا أنها لم تظهر ذلك في ملامحها وهي تعتدل بعد انحناءتها ونظرت للأمير الذي وقف أمامها بصمت.. ورغم توترها، لم تمنع نفسها من تفحص الأمير الذي نظر لها متفحصاً بدوره.. ورغم الملابس الثمينة والأنيقة التي يرتديها، فإن جلّ ما يملكه ولي العهد هو منصبه وشبابه، وهو كما علمت لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.. فوجهه لا يلفت النظر وملامحه عادية، فلا يملك وسامة قد تبهرها أو حتى جاذبية قد تستميلها.. لكنه لم يكن بشع الهيئة على الأقل.. بوجه نحيف وطويل، وشعر بني قصير، وعينين ضيقتين تنظران لها بنظرات بها شيء من خيبة الأمل، ولحية خفيفة مشذبة بعناية.. وهو يقاربها في الطول مما جعل رنيم تدرك أن عليها الكف عن ارتداء أحذيتها ذات الكعب العالي لئلا يبدو الأمير أقصر من اللازم.. هذا لو كانت قد راقت له لدرجة إتمام الزواج، ونوعاً ما أدركت أن هذا لم يحدث من نظراته المستاءة وهو يلتفت إلى أبيه معلقاً "لقد رفضت أميرات أجمل منها في السابق يا أبي.. فلمَ هذه بالذات؟.."
احتقن وجه رنيم شيئاً ما وهي تقف في موقعها بصمت مندهشة من تعليق الأمير الخالي من التهذيب، بينما قال الملك "لقد اتفقنا على هذا الأمر سابقاً، وأنت أعلنت عن رضاك بهذه الزيجة بعد اجتماعك بالوزير حارث"
قال الأمير بحنق "لكن ذلك الرجل الخَرِف قد بالغ في مدح جمالها حتى ظننت أنني سأرى حورية من الجنة.."
تزايد احمرار وجه رنيم وهي تشعر بشعور كريه لم يسبق لها الإحساس به، ولم تتمكن من إطلاق اسم على تلك المشاعر بينما قال الملك بصرامة "زياد... ألا تملك وسيلة أخرى للتعبير عن سرورك برؤية زوجتك المستقبلية؟.."
زفر زياد للحظة، ثم التفت إلى رنيم بابتسامة جانبية وقال "أرحب بك طبعاً في مدينتنا الرائعة.. بغضّ النظر عن شعوري لرؤية (زوجتي المستقبلية)، فلابد أنك بقمة السعادة لرؤية هذه المدينة العظيمة مقارنة بقريتكم الصغيرة التي تطلقون عليها اسم (عاصمة).."
لم تجد رنيم ما تقوله على هذا الاستهزاء، إلا أنها تجاوزت هذا بعزيمة قوية وهي تنحني قائلة بخفوت "إن العاصمة أجمل مما تخيلت بكثير.. وأنا بقمة السعادة لرؤيتها ولنيل شرف مقابلتكم يا مولاي.."
بغض النظر عن صحة الجزء الأول فقط من جملتها، وبغض النظر عن خيبتها الشديدة بتصرفات الأمير زياد التي تبدو لها خالية من أي تهذيب، فإن على رنيم أن تتجاوز هذا وتبتلع غصتها بصمت.. فهي لا تنسى وصايا أبيها التي لاحقتها ليل نهار في كل مرة رآها فيها منذ وصل موكب الوزير لمدينتهم لأول مرة، ولا وعيد أمها لو فكرت بالعودة لقصر أبيها دون إتمام ذلك الزواج..
سمعت الملك يقول لها "عودي لجناحك يا سمو الأميرة.. سنقيم حفل استقبال لك خلال الأيام القادمة، عليك أن تكوني مستعدة لتبهري الحضور.."
سمعت الأمير يطلق ضحكة هازئة وهو يغمغم "(تبهر) الحضور..؟!!"
لم تعلق من جديد وهي تخفض رأسها قائلة بهدوء "كما يأمر مولاي.."
واستدارت مغادرة بينما وصل لسمعها صوت الأمير بوضوح قائلاً "الجارية التي اشتريتها الشهر الماضي تفوق هذه (الأميرة) جمالاً بعشرات المرات.. لا أدري لمَ تفرض عليّ الزواج بأميرة!.."
