كان قرار رنيم بدء تلك الرحلة مع كاجا بعد مغيب الشمس بساعات غريباً، بالنظر للطريق الذي سيسلكانه ولكونهما يجهلان ما سيواجهانه فيه.. فالرحيل فوق الأرض يختلف تمام الاختلاف عن الرحيل فوق البحر الواسع، حتى لو كانا سيحلقان في السماء.. لكن رنيم كانت قد شعرت بالضيق لاضطرارها الانتظار ساعات طويلة وهي وحيدة في العراء، وخشيتها من ابتعاد السفينة بآرجان أكثر فأكثر مع كل ساعة تمضي.. ثم إن السماء صافية والقمر ينير الأفق بشكل يجعلها أكثر اطمئناناً وثقة..
ربتت على كتف كاجا الذي نظر لها بصمت، ثم قالت "فلنرحل بحثاً عن صاحبك الآن يا كاجا.. وأتمنى أن يكلل مسعانا بالنجاح.."
وامتطت ظهره ليبدأ التنين تحليقه على الفور بنشاط.. تجاوزا تلك المنحدرات الصخرية التي تنتهي بها سهول الأكاشي الدموية، وسارا فوق الخليج ونحو البحر الواسع.. نظرت رنيم خلفها لتلك السهول التي بدت قاتمة سوداء في هذه الليلة، ثم زفرت وهي تتذكر كل ما مرت به منذ قدومها إليها.. كم يوماً مضى عليها في هذه السهول؟.. يومان؟.. ثلاثة؟.. لم تعد تذكر.. كل ما بدا لها أن دهراً قد مضى منذ كانت في قرية الهوت وحتى تمكنت من الهرب من الأكاشي على ظهر كاجا.. دهرٌ كامل مضى فيه الكثير، ورأت فيه أكثر من طاقتها على التحمل.. ولولا وجود هدف أمامها الآن لظلت منطوية في موقع منزوٍ وهي سجينة الهواجس التي تراودها والذكريات البشعة التي رأتها..
أما الآن، فاللحاق بآرجان يحتلّ أولوياتها ويطغى على تفكيرها.. ورغم كل التأخير الذي حصل، فإنها واثقة أن التنين يستطيع تجاوز تلك المسافة بأسرع من البرق.. لذلك فإنها وجهته للبحر الذي يبدو أمامها ودفعته للطيران بأسرع ما يستطيع موجّهة نفسها نحو ما قدّرت أنه الجنوب.. كانت رنيم، مع قراءاتها الكثيرة، تستطيع تحديد الاتجاهات بشكل تقريبي فاعتمدت على الموضع الذي غابت منه الشمس لتحدد بقية الاتجاهات.. والآن، فإنها تطير مع كاجا نحو الجنوب الغربي بسرعة متجاوزين الأمواج الفضية التي تعكس نور القمر القوي بينما تمرّ فوقهم الغيوم المتفرقة بسرعة كبيرة..
وبعد ساعة أو يزيد، انتاب رنيم شيء من القلق وهي تتلفت حولها ملاحظة خلو البحر حولها من أي سفينة.. كانت واثقة من مسارها، وواثقة أن السفينة لن تسير في البحر بسرعة تتجاوز سرعة التنين، فأين ذهبت؟.. هل أخطأت؟.. حاولت اتخاذ دورة واسعة في المنطقة بحثاً عن أي أثر لها عند الأفق، ثم عادت لمسارها الأصلي مع كاجا وهي تقول له بقلق "هل أخطأنا في أمر يا كاجا؟.. أين ذهبت تلك السفينة؟.."
بدا لها البحر من هذا الارتفاع أشد اتساعاً وامتداداً مما كان عندما كانت على ظهر تلك السفينة في طريقها للزهراء.. تزايد قلقها مع كل لحظة تمضي وهي تفقد ثقتها السابقة وتراودها الهواجس الكثيرة.. هل أخطأت الطريق؟.. أما أنها تأخرت كثيراً؟.. هل السفينة متجهة لقارة الثنايا، ولمملكة كشميت حقاً؟.. أم أنها اتجهت لموقع آخر؟.. ربما لم يكن آرجان على ظهر تلك السفينة فعلاً.. ربما تمكن من الهرب وعبرت هي مع التنين فوقه أثناء محاولته العودة لمخيّم الأكاشي..
كل تلك الوساوس قد تدافعت في ذهنها وبدأت تصيبها بدوار، بينما استمر التنين في طيرانه نحو الجنوب.. عندها جذبت رنيم لجامه ودفعته للهبوط على سطح المياه وهي تتساءل إن كان التنين قادراً على البقاء فوقها بدون أن يغوص في أعماقها.. لكن التنين هبط بسلاسة مسبباً اختلالاً قوياً في سطح البحر والمياه ترشّه وترش رنيم بغزارة.. ولما استقر على المياه، والأمواج الهادئة ترفع التنين وتهبط به بحركة سلسة، ظلت رنيم تحدق في الأفق المظلم حولها وهي تفكر بالحلّ الأمثل والخطوة الملائمة لهما بعد الآن.. هل تنتظر قدوم إحدى السفن وتتأكد من مسارها؟.. قد يطول انتظارها لأيام فهي ليست متأكدة من مسار السفن المعتاد، وهي لا تملك كل هذا الوقت لتضييعه.. فهل تتقدم نحو مملكة كشميت وهي لا تعلم في أي ميناء سترسو تلك السفينة ولا وجهتها حقاً في قارة كبيرة كتلك؟..
