الفصل السادس

في تلك الليلة، وبعد أن خضعت رنيم لإعداد طويل ومرهق للاحتفال الملكي الذي بدأت أصداؤه مع غروب شمس ذلك اليوم، فإن رنيم سارت تتبع إحدى الخادمات عبر أروقة القصر نحو موقع الاحتفال.. كانت رنيم ترتدي ثوباً ذهبياً طويل الأكمام وبرقبة عالية منشّاة وتبطنها طبقات من الدانتيلا الناعمة والتي تبدو أيضاً من أسفل أكمامها المشقوقة.. وفيما كانت تسير بخطوات وئيدة مرتدية حذاءً ذهبياً مزين بمجموعة من الأحجار الكريمة اللامعة، فإنها كانت تتلمس زينة شعرها الذهبية وتتأكد من انتظام تموجات شعرها المنسدل على كتفيها ومن القرطين الماسيين المتدليين من أذنيها.. كانت تنوء بما ترتديه وما تحمله على رأسها من زينة، ومن الأصباغ التي غطّت وجهها بحيث شعرت بعجزها عن الابتسام خشية أن تفسد شكلها الذي أمضت ساعات لإعداده.. ولما نظرت لوجهها في المرآة قبل مغادرة جناحها، راودتها رغبة شديدة في إزالة كل ما عبث بملامحها وأظهرها بشكل آخر لا يشبهها لا من قريب ولا من بعيد.. كيف يمكن للآخرين أن يسعدوا برؤيتها بشكل يخالف حقيقتها بهذه الصورة؟.. هذا لغز لم تفهمه حتى الآن..



ولدى وصولها للباب المخصص لدخول العائلة المالكة، والذي يختلف عن الباب الذي دخل منه ضيوف الاحتفال المميزين، سمعت نداء يتعالى باسمها ولقبها كخطيبة لولي العهد.. تضاعف توترها أضعافاً وهي ترى الباب يفتح بصوت عالٍ، عندها لم يكن أمامها مناص من التقدم بخطوات ثابتة وهي تمسك جانب ثوبها بحركة بدت أنيقة ولكنها تخفي قلقها وانفعالها الشديدين..
لاحظت أن الحضور تجمدوا في مواقعهم وهم يرمقونها بفضول كبير، ولم تفتها الهمسات التي اندلعت من بعض الحاضرات كبيرات السن.. لكنها حاولت تجاهل كل هذا وهي تبتسم لمن تلتقي عيناها بعينيه وتسير قدماً دون أن تعرف أين تذهب في هذه القاعة الواسعة التي غصّت بحضورها من جميع الأعمار.. رأت بعض النسوة يتقدمن منها مرحبات ومهنئات بهذه الزيجة، فشكرتهن بابتسامة دون أن تغفل عن تفحصهن المكثف لملامحها والابتسامة التي حملت جانباً هازئاً لم تحاول إحداهن إخفاءه..



بعد سير قصير دون هدف، لاحظت رنيم الأمير زياد الذي كان يضحك مع إحدى الأميرات المتصنعات غير عابئ بوجودها في الحفل.. لكنها لم تحاول الاقتراب منه وهي تدير وجهها جانباً تتأمل رعايا (الزهراء) من ذوي الطبقة العالية والأصول العريقة.. شعرت بغربة تامة، وكأنها وسط حقل مليء بالأشواك لا تجرؤ أن تخطو خطوة فيه دون أن تؤذي نفسها.. وبعد بعض الوقت، وجدت نوران تقترب منها قائلة بسرور "انظري إليك.. تبدين أجمل من المعتاد بكثير.."
ابتسمت رنيم بصمت وهي مدركة أن أي قول تقوله نوران ينطبق عليها هي بصورة أكبر بعشرات المرات.. كانت نوران تزهو بثوب طويل بلون خمري جميل يظهر بياض بشرتها وشعرها الذهبي، ورغم اقتناعها بقليل من الزينة وظهورها بمظهر طبيعي خالٍ من التبرج المبالغ به، إلا أنها بدت كحورية من قصة خرافية.. ألهذا السبب تشعر رنيم بتضاؤل شديد لوقوفها جوار نوران وكأنها برغوثة بشعة المنظر؟..


وجدت نوران تجذبها قائلة بابتسامة "لابد أنك لم تقابلي زياد.. لنذهب إليه.."
وغمزت بعينها مضيفة "ولابد أن زياد سيذهل لرؤية جمالك الأخاذ هذا.."
شعرت رنيم بشحوب ونوران تجذبها تجاه ذلك الشخص الذي تخشى مواجهته بشدة.. تخشى أن يعلق تعليقاً هازئاً لرؤيتها فيسبب لها الحرج أمام تلك الجماعة من الأميرات اللواتي تحلقن حوله..


قبل أن تصلا لموقع الأمير زياد الذي انشغل عنها ساهياً أو متعمداً منذ وصولها للحفل، جذبت رنيم ذراعها من يد نوران قائلة بارتباك "مهلاً.. أريد شرب بعض الماء.. أشعر بجفاف شديد في حلقي.."
نظرت لها نوران قائلة "وماذا عن زياد؟.. لا يمكن أن نتركه ينتظرنا.."
لم يبدُ أن الأمير ينتظرهما بحال وهو لاهٍ بحديثه الضاحك ذاك، فقالت رنيم بابتسامة مرتبكة "سأعود بعد لحظات معدودة وآتي للقاء الأمير من فوري.."
واستدارت مبتعدة تشق طريقها بين الحضور، حتى وصلت لمائدة صفّت عليها أنواع الشراب والماء البارد وبعض الحلويات.. فشربت رنيم بعض الماء وهي تحاول تمالك انفعالها.. ثم عادت ببصرها نحو الموقع الذي يقف فيه زياد، ولوهلة خايلها أن تلك الابتسامات والضحكات التي تتبادلها الأميرات معه هي نتيجة سخريته منها..



أشاحت رنيم بوجهها وغادرت نحو مخرج القاعة الذي يؤدي لشرفة واسعة خارجية ومنها للحديقة التي ظلت جوانبها مظلمة رغم المصابيح والمشاعل الموزعة في جوانبها بدقة.. شعرت بشيء من التعب وضيق تنفس جعلها تكره وقوفها في تلك القاعة الملأى بغرباء لا تعرف معظمهم.. والأدهى أن الأمير، زوجها المستقبلي، لم يلقِ عليها نظرة واحدة منذ دخلت القاعة.. ولم يحاول حتى تعريف الآخرين بها كخطيبته، وكأن وجودها لا معنى له..
اختارت رنيم جانباً مظلماً من الحديقة وجلست على كرسي طويل حجري بأرجل مزخرفة وتحيط به أشجار الياسمين ذات الرائحة العطرة.. حاولت أن تفرغ عوطفها ومشاعرها مما اكتسبته طوال هذا النهار من انفعالات عصفت بها.. إنها تشعر بشؤم شديد منذ وصولها للزهراء، ويتزايد هذا الشعور مع كل يومٍ يمضي.. لكن هل سيغير شعورها هذا شيئاً من واقعها؟..