قال الملك بحنق "هل تريد أن يتولى وراثة عرشي من بعدك ابن جارية؟.. إن للحمق حدوداً.. كما أن لمملكة بني غياث موقع استراتيجي سيفيدنا في تعزيز أمن مملكتنا قبل أن تشتعل الحروب بيننا وبين مملكة كشميت، وهو أمر لا أستبعده كثيراً.."
عضّت رنيم شفتها السفلى بمزيج الحنق والمرارة دون أن تشعر بأي راحة لجواب الملك.. حافظت على هدوء خطواتها خارجة من القاعة وهي تحاول لملمة مشاعرها المبعثرة.. الآن عثرت على اسم مناسب لما شعرت به وهي تقف أمام ولي العهد.. الدونيّة.. هذا الشعور الكريه الذي سحقها وأشعرها أنها لا تفوق أي خادمة في القصر مكانة..
بعد أن أغلقت أبواب القاعة خلفها، انتبهت رنيم لوجود مجد قرب إحدى النوافذ التي تتوزع على طول ذلك الرواق.. فاقترب منها عند خروجها متسائلاً "كيف جرى الأمر؟"
تعلق بصرها به قائلة بمرارة "أحقاً لا تفكر باختطافي؟.. قد أرحب بذلك بشدة الآن.."
جذبها بعيداً عن مسامع الحراس القريبين حتى وقفا قرب النافذة ورنيم تشد على يديها بضيق وكآبة.. فقال مجد "هل كان الأمر سيئاً لهذا الحد؟"
غمغمت بصوت يحمل غصة واضحة في حلقها "بل أسوأ مما ظننت.. ظللت أوهم نفسي طوال الشهر الماضي أن الأمير قد يحوز على إعجابي، أو أنه قد يكون شخصاً طيباً يمكنني التفاهم معه.. لكن آمالي تبددت لحظة رؤيتي له.. ولا أعلم أي مستقبل قد أرجو لو أصبحت زوجته.."
غمغم مجد "كنت أثق أن الأمير زياد لا يستحقك.. إنه يستحق فتاة فارغة العقل مثله.. لكنه أمر لا يمكنني التدخل فيه.."
خفضت رنيم بصرها بمرارة، ومجد يتأملها بصمت، ثم علق قائلاً "لا تحزني.. قد يأتي الرفض من الأمير زياد وبهذا تتنصّلين من هذا الزواج دون عواقب.."
قالت رنيم بصوت متهدج "بل إن هذا قد يكون له أسوأ الأثر.. لقد هددني أبي بأنه لن يستقبلني مجدداً في قصره لو تسببت في إفساد هذا الزواج.."
بدا الإشفاق في عيني مجد وهو ينظر لملامحها المضطربة، لكنه قبل أن يعلق سمع صوت الأمير زياد يقول بشيء من الحدة "ما الأمر؟.. ما الذي تريده (سمو الأميرة) منك يا مجد؟"
لم يفت رنيم رنة السخرية في صوت الأمير زياد، لكنها لم تعلق أو ترفع وجهها وهي تنحني له، بينما أجاب مجد "لا شيء.. إنها تتساءل عن سبب اختفاء بعض أمتعتها التي أحضرتها معها.."
قال الأمير بصلافة "دعك منها.. وأعدّ بعض الرجال لمرافقتي.. سأخرج بعد قليل.."
وغادر دون أن يبادل رنيم كلمة واحدة، بينما ربت مجد على كتفها هامساً "تحلّي ببعض الصبر.."
ثم غادر لينفذ أوامر الأمير بينما همست رنيم لنفسها "الأمل هو ما أحتاج إليه في هذه الأيام.."
وغادرت بخطوات سريعة وهي ترفع أطراف ثوبها لئلا تتعثر به.. منعت الكآبة من أن تعتمر صدرها بصعوبة وهي تتجه لجناحها عندما رأت آخر شخص تتمنى رؤيته.. وكانت تلك الملكة الأم التي قابلتها بامتعاض قائلة "ما الأمر يا فتاتي؟.. تبدين على وشك البكاء.."