أخيراً، شدّت عزمها على التوجه لقارة الثنايا حيث تحتل مملكة كشميت جانباً كبيراً من الجهة الشرقية فيها.. وخلال الطريق، ستبحث فيما تعثر عليه من السفن عن تلك السفينة التي تذكرها بشكل باهت.. كان موقفها يزداد سوءاً، لكن رنيم لم تتردد لحظة وهي تضغط على بطن التنين وتجذب لجامه لتدفعه للارتفاع.. وبينما غادر كاجا البحر مواجهاً السماء، غمغمت رنيم لنفسها "ما يقلقني الآن هو العثور على جزيرة في الطريق لننال بعض الراحة ونستزيد من المؤن التي نملكها.."
ألقت نظرة على الجِراب الذي علقته على السرج بإحكام، والذي يحوي جزءاً صغيراً من الفاكهة والخضار التي حصلت عليها من ذلك الرجل.. لم تكن تلك تكفي التنين كوجبة كاملة، لكنها لا تزال تأمل في العثور على جزيرة يستريحان فيها ليتمكن كاجا من الحصول على الوجبه التي تسدّ جوعه..
وبعد وقت طويل قضياه يطيران فوق المساحات المائية الشاسعة، عثرا على مجموعة جزر صغيرة الحجم لا تتجاوز حجم قرية من قرى الهوت، صخرية بالكامل ولا ترى فيها أثراً لشجرة ولا أي كائن حيّ.. توقفا على إحدى تلك الجزر ورنيم تتأمل ما حولها بشيء من الإحباط، ثم قالت لكاجا وهي تترجل عن ظهره "سنحاول الحصول على بعض الراحة على الأقل.. مازلنا نملك بعض الطعام.."
بشيء من المشقة، أنزلت السرج عن ظهر كاجا الذي انتفض براحة بعد أن أثقل السرج كاهله لأيام عدة.. ثم ارتفع مغادراً رنيم بحثاً عن طعام في الجزر القريبة.. أما رنيم فقد جلست جانباً وهي تتأمل الجِراب الذي تحمله والذي يحوي على أقل من عشر حبات من الفاكهة.. هذه لن تكفيهما بتاتاً، وكاجا يتضور جوعاً بعد رحلة طويلة كهذه.. فما الذي يمكنها فعله؟.. إنها لم تحسب حساباً لهذا أبداً، وهذا سوء تقدير منها بالتأكيد.. إنها لا تملك أي خبرة في الترحال وما يلزمه من إعداد سواء أكانت وحيدة أم على ظهر تنين.. لكن، كان عليها اتخاذ احتياطاتها فيما يخصّ الطعام على الأقل دون الاعتماد على الحظ..
تنهدت وهي ترى كاجا يعود إليها وهو يصيح بتذمر شديد.. ولما هبط قربها أفرغت الجِراب أمامه ليلتهم ما يحتويه بينما احتفظت لنفسها بحبة فاكهة واحدة فقط.. وماذا عن الماء؟.. لقد فقدا القِربة التي كان يحملها آرجان في مرحلة ما من رحلتهما بعد هبوطهما في سهول الأكاشي.. والآن العطش يستبد بها وبرفيقها رغم المساحات المائية الهائلة المحيطة بهما.. وقد حاولت بالفعل تذوق شيء من مياه البحر رغم معرفتها بملوحته، فهي لم تذُق مياهه من قبل، لكن التجربة لم تكن محببة وتركتها عطشى أكثر من السابق..
وأخيراً، بعد حصولهما على ما يحتاجانه من راحة، أعادت رنيم السرج لظهر كاجا المعترض بشيء من العسر وصعوبة كبيرة.. وبعد جهد شديد، تمكنت أخيراً من تثبيته بإحكام، بعد أن كانت تراقب آرجان في عمله سابقاً في القرية بشغف كبير.. ولما امتطت ظهر كاجا، غمغمت وهي تدقق في أربطة السرج التي تحيط ببطنه "أتمنى ألا ينفك السرج ونحن في عرض السماء.. سيكون هذا مأزقاً مضحكاً.."
وجذبت عنان التنين ليرتفع في السماء مواصلاً رحلته الطويلة نحو الجانب الآخر من بحر السلام..
بعد عدد من الساعات، والشمس قد ارتفعت في السماء وأصبح وهجها أكثر حدة، فوجئت رنيم بهزيم الرعد والتماعة البرق من الغيوم الكثيفة السوداء التي تغطي الأفق أمامهما.. نظرت رنيم للموقع بقلق بينما شعرت بتوتر كاجا الشديد وهو يدير رأسه جانباً ويصدر أصواتاً معترضة.. كان طيرانهما في هذا الاتجاه مع العاصفة الوشيكة خطراً، فالطيران وسطها مرعب وخطر بينما البقاء على سطح الأمواج التي ستثور مع الرياح القوية والأمطار الغزيرة سيكون أكثر خطراً وصعوبة.. ولا تكاد ترى أي لمحة لجزيرة أو سفينة عابرة حيث يمكنهما الالتجاء ولو مؤقتاً..
كان التعب قد بدأ يحل بكاجا، لكنها قالت وهي تربت على عنقه "عليك أن تحتمل هذا يا كاجا لفترة أطول.. لا أريد أن نواجه هذه العاصفة الآن.."
كانت الغيوم السوداء تمتد لمسافة كبيرة أمامهما، وقد لاحظت أن الأمطار قد بدأت تهطل تحتها بغزارة وبدأت الأمواج ترتفع لمسافات عالية وتغدو أشبه بجبال مصغرة ترتفع ثم ترتطم ببعضها البعض بقوة والرذاذ يتطاير في مساحة كبيرة.. ولاتساع تلك العاصفة، كان الدوران حولها أو تجنبها مستحيلاً، لذلك دفعت رنيم التنين ليرتفع عالياً قبل الولوج في قلب العاصفة قدر استطاعته وهي تحثه على بذل جهده لتجاوز تلك الغيوم والطيران فوقها..