ظلت رنيم في موقعها بصمت، رغم أن العطش سبب لها جفافاً في حلقها ورغم القشعريرة التي أثارتها في جسدها نسمة باردة هبّت على المكان.. لكنها لم تعبأ للأمر وهي متجمدة في موقعها دون حراك.. إنها تكاد تجزم أن من سيراها الآن سيظنها تمثالاً من التماثيل الموزعة في أرجاء الحديقة..
طال الاحتفال مدة طويلة، وكلما حاولت رنيم دفع نفسها للعودة للآخرين، شعرت بضيق من جديد وعزفت عن الحراك مستسلمة له.. هل الأفضل لها أن تعود لجناحها؟.. قد يعدّ الأمير ذلك سوء أخلاق، وهذا الاحتفال مقام احتفاءً بخطبتهما.. لكن، مع بقائها هنا، يمكنها أن تتذرع بحاجتها لبعض الهواء وشعورها بالاختناق في القاعة، وهو أمر لم يجانب الصواب كثيراً..



بعد وقت طويل، لاحظت رنيم خفوت الأصوات والأضواء القادمة من القاعة، فاقتنعت أن الاحتفال قد خفتت حدته، وقد يكون الحضور قد انتقلوا لموقع آخر من القصر كما يحدث في مثل تلك الحفلات.. فنهضت رنيم بهدوء وسارت بشيء من التردد وهي تتنهد.. لابد أن نوران ستثير زوبعة في اليوم التالي لغيابها عن هذا الحفل الذي أقيم خصيصاً لها..
سمعت صوت خطوات تقترب من خلفها، ثم أتاها صوت يزفر قائلاً "أخيراً عثرت عليك.."
انتفضت رنيم وهي تلتفت خلفها لترى مجد يقترب منها قائلاً بتقطيبة "ما بك؟.. لقد اختفيت منذ بدء الاحتفال، ونوران بحثت عنك طوال الساعات الماضية عبثاً.. لقد تضخمت أذناي لكثرة ما صبّتْ فيهما من الوساوس، ولولا خشيتها من إثارة بلبلة بين الحضور لأعلنت للجميع أنك اختُطِفْت من القصر.."


لم تجبه رنيم وهي تدير وجهها جانباً بصمت، فقال مجد وهو يقترب منها "أأنت على ما يرام؟.. بدوت شاحبة الوجه نوعاً ما في الاحتفال بشكل يثير القلق.."
لم تعلق وهي تدمدم "لا شيء.. أنا بخير.."
قال مجد "هل تمزحين؟.. ملامحك لا تدل على هذا بتاتاً.."
عادت رنيم للجلوس على الكرسي القريب وهي مطرقة.. فجلس مجد بدوره قائلاً "أخبريني بما حل بك.. قد أتمكن من معاونتك بأي شكل من الأشكال.."
قالت رنيم بعد لحظة صمت "أريد الرحيل.."
وإزاء صمت مجد أضافت بصوت مرير "أريد المغادرة لأبعد مكان ممكن.. لكن لا يمكنني التنصل من هذا الزواج لئلا ألقى غضب أبي وثورة أمي.. لكني حقاً أريد الرحيل فلم أعد أطيق رؤية شخص في هذا القصر.."
غمغم مجد وهو يتطلع للسماء "لا ألومك على هذا.."


أضافت وهي تدفن وجهها بين ذراعيها المستندتين على ركبتيها "الأمير زياد، زوجي المستقبلي، يعاملي بكل برود.. بل إنه يتعمد تحقيري ومعاملتي بكل دونية.. كما أن الملكة الأم تعاملني بكره واضح، وتتدخل بأموري بشكل سافر.. فما الذي جنيته لأستحق هذا؟.. ألم آتِ للزهراء بدعوة من الملك؟.."
ربت مجد على رأسها بخفة قائلاً "أدرك ما تشعرين به.. لكن لا يمكنك التنصل من هذا الزواج الآن.. لمَ لمْ ترفضي هذا المصير قبل أن يرسلك الملك قصيّ للزهراء؟.. كان عليك أن تكوني حاسمة في قرارك منذ البدء.."


قالت رنيم بمرارة "لا أحد يعيرني أي اهتمام ولا يُعتدّ برأيي أبداً.. رفضي لا يعني لأبي الملك شيئاً.. ثم إنني ظننت أن الأمور ستكون في (الزهراء) أفضل حالاً من (بارقة).. ظننت أنني سأبدأ حياة جديدة، وقد أتمكن من تغيير واقعي شيئاً ما.. قد أتمكن من أن أصبح بشخصية أقوى وأكثر حزماً في التعامل مع الآخرين.."
ابتسم مجد معلقاً "هل كنت تعوّلين على تغيير حياتك لتبدئي بداية جديدة؟.. هذا أمر صعب لو لم تبدئي بتغيير شخصيتك ذاتها.."
غمغمت رنيم "أدرك ذلك الآن.. لكني بدأت أفقد صبري حقاً.. أشعر بالحلقة تضيق على عنقي مع كل يوم يمضي، ولست أدري متى سأفقد القدرة على الاستمرار.."
قال مجد بحزم "لن يطول ذلك كثيراً ما لم تتمكني من تمالك نفسك بصورة أفضل.. تجاهلي ما يجري حولك، ولا تضعي آمالاً على الأمير زياد.. نحن لسنا في حكاية عاطفية، ولن تجدي الحب الذي قد تتأملينه من زوجك في المستقبل.."
غمغمت رنيم بمرارة "ليس هذا ما كنت أطمح إليه حقاً.. كل ما تمنيته هو بعض الحرية، والتخلص من بعض القيود التي تقيدني.."
نظر لها مجد بصمت وتعجب، ثم علق قائلاً "هذه نقطة أخرى لم أتوقعها فيك.. أغلب الفتيات، والأميرات منهن، يسعين للحصول على الحب الذي حلمن به سنين طويلة، مهما كان الأمر يقيّدهن ويجبرهن على التنازل.. ففي سبيل الحب، يمكن للفتاة أن تتنازل عن كل ما تملك من شخصية وكرامة وعزة نفس.. وهذا ما يشعرني أنهن لا يقدّرن أنفسهن حقاً.."


نظرت له رنيم متسائلة بتردد "أتظنني أقدّر نفسي حق قدرها بالفعل؟"
زفر مجد وهو يتطلع لوجهها المتردد، ثم قال "أنت تملكين الكثير من الصفات الرائعة يا أميرتي.. لكن كل هذا يزول لدى رؤية ملامح الخضوع والتردد البادية على وجهك.. كل جمال تملكينه، سواء أكان ظاهرياً أم داخلياً، يبهت عندما تخفضين رأسك وتخضعين لمن حولك.. ما الذي يدعوك لهذا الاستسلام الذي أقل ما يوصف به أنه مخزٍ لفتاة في منصبك؟"



خفضت رنيم وجهها المحتقن بصمت.. كان قوله كفيلاً بأن يجرحها بشدة، لكنه كان مصيباً ودقيقاً في كل ما ذكره.. ثم إنها، رغم قِصَر معرفتها بمجد، قد تآلفت معه وشعرت به كشخص موثوق يمكنها أن تطمئن إليه.. لذلك لم تستنكر قوله رغم قسوته بل استنكرت أن يكون خضوعها واستسلامها بهذا السوء.. ربما كانت تجمّل واقعها بأنها بهذا التصرف تشتري هناء بالها.. لكن مجد قد أزال كل ما دارَتْ به ضعفها وأبرزه أمام عينيها بشكل أثار خجلها مما تراه.. أهي بهذا السوء حقاً؟..


