مرام، فكأنما حضوركِ، حضور غيثٍ يحيي وابلهُ جفاف أرضٍ طال العجاف بها، وكأنني زهرة الفينيق كلما جرني اليأس إلى أعماقهِ وخيّم الحزن على وجهي وبدأت أغصاني بالذبول أحيتني عيناكِ.
استفقت من شرودي في حسنكِ، ومن ضجيج تلك الطبول داخلي، على قُبلة منكِ، اصحبتيها قائلة : ــ كيف حالُك؟
ــ عندما يحتوي مسائي على بعضاً من تفاصيلكِ حتمـًا سأكون بخير… كيف حالكِ أنتِ؟
ــ بما إنني إلى جانبُك الأن، فإنني بخير… خشيت أن أكون قد تأخرت عليك لأكثر
ــ لا، لم تتأخري أبداً، بل أنا الذي جئت مبكراً إلى هنا.
ــ المكان جميل جداً!
ــ ليس إلا قطرةً في بحر جمالكِ .
سرحتي أنتِ في زهو المكان، وفي توأمكِ القمر، بينما أنا لم أسرح سِوى بكِ…
كيف لأعينٍ أن ترصد غيركِ، بينما الله جعلكِ تحفـةٍ ربانية بها…
كيف لامرئ بأن يوقد فكرهُ بمن سواكِ، بينما أنتِ تحتلّي كامل عقلـهِ.
كيف لقلبـًا بأن ينبض بسوءًا، بينما في كل نبضـةٍ ييهتف بإسمُكِ.
شددت قوسي راميـاً سهم عيناي إليكِ مباشرةً دون لا هـدفــًا سواكِ، فشددت أنتِ سهم عيناكِ إلى توأمكِ القمر.
قمت بإصدار بعض الصوت طارقـاً بأناملي على الطاولة كعازف البيانو، لأختلسكِ من معانقة القمر، فلم تعيري ذلك الصوت إنتباه، فجررت صوتي قائلاً: ــ مـرام، فنحن هنا للقاء بعضنـا وليس للقاء توأمكِ!
ــ أنا آسفة، يا مـجـد، كان علـيّ أن أخبرك قبل رحلتي، قبل أقلاعي إلى القمر!
ــ رحلتكِ؟!
ــ نعم، رحلت وتركتك هنا، و لكن كنت معي في الحديث، لقد تحدثنا عنك كثيراً!
ــ تحدثتمـا؟! نعم، تحدثنا وبُحت لهُ بأسراري وامنياتي قبل قليل!
ــ ومـاذا كـان الحديث يا مـرام؟
ــ هـذا سـر بينـي وبيـن القمـر!
ــ يعني لـن تقـولي ما الحديث؟
ــ ابــدًا!
ــ سأضع نقطةً على جوابكِ هذا، وستندمين حين تسألين سؤالاً، ولم أجبُكِ عليـه!
ــ أعدك، لن أندم!
ــ سأعرف هذا حينها!
ــ حتمـاً لن تعرف شيـئـًا، فلست مثُلك يأكلني الفضول!
ــ أنا فضولي؟!
ــ نعم، ولو لم تكن فضوليّـاً لما سألت!
ــ سألت لأن الحـديث عني يا مـرام!
ــ الحديث كان بمثابة أمنية، و الأماني سـرًا يا مـجـد!
ــ حسنـاً لننهي نقاش هذا السؤال!
ــ بتأكيد!
ــ كيف بدت ردة فعل عائلتكِ عندما رأونا معاً في الصورة؟
ــ كيف ستكون برأيك، واجهوني بغضبٍ عند عودتي وكأنني اقترفت ذنبـاً عظيم، و لكن سرعان ما بُهت نار غضبهم، لإنني وحيدتهم فرق قلبيهم علـيّ، وحتى سألوني عنك!
ــ سألوكِ عني؟
ــ نعم، سألوني عنك، و من تكون، و ما عملُك!
