الفصل الحادي عشر

كم يوماً قضته رنيم سجينة في قرية الهوت، لا تكاد تخالط أحداً ولا ترى أحداً عدا الثلاثة الذين تعرفهم وهم كاينا وآرجان وتوما؟.. لا تعرف الجواب.. وبعد كل تلك الأوقات، نسيت رنيم أو تناست أمر عودتها للزهراء تماماً.. أصبح الموضوع لا يشغل تفكيرها ولا يسبب لها الضيق إلا اضطرارها للبقاء طوال اليوم في المنزل دون أن تخطو خطوة خارجه وحيدة.. والوقت الوحيد الذي أصبح متنفساً لها من هذا السجن هو في العناية بالتنين الذي لم تتخلّ عن القيام به كل فجر رغم أن آرجان حاول إقناعها بالكف عن ذلك.. لكن كيف تكف عن الخروج من هذا السجن واستنشاق رائحة الفجر في هذه الجبال الباردة والالتقاء بالتنين كاجا الذي أصبح مع مرور الوقت يقفز نحوها كلما رآها لينال جائزته التي تحملها معها في كل مرة..


ورغم أن آرجان كرر رفضه اصطحابها في جولاته في مرات ثانية، لكنها لم تتذمر وهي تكتفي بالعناية بالتنين بكل صبر..
وبعد تلك الأيام، بعد مضيّ ساعات قليلة على بدء ذلك النهار، وبينما كانت رنيم جالسة في المنزل بانتظار قدوم توما الذي دأب على الجلوس معها وتعلم الكتابة والقراءة منها بمثابرة، سمعت صوتاً يتحدث قرب الباب بنبرة أثارت انتباهها.. أدركت أن ذلك الصوت هو صوت آرجان، لكن الثاني كان صوت رجل آخر من أهل القرية.. ورغم أن رنيم حاولت الإنصات عبر الباب المغلق، لكنها لن تقدر على فهم لغة الهوت مهما حاولت.. على الرغم من أنها سعت لتعلمها من توما في الأيام الماضية مدفوعة برغبة غير مسبوقة لفهم حديثهم دون ترجمة، لكن الأمر لا يتعدى بضع عشرات من الكلمات وبعض الجمل البسيطة..


توجهت رنيم للنافذة القريبة وأطلّت عبرها محاولة ألا تظهر نفسها للرجل الغريب.. وهناك رأت آرجان يتحدث مع الغريب بسرعة وانفعال واضح.. بدا أن الموضوع هام جداً لآرجان وأثارلهفته بشدة، ولم يلبث الرجل بعدها أن ابتعد بينما اندفع آرجان للمنزل وفتح بابه بشيء من الضجة..
نظرت رنيم لوجهه المنفعل بدهشة، بينما بادلها آرجان النظرات بصمت وكأنه لا يعرف ما يقول.. وأخيراً زفر بشدة واقترب منها قائلاً "لديّ بعض الأخبار.."
سألته دون أن تملك قلقها "أهي تخصني؟.."
أدار آرجان بصره جانباً قائلاً "نوعاً ما.."


خفق قلب رنيم بقلق متزايد.. أهو خبر من (الزهراء)؟.. رأته يجلس جانباً مطرقاً قبل أن يقول "وصلتني أخبار شبه مؤكدة عن جايا.."
رفعت رنيم حاجبيها وقد زال قلقها هاتفة "حقاً؟.. هل عثروا عليها؟.. أين هي؟.."
أجاب آرجان "لقد هربت من (الزهراء) بالفعل كما قال ذلك الرجل، لكن عوضاً عن العودة لقرى الهوت فإنها شوهدت في ميناء (مارِج).."
نظرت له بحيرة، ففسر الأمر قائلاً "إنها مدينة تقع خلف سهول الأكاشي، في الجانب الغربي القصي من القارة العظمى.."
تساءلت بدهشة "ما الذي دعاها للذهاب إلى هناك؟.."
زفر آرجان مجيباً "ليتني أعرف ذلك.. لا يمكن أن يكون ذهابها لذلك المكان اعتباطاً.. لابد من سبب قوي.."
سألته من جديد "لكن كيف علمت أنها موجودة هناك؟.. وما الذي يؤكد لك أنها هي بالتحديد؟"
قال بشيء من الضيق "تلك قضية أخرى.."
وغمغم مطرقاً دون أن يلاقي عينيها بعينيه "هكذا ترين أنني أخطأت بما فعلته بك.. فجايا لم تكن في (الزهراء) بالفعل.."
صمتت رنيم دون أن تعلق أو تشعر بأسى لما جرى لها دون ذنب ودون سبب حقيقي.. وبعد أن طال الصمت بينهما، غمغمت رنيم "وما الذي ستفعله الآن؟"