ولدى صمتها واحتقان وجهها، قال مجد بشيء من اللطف "أرجوك ألا تسيئي فهمي يا فتاة.. لا أعني تجريحك بقدر ما أرغب بإيقاظك من الغفلة التي تعيشين فيها.. حتى متى ستدفنين رأسك في التراب؟.. من هي مثلك حريّ بها أن تكون أكثر نباهة وفطنة وأشد يقظة لما يدور حولها.."
غمغمت رنيم بكآبة "أدرك ذلك.. فلا تقلق.. ما يسبب لي الضيق حقاً هو إدراكي مدى سوء واقعي بعيداً عن التجمّل الذي كنت أداري به ضعفي.. ما يسوؤني أن أرى أنني لست بالكمال الذي ظننت نفسي عليه.."



ربت مجد على رأسها مجدداً قائلاً "الاعتراف بهذا ليس سيئاً.. الأهم أن تقتنعي بتغيير ما ترينه.."
تنهدت رنيم للحظة، ثم نهضت مغمغمة "ربما كنت على حق.. لكن، من يدري إن كنت أقدر على ذلك؟.."
واستدارت بخطوات بطيئة عائدة لجناحها.. كانت تريد الخلوّ لنفسها والتفكير في ما عرفته هذه الليلة.. بينما وقف مجد يراقبها للحظات بصمت، قبل أن يستدير ويتجه بخطوات سريعة لشجيرة ورد قريبة.. وهناك، استطاع أن يرى تلك الخادمة التي أولته ظهرها وغادرت بخطوات سريعة مرتبكة.. لكن مجد لحق بالخادمة الهاربة حتى قبض على ذراعها بشدة وأوقف ركضها.. فالتفتت الخادمة إليه بفزع قائلة "ما الأمر يا سيدي؟.. أطلقني.."
لاحظ مجد أنها إحدى الخدم التي رآها عدة مرات ضمن حاشية الملكة، فقال مقطباً "أنت تعملين لدى الملكة، ألست كذلك؟.. أكنت تنوين الهرب والوشاية بما سمعته لها؟.."


هتفت الخادمة "لا يا سيدي.. أنا لا أتدخل فيما لا يعنيني.."
لكن مجد اعتصر ذراعها بشكل مؤلم بقبضته وهو يقول "أتظنين أنني لا أعرف عنكن شيئاً؟.. هل كنت تتلصصين بنفسك أم أن الملكة هي من أرسلتك؟.."
اتسعت عينا الخادمة شيئاً ما وهي تقول بقلق "لا يا سيدي.. لقد مررت من ذلك الموقع بالصدفة ولم........"
شدّ مجد على ذراعها بقوة فقالت بألم "أطلقني أرجوك يا سيدي.."


قال مجد بصرامة "لو لم تقولي الحقيقة، سألفق لك تهمة الخيانة وسيتم طردك من القصر.. لن ينفعك أي شخص عندها، ولا حتى الملكة الأم.."
بدا الارتياع على وجه الخادمة التي سرعان ما صاحت "لا تفعل هذا يا سيدي.. سأخبرك الحقيقة.. إنها أوامر الملكة.."
نظر لها مجد مقطباً وهي تضيف بارتباك "أنا أنفذ ما أمرتني به الملكة فقط.."
فسألها بحدة "وبمَ أمرتك بالتحديد؟.."
قالت الخادمة "أمرتني أن ألاحق الأميرة رنيم لعلّي أجد عليها ممسكاً أو زلة.. وتريدني أن أبلغها بكل ما أراه صغيراً كان أو كبيراً.."
تخلى مجد عن ذراع الخادمة وهو يفكر بما سمعه مقطباً، فتراجعت الخادمة خطوة وهي تضيف "هذا كل ما أوصتني به.. وأنا أنفذ أمرها فقط.."
لم يكن صعباً على مجد إدراك أن الملكة تبحث عن سبب لرفض هذا الزواج وطرد رنيم من القصر، فهي قد أبدت رفضها له سابقاً بكل صراحة.. فنظر مجد للخادمة بحزم قائلاً "لا بأس.. استمري فيما كنت تفعلينه.."
نظرت له الخادمة بدهشة، فأضاف بسرعة "لكنك لن تشي بأي شيء مما رأيته للملكة.. لن تنقلي عن الأميرة رنيم إلا ما يسرّني سماعه.. أفهمت؟.."
غمغمت الخادمة بقلق "ماذا لو أدركت الملكة الأم أنني خدعتها؟.. ستعاقبني بشدة على ذلك.."
قال مجد بصرامة "عقابها لن يكون أسوأ من عقابي لو علمت أنك أبلغت الملكة بخبر سيئ عن رنيم.. فكوني حذرة وتخيّري كلماتك بدقة.."
نظرت الخادمة بقلق لعينيه الحادتين، ثم أحنت رأسها قائلة بارتباك "سأفعل ذلك يا سيدي.. ثق بي.."
وتراجعت مبتعدة بخطوات سريعة، بينما زفر مجد بحدة وهو يغمغم "تباً.. ظننت أنني معتاد على تصرفات أهل القصر المتّسمة بالخسة والحقارة.. لكن لمَ يغلي دمي لمثل هذا التصرف وهو موجه لرنيم؟.. إنها لا تستحق شيئاً من هذا.."
ثم غادر بخطوات واسعة وشيء من الضيق عائداً لعمله وتفكيره منشغل بالفتاة التي تبدو شاذة في هذا القصر الفخم البهيج..



في اليوم التالي، تذرعت رنيم بمرضها لئلا تخرج من جناحها.. لم تكن معتادة على سجن نفسها في جناح أو غرفة لأي سبب من الأسباب، لكن كلمات مجد في الليلة الماضية أخذت تدوّي في رأسها وأبعدت النوم من عينيها لساعات طوال.. حتى عجزت عن العثور على إرادة لمغادرة سريرها بعد ليلة أنهكها التفكير وتحليل مجريات حياتها منذ البدء.. لكن هل تملك حقاً الإرادة على تغيير حياتها؟.. هل تقدر على أن تبدأ حملة تغيير شاملة تنطلق من أعماق نفسها الضعيفة؟.. ومع التفكير الطويل، فإن رنيم قد بدت لمن يراها كمن وقعت أسيرة لمرض شديد بالفعل..
وكان التعليق الذي قالته نوران فور دخول جناحها هو "يا إلهي.. إنك مريضة جداً.. كيف حدث ذلك؟"
غمغمت رنيم بكلمات مبهمة، بينما اقتربت نوران من سريرها ووضعت يدها على جبين رنيم قبل أن تقول "حرارتك طبيعية تقريباً، لكن وجهك شاحب بشدة.. ما الذي تشعرين به؟"



غمغمت رنيم مبتسمة "لا تقلقي.. هو مجرد إرهاق وتعب.. سيزولان بعد بعض الراحة.."
قالت نوران وهي تجلس جانباً "ألهذا السبب اختفيتِ من الاحتفال البارحة؟.. لقد أمضيت وقتي في البحث عنك دون فائدة.. ولم أهدأ حتى طمأنني مجد أنك في جناحك.."



قالت رنيم دون أن تواجه عينيها "لقد خرجت لاستنشاق بعض الهواء بعد شعوري بشيء من الضيق والدوار.. ولما لم أتمكن من العودة للاحتفال لتعب ألمّ بي، عدت لجناحي لأرتاح.."
ثم نظرت لنوران بشيء من التردد متسائلة "هل سأل عني الأمير زياد؟"
نظرت لها نوران بصمت، ثم نهضت وتقدمت من النافذة قائلة "هل تخشين من غضبه لاختفائك؟.. لا تقلقي.. لن يفعل.."
خفضت رنيم بصرها وهي مدركة أن نوران تقصد عدم اهتمام الأمير بها بتاتاً، لكنها صاغت جملتها بشكل أقل جرحاً لمشاعرها..
استدارت إليها نوران بابتسامة متسعة وهي تقول "عليك أن تنهضي من هذا الفراش.. أريد قضاء بعض الوقت معك قبل اضطراري للرحيل، وهو أمر لم أتوقع حدوثه بهذه السرعة.."