ابتسمت رنيم ابتسامة حاولت إتقانها قدر ما تستطيع وهي تقول "هي دموع سعادة يا مولاتي.. لم أتخيل في أحلامي أنني سأقابل الأمير زياد ولا أن يوافق على الزواج بي.. لذلك سعادتي اليوم بعد لقائه أكبر من أن تصفها الكلمات.."
مطّت الملكة شفتيها بضيق واضح، ثم قالت ببرود "طبعاً لن تحلمي بهذا، فهذا أكبر من مستواك ويفوق ما تستحقينه بكثير.."
لم تخفت ابتسامة رنيم وهي تنظر للملكة بصمت.. فقالت الملكة بابتسامة جانبية "حظاً موفقاً يا عزيزتي.. فأنتِ تحتاجينه بشدة.."
وابتعدت مع حاشيتها من الأميرات وبعض الوصيفات، واللواتي صدرت منهن بعض الضحكات في استهزاء واضح، بينما اضطرت رنيم للبقاء منحنية بانتظار مرور الملكة وابتعادها كما تقتضي منها اللياقة.. ولما تمكنت من الابتعاد أخيراً، سارت بخطوات سريعة عائدة لجناحها دون أن تتمكن من تمالك دموعها هذه المرة.. فرمت نفسها على السرير الوثير وهي تقبض على الوسادة بشدة حتى آلمتها أصابعها.. إنها لا تروق للأمير ولا للملكة.. والملك لا يعبأ لأمرها إلا بقدر ما يفيد مصلحته.. فأي حياة ترجوها في هذا القصر؟.. أي تعاسة ستشهد طوال الأيام الباقية من عمرها؟.. ما الذي جاء بها لهذا المكان حقاً؟..
بعد لقائها بالأمير زياد، فإن رنيم قضت عدة أيام في قصر الملك دون أن تراه مجدداً مما ساعدها على استعادة هدوئها والتفكير ملياً في مستقبلها في هذا القصر.. رغم الرفض الذي واجهته من الملكة ومن الأمير زياد، فإن الملك على الأقل بيّن لها أنه عازم على إكمال هذا الزواج.. هذا يهدؤها على الأقل ويطمئنها أنها لن تعود لقصر أبيها خائبة، ولن تواجه غضبه العارم لذلك..
كانت رنيم تتحاشى لقاء الملكة بأي شكل كان لئلا تواجه تعليقاً قاسياً منها، وفي الوقت ذاته كانت تجد عسراً في لقاء مجد وتبادل الحديث معه لانشغاله أغلب الأوقات وخروجه من القصر لبعض الأعمال في أحياء العاصمة.. لذلك ظلت رنيم وحيدة في القصر الضخم لا تكاد تجد من تحادثه سوى صفية وصيفتها الأمينة.. وبعد يومين، في وقت مبكر من ذلك الصباح، وجدت رنيم أحد الخدم يطرق باب جناحها ويبلغها بحضور الأميرة نوران، وهو اسم جهلته رنيم تماماً ودهشت لأن شخصاً يهتم بلقائها من العائلة المالكة بعد كل هذه الأيام..
وبعد وقت قصير، فوجئت رنيم برؤية فتاة لا تكبرها إلا بسنة أو اثنتين تدخل جناحها بصخب.. أكثر ما يلفت النظر في الفتاة هو شعرها الأشقر الناعم الذي ينسدل بطول ظهرها، ووجهها الصغير الرقيق بعينيها الزرقاوين الجميلتين وأنفها المستقيم وشفتيها الحمراوين المكتنزتين.. تملك جسداً مشابهاً لرنيم في الحجم، لكن بانحناءات أكثر أنوثة ويمنحها جمالاً يدير الرؤوس، وثيابها الأنيقة تزيدها جمالاً وهي تهرع نحو رنيم مادة ذراعيها هاتفة "يا إلهي.. وأخيراً تمكنت من رؤيتك.."
وقفت رنيم في موقعها متجمدة والفتاة تحتضنها بقوة وعاطفة واضحة، قبل أن تبتعد خطوة وهي تقول بابتسامة ملائكية "سعيدة جداً لتعرفي عليك يا رنيم.. أنا نوران.. ابنة الملك الصغرى.."