ــ هذا يعني قد أصبحت مرشحـًا لديهم! و ماذا أجبتيهم؟
ــ ماذا عساي أقول لهم!، نفيت إنك حبيبـي، وقلت لهم بأنك صديق لا أكثر، تقابلت معك لغرض أخذ كـتابـًا منك يلزمُني في الامتحان، فأنطلت كذبتي على أبي، فإمـّا أمي أومأت برأسها معلنةً بإنها قد كشفّت كذبتي، عرِفـّت مـن تقطـع كـلـمـاتـي أثناء نفي حبي لك .
( إذا وقعت الفتاة بموقفـًا حرجـاً بين عائلتها ومـن تحـب ، فتفّضل بأن تقول عنـه صديق، أفـضل من أن تقول عنه غريب، لإن الغرباء لا نلتقي بهم مرةً أخرى).
مضت سـاعـة في عجل، كمتسابقـاً انطلق بعد صافرة حكم السباق، ليجتاز كل المتسابقين ليصبح في المركز الأول… لا أعلم كيف لآلة زمنية تسرِعُ لتسـرق لحظة اللقاء، بينمـا تبطئ ولا تسرق لحظة الإنتظار.
سادني الصمت لأتأمّل البحر وهو يتواثب كإيمائيات المايسترو أمام فرقتهِ الموسيقيّة، فأثاركِ الفضول حيال صمتي، وأنتِ التـي إذ صمتِ كأنمـا لا يوجد بشرًا على هذا الكوكب…
توجهتِ بطرح سؤالكِ إلي لأفيق من حُلمـاً كبير:_ مـجـد، لماذا أنت صامتـًا، أراك شارداً فـي البحر كـثيراً؟
ــ صمتي يا مـرام يجعلُني استنسخ نظرتكِ و إبتسامتكِ و استنشق رائحتكِ، لأنسج منهمـا حُلمـاً رائعـاً ناتجـهُ أنتِ!
ــ و ماذا عـن شرودك في البحـر؟
ــ كُنت أحدثهُ عنكِ.
ــ و ماذا كـان الحديث؟
ــ هذا سر بيني وبين البحر.
_ يعني لن تفصح عن الحديث؟
ــ لا، أبداً، أما قلت لكِ بأنكِ ستندمين إن لم تجاوبي، حينهـا قلتِ لـن تندمي وبأنكِ لستِ فضوليّة مثلي، بينمـا الفضول يأكُـلكِ الأن!
ــ فيك أن تقول تصافينا الأن سـرًا بسـر!
ــ كـذلك!
ــ مـجـد، ما هي عوالم الحب؟
ــ ما هذا السؤال الأن يا مـرام؟!
ــ أجب يا مـجـد، ماهي عوالم الحب وما الدلائل على وجودهِ فينـا؟
ــ للحب يا مـرام عوالم ودلائل كثيـرة، فبحسب فرضيُة الأشـخاص وفطرتهم و نظريّتهم للحياة، فمنهم حين يقع في الحب تتغيـّر ملامحهِ و سلوكه و نبـرة صوتهِ أمام من أحب…
ومنهم من يُبان في تعاملهُ وفي الحرص على نظافتهِ وتصفيف شعرهِ و إنتقاء ملابسه… و منهم من يصبـح شاعـرًا، مُـغنيـًا، بهلوانـيّــًا، كوميديـًا، وراقصــًا في خطواتهِ، و ذلك لأن الحب قد مسّ فيوزات عقله… ومنهم من يصبـح رفيـق الليل ليأن خـلـف عتـمتـهِ لأن الحب قد حل بهِ، وهو ذو كبرياء في مشاعرهِ فيغـدو قلبهُ مُـغـادرًا صدرهِ، وهذا رغم أنهُ مؤلم إلا إنهُ الأعظم والأصدق بينهم يا مـرام!