راقبت رنيم الابتسامة السعيدة على شفتي نوران رغم حديثها عن اضطرارها للرحيل، ثم غمغمت "تبدين في غاية السعادة.. ما الذي جرى؟"
دارت نوران حول نفسها بضحكة عالية، ثم قالت "ألا أبدو كذلك؟.. يمكن رؤية السعادة في ملامحي بوضوح.."
وإزاء نظرات الدهشة من رنيم، قالت نوران وهي تقترب منها وتقبض على يدها بشدة "وصلني خبر أسعدني الليلة الماضية.. زوجي، السلطان عمران، سيصل في وقت لاحق من هذا اليوم.."
رفعت رنيم حاجبيها بدهشة وابتسامة نوران تتسع بسعادة قائلة "لم أتوقع أن يكون قد لحق بي بهذه السرعة.. لم أره منذ شهر كامل فقد كان في رحلة هامة طارئة.. لكنه قطع تلك الرحلة فجأة ولحق بي.. قال في إحدى رسائله أنه اشتاق إليّ، لذلك سيصل للزهراء وسيبقى فيها بضع أيام في القصر الخاص به قبل أن يصطحبني معه في رحلته تلك.."
نظرت رنيم لملامح البهجة الواضحة في وجه نوران، والتي ظلت تثرثر لوقت طويل عن زوجها وعن شغفه بها بينما سرحت رنيم في أفكارها.. ثم قالت لنوران بشيء من التردد "ماذا عن مجد؟.."
تساءلت نوران باهتمام "ماذا عنه؟"


قالت رنيم بتردد أكبر "ظننت أنك تحبينه.. كيف تنازلتِ عن حبك له وحلمك بالزواج منه ورضيتِ بما خططه الملك لك؟.. كيف أمكنك أن تكوني سعيدة بحياة لم تختاريها لنفسك؟.."


كان ذلك السؤال ذاته الذي تطرحه رنيم دائماً على نفسها منذ قرر الملك قصيّ مصيرها دون الرجوع إليها.. وتمنت لو تمنحها نوران في تلك اللحظة جواباً شافياً لحيرتها تلك، فضحكت نوران للحظة ولوحت بيدها قائلة "لا أنكر أنني أحببته بشدة.. لكنه كان حب مراهقة.. كنت أشعر أنه عالمي كله، ولم أدرك أن العالم سيغدو أكثر بهجة لي بعد زواجي من عمران وتقربي منه.."


ثم أضافت وهي تقترب من النافذة "كنت مستاءة من زواجي الذي رتّبه أبي رغم إرادتي، وشعرت أنني سأدفن نفسي في حياة لا مشاعر فيها.. لكني لم أكن أعلم أن زوجي كان يحبني بالفعل قبل أن يتقدم لخطبتي.. ولم أكن أدرك أن مشاعري ستميل تجاهه بعد أن غمرني بحبه وعطفه الكبيرين.."
ثم استدارت إلى رنيم قائلة "الكل يعرف بأمر مشاعري التي كنت أحملها لمجد، حتى زوجي.. ورغم غيرته، إلا أنه يصدق أنها مشاعر طفولية انتهت منذ زمن طويل.."


ظلت رنيم تستمع لها بدهشة وشيء من الأمل.. أيمكن أن تشعر هي بشيء مماثل كالذي شعرت به نوران بعد زواجها الذي كان بترتيب من الملك رغم إرادتها؟.. أيمكن أن يتضح لها أن الأمير زياد ليس بالسوء الذي تتخيله عليه وأنها ستجده أفضل لو تعرفت عليه أكثر؟.. لكن لا.. بدا لها واضحاً أن الأمير زياد لا يمكن أن يحوي شخصية أعمق مما تراها عليه بالفعل.. هو لا يحب إلا نفسه ولا يعشق إلا ذاته.. مثل هؤلاء الأشخاص لا يحبون إلا من يخدمهم ويسعدهم.. ولو لم تتمكن من إسعاده فهي لن تنال إلا على احتقاره ومعاملته الدونيّة كما فعل منذ اللحظة الأولى التي وقعت عيناه عليها..
ثم إنها لطالما حلمت بزواج يبتعد بها عن القصور والأسوار وينطلق بها لعالم مجهول أكثر رحابة من هذا العالم الكئيب.. لم تفكر بالحب قط، لكنها أمِلَتْ أن يربطها الزواج برجل قوي يسبغ عليها حمايته ويحيطها بعطفه.. رجل يفك قيودها التي تغلّها لحياة كئيبة لا روح فيها.. رجل قلباً وقالباً لا كالأمير زياد الذي يشمئز من لطخة صغيرة لطخت حذاءه اللامع ويصبّ سخطه على الخدم لذلك دون رحمة..

*********************
في وقت لاحق من ذلك النهار، كانت رنيم لا تزال منطوية على نفسها في جناحها.. كانت تراقب عمل الخادمة الصامتة التي علمت أن اسمها كاينا، وتتذكر وصيفتها صفية التي اختفت من القصر بأمر من الملكة سليمة.. في هذا الوقت بالذات، افتقدت رنيم وصيفتها الثرثارة طيبة القلب.. ورغم أن كاينا طيبة ومسالمة كذلك، لكن صمتها كان يثير حفيظة رنيم بشكل كبير، خاصة مع بقائها وحيدة لساعات طوال لسبب أو لآخر.. بينما لا تتوانى صفية عن الاستماع إليها وتقديم النصح لها بما يخفف عن رنيم ما تشعر به.. ولكم تفتقد رنيم هذا بشدة الآن..
راقبت كاينا التي كانت تهيئ سريرها لتلك الليلة وتعتني بجناحها وبكل ما تحتاج إليه.. رغم ثورتها في البدء، إلا أن رنيم لا تنكر أن كاينا تخدمها بكل إخلاص وتفانٍ أدهشاها.. تذكرت أنها حملت تساؤلاتها عن هاته الخادمات اللواتي رأتهن في أرجاء القصر ممن يشابهون خادمتها الجديدة في الصفات الخارجية وفي اللكنة الغريبة، وذلك في الأيام الأولى لوجودها في القصر.. في ذلك الوقت، استنكرت رنيم رؤية هاته الخادمات اللواتي لا ينتمين للزهراء ولا يتحدثن العربية إلا بلكنة غريبة واضحة، ويمكن رؤيتهن يؤدين أعمالهن بصمت وسكون ودون أي تدخل في شؤون سكان القصر كما تفعل بقية الخادمات عادة.. وإزاء تساؤلاتها، أجابها مجد "إنهم من شعب يعيش في الجزء الشمالي من المملكة.. إنهم لا يتحدثون لغتنا ويخالفوننا في الكثير من العادات والتقاليد.. إنهم أشبه بالغجر الرحّل الذين جابوا أجزاء عديدة من القارة، لكنهم استقروا في ذلك الجزء الخالي من المملكة منذ عدة عقود.. ومنذ استقرارهم، والمناوشات بينهم وبين جنود المملكة تكاد لا تهدأ.."