وبشيء من الصعوبة، تمكنت من تجنب العاصفة وارتفعت مع التنين فوقها وإن كان صوت الرعد والتماعة البرق التي تشق الغيوم تصيبها برجفة شديدة وتوتر التنين بقوة.. كانت العاصفة تغطي مساحة واسعة من ذلك البحر، وبدا أنها قد أثارت البحر بشدة وارتفعت أمواجه معها بثورة.. فتساءلت رنيم عن حال السفن في مثل هذه الأوقات، وحمدت الله أنها مع كاجا يتمكنان من تفاديها ولو بصعوبة..
ورغم سرعة كاجا، فإن وقتاً طويلاً قد مر عليهما وهما عاجزان عن تجاوز تلك العاصفة، وعاجزان عن الهبوط على أي جزيرة قد يمران بها.. لاحظت رنيم أن كاجا بعد مرور ذلك الوقت قد بدأ يفقد توازنه، فربتت على عنقه قائلة بإلحاح "قاوم تعبك يا كاجا.. لو اضطررنا للهبوط وسط تلك العاصفة فسنغرق في لحظات.. بقي القليل فقط ونتجاوزها بإذن الله تعالى.."
صاح كاجا بضيق شديد وهو يرفرف بقوة ويدفع نفسه دفعاً للاستمرار بالطيران مدة أطول.. وبعد أن كادت رنيم تيأس من تجاوزهما تلك العاصفة، بدأت الغيوم تخفت وتتفرق، وبدأ البحر الأزرق يبدو من تحتها مشرقاً بنور الشمس القوية.. فتنهدت رنيم وهي تحدق بالغيوم السوداء خلفهما، ثم عادت ببصرها للأفق مغمغمة "الحمدلله أننا تجاوزناها.. الآن لو نتمكن من الوصول لإحدى الجزر التي تنتشر في البحر كله، لكانت الحياة أكثر روعة.."
وبالفعل، بعد وقت قصير، لاحظت وجود جزيرة عند الأفق واللون الأخضر يغطيها وقمة جبل بركاني تنتصب وسطها والمياه حولها تبدو بلونٍ لازورديٍّ جميلٍ وصفاءٍ يخلب الألباب.. وحال الاقتراب من الجزيرة، لاحظت رنيم وجود قرية صغيرة في أحد جوانبها بميناء بسيط وعدد قليل من السفن والقوارب الخاصة بالصيد.. بينما بدت بقية الجزيرة غير مأهولة وتحتل الغابة أغلبها.. فغمغمت رنيم "جيد.. يمكن لك أن تعثر على طريدتك في الغابة بسهولة.. أليس كذلك يا كاجا؟"
فوجئت به ينحدر للأسفل بسرعة وزمجرة حانقة، ووجدته يتجه نحو أقرب موقع من الجزيرة.. عند تلك القرية، وعند شاطئها، وقرب تلك القوارب حيث بعض الصبية ممن هم تحت العاشرة يلعبون بالحجارة ويراقبون التنين بدهشة وذهول..
فوجئت رنيم بهبوط كاجا في ذلك الموقع دون طلب منها، ودهشت لرؤية الإصرار في عينيه وهو ينحدر لذلك الموقع بالذات مزمجراً بغضب أشعرها بتوتر كبير.. فجذبت لجامه بقوة قبل أن يصل للأرض وصاحت "كاجا.. توقف.. ما الذي تفعله؟"
أفلحت جذبتها في لجمه للحظات وهو يهبط على الشاطئ بقوة مثيراً الرمال من حوله، بينما تدافع الصبية مذعورين لذلك المنظر عدا صبيين صغيرين سقطا أرضاً برعب.. وفور هبوطه، اعتدل كاجا بسرعة نافضاً الرمال عنه، ثم تقدم من الصبيين وهو يطلق زمجرة اعتراض بينما جذبت رنيم لجامه بقوة وهي تلكزه محاولة دفعه للرحيل صائحة "ما الذي تفعله يا كاجا؟.. ما الذي تحاول فعله؟.."
لكنها كانت تدرك ذلك بنظرة واحدة لعينيه.. كان الجوع الشديد قد استبدّ بالتنين مع الطيران الطويل ومع العاصفة التي منعتهم من الهبوط لوقت أطول، وتحول جوعه لشراسة لم ترَ مثلها من قبل وتناستها مع الألفة التي شعرت بها تجاهه في الأيام السابقة.. هل ينوي حقاً التهام أحد الصبية لسدّ جوعه الشديد؟.. ولما رفض الانصياع لها وهو يميل برأسه يميناً ويساراً محاولاً التخلص من اللجام الذي يشدّ فمه بعيداً، فإنها سارعت للترجل من على ظهره والوقوف أمام الصبيين عسى أن يسترد إحساسه بما حوله برؤيتها ويعيَ ما يفعله حقاً.. فمدّت ذراعيها وهي تصيح به "كاجا.. استفق لنفسك.. يمكنك أن تتناول ما تشاء من تلك الغابة.. لكن لا تأكل البشر لتسدّ جوعك.."
صاح كاجا في وجهها بغضب شديد بينما بدأ الطفلان بالبكاء وهما يرتجفان.. وفي الآن ذاته تجمهر بعض القرويين في جانب المكان بذعر لمرأى التنين الغاضب وللفتاة الضئيلة التي وقفت أمامه بحزم، وإن لم يجسر أحدهم على التقدم وإنقاذ الصبيين الباكيين.. كانت رنيم واثقة أن كاجا لا يمكن أن يكون بتلك الشراسة، ولا يمكن أن يلجأ للوحشية لسدّ جوعه الشديد.. سيستفيق لنفسه مع صوتها ورؤيتها، وعندها سيطيعها بكل تأكيد.. ورغم ذلك، لم تملك نفضة اعترت جسدها للشراسة التي تراها في ملامحه المنقبضة وعينيه بحيث بدا غريباً عليها..