ــ وهل هذه الدلائل صحيحة أم فرضيات حسب رأيك ونظريتك؟
ــ ليست فرضيات إنما حقائق وجدتها في كف الحياة، تم تنفيذها أمام ناظري من أولئك الذين سخرت منهم مسبقـًا وقمت بالاستهزاء بهم!، ولا تنسي، أنني قارئً للكتُب والروايات.
ــ أيعقل أن أنسى أيها الفيلسوف ولكن يُراودني سؤالاً آخر يجب الإجابة عليـه؟!
ــ لتسألي ما أردتَي، وسأُجاوبكِ إذا كان الجواب لدي!
ــ لقد برهنت لي علامات الحب ودلائـلهُ فينا لكن ثمة شيئاً يجب معرفته، ما الأهم لبقاء الحب؟
ــ التفاهم!، التفاهم أكثر أهميّةً في علاقة الحب… لا تستطيع أن تعيش مع شخصٍ لا يفهمك، شخصٍ يُفسِّرك بطريقة خاطئة، شخص يُريك السوء بك أكثر من الأشياء الجميلة… لا تستطيع أن تحب شخص لا يمكنهُ أن يدرك قلبك وما به… لا تستطيع أبداً…لذا لا ينمو الورد إلا بعد سقائهِ و لا يؤلمُك شوكهِ إذا اعتنيت بهي جيداً…
كذلك الحب لا ينمو إلا بالوصل و لا تتخطى عوائقهُ إلا بالإهتمام وتبادُل المشاعر… فالحُب جميلاً كجمال الورد والبُعد جارحـًا كما الشوك جارح … مـرام، ما الذي احثُكِ لطرح أسئلةً كهذه؟ ما الذي تريدِ الوصول إليه؟
ــ ما أريد الوصول إليه، فقد حصلت عليـه!
ــ وما الذي حصلتِ عليـه؟
ــ أن اسألُك سؤالاً أعرف اجابتهُ جيداً، فتجيبُني بجوابـًا أقنع من الذي لدي!
ــ هذا يعني إنكِ تختبرينني أليس كذلك؟
ــ لا، لا تقُل عنـه إختباراً، بالاحرى عليك أن تقُل
تلذُذاً بسماع الجواب منك أنت!
ــ حسناً، علـيّ طرح سؤالاً عيكِ، أعرف اجابتهُ جيداً لأرى كيف سيبدو جوابكِ؟
ــ فلتسأل!
ــ ما هو الرجل في نظر المرأة؟
ــ الرجل في نظر المرأة، هو قبل كل شيء الأب، الذي تحتمي خلفه، و الأخ الذي تستند عليـه و الزوج الذي يكسر كل القيود للحصول عليها، ليجعلُها ملكةً على عرش قلبه!
ــ جوابـًا متوقع، كمـا إن المرأة في نظر الرجل هي الأم و الأخت و الزوجة، فحذارِ منك أن تكسرها أو تضعِفُها أمامك، و إذا وددت اكتسابها فهي لا تؤخذ بالقوةِ والقساوة، بل هي تؤخذ بالعطف واللين هي ناعمةٍ كالحرير وجميلةٍ كالورد، فهي بكلمةٍ منك طيبةٍ تهبُك مفتاح قلبُها و بكلمةٍ منك سيئةً تحرقُك بنار غضبُها، فبرغم إنها بنصف عقل إلاَّ إنها نصف المجتمع و النصف الآخر تربّى على يدِها!، و برغم كل ذلك لا أنسى إنها كالقنبلة متى أشعلت فتيلها انفجرّت.
ــ ما قلته صحيحـًا، وشـرحتـهُ بأسلوبك الجميل، لكن لا اوافقك الرأي على آخر ما قلُت… لأنني لا أرى شيئًا يستدل على أن تكون المرأة كالقنبلة!
ــ لو نظرتي إليها من زاوية الرجل، لوجدتيها حزامـًا ناسفـًا.
ــ على أيّـة حال لن يقول أحداً أنه خطِـراً، حتى وإن رأى ذلك في نفسه.
ــ تمامـًا .