نظر لها قائلاً بتوتر كبير "سألحق بها بالطبع.. بأسرع ما يمكنني.."
ونهض يجمع أغراضه ويدور في المنزل ليعدّ العدة لرحيله ويضع أغراضه في حقيبة جلدية، وتتضمن في الأغلب بعض الأسلحة اليدوية والخناجر، وما يلزمه لرحلة طويلة لا يعلم كم ستستغرقه.. وبعد بعض الصمت، غمغمت رنيم "ماذا عني؟"
نظر لها آرجان بصمت وتوتر للحظات، ثم قال "سأطلب من كاينا وأحد الرجال إعادتك لموقع قريب من (الزهراء)، فقد انتفى الغرض من إبقائك في هذه القرية.. لهذا العمل خطورة بالغة عليهما بعد هجومنا السابق على القصر، لكن ما باليد حيلة.."
صمتت رنيم دون أن تعلق على هذا القول.. أهي تريد الرحيل حقاً؟.. أهذا ما سيسعدها ويختم هذا الفصل الغريب من حياتها؟.. وكما قالت لها كاينا في أول يوم لها في القرية، ما الذي يجبرها على العودة لذلك السجن حقاً؟..


نظرت لآرجان بصمت من جديد وهو منهمك في ارتداء حذائه طويل الرقبة.. وكأنه انتبه لنظراتها دون أن يلتفت إليها فعلق قائلاً "أخبرتك سابقاً.. لو كان لديك ما تقولينه فقوليه الآن.. لا أحب اعتراضك الصامت هذا أبداً.."
ابتسمت رنيم بجانب فمها لتعليقه، ثم قالت وهي تدير بصرها جانباً "لماذا أعود؟"
نظر لها آرجان بدهشة، فقالت بعد لحظة صمت "حقاً.. هذا سؤال كان يدور بذهني منذ زمن.. لماذا أعود؟.. وما الذي أعنيه لسكان (الزهراء) ولمن في قصر الملك؟.. بل ما الذي يعنيه وجودي لأبي وأمي؟.. أيرغب أحدهم باستعادتي حقاً بعد فشلي في تحقيق ما أمِلوه مني؟"
ظل آرجان صامتاً للحظات بدهشة تامة، ثم وجدته يتقدم منها فيقف في مواجهتها قائلاً بحزم "ما الذي تريدين فعله إذاً؟.. أخبريني بما تريدينه وسأحققه لك ما دام في وسعي ذلك.."
تساءلت رنيم بدهشة "لمَ عليك فعل ذلك؟"
أجاب "ربما كنت مديناً لك بذلك.. لقد أفسدت حياتك باختطافي لك دون ذنب ارتكبتيه، فلم يكن لك دخل فيما حلّ بجايا.."
قالت رنيم ببساطة "ربما كان العكس هو الصحيح.. أنت لم تفسد حياتي، بل أصلحتها.."
صمت آرجان وهو يتأمل ملامحها بدهشة، بينما خفضت رنيم بصرها محاولة استجماع مشاعرها وشدّ عزمها.. كانت تعرف بالضبط ما تريده.. هو حلم لطالما حلمت به منذ استوعبت أبعاد حياتها التي كانت تراها كئيبة.. كانت واثقة من رغباتها، لكن لم تكن تملك الثقة الكافية لاتخاذ قرارات توافق تلك الرغبات.. وأبعدها عجزها عن مسار حياتها الذي لطالما تمنته..
كل ما تريده رنيم هو بعض الحرية.. أن تطير.. أن تحلق بلا قيود..
اختطاف آرجان لها قد خفف ضغط السلاسل التي كانت تقيد روحها، وبدأت رنيم تتململ بحثاً عن تلك الحرية المنشودة.. وها هي تقف أمامها وليس على رنيم سوى أن ترفع رأسها فتراها بكل وضوح..
رفعت رأسها تتطلع لآرجان الذي يراقبها بصمت، ثم قالت بهدوء "أريد الرحيل معك.."
صمت آرجان بصدمة للحظات، ثم قال بعدم فهم "ترحلين؟.. لأين؟"
ابتسمت رنيم مجيبة "حيثما ذهبْت.."