وعندما مال برأسه مزمجراً محاولاً تجاوزها نحو الصبيين، وقفت في وجهه وهي تمد يدها لتبعده صائحة "استفق يا كاجا.."
لكنها فوجئت به ينقض عليها فيقبض على أعلى ذراعها اليمنى بأسنانه الحادة التي انغرست بقوة مثيرة آلاماً لا تطاق.. لكن رنيم لم تصرخ وهي تعضّ على شفتيها بقوة حتى أدمتها.. خشيت أن يستثير صراخها التنين أكثر، وهي بحاجة لتهدئته الآن أكثر من السابق.. وبينما تراكض الصبيان بعد أن تمالكا نفسيهما، فإن رنيم التي سقطت على ركبتيها لشدة الألم والتنين متشبث بذراعها قد رفعت يدها الأخرى وأحاطت رأسه وهي تضمّه بقوة وتقول بصوت مرتجف "كاجا.. ما الذي جرى لك يا صاحبي؟.. استفق لنفسك وعُدْ كما كنت.. كاجا اللطيف الأليف الذي يعشق التفاح.."
زمجر التنين بغضب للحظات والدماء تسيل من ذراعها وتغرق يدها، ثم وجدته يفتح فمه ويستخرج أسنانه من ذراعها متراجعاً خطوات وهو يزوم بألم.. تململ في وقفته وهو يقلب بصره بينها وبين القرية.. ثم استدار وارتفع بقفزة عالياً ليطير في السماء نحو الغابة القريبة تاركاً رنيم تراقبه بشيء من الألم وكثيٍر من الراحة.. لو التهم كاجا أحد أولئك الصبية، فلن تقدر على رؤيته من جديد ولن تملك الإرادة على نسيان ذلك بتاتاً.. ستضطر للتخلي عن رفيق رحلتها للأبد وهو شيء كانت ستكرهه بشدة..
زفرت بقوة وهي تمسك ذراعها بألم محاولة إيقاف الدماء المتصببة، وسمعت لغطاً بين القرويين بعد أن ابتعد التنين الذي سبب لهم رعباً وأحدهم يقول بحنق لرنيم "من أنت؟.. ولماذا أحضرت هذا الكائن الشرس لجزيرتنا؟"
صاحت إحدى النسوة وهي تضمّ الصبيين الصغيرين "كان سيلتهم الصبيين.. أرأيتموه؟.. لقد انقضّ على صاحبته دون رحمة وكاد يلتهم ذراعها.."
ردد آخر "رحماك يا ربي.. هل سيبقى هذا الكائن في جزيرتنا؟.."
لم تتعجب رنيم للغضب البادي في الوجوه، ولا للكلمات الجارحة التي وصلت لأذنيها.. فهذا ما اعتادته على أي حال.. أليس كذلك؟..
بعد لحظات مرت وهي صامتة تحاول الوقوف على قدميها، شعرت بيد تجذبها لتعينها على الوقوف ورأت رجلاً في الخمسين من عمره بجسد نحيف وطويل، وعينين داكنتين عليهما عوينات بإطار معدني ربطت حول أذنيه بخيط سميك لتثبيتها فوق أنفه، وبشعر أبيض ثائر ولحية صغيرة بيضاء وملابس بسيطة.. نظرت له رنيم بدهشة، فقال لها "تعالي.. سأعالج جرحك.."
تعجبت رنيم من معاونته لها، لكن لم تقوَ على الرفض وهي تتبعه باستسلام ملاحظة النظرات الحانقة من حولها.. بينما قال الرجل للمرأة التي ضمّت الصبيين لها "لقد أنقذت تلك الفتاة الصبيين.. عليكِ أن تكوني شاكرة لها على الأقل.."
قالت المرأة بغضب "هي من جاء بذلك الشرس لجزيرتنا، وعليها تحمّل تبعات عملها ذاك.."
لم تعلق رنيم وهي تتبع الرجل بخطوات سريعة وقطرات من دمها تسيل خلفها على الأرض الرملية البيضاء.. وفي كوخ خشبي قريب من شاطئ البحر، بحجم متوسط وقد ملأته أدوات متنوعة لم تعرف رنيم ماهيتها، فإنها جلست في جانب المكان بصمت تتأمل ما حولها حتى جلب الرجل بضع أربطة قطنية وسائلاً شفافاً.. فمزق كمّ ثوبها الذي أصبح مهلهلاً بالفعل بعد أن عبثت فيه أنياب التنين، وتحته ظهرت آثار الأنياب واضحة في ذراعها التي تشوهت بتلك الجروح العميقة.. فقال الرجل "سيؤلمك هذا.. لكنه ضروري لتنظيف الجرح.."
لم تعلق رنيم والرجل يصبّ على جرحها من ذلك السائل ليعود لها الألم مضاعفاً بشكل جعلها تئن من الألم وتضرب قدمها بالأرض بقوة.. فغمغم الرجل وهو ينظف الدماء من ذراعها بقطعة قماش نظيفة "تحمّلي هذا حتى أنتهي.."
حاولت رنيم التحمل بأقصى ما تستطيع وهي تشعر بصداع عنيف ينبض في رأسها والعرق يحتشد على جبينها.. وبينما انشغل الرجل بربط الجرح بقوة، فإن رنيم عضّت على شفتيها وهي تتمنى أن ينتهي بسرعة لعلّ الألم يخفت بعدها.. وبعد أن انتهى، نظر الرجل لرنيم قائلاً "يمكنك أن ترتاحي قليلاً حتى يزول هذا الألم.. للأسف لا أملك مكاناً مريحاً يمكنك الاستلقاء عليه، لذلك عليكِ الاكتفاء بهذا الكرسي.."