بدأ البرد يشتد قليلاً… بان ذلك من صمتكِ واحمراركِ ومن ضم كفاكِ، أسرعت بـخلع معطفي لتدفئتكِ…جررت قول:مـرام بما إنكِ قد بردتي لنعود … أخشى أن تمرضي عقب هذا البرد؟
ــ لنعود.
ــ إلهي كم يخفُني برد الشتاء القارص.
ــ ولماذا يخيفُك؟
ــ إنها قصةً طويلة قد حصلت فيما قبل يذكرُني بها!.
ــ و ما هذه القصة أيمكنك قولها؟
ــ بتأكيد اشرحها لكِ.
" في إحدى ليالي الشتـاء الباردة، خرج المعلم عاصم ليتفقد أحوال الطقس وكيف تبدو المدينة في الصقيع ليلاً … كانت هذه النزهة بمثابة الاكتشافات لهُ، فسمع في إحدى زوايا المباني المهجورة نِباح كلبـًا لم يتوقف، بدى كثير النباح كأنهُ يستجدي بالمارّة …
ذهب المعلم عاصم نحو المبنى الصادر منه نباح الكلب، ليجدهُ يحرس طفلـة صغيرة تبدو لم تتجاوز السادسة من عمرها… متّكئة على الحائط متجمدة من البرد…
تقدم المعلم عاصم من الطفلة ليجس نبضها فوجدها قد فارقت الحياة… أخذها المعلم عاصم إلى منزله وقامت زوجتهِ بتغسيل الطفلة وتكفينهـا… وبعد أن سمع المعلم عاصم أذان الفجر… قام بحملها وذهب بها إلى جامع المدينة للصلاة عليها بعد صلاة الفجر، كانوا كل من في الجامع ينظرون إلى المعلم عاصم نظرة الاستغراب، فهُمّ يعرفون المعلم عاصم جيداً…
لم يكن لديه أولاد، لم يكن لينجب طفلاً…
فقد أصبح في عمر الرابعة والخمسون، و مـر على زواجهِ الثامنة والعشرون عاماً ولم يرزقهُ الله الذرية…
صعد المعلم عاصم إلى المنبر بعد الصلاة على الطفلة، والقى خطاباً إلى الحضور قائلاً: أيها السادة الحضور ربما تتساءلون الآن لماذا أقف على هذا المنبر، ومنكم من يتساءل عن الميت من يكون …
لقد خرجت ليلة البارحة قرابة العاشرة في عز الصقيع، فوجدت هذه الطفلة في زاوية إحدى المباني المهجورة، لقد فارقت الحياة من شدة البرد… فمن منكم قد فقد طفلته أو يعلم أن هناك أسرة قد فقدت طفلتها…
تقدم رجلاً من الصفوف الأخيرة تبدو عليه علامة الحزن والارتباك…
وقف جانب الطفلة وهمم برفع ذلك القماش الأبيض في تردد، ثم تغلّب على خوفه من أن تكون إبنته، رفع القماش من على وجهها وكان في صدمة مما رآه، كانت إبنتهِ التي لم تتعدّى السادسة من عمرها ملفوفةٌ بذلك القماش، ما كان منهُ سِوى أن يجهش بالبكاء حسرةٌ وندمـًا، ثم أسرع بتكفيف دموعه وقال: أيها السادة الحضور لتعلموا إن هذه الطفلة إبنتي،
وقد جرى نزاعـًا بيني وبين زوجتي ليلة البارحة، وأثر هذا النزاع فقدت إبنتي، كما إنني قمت بالبحث عنها ولم اجدها، وها هي أمامكم جثةٌ هامدة، فمن كان منكم لديه نزاعـًا مع أهله… فلتحسنوا إصلاح نزاعاتكم ولا تحسسوا أطفالكم بها، و إلاَّ ستفقدوا أطفالكم كمـا فقدت أنا إبنتي ".
(كم من أطفال راحوا ضحايا خلافات أبويهم)