تساءلت رنيم بدهشة "لماذا؟.. ما سبب هذا العداء بينكم وبينهم؟"
أجاب مجد "أسباب عديدة.. ربما كان الاختلاف بيننا في أسلوب الحياة والمعيشة هو السبب الأكبر، كما أنهم يرفضون الخضوع للملك بشكل كامل ويعتزّون بهويتهم وتفردهم عن البقية.. كما أنهم أقل تحضراً منا بمراحل، ولا يعرفون القراءة والكتابة.. لذلك يطلق عليهم شعب المملكة الرعاع.."
كانت رنيم تستمع بمزيج التعجب والشغف لتلك الحكاية، ثم تساءلت وهي ترمق إحدى تلك الخادمات التي سارت حاملة دورقاً من العصير الطازج بصمت ودون اهتمام بما حولها "لكن ما الداعي لاستخدام هؤلاء كخادمات في القصر؟.. رغم وجود كفاية من الخدم والخادمات من أهل (الزهراء).. كما أن الملكة حرصت على استبعاد وصيفتي وخدمي واستبدلتها بإحدى تلك الخادمات.. فما السبب؟"


قال مجد بضيق "مزيج من الاستعباد والتظاهر.. الملك أسر عدداً من فتيات الرعاع لا يقل عن عشرين فتاة وجلبهن للزهراء بعد انتصاره في إحدى المعارك عليهم.. حجته بذلك أن وجود الفتيات في العاصمة سيكسر شوكة الرعاع ويقطع أجنحتهم.. ولن يجرؤوا على التهجم على القوافل التجارية أو التناوش مع جنود المملكة خشية على الفتيات من أن يصيبهن مكروه جراء ذلك.."
شعرت رنيم بإشفاق على الفتيات لما مررن به وهي تحاول تخيّل ما جرى لهن، بينما أضاف مجد "وجدتها الملكة فرصة سانحة لاستبدال بعض الخادمات في القصر بخادمات من الشمال، مدّعية أنهن أفضل في الخدمة وأكثر طاعة.. لكن ما تريده حقاً هو أن تلمح الدهشة في أعين ضيوفها لدى رؤيتهم لهاته الفتيات الغريبات بملامحهن الغريبة ولكنتهن الأغرب.. هذا كل ما هنالك.."


تساءلت رنيم بإشفاق "ألم يحاول ذلك الشعب استعادة هؤلاء الفتيات؟.. لا يحق للملك استعبادهن دون سبب.."
علق مجد "ليس المهم اعتبار ما يحق للملك وما لا يحق.. المهم هو قدرة الملك على ذلك أم عدم قدرته، والملك لا يترك فرصة ليثبت لخصومه أنه قادر على أي شيء.."


لم تدرِ رنيم بمَ شعرت به كاينا منذ أن اختطفت من موطنها وأسرها غرباء قساة حرموها من عائلتها وأحبابها وعاملوها معاملة العبيد.. شعرت بإشفاق شديد تجاهها وهي تراقب عملها الصامت، مما دفعها لتسألها "كاينا.. لمَ لمْ تحاولي الهرب قط؟.."
اتسعت عينا كاينا بدهشة، إنما التزمت الصمت على هذا السؤال وهي مستمرة بعملها، فقالت رنيم بإلحاح أكبر "لماذا رضيتِ بهذه العبودية رغماً عنك؟.. ألا تملكين تقرير مصيرك بنفسك؟.."
غمغمت كاينا "وهل يمكنني هذا حقاً؟"
قالت رنيم "أنا متعجبة من هذا الاستسلام البادي عليكن لهذه العبودية المفروضة عليكن بحد السيف.. أنتن لستن جواري، فكيف يتم استعبادكن بهذه السهولة؟"
أدارت كاينا بصرها بعيداً وقالت "لسنا مستسلمين لهذه العبودية ولا نرضى بها.. لكننا لا نريد أن نغامر بالهرب ونحن في وسط المملكة فهذا الهروب لن يطول كثيراً.. وعقابنا سيكون قاسياً على يد الملك فهو لا يسامح من يعصي أي أمر منه أبداً.."
دمدمت رنيم "هذا ليس سبباً.. لو كنت مكانك، لما ترددت في الهرب في أقرب فرصة.."
ابتسمت كاينا ابتسامة جانبية مغمغمة "ربما.. من يدري ما تحمله لنا الأيام؟"
صمتت رنيم وهي تتطلع لملامح كاينا المسترخية وتفكر في حالها.. لم يبدُ على كاينا أنها تحمل همّ هذه العبودية التي تعيشها، ولم يبدُ عليها أنها بائسة أو متعجلة للهرب بأي شكل كان.. فما الذي تخفيه ملامحها الهادئة الصامتة يا ترى؟..
لو كانت رنيم في موقعها، لهربت منذ اليوم الأول، وهو ما كانت تود فعله منذ زمن بعيد.. كيف لشخص يمتلك حريته وحياته الطليقة أن يرضى بهذه العبودية ويستكين لها؟..



بعد عدة أيام من ذلك الاحتفال، وبعد رحيل نوران بيوم وخلوّ القصر ممن يمكن لرنيم أن تتحدث معه بكل بساطة ودون تكلف، فإن الملكة قد استدعت رنيم لمقابلتها دون أن تفصح عن السبب.. وبالطبع، فإن رنيم لم تملك التعليق على ذلك وهي تتوجه لمقابلتها محاولة رسم ابتسامة على شفتيها.. رغم محاولات رنيم المتكررة لفرض رأيها بشكل أو بآخر خلال اليومين الماضيين، فإنها تخضع لمن يفوقونها منصباً ومكانة بسرعة قبل أن تنطق حرفاً واحداً مما يدور في عقلها.. ويبدو أنها ستلجأ للاستسلام عما قريب وتتخلى عن تلك الفكرة من الأساس.. فهي لا تناسبها ولا تناسب شخصيتها الحقيقية بتاتاً..


قادتها إحدى الخادمات لموقع الملكة في إحدى شرفات القصر الواسعة، والتي رصفت برخام ثمين بلون أخضر تتخلله عروق بيضاء.. وفي جوانب الشرفة وضعت أصصٌ لعدد متنوع من شجيرات الورد الزاهرة ورائحة أزهارها تخلب الألباب.. ووسط الشرفة جلست الملكة على كرسي حديدي قرب طاولة بيضاء عليها صحاف مذهبة بعدد متنوع من الأطعمة الخفيفة وأكواب ماء ودورق شاي معطر ببتلات ورد..


انتاب رنيم توتر كبير لم تتمالكه وهي تقترب من موقع الملكة التي لم تستدر تجاهها ولو للحظة وكأنها تعرف هوية المتقدم منها تمام العلم.. فلا يجرؤ شخص على الاقتراب من الملكة دون استئذان ودون المرور بحاشيتها التي تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم..
وقفت رنيم أمام الملكة وانحنت باحترام قائلة "سعدتِ صباحاً يا مولاتي.."
قالت الملكة بجفاف "كفّي عن هذا التمثيل واجلسي.."


ابتلعت رنيم ما كانت تريد قوله وهي تطيعها بصمت، بينما ظلت الملكة صامتة وهي تطرق بأصابعها على الطاولة القريبة دون أن تدعو رنيم لتناول شيء مما ازدحمت به الطاولة ولو من باب اللياقة.. ثم قالت "هل أنت سعيدة هنا؟.."
فوجئت رنيم بهذا السؤال الذي جهلت معناه، فقالت بابتسامة متوترة "طبعاً أنا سعيدة يا مولاتي.. هذه المدينة، وهذا القصر، فاقا أحلامي وتوقعاتي.. والعيش فيهما يحقق آمال أي فتاة في العالم.."