وأشار لكرسي من القصب بلون بنيّ جميل وعليه بعض الوسائد الوثيرة.. فلم تتذمر رنيم وهي تجلس على الكرسي فتنطوي فيه وهي تسند رأسها لذراعها اليسرى.. كان الألم لا يطاق، وشعرت بحاجة كبيرة للنوم وتناسي ذلك الألم خاصة بعد رحلة طويلة قطعتها مع كاجا مستيقظة.. ألقت نظرة على الرجل الذي تركها وانشغل بغسل يديه وتنظيف ما تلطخ من كوخه بدمائها، ثم أغمضت عينيها بشيء من الاستسلام.. هي لا تعرف هذا الرجل، لكنها نوعاً ما شعرت بشيء من الثقة تجاهه وأدركت أنه لن يمسّها بسوء.. تتمنى فقط ألا يخيّب ظنها فيه..
عندما استيقظت رنيم، بعد ساعة أو يزيد، وجدت الكوخ خالياً من حولها.. حاولت الجلوس على الكرسي باعتدال مستشعرة الألم الذي ينبض بقوة في موضع الجرح المضمّد.. نظرت لذراعها ملاحظة أن الدماء قد لطخت أجزاء منه، لكن لونها المتغير قد أوحى لها أن الجرح لم يعد ينزف الآن..
تنهدت متطلعة حولها للصمت الذي يعمّ المكان، ثم سمعت صوتاً قوياً يصدر من فوقها ناتجٌ عن سقوط شيء ثقيل.. نظرت للأعلى بدهشة، وتلفتت حولها لتنتبه لوجود درجات خشبية تؤدي لموقع علوي في هذا المنزل.. ببعض التردد، اقتربت من الدرجات وتطلعت من الجزء المفتوح في الأعلى بشيء من الفضول، ولما انتبهت لما تراه من ذلك الجزء المفتوح، صعدت الدرجات بخطوات متسارعة لتجد نفسها في عليّة واسعة باتساع الكوخ كله.. وفي كل جوانب العلية، وعلى الجدران، وعلى الأرضية الخشبية اصطفت عشرات وعشرات الكتب مختلفة الأحجام والألوان.. منها القديم الذي حال لونه أو فقد غلافه وغدا مجرّداً، ومنها الحديث الذي لا يزال عنوانه واضحاً وصفحاته بيضاء نظيفة.. ووسط هذا الموقع، عثرت على مضيفها الذي انحنى يتناول بعض الكتب التي سقطت من يده، ولما انتبه لها قال "أأنت أفضل حالاً الآن؟.."
قالت رنيم بانبهار دون أن تجيب على سؤاله "لا أصدق ما أراه.."
تساءل الرجل بابتسامة "أمِنَ العجيب رؤية الكتب في هذه الجزيرة النائية وهذا الكوخ الحقير أم العجيب اهتمامي بها؟"
قالت هاتفة "الاثنان كما أظن.. أأنت من جمع كل هذه الكتب؟"
قال الرجل وهو يجلس على كرسي منخفض من القصب يخلو من أي مسند لليدين أو للظهر "أجل.. جمعتها في رحلاتي أثناء شبابي.. والآن بعد أن أعجزني العمر عن استكمال تلك الرحلات قمت بوضع يدي على كل ما يمكنني الحصول عليه من السفن العابرة.."
دارت رنيم في الموقع منبهرة وهي تغمغم "منظر لم أكن أتخيّل رؤيته في هذا الموقع بالذات.. لقد مضى زمن طويل منذ آخر مرة قرأت فيها كتاباً.."
سألها الرجل بفضول "أأنت تُحسنين القراءة؟.. من علّمك؟"
ترددت للحظات وهي عازفة عن كشف هويتها رغم الطيبة الظاهرة على وجه الرجل، ثم تذكرت معلمها الذي كان يعمل في قصر أبيها معلماً لإخوتها، والذي رضِيَ بتدريسها خلسة دون علم الملك.. فقالت بابتسامة "علّمني إياها رجل طيب.."
غمغم الرجل وهو يتأمل أحد كتبه "قلّة من الرجال من يوصفون بهذا الوصف.."
قالت "أنت أيضاً رجل طيب.. فأنت لم تعبأ لأمر التنين الذي جئت معه وقمت بعلاجي وإيوائي فوق ذلك.."
نظر لها الرجل متسائلاً "ما حكايتك يا فتاة؟.. أنا لم أرَ تنيناً في حياتي ولم أسمع به إلا في متون الكتب.. لذلك من الغريب أن أرى شابة مثلك ترتحل على ظهره بكل سهولة.."
لم تجد رنيم مانعاً من إخباره بحكايتها، وإن اكتفت بالجزء الأخير منها والخاص برحلتها مع آرجان بحثاً عن جايا وما جرى لها بعد ذلك.. فعلق الرجل بدهشة بعد أن فرغت من حكايتها "هذه رحلة غريبة وصعبة جداً.. ما الذي جمع بين رجلٍ من الهوت وفتاة عربية في رحلة كهذه؟.."
قالت ببساطة "الأقدار فعلت ذلك.."
لم يعلق الرجل وهو ينهض تاركاً ما بيده من كتب جانباً وقال "اسمعي يا فتاة..."
أسرعت تقول "اسمي رنيم.."
فقال بابتسامة "اسمك جميل كهيئتك.."
التمعت في ذهن رنيم ذكرى بعيدة، عندما قابلت الملكة في (الزهراء) وعلقت على اسمها بأنه لا يليق بها.. شتان بين هذين التعليقين، وشتان بين هاتين الحياتين..
استخرجها الرجل من ذكرياتها وهو يقول" اسمعيني يا رنيم.. اعتبري هذه الدار هي دارك.. أنا أسكن هنا، ولا أحتاج إلا لجزء صغير من الكوخ أفرش فيه فراشي وأنام فيه.. لذلك لا يمكنني منحك الكثير.. سأزودك بالطعام ومكان ترتاحين فيه حتى تقرري الرحيل.."