اتسعت عينا آرجان بدهشة وهو حائر في مغزى كلماتها.. ثم قال "أيتها الأميرة.. رحلة كالتي أنوي الذهاب فيها ليست ممتعة ولن تسير بالسلاسة التي تتوقعينها.. لا تقارنيها بتاتاً برحلة تقومين بها وسط حراسة مشددة وفي عربة مريحة في ربوع مملكة أبيك الآمنة.."
لم تعلق رنيم على مناداته لها بالأميرة في سخرية واضحة، لكنها قالت "أدرك كل ذلك.. وهذا بالتحديد ما أسعى إليه.. لا أريد أي شيء من حياتي السابقة.. ولست أطمح للحصول على متعة أو مغامرة أحكيها عند عودتي للقصر الآمن.."
تساءل آرجان بحيرة "إذن ما الذي تريدينه؟"


نهضت رنيم وواجهته بحزم للمرة الأولى في حياتها قائلة "أريد الرحيل.. أريد نسيان من أكون ونسيان الحياة التي عشتها حتى الآن.. أريد أن أكون جزءاً من هذا العالم الذي لم أره إلا من نافذة قصر أبي.. لست أملك وسيلة للترحال، وليس أمامي إلا الانضمام إليك في هذه الرحلة.. أنت ستبحث عن جايا وأنا سأحقق حلمي الوحيد.."
غمغم آرجان وهو يتراجع "أنت تهذين.."
وحمل حقيبته قائلاً "سأترك أمرك لكاينا.. وهي ستعود بك لقصر زوجك في الأيام القادمة.."
أسرعت رنيم واعترضت طريقه قائلة "ألم يقنعك قولي؟.. لا أريد العودة.. أفضل البقاء سجينة في هذا المنزل عن العودة لعالم قاسٍ لا يعبأ بي قيد شعرة.."
قطب آرجان بغير اقتناع، فأمسكت رنيم يديه بيديها قائلة بتوسل "لن أعطلك في هذه الرحلة أبداً.. أدرك أن قول هذا سهل، لكني سأفعل ما بوسعي لمعاونتك ولن أزعجك بتاتاً.. فلا ترفض هذا دون سبب"


قال آرجان باستنكار "دون سبب؟.. أنت لا تدركين ما أنت مقدمة عليه.."
ضربت رنيم الأرض بقدمها قائلة بحنق "أنت طلبت مني التعبير عما أريد قوله بصراحة.. فلماذا تستنكر ذلك الآن؟.. لا أريد العودة لذلك القصر.. ألا يمكنك فهم ذلك؟"
قال آرجان بحدة "وماذا عن زوجك؟.. ماذا عن حياتك؟.. ماذا عن ذلك النعيم الذي كنت ترفلين فيه؟"
قالت رنيم بانفعال شديد "زوجي نبذني قبل أن يتزوجني.. حياتي تلك كانت موتاً محتوماً.. وذلك النعيم كان كالأشواك في حلقي.. أنت لا تعرفني، ولا تعرف ما أريده حقاً.. لماذا لا تصدق أنني مختلفة عن كل أولئك الفتيات اللواتي يتلهفن لحياة القصور الزاهية؟.."
ظل آرجان يحدق في عينيها بحيرة ودهشة، بينما واجهته رنيم بحزم وانفعال واضحين.. كانت مصرّة، وموقنة أن هذا هو الخيار الأمثل الذي سيقودها في الطريق الذي لطالما تلهفت إليه.. جنون؟.. ربما.. لكن ما هي موقنة منه أن الجنون خيرٌ من البؤس..
قطع صمتهما صوت توما الذي دخل من الباب المفتوح بغفلة منهما قائلاً بحزم "سأذهب معكما.."
نظرا له بدهشة، ثم قالت رنيم "تذهب معنا؟.. لماذا؟"