قطبت الملكة شيئاً ما معلقة "لم أسألك عن (الزهراء) وعن القصر، فهما مطمح أي امرأة أو رجل في هذا العالم بالفعل.. ما أسألك عنه هو هذا الزواج.. أأنت سعيدة به؟.. هل تودين إتمامه بالفعل؟"
حافظت رنيم على ابتسامتها بصعوبة وهي تتساءل "ولم لا يكون ذلك يا مولاتي؟.. أهناك من لا تطمح للزواج من الأمير زياد؟"
مالت الملكة نحوها قائلة "حتى لو عاملك الأمير زياد بتعالٍ وفوقية؟.. ألا تشعرين بالسوء لاضطرارك احتمال تصرفاته المتعجرفة هذه؟"
ما زالت رنيم حائرة من مناورات الملكة اللفظية.. ما الذي تهدف إليه هذه المرأة بالضبط؟.. وبعد أن بحثت عن رد مناسب لمثل ذلك القول غير المتوقع، قالت رنيم بتهذيب "يحق للأمير التعامل بهذه الطريقة فهو ولي عهد عرش أعظم مملكة في عالمنا هذا.. لو كان الأمراء الأقل شأناً منه يفخرون بما يملكونه، فكيف لا يفعل ذلك الأمير زياد وهو من هو؟"


يبدو أن ردها أثار استياء الملكة التي قالت بضيق "وهل أحضرتك هنا لتشرحي لي مميزات الأمير زياد؟"
ظلت رنيم تنظر لها بغير فهم، فقالت الملكة بتقطيبة "اسمعي يا فتاة.. لابد أنك لاحظت أن الأمير زياد غير راغب بك، ولا يريد إتمام هذا الزواج.. لا يمكن لفتاة ألا تلحظ هذا من كلماته وتعليقاته.. لذلك أريد منك أمراً واحداً.."



ومالت نحو رنيم قائلة "أريدك أن تعلني رفضك لهذا الزواج.. اطلبي مقابلة الملك، وعندما تمثُلين أمامه أعلني عن عدم رضاك الارتباط بالأمير ورغبتك العودة لمملكة أبيك.."
رفعت رنيم عينيها بدهشة وصدمة، ثم قالت باضطراب "ولمَ لا يرفض الأمير هذا الزواج؟.. لابد أن كلمته مقبولة أكثر مني في هذا الشأن.."
قالت الملكة بحدة "الأمير لن يفعل ذلك.. فافعلي ما يطلب منك.. أستطيع أن أرى على وجهك الكئيب هذا أنك غير مسرورة ببقائك في القصر.. فلا تتعسي نفسك بهذا الأمر وأعلني رفضك بكل صراحة.."


خفضت رنيم رأسها مفكرة للحظة.. بدا لها واضحاً أن الملكة تخشى من رفض هذا الزواج أمام الملك، ويبدو أن الأمير زياد يخشى ذلك أيضاً.. فقد بدا لها بوضوح إصرار الملك على تزويج الأمير منها كما سمعت في اللقاء الوحيد الذي كان لها معه.. ألهذا تريد الملكة أن يأتي الرفض منها هي؟..
لم ترفع رنيم بصرها وهي تقول بصوت مرتبك "اعذريني يا مولاتي.. هذا أمر مستحيل بالنسبة لي.."
قطبت الملكة بشدة وهي تقول محتدة "ماذا تعنين؟"


التقطت رنيم نفساً قوياً لتشد عزمها، ثم قالت وهي تفرك يديها بشدة "لا أستطيع رفض الزواج من الأمير والعودة لقصر أبي.. هذا سيجلب عليّ نقمة الجميع، وستتضرر مصالح مملكة بني غياث بهذا كثيراً.."


ظلت الملكة تحدج رنيم بغضب.. كان رفضها فجائياً ولم يدر بخلد الملكة قط وهي تستدعيها لهذا اللقاء سابقاً.. كانت تظن أن رنيم ستذعن للأمر كعادتها منذ قدومها للقصر، فهي لا تملك الإرادة الكافية لمواجهة الملكة، كما أن عرضاً كهذا كفيل بإراحة رنيم التي بدت كارهة لوجودها في هذا القصر منذ البدء.. لكن ما لا تعلمه الملكة أن رنيم تخشى عودتها لقصر أبيها بشدة.. تخشى ما سيعلق به أبواها على هذا الأمر، وتخشى من نقمة المملكة عليها بعد أن ينقطع الخيط الذي كان سيُعقد بين المملكتين ولمدة طويلة..


انتبهت رنيم في تلك اللحظة لخطوات تقترب من طاولة الملكة دون استئذان كما يحدث عادة، ثم تعالى صوت الأمير زياد وهو يقول بعجرفة معتادة "ما الذي تفعلينه هنا؟"


انتبهت رنيم أنه يعنيها بهذا التساؤل.. وبينما لم تعلق الملكة على حديثه الخالي من اللياقة، فإن رنيم نهضت وأحنت رأسها له قائلة بصوت مبحوح "مولاتي الملكة قد استدعتني للحديث......"


قاطعها الأمير بنفاذ صبر وهو يجلس في كرسيها ملوحاً بيده "ارحلي من هنا.. أريد الحديث مع الملكة منفرداً.."
لم تملك رنيم الاعتراض وهي تنحني لهما من جديد وتستدير مغادرة بهدوء.. كانت تشعر براحة لانقطاع حديثها مع الملكة، لكن تصرف الأمير الذي تلى حديث الملكة القاسي كان كلطمة موجهة لوجهها جعلت قلبها يغوص في جوفها.. لكنها لم تظهر هذا وهي تخرج من الشرفة بصمت..


بعد مغادرة رنيم، وكاينا تتبعها كالمعتاد بصمت، انتبهت الأخيرة لتأفف الأمير زياد وهو يجلس جوار أمه قائلاً بحنق "متى سأتخلص من هذه التافهة؟"
لا تدري كاينا لمَ شعرت بالقلق لقوله، رغم أنها متأكدة أنه لم يحاول إخفاء تأففه وضيقه عن رنيم.. لكنها تحركت على الفور وطلبت من رنيم الممتقعة أن تمنحها مهلة صغيرة لأداء عمل مهم.. ثم هرعت تعبر ذلك الرواق وخرجت من أحد الأبواب الزجاجية التي تفضي للحديقة ومنها عبر سلالم حجرية يقف على جانبيها تمثالان لفتاتين تحملان جرتين.. وخلف أحد التمثالين، فإن كاينا انزوت وهي متأكدة أن موقعها يقع تحت تلك الشرفة العالية التي جلست فيها الملكة الأم.. تظاهرت كاينا بأنها تعالج حذاءها وهي تنصت بكل حواسها مدركة أن من في الشرفة لا يمكنهم لمحها.. لكن لا يزال خطر رؤيتها من جوانب أخرى من الحديقة قائماً..


في تلك اللحظة سمعت صوت الأمير زياد يقول "حتى متى؟.. لقد طلبتِ مني الصبر مدة طويلة.. لكني سئمت ذلك.. لماذا يفرض عليّ الملك الزواج من بلهاء تسكن قرية لا أهمية لها حتى لو كان والدها ملكاً؟.. هذه سخافة.."
أتاها صوت الملكة الأم وهي تقول بصرامة "أخبرتك أن تتعامل معها بشكل ينفّرها منك، لكن جهودك كانت بلا طائل فها هي ترفض الانصياع لطلبي.. الآن علينا البحث عن وسيلة جديدة أكثر فائدة.."