قالت بسرعة "أنا شاكرة لك ذلك.. لكني سأرحل فور عودة التنين.. ألم تره أثناء نومي؟"
هز رأسه نفياً وقال "لا.. لكن على الأقل سأحضر بعض الطعام لك، وهو ليس بالكثير.. لابد أنك جائعة.."
ثم استدار هابطاً الدرجات، فسألته قبل أن يبتعد "وبمَ يمكنني أن أناديك أيها الرجل الطيب؟"
أجاب دون أن يلتفت إليها "اسمي مُزاحِم.. يكفيك أن تناديني بهذا الاسم.."
نظرت رنيم لظهره المحنيّ وهو يهبط الدرجات نحو الجزء السفلي من الكوخ، ثم نظرت للكتب من حولها وهي متعجبة من قدرها الذي ساقها لهذه الجزيرة بالذات، ولهذا الكوخ بالذات، لتعثر على هذا الكنز المخفيّ عن الأعين.. ولولا المهمة التي تسعى إليها، لقَبِلَت عرض الرجل دون تردد واستوطنت هذه العليّة لأيام وأيام حتى تشبع من هذه الكتب العزيزة على قلبها..
قضت رنيم اليومين التاليين تكاد لا تغادر الكوخ الصغير بتاتاً.. فهي لا تكاد تقطع خلوتها بالكتب في العليّة إلا لتقف عند باب الكوخ ترقب السماء بقلق وتطلق صفيراً عالياً على أمل أن يستجيب لها كاجا.. ظلت على أمل عودته عدة ساعات تحولت ليوم ويومان دون أن يبدو لها عند الأفق.. هل أصابه شيء؟.. أم أنه غضب منها وفضّل الرحيل وحيداً؟.. هل قرر البقاء في الغابة وعدم العودة إليها؟..
وعندما تيأس من رؤيته كانت تعود للكوخ فتعاون مزاحم بما تقدر عليه، وهي التي لا تعرف عمل شيء بنفسها بتاتاً.. وعندما يستغني مزاحم عن خدماتها التي لا تفيد أحداً فإنها تنزوي في العليّة الضيقة تتصفح الكتب وتشمّ رائحتها التي اشتاقت لها أمداً طويلاً.. رغم أن هذه المكتبة البسيطة لا تقارن بمكتبة أبيها الضخمة، لكن الراحة التي تشعر بها هنا لا تقارن بالضيق الذي شعرت به هناك.. ولا يؤرقها في تلك الساعات إلا التفكير في كاجا وفي آرجان.. هل حتّم عليها أن تفقد كل شخص، وشيء، تتقرب منه؟.. هل قدّر لها أن تكون وحيدة الآن في رحلتها هذه، كما كانت وحيدة في ذلك القصر الواسع ووسط عائلتها الكبيرة التي لم تفهمها يوماً؟..
وعندما نقلت هواجسها هذه لمزاحم قال لها وهو يبحث بين الكتب "سيعود.. لو كان أليفاً ومطيعاً كما تخبرينني عنه فلابد سيعود مهما طال الوقت.."
تساءلت رنيم بقلق "لكن، كيف سأبقى هنا بانتظاره؟.. أرأيت كيف غَضِب القرويون لقدومي؟.."
ثم دفنت وجهها في الكتاب أمامها مغمغمة "رغم أنني أواجه الغضب ذاته حيثما ذهبت.."
قال مزاحم "لا أظن الغضب كان موجهاً لك أنت شخصياً.. فنظرة إلى وجهك تجعلهم يدركون أي فتاة لطيفة ومسالمة أنت.. غضب أهل القرية منك كان بسبب الذعر الذي عاشوه وارتبط بقدومك.. لك أن تعذريهم على ذلك، فظهورك المفاجئ ارتبط بتجربة قاسية تتمثل في التهام وشيك لصبيين من صِبْية القرية أمام أعين أهلها.. ولولا لطف الله تعالى لحملتِ إثمهما على كاهلك.."
قالت رنيم "لكني لم أهدف للهبوط في هذه القرية بتاتاً.. لقد فقدت السيطرة على كاجا عندما رأى الجزيرة وأفقده الجوع تركيزه.."
ثم تنهدت وهي تنظر للسقف الخشبي الذي علاه الغبار مغمغمة "ربما كان هذا خطئي بالفعل.. أنا لم أخطط لهذه الرحلة بتاتاً.. ظننت أن هذا البحر يحوي العديد من الجزر التي ستوفر لنا مصدراً آمناً من الطعام وموقعاً للراحة طوال الطريق.."
قال مزاحم باهتمام "ليست الحياة بهذا اليسر يا فتاة.. عليك فعلاً أن تخططي لطريقك بشكل أكبر.."
ونهض متجهاً لجانب من العليّة حيث صفّت أوراقٌ قديمة متفاوتة الأحجام، فاستخرج ورقة كبيرة الحجم وتقدم من طاولة جانبية ففردها أمامه.. تقدمت رنيم بفضول فرأت أمامه خارطة للعالم، تم التركيز فيها على بحر السلام بجزره وموانئه ومسارات السفن المعتادة فيه.. فهتفت رنيم "هذا رائع.. ستفيدني هذه حقاً.."
قال مزاحم منذراً إياها "لا تحلمي بأن أعطيك هذه الخارطة.. عليك تدبّرها جيداً واختيار طريقك الأنسب.. ولو رغبتِ يمكنني تعليمك كيفية تحديد اتجاهك في أي مكان وأي وقت.. وهي وسيلة سهلة ولا تعتمد على أي أدوات خاصة.."