تمتمت رنيم بكلمات لا معنى لها بعد أن فاجأتها تصرفات الأميرة العاطفية، بينما نوران تضيف بلهفة "لم أتوقع أن تكون خطيبة أخي فتاة بهذه الرقة.. الأميرة التي جاءت للقصر قبلك كانت متعجرفة لم أحبها أبداً منذ رأيتها.. أنا سعيدة لأنني أتيت للزهراء فور وصول الدعوة من أبي لزفاف زياد القريب.."
تمالكت رنيم نفسها وهي تبتسم ابتسامة واسعة وتقول "سعيدة أنا بلقائك يا مولاتي.."
جذبتها نوران من يدها قائلة "لا تخاطبيني بمولاتي.. يكفيني أن تناديني باسمي فأنا أكره التعامل بهذه الألقاب.. لنذهب.. لقد أعددت موقعاً ملائماً لجلستنا هذه.."
تبعتها رنيم دون اعتراض حتى وصلتا لإحدى شرفات القصر الواسعة والتي تطل على الحديقة الزاهية الخاصة بالقصر.. وهناك، جلستا على كرسيين معدنيين بوسائد حريرية ذهبية، وأمامهما طاولة مزخرفة ازدانت بباقة ورد جميلة وغطاء موشّى وامتلأت بأطباق الحلوى والفطائر الشهية.. فقالت نوران فور جلوسها باهتمام "إذن.. كيف رأيت (الزهراء)؟.. هل أعجبتك؟"
ابتسمت رنيم معلقة "إنها مذهلة.."
فقالت نوران مبتسمة بدورها "وكيف هو زياد؟.. أتمنى ألا يكون قد خيّب آمالك.."
لم يكن قول نوران يجانب الحقيقة، لكن رنيم قالت بلباقة "إنني سعيدة جداً لانضمامي لقصر الملك عبّاد، ويشرفني الزواج من الأمير زياد.."
قالت نوران معترضة "هيا.. لا تحدثيني بهذا الأسلوب المهذب كما يفعل مجد عندما يتهرب من إجابتي.. أريد رأيك الحقيقي.."
قبل أن تعلق رنيم بكلمة على قولها، سمعتا صوت مجد يقترب قائلاً "هل تتحدثان عني من وراء ظهري؟"
استدارت نوران هاتفة بلهفة واضحة "هل جئت أخيراً يا مجد؟.. انتظرتك لوقت طويل حتى يئست من قدومك.."
نهضت نوران وركضت نحو مجد فرمت نفسها عليه وهي تعانقه بقوة كما فعلت مع رنيم وتقول بسعادة "اشتقت لك كثيراً.. كيف تتركني أنتظر بهذه الصورة؟"
استدارت رنيم بدهشة لما تراه وللألفة الواضحة بينهما ومجد يعلق وهو يبعد نوران خطوة "لأنني أدرك أنك بغير عمل طوال النهار.. لذلك لا يضيرك انتظاري لساعة أو اثنتان حتى أنجز ما عليّ من أعمال ثم أتفرغ لحديثك الفارغ.."
ضحكت نوران دون أن يبدو عليها استياء لما قاله، ونظرت لرنيم قائلة "لا تستنكري أسلوبه في الحديث يا رنيم، فهو طيب القلب رغم لسانه السليط.."
ابتسم مجد شيئاً ما و رنيم تعلق بابتسامة بدورها "أصبحت أعرفه بشكل يكفي لكيلا أنخدع بكلماته.."
جذبت نوران مجد نحو مجلسهما وهي تقول لرنيم بابتسامة متسعة "أنا أعرف مجد منذ طفولتي، فقد كان يرافقني بشكل دائم بطلب من أبي وكنت متعلقة به جداً.."
وأضافت بضحكة صغيرة "لقد توسلت لأبي الملك أياماً طويلة أن يسمح لي بالزواج من مجد عندما كنت في الخامسة عشر، لكنه رفض بشدة.. وأصر على تزويجي من سلطان (نجم الجنوب)، وهي سلطنة ذات نفوذ كما تعلمين ويرغب أبي بتوطيد أواصر العلاقات معها.. وبعد دموع غزيرة ذرفتها دون فائدة، وافقت أخيراً على الزواج من عمران وهو زوجي الحالي.."