قال توما "لا لسبب.. لكني أريد الذهاب.."
علق آرجان بضجر "هذا ما كان ينقصني.."
فقال توما بحدة "لا شأن لك.. سأذهب معكما سواء أعجبك هذا أم لم يعجبك.."
اقتربت منه رنيم وأمسكت كتفيه قائلة "توما.. نحن لن نذهب لنلهو، ولن نعود بعد أيام قليلة.. هذه رحلة ستطول، ولا نعلم علامَ ستنتهي.."
قال توما بسخرية "كان آرجان يقنعك بالأمر ذاته.. لكنك لم تقتنعي.."
نظرت له رنيم بصمت وحيرة بينما قال آرجان بحزم "مستحيل.. لمْ أوافق على اصطحاب فتاة ولن أوافق بالتأكيد على اصطحاب طفل.."
احتقن وجه توما للإهانة، وقبل أن يجد رداً لاذعاً يرد به على آرجان، سمع الثلاثة صياحاً من بعيد، ولم يلبث أحد رجال القرية أن هرع إلى آرجان منفعلاً.. ولما لمح الرجل رنيم، بدت تقطيبة واضحة على وجهه وهو يقول لآرجان بلغة الهوت "آرجان.. إنهم الجنود......"


لم تغِبْ نظراته الكارهة عن عيني رنيم التي أدارت بصرها جانباً، بينما نظر آرجان وتوما للرجل بدهشة وهو يضيف بانفعال "جنود الملك عند حدود القرية.. لقد علمَ أرنيف بذلك قبل قليل.."


بدا شيء من القلق في عيني توما بينما قال آرجان بدهشة "أأنت واثق؟"
قال الرجل بحدة "واثق طبعاً.. لقد اشتبك معهم بضع رجال منا، بينما عاد أحدهم لينذر القرية.."
لم يتأخر آرجان في اللحاق بالرجل متجهين إلى موقع أرنيف، بينما قبضت رنيم على ذراع توما وهي تسأله بقلق "ما الأمر؟.. ما الذي أراده الرجل في مثل هذا الوقت؟"



نظر لها توما بشيء من التوتر، ثم قال "إنه يحذرنا من هجوم جنود الملك على القرية.. فرقة منهم تقترب من حدودها بالفعل.."
اتسعت عينا رنيم بدهشة ممتزجة بالاستنكار، ثم قالت بقلق "ما الذي جاء بهم لهذا الموقع؟.. أأنتم معتادون على هجمات الجنود على قريتكم؟"
هز توما رأسه نفياً، ثم نظر لعيني رنيم قائلاً "أغلب الظن أنهم جاؤوا لأجلك أنت.."
رغم أن هذا ما تمنته رنيم عندما تم اختطافها، لكن حدوثه في مثل هذا الوقت قد أصابها بصدمة شديدة.. أيمكن أن يكون الملك قد أرسل جنوده لاستعادتها؟.. لماذا الآن؟.. لمَ حدث هذا بعد أن اتخذت عزمها على نسيان حياتها السابقة والسير في طريق آخر تختاره بكل حرية؟..
لكن ما هي متأكدة منه أن الجنود لن يترفقوا في التعامل مع القرية وسكانها.. لابد أنهم سيسببون أشكالاً من الدمار ويقتلون عدداً من القرويين الذين لن يستسلموا بسهولة.. فما الذي يمكنها فعله لإيقاف هذا الأمر؟.. ما الذي يمكن لرنيم فعله لكي لا تعود لحياتها السابقة رغماً عنها؟..
 



إعدادات القراءة


لون الخلفية