قالت رنيم بامتنان "هذا سيعينني حقاً.. لا أعرف كيف أشكرك على كل هذا يا مزاحم.."
تجاهل مزاحم قولها وهو يشير لجزء من الخارطة قائلاً "أنتِ قدمتِ من مدينة (طوقا).. هذا هو موقعها.. وهذه هي جزيرتنا.. بهذا يكون المسار الذي اتخذتِه بهذا الشكل، بينما مسار السفن المعتاد والتي تتجه نحو قارة الثنايا تتخذ طريقاً آخر مغايراً بعض الشيء.."
استمعت رنيم لشرحه باهتمام شديد وهي تحاول حفظ الطريق في ذاكرتها.. بالنظر للخارطة، فهي في إحدى جزر الأرخبيل الأسود المتطرفة، وهي تقع في منتصف المسافة بين القارتين، وعليها قطع المسافة ذاتها التي قطعتها في قدومها لهذه الجزيرة.. هذا لو كانت حسنة الحظ وعاد إليها كاجا مطيعاً وأليفاً كما كان.. فما الذي يمكنها فعله لو لم يَعُدْ؟..
وبعد هذين اليومين، وبينما كانت تقف خارج الكوخ تتأمل السماء الزرقاء الصافية وتسمع حفيف الأشجار المثمرة القريبة من الكوخ، فإنها صفرت بأعلى ما تملك وهي تدير بصرها فيما حولها.. لا تدري متى ستفقد الأمل حقاً.. لكن ليس اليوم.. بالتأكيد يمكنها أن تتحلى ببعض الصبر لعدة أيام بعد..
وبينما كانت تدير بصرها في الأرجاء، سمعت صوت حفيف الأجنحة القوي الذي تعرفه تمام المعرفة.. فاستدارت بلهفة لترى التنين الأبيض يقترب منها وهو يهبط برفق على الأرض الرملية مثيراً عاصفة من الرمل.. كتمت رنيم صيحة فرح وهي ترى كاجا يقف أمامها بهدوئه المعتاد، واقتربت منه قائلة بابتسامة "عوداً حميداً يا كاجا.. يبدو أنك تحب أن تختفي من ناظريّ بين فترة وأخرى.."
وجدت التنين المتململ يقترب منها بشيء من التردد وهو يزوم ويلمس ذراعها الجريحة بأنفه.. فربتت على رأسه مغمغمة "لا تقلق يا صاحبي.. كل شيء على ما يرام.."
وجدته يلعق وجهها فجأة وهي تتراجع بدهشة.. ثم ضحكت وهو يمسح رأسه في ذراعيها، وضمّته قائلة "أهذه قبلة اعتذار؟.. لقد أخجلتني يا كاجا.."
سمعت مزاحم يقول من خلفها "يبدو أن ذلك التنين يحبك بشدة.."
قالت رنيم بابتسامة وهي تربت على خطم التنين المسترخي أمامها وتحك رقبته "ليس تماماً.. نحن مرتحلان بحثاً عن صاحبه الحقيقي.. وأنا بديلٌ عنه حتى نعثر عليه وننقذه.."
قال مزاحم مبتسماً "بل هو يحبك بالفعل.. ومن قد لا يفعل؟.."
أحرجها قوله فلم تعلق وهي تراقب التنين بابتسامة.. لقد شعرت براحة شديدة لرؤية كاجا يعود لنفسه ويستعيد هدوءه السابق ولطفه الذي لا يمكن أن تغفل عنه.. لا تلومه على ما جرى، فهي قد أجبرته على بذل مجهود أكبر من المعتاد واحتمال الجوع لوقت طويل لم يكن معتاداً عليه.. لذلك هي تتحمل نتائج عدم تقديرها ذاك ولا يمكنها لوم التنين المسكين على هذا..
وقفت رنيم، فوقف التنين بدوره بتأهب وهي تسرع لامتطاء السرج.. ثم نظرت لمزاحم قائلة "شكراً لك على كل شيء يا سيدي.. لن أنسى أنك استضفتني في منزلك اليومين الماضيين وتحملت عبئي بكرم.."
قال مزاحم "انتظريني هنا.."
وغادر عائداً لكوخه ورنيم تراقبه بتعجب، ثم عاد إليها بعد لحظات حاملاً جراباً قماشياً وقربة بيده وناولها إياها قائلاً "هذا يحوي ما تحتاجين إليه من طعام وماء لرحلتك هذه.. ولا تنسي أن تتزودي بالمزيد في أي جزيرة تعبرين قربها لئلا تقعي في الخطأ السابق ذاته.."
نظرت رنيم للجراب والقربة مغمغمة بشيء من الذنب "لقد أسديتَ إليّ خدمة كبيرة يا مزاحم.."
وخفضت رجهها بانحناءة خفيفة مضيفة "سأظل مدينة لك بكل ما قدمته لي طوال عمري.."
فقال وهو يعدل عويناته "عودي إليّ في رحلة عودتك للقارة العظمى.. يمكنك عندها أن تطلعي على ما تشائين من كتب قدر ما تشائين.."
قالت رنيم بابتسامة "سأفعل ذلك بالتأكيد.."
وجذبت لجام التنين الذي اندفع نحو السماء دون تردد، بينما غمغم مزاحم وهو يراقبهما "بالتوفيق يا فتاة.."
وبينما وجّهت رنيم التنين نحو وجهتهما كما علّمها مزاحم، فإنها راقبت الأفق الأزرق بصمت.. لقد تأخرت في طريقها أكثر من اللازم.. هي لا تعرف كم يوماً تستغرق السفن للترحال قاطعة بحر السلام الشاسع هذا.. لكن تتمنى أن تتمكن من الوصول لجانبه الآخر قبل وصول السفينة، وقبل أن يغيب آرجان في قلب مملكة كشميت دون أن تعثر له على أثر..