ظلت رنيم تستمع لما يقال بدهشة متعاظمة لتعامل نوران مع مجد بهذه العاطفة وتصريحها بحبها له بلا أدنى حرج، وتتعجب عدم اهتمامهما بوجود رنيم كشخص غريب بشكل تام.. سمعت مجد يعلق "هل استدعيتني لتتفاخري بماضيك أمام ضيفتك؟.. لدي الكثير من الأعمال التي طلبها مني الأمير زياد، ولا وقت لديّ لتضييعه في أحاديث نسائية.."
هتفت نوران "لا يمكنك الذهاب.. أريد البقاء معك والتحدث عما جرى أثناء غيابي.. لم أرك منذ شهور عديدة.. كيف تعاملني بهذا البرود؟.."
ظلت رنيم تراقب حديث نوران وهي غير قادرة على ملاحقة انفعالاتها الواضحة وحديثها السريع.. بدت نوران مناقضة لها بشكل كامل.. وليس شكلياً فقط.. فشخصيتها واضحة وصريحة وإن كان ذلك في إظهار عاطفتها بكل صراحة.. بينما عاشت رنيم تكبت انفعالاتها ومشاعرها بصمت عن عائلتها لإدراكها أن أحداً لن يعبأ لأمرها..
تملص مجد بعد هذا الحديث منهما متعللاً بمشاغله.. عندها التفتت نوران إلى رنيم قائلة بلهفة "الليلة سيقام حفل لتعريفك بالعائلة المالكة وبالطبقة العليا في (الزهراء).. لذلك أتيت خصيصاً لحضور الحفل.. فكوني مستعدة لإبهار الحضور.."
ابتسمت رنيم ابتسامة مجاملة.. كان هذا آخر ما تتمناه.. في السابق، كان بإمكانها التنصل من مثل تلك الاحتفالات التي لا تخصّها لا من قريب ولا من بعيد.. لكن كيف تتنصّل من احتفال أقيم خصيصاً لها؟..
عندما عادت رنيم لجناحها، رمت نفسها على كرسي قرب النافذة وهي تزفر بحدة.. كانت تشعر بضيق شديد لمجرد التفكير في ذلك الاحتفال الذي ستحضره الليلة.. كيف لها أن تقف في قاعة واسعة وسط أشخاص لا تعرف أحداً منهم لساعات طوال؟.. هل يمكنها حتى أن تغادر الحفل بعد حضورها بوقت قصير؟.. إنها تعرف استحالة ذلك هذه المرة..
تلفتت حولها ملاحظة غياب صفية، فنادتها بشيء من الضيق "صفية.. أين أنت؟.. تعالي ساعديني لخلع هذا الثوب البغيض.."
وضعت يدها على عينيها محاولة التخلص من الضيق الذي تشعر به، عندما شعرت بتلك الخطوات التي اقتربت منها.. فرفعت يدها قائلة "أين اختفيت يا..........؟"
قطعت قولها وهي تحدق في تلك الفتاة التي وقفت أمامها، والتي لا تشبه صفية بأي حال.. كانت فتاة لا تتجاوز رنيم في العمر كثيراً.. على شيء من الطول ببشرة ذهبية جميلة وجسد نحيف بأطراف صغيرة.. شعرها أسود قصير لا يكاد يتجاوز أذنيها، ووجهها صغير بحاجبين طويلين وعينان واسعتان سوداوان وأنف صغير يعتلي فماً أصغر.. كانت ملامحها تدلّ بوضوح على كونها غريبة عن العاصمة، لكن ملابس الخدم التي ترتديها دلت على هويتها وهي تنحني أمام رنيم بملامح جامدة ودون أي انفعال..
اعتدلت رنيم متطلعة للفتاة وقالت "من أنت؟.. وأين صفية؟"
تحدثت الفتاة بهدوء ولكنة غريبة التقطتها رنيم بسهولة "مولاتي الملكة قد عينتني لخدمتك منذ اليوم.. لذلك يمكنك أن تعتمدي عليّ في أمورك كلها...."
قالت رنيم مقطبة "أين صفية؟.. هي وصيفتي وهي من يعتني بأموري.."
قالت الفتاة "ما علمته أن الملكة قد استبعدتها من خدمتك واستبدلتها بي.."
نهضت رنيم صائحة بعصبية "لا يحق لأي شخص استبعاد وصيفتي.. استدعها حالاً.."
لم تغادر الفتاة موقعها وهي تعلق "لا يمكنني ذلك يا مولاتي.."