قال الأمير زياد باشمئزاز "أنا لم أعُد أطيق النظر لوجهها.. سأبلغ أبي رفضي لهذا الزواج جملة وتفصيلاً.. أنا رجل، ولن يمكنه أبداً أن يجبرني......."
ضربت الملكة مقبض الكرسي بقوة وهي تقول "بل سيفعل.. سيجبرك على الزواج منها فهو لن يكسر وعده أمام ملك بني غياث.. لذلك من الخير لنا العثور على وسيلة ملائمة للتخلص منها دون أن نقع في عواقب لا نريدها.."


قال الأمير زياد باهتمام "ما رأيك بأن ندسّ من يقتلها؟.. سنخرج بها من القصر وهناك سنرسل من يتخلص منها.. ثم ندّعي أن اللصوص قد قتلوها بغية الحصول على ما ترتديه من جواهر.."


قالت الملكة بضيق "ما هذه الخطة التافهة؟.. أنسيت وجود مجد؟.. لن يسمح لها بمغادرة القصر دون حراسة مشددة.. ثم إن موضوع اللصوص هذا لا يصل لحد القتل في (الزهراء).. مدينتنا من أأمن المدن في جميع الممالك.. كيف تتوقع من الملك أن يصدق كذبة رخيصة كهذه دون أن يشك بالأمر؟.."
قال الأمير زياد باعتراض "لكني أراها مقنعة.. لمَ لا نحاول تنفيذها؟.. دعي أمر مجد عليّ.. يمكنني شغله بأفضل الطرق.."
صمتت الملكة للحظات، ثم قالت بابتسامة جانبية "لا.. لازلت مقتنعة بتفاهة خطتك.. لكن جانب الشخص المدسوس عليها قد أعجبني.. لكن يمكنني استخدامه بوسيلة أفضل وأكثر فاعلية.."


نظر لها الأمير زياد بغير فهم، فمالت نحوه قائلة باهتمام "استمع لما أقوله جيداً.. وتأكد أنك لن تفشي سرّ ما سأفعله لأي شخص، حتى للجارية التي تقضي الساعات برفقتها كل ليلة.."
مال الأمير زياد تجاهها باهتمام شديد، بينما تلاعبت ابتسامة خبيثة على شفتي الملكة الأم وهي تضيف "خطة بسيطة هي، لكنها لن تفشل بالتأكيد.."
قطبت كاينا باهتمام بالغ وهي تقبض على يديها بشدة.. ومع كل كلمة تتفوه بها الملكة، فإن كاينا تتأكد لحظة بعد لحظة أن إحساس البغض الذي شعرت به منذ رؤيتها للملكة لم يكن خائباً أبداً..


سارت كاينا بخطوات سريعة عبر الرواق الذي يؤدي لجناح رنيم وهي تفكر بشكل محموم.. ما سمعته خطير جداً، وله عواقب وخيمة بالنسبة لرنيم.. لذلك لم تقدر على البقاء صامتة وتتعامل مع الأمر بحيادية.. هي عادة لا تتدخل في أي أمر، ولا تهتم لأمر أي شخص في هذا القصر ما عدا ما يخصّ الخادمات الأخريات من ذوات جنسها.. لكن لا تستطيع تجاهل ما يخططه هذان الإثنان لرنيم.. تلك الفتاة التي تجدها على شيء من الطيبة بشكل لم تشهده من قبل في القصر، قد أذابت حواجز كثيرة بينها وبين كاينا منذ عملها معها رغم قِصَر تلك المدة.. لأول مرة تجد كاينا من يتعامل معها كإنسان، وكفتاة، لا كمجرد خادمة لا أهمية لها ويمكن استبدالها في أي لحظة.. ربما لهذا السبب استاءت كاينا لما سمعته.. لهذا السبب ركضت عائدة للجناح لتنذر رنيم مما يحاك ضدها بكل دناءة من أشخاص لا تنقصهم الأموال ولا المناصب ولا الهيبة.. أشخاص استكثروا على الفتاة أن تعيش حياتها بصمت وسكينة.. وفور اقتحامها للجناح، وجدت رنيم تجلس في جانب المكان دون أن تستبدل ملابسها وهي منطوية على نفسها تحدق من النافذة بصمت.. انتابت كاينا شفقة على هذه الفتاة المسالمة والتي ترى في عينيها براءة وطيبة قد يجدها الآخرون سلبية وضعفاً..
التفتت رنيم عندما انتبهت لدخول كاينا، وقالت "هل أنهيتِ ما ذهبت لإنجازه؟"



اندفعت كاينا إليها بعد أن تأكدت من إغلاق باب الجناح، وقالت بصوت متعجل "بل كشفت أمراً حرصت الملكة الأم على إخفائه عن الآخرين.. لذلك جئت لتحذيرك قبل أن يتم تنفيذ ما خططت له الملكة مع الأمير زياد.."
واندفعت تغلق النافذة خشية وجود متلصص أسفلها، بينما نهضت رنيم واقتربت منها قائلة بحيرة "لا أفهم ما ترمين إليه يا كاينا.. ما الذي جرى في اللحظات التي غبتِ فيها عني؟"


قالت كاينا باندفاع "لقد شككت أن الأمير زياد يريد التحدث مع الملكة الأم لشأن يخصّك، وتوجست من ذلك الحديث خيفة.. لذلك اختبأت في موقع قريب وتنصّت على حديثهما.."
رفعت رنيم حاجبيها معلقة "هذا سوء تصرف يا كاينا.. لمَ تلجأ الخادمات للتنصت دائماً؟"
قالت كاينا منفعلة "أهذا ما يهم الآن؟.. ألا يهمك أن تعرفي ما تحدث فيه الإثنان بما يخصك؟"
أدارت رنيم وجهها جانباً للحظات، ثم قالت بتوتر "لا.. لا أريد معرفة ذلك، فهو لن يسرّني بحال.."
واستدارت مبتعدة، لكن كاينا أمسكت ذراعها لتوقفها قائلة "تجاهل الأمر لن يمنعه من الحدوث يا مولاتي.. الأمير زياد يخطط مع الملكة للتخلص منك.."
نظرت لها رنيم بشيء من الصدمة، ثم قالت بغير تصديق "ربما أسأتِ فهم حديثهما.."
قالت كاينا بعصبية "لا.. لقد تباحثا في أفضل الخطط للتخلص منك دون أن ينالهما غضب الملك.. سيلصقان بك تهمة تجعل الملك يطردك من قصره ويعيدك لأبيك دون أن يتمّ هذا الزواج.."
اتسعت عينا رنيم وهي تهمس بصدمة "ماذا تقولين؟"



قالت كاينا وهي تقبض على ذراعي رنيم وتشدّ عليهما "سيحاولان دسّ أحد الحراس الشباب في جناحك بعد أن يغرياه بالكثير من العطايا المجزية.. فإن لم يتمكن من إغوائك فلن يتردد في الاعتداء عليك بالقوة.. وعندها سيكشفان كونك غير عذراء للملك، وسيدّعيان وجود عشيق لك من بين الحراس في القصر.. وحتى لو اتهمتِ الحارس بما فعله فهو بعد أن ينجز مهمته سيُطرد من القصر ومن العاصمة بأكملها، ولن يمكنك إثبات أن ما حدث لم يكن برضاك.. عندها لن يجد الملك بداً من إعادتك لمملكة بني غياث بعد أن تتناقل الألسن ما سيحدث لك وتصبح فضيحة في أرجاء القصر والعاصمة بأكملها، وهو ما ستتأكد الملكة من حدوثه بأكبر صدىً ممكن.."