مضت ثلاثة أسابيع على آرجان وهو حبيس في قلب تلك السفينة لا يُسمح له بالخروج من القفص الذي بالكاد يتسع له بالقدر الكافي.. ورغم كل محاولاته مع رفاقه في السجن، كان هربهم مستحيلاً إذ شدّد البحارة الحراسة حولهم بعد هرب المجموعة السابقة من الهوت بوسيلة ما.. ولذلك، رغم عدم استسلامه للأمر، لم يملك آرجان إلا الصمت على ما يُساق إليه.. ورغم كل تساؤلاته، لم يجبه أي رجل من البحارة أو رئيسهم من الكشميت عن سبب اختطافهم للهوت وجلبهم لمملكة كشميت.. ظل هذا لغزٌ يؤرقه ويحيره بشدة.. ما الفائدة التي سيجنيها الكشميت من أسر الهوت دوناً عن العالم كله؟..
وبعد ذلك الوقت، وقد بدأت السفينة بالتباطؤ في إبحارها مما جعل آرجان يشك أنها تسير وسط خليج ضيق أو تقترب من ميناء يقع وسط تضاريس صعبة.. بعدها، وجد السفينة ترسو قرب الميناء الذي كانت أصوات الحركة فيه تعلو بوضوح يدلّ على هويته.. وخلال بضع ساعات، بعد أن أتمت السفينة إفراغ صناديقها، جاء عدد من الرجال لإخراج السجناء واصطحابهم للخارج..
تبادل آرجان مع رفاقه النظرات الصامتة.. ولما رأى البحارة وقف باستعداد ليدفعهم لإخراجه هو في البدء.. كانوا خمسة، وكل واحد منهم مكلفٌ برجل من الهوت، ولما فتح البحار القفص وطلب من آرجان التقدم ليوثق رباط يديه، فإن آرجان قفز نحوه وأسقطه أرضاً وهو يلكمه بقوة.. وأثناء ذلك استلب سلسلة المفاتيح الخاصة بالأقفاص ورماها لأحد رفاقه في الأقفاص الأخرى والذي كان بانتظار تلك اللحظة.. وبينما انشغل رفاقه بإخراج أنفسهم من سجونهم، فإن آرجان قد وقف أمام بقية البحارة بعد أن سلب خنجراً من الأول.. ورغم أن البحارة الأربعة قد تدافعوا نحوه بغضب شديد، لكن آرجان لم يتردد وهو يقفز وسطهم ويحاول تعطيلهم بشتى الطرق لئلا يحاولوا القبض على رفاقه قبل نجاحهم في الخروج.. فطوّح خنجره نحو أحد البحارة بضربة أصابت وجهه بجرح عميق بينما دفع ذراعه الأخرى بضربة حمّلها كل قوته نحو صدر آخر شهق لها بقوة وهو يجد عسراً مفاجئاً في التنفس.. تكالب الآخران عليه بينما نهض الأول وهو يصيح برفاقه بغضب ليمنعوا رجال الهوت من الهرب..
وبينما قبض أحد البحارة على آرجان من الخلف محيطاً كتفيه بذراعيه القويتين، فإن الآخر قفز نحوه بضربة قوية موجهة نحو بطنه.. فما كان من آرجان إلا أن يضع ثقله على الرجل خلفه ويرفع قدميه بقوة ليحيط بهما عنق المهاجم ثم يجذبه للأسفل بقوة حتى فقد توازنه وارتطم رأسه بالأرض بعنف.. عندها انثنى آرجان ورمى الرجل الذي يقيّده من فوق ظهره فوق البحار الذي سقط أرضاً..
كان يدرك أن معركته خاسرة بمفرده، لكن لم يكد ينتهي من هذين الرجلين حتى وجد رفاقه يقفون قربه ويهجمون على من بقي من البحارة ببسالة.. وخلال وقت قصير، كان البحارة مكوّمين أرضاً بينما انطلق آرجان يتبعه البقية عبر سلالم السفينة نحو سطحها وهو يقول لهم "سنجد مقاومة كبيرة من بقية البحارة.. علينا أن نحاول اختراقهم بأسرع ما نستطيع.. ولنتجه لحافة السفينة المعاكسة للميناء، فهم لن يسمحوا لنا بالفرار إليه قط.. بعد أن نصل لحافة السفينة، سنقفز في المياه ونشق طريقنا مبتعدين بأسرع ما نستطيع.."
لم يعترض أحد الرجال بكلمة على قوله وهم يتجاوزون عدداً من السلالم حتى وصلوا لسطح السفينة.. وعندما سمعوا تصايح البحارة ممن انتبهوا للأمر وشكلوا سدّاً بينهم وبين مخرج السفينة الوحيد، فإن آرجان ورفاقه استداروا على الفور نحو الجانب الآخر المؤدي بهم للبحر المكشوف.. لكن ما رأوه أمامهم كان عدداً من الرجال برداء جنود الكشميت وهم يقفون صفاً واحداً، وتلقّتهم البنادق الثقيلة في وجوههم بضربات قوية أسقطتهم أرضاً دون حراك.. ومن لم يفقد وعيه منهم، مثلما حدث لآرجان، شعر بالقيود تقيّد يديه خلف ظهره وبجنديين يحملانه من ذراعيه ساحبينه نحو الميناء دون أي شفقة..
وخلال وقت قصير، في بناء واسع قرب الميناء استخدم كمستودع للبضائع،
تم وضع الرجال في سجن جانبي وتقييد أيديهم وأرجلهم للحائط خلفهم.. ثم تُركوا هناك وحدهم دون حراسة بثقة كبيرة، وتجمع الجنود في جهة أخرى من ذلك المستودع بانتظار من ينقل هؤلاء السجناء من هذا الميناء، ونحو هدفهم ومصيرهم الأخير..