وإزاء استنكار رنيم لهذا الرد، أضافت الفتاة "ما علمته أن الملكة قد هيأت لرحيل وصيفتك مع بقية الخدم الذين جاؤوا برفقتك منذ الصباح الباكر.. لم يعد أيهم موجوداً في (الزهراء).."
ظلت رنيم رافعة حاجبيها باستنكار شديد.. وراودتها رغبة بالتوجه للملكة والشكوى مما فعلته، لكنها أدركت عدم جدوى ذلك.. بعد أن تصرفت الملكة في أمر يخصها دون الرجوع إليها، فهذا يعني أنها لا تقيم لها أي وزن، وشكواها أو تذمرها لن يكون له أي أهمية تذكر..
حاولت رنيم تجاوز ضيقها الشديد بقوة وهي متفاجئة لتدخل الملكة في أمورها بهذا الشكل السافر، فقالت بضيق شديد "ما الذي فعلته أيضاً الملكة؟.. يبدو أنني لا أملك رأياً في أي شيء يخصني.."
رغم أنها لم تتوقع أي إجابة على سؤالها، لكنها سمعت الخادمة تضيف بهدوء "لقد أرسلت الملكة مع خدمك جميع ما لا تحتاجينه من أغراض.."
اتسعت عينا رنيم وهي تفكر للحظة.. لم تحضر معها من قصر أبيها إلا ما تحتاج إليه من ملابس، فما الذي استبعدته الملكة؟.. دفعت الخادمة بعيداً وأسرع لخزانة قريبة كانت قد استخدمتها لحفظ الكتب التي أحضرتها معها.. لقد اعتنت رنيم بانتقاء بعض الكتب من مكتبة أبيها وأحضرتهم معها مالئة حقيبة كاملة بها، والآن تجد الخزانة فارغة تماماً من أي أثر لها.. فصاحت رنيم بهياج للمرة الأولى في حياتها "أين كتبي؟.."
قالت الخادمة بهدوء "أرسلتها الملكة الأم مع........"
قاطعتها رنيم صائحة "أين كتبي؟.. أين أغراضي؟.. لمَ ليس لي الحق في الاحتفاظ بشيء يخصني بعيداً عن عين الملكة؟.."
وقفت الخادمة بهدوء في موقعها دون تعليق، بينما لطمت رنيم كرسياً قريباً ورمت بمحتويات الطاولة أرضاً.. كانت تشعر بهياج وغضب شديدين، ومن يراها يظن أن الأمر لن ينتهي قبل أن تثير زوبعة في القصر للتدخل السافر في أمورها.. لكن الخادمة لم تقلق لثورة رنيم وهي تقول "أنا آسفة.. لكن أوامر الملكة لا يمكن رفضها يا مولاتي.."
وقفت رنيم وسط الجناح وهي تقبض على يديها بشدة.. كتمت غصّة كبيرة تسدّ حلقها، ثم قالت بصوت حانق "أعلم ذلك.. بالتأكيد أعرف أن رأيي وقراراتي لا يعتدّ بها.. لا في هذا القصر ولا في أي مكان آخر من هذا العالم.."
ثم ألقت بنفسها على الكرسي وهي تضيف بصوت مختنق "لست واثقة إن كان لوجودي نفسه أي معنى في هذا العالم بالفعل.."
وزفرت بضيق ومرارة شديدة.. مع احتمالها لكلمات الملكة القاسية، ولإهانات الأمير الواضحة، ومع شعورها بأنها غير مرغوب بها في هذا القصر، ومع افتقادها لوصيفتها الطيبة التي اعتادت عليها كثيراً، عليها الآن أن تتخلى عن تسليتها الوحيدة وألا تتذمر لافتقادها كتبها العزيزة عليها..
لكن لماذا تفعل الملكة كل هذا؟.. لماذا تتصرف معها بهذه الطريقة الدونية؟.. ألأنها رافضة لهذا الزواج؟.. لو كان الأمر كذلك فبإمكان الملكة إعلان رفضها له بكل صراحة أمام الملك.. فلمَ هذه الألاعيب الساذجة التي لا تفهم رنيم لها سبباً؟.. لمَ عليها أن تجعل واقع رنيم أسوأ مما هو بالفعل؟..