شحبت رنيم بشدة وهي تستمع لما يقال.. غلبتها نفضة شديدة والخادمة تقول بانفعال "عليك أن تفعلي شيئاً قبل أن يحدث ذلك.. غادري القصر قبل أن ينفذوا مخططهم القذر هذا، فلو لجأتِ للملك طالبة عونه لن يتردد الإثنان في تنفيذ خطة أخرى لا نعلم عنها شيئاً.."
تهاوت رنيم على كرسي جانبي في جناحها، وبدت مع شحوبها الشديد كأن الحياة قد فارقتها بالفعل.. فاقتربت كاينا منها قائلة بإلحاح "يجب أن نفعل هذا فور مغيب شمس هذه الليلة.. يمكنني تدبير كل الأمور لوحدي.. سأعثر على وسيلة لإخراجك من هذه المدينة وسأوفر بعض الحراس لحمايتك.. عليك فقط أن تجزلي لهم العطاء عند وصولك إلى........"


قاطعتها رنيم بيأس وصوت مرتجف "إلى أين؟.. أين سأذهب بالله عليك؟"
نظرت لها كاينا بدهشة، ثم قالت "ستعودين إلى قصر أبيك.. أليس هذا بديهياً؟"
أطلقت رنيم ضحكة مبتورة قبل أن تقول بعينين زائغتين "أبي سيقتلني بنفسه لو عدت إليه خائبة الوفاض ودون زوج.. هدفي من وجودي في الحياة هو في الزواج من ولي عهد مملكة بني فارس.. ولو لم يحدث ذلك، فأنا لا جدوى لي.. وموتي أفضل بالنسبة له من عودتي لقصره وتحمّل خذلاني له بهذه الطريقة المخزية.."


ثم وضعت رأسها على راحتي يديها هامسة بصوت يرتجف "أنا ضائعة تماماً.. فإلى أين أذهب؟"
ركعت كاينا قربها وهزتها قائلة "أليس لك أي رأي فيما يجري لك؟.. ألا تقدرين على مواجهة أبيك وإخباره بما انتوى الأمير زياد وأمه فعله بك؟.. قد يتفهم.. لا يمكن للملك أن يقبل بهذا على ابنته.."
غمغمت رنيم بمرارة "أنت متعاطفة معي أكثر مما قد يفعل أبي في حياته كلها.. عودتي لقصر أبي هو حكم عليّ بالموت.."
قالت كاينا بغير تصديق "هذه مبالغة.."
لم تعلق رنيم ودمعة تسيل من عينها وتسقط على ثوبها وهي تحدق بالنقوش الزاهية في السجادة تحت قدميها.. لقد وصلت لنقطة مسدودة ولم تعد قادرة على معرفة ما يمكنها فعله.. لطالما عاشت حياتها مسيّرة كما يشاء والدها الملك أو كما تحبّ أمها الملكة الثانية.. بل إن الملكة الأولى كان لها يد أيضاً في تسيير حياتها واتخاذ قراراتها عنها بينما لم تملك رنيم سوى الإذعان وتنفيذ خيارات لم تتخذها ولا تناسبها لكنها لم تعترض بكلمة يوماً.. وحتى إن اعترضت فإن الآخرين كانوا لا يأبهون لاعتراضها.. لذلك كان جلّ ما تملكه هو الهرب بخيالها.. لم تكن تهرب فقط من كآبة القصر وجدرانه الصماء.. 


بل كانت تهرب من ضعفها ومن خنوعها المخجلين.. تهرب لتحلم بأنها أكثر قوة وشجاعة مما هي بالفعل.. تحلم بأن تكون ذات شخصية جميلة تجذب الآخرين وتبهرهم.. أن تكون كصبيحة، الزوجة الثانية للملك قصيّ الأول جدها الأكبر، وهي امرأة عُرفت بقوتها وحكمتها وطيبتها الشديدة.. كانت فارسة لا يشق لها غبار في تلك الأوقات المضطربة التي صاحبت إنشاء مملكة بني غياث، وفي الآن ذاته كانت أماً رؤوماً اعتنت بصبي وفتاة يتيمين ليسا من صلبها بعد أن أدركت أنها لا تنجب.. لقد اشتهرت سيرتها واهتم كثير من الكتاب والمؤرخين بتدوينها مازجينها أحياناً ببعض المبالغات والخرافات التي تزيد حكايتها جمالاً وإبهاراً في عيني رنيم.. ولا تزال اللوحة التي تحمل صورتها، بدرع لامع فضي حاملة علم المملكة مرفرفاً وشعرها الأشقر يتطاير في الهواء، لا تزال تلك اللوحة معلقة في أهم قاعات قصر أبيها جوار لوحات تخص ملوك المملكة السابقين.. لكن للأسف، فإن رنيم لم تستطع أن تكون مثلها ولا تستطيع المحاولة حتى.. كل ما كانت تأمله أن تمضي حياتها دون أن تضطر للصدام مع أشخاص يفوقونها قوة وإصراراً.. وهو ما يكاد يحدث الآن في قصر الملك عبّاد..


تساقطت الدموع من عيني رنيم متتابعة وكاينا تقول "عليك اتخاذ القرار.. هل ستبقين في هذا القصر وتنتظرين غدر الأمير زياد؟.. أتظنين أن حالك سيكون أفضل بعد أن يلصق الأمير تهمته عليك وتعودين مكللة بالعار لقصر أبيك؟.. كوني قوية واتخذي قرارك بنفسك.."


لكن هذا مستحيل.. هكذا رددت رنيم لنفسها وهي تنهض متعثرة وتسير لسريرها العريض فترمي نفسها عليه وتدفن وجهها في وسائده بصمت.. من المحال أن تتخذ رنيم خطوة كبيرة كهذه.. من المحال أن تجد الشجاعة للهرب ومواجهة أبيها حتى لو كانت مظلومة.. دفنت وجهها في وسادة ناعمة الملمس، ورغم الرائحة العطرة التي تضوع من سريرها عادة، إلا أنها شعرت بغثيان شديد من كل ما تراه وتشمّه في هذا القصر.. أغمضت عينيها محاولة الهرب من واقعها الذي لطمها بشدة.. وشعرت بجدران القصر تكاد تطبق عليها، ولم يكن لها مهرب من هذه الكآبة التي حلّقت فوق رأسها..
شعرت بكاينا تقف قرب سريرها متنهدة بضيق لهذا الخنوع الذي أبدته رنيم، ثم دمدمت "ربما تنقلب حياتك رأساً على عقب هذه الليلة.. لنأمل أن تملكي الإرادة لاتخاذ التصرف الصحيح عندها.."


وغادرت بصمت مغلقة باب الجناح خلفها.. ورغم أن جملة كاينا كانت غامضة وأشعلت عدة تساؤلات في نفس رنيم، إلا أن صدمتها لما يخطط لها كانت حاضرة بقوة ومهيمنة عليها وهي تسلك السبيل الوحيد لتنسى هذه الصدمة.. ومهربها الوحيد كان في استغراقها في أحلام اليقظة وتناسي واقعها المؤلم الذي يزداد كآبة مع كل يوم يمضي..
 



إعدادات القراءة


لون الخلفية