ــ أنا آسف يا عم صادق نسيت أن أقول لك، البنت، هي مـرام بنت السيد أحمد، وأنت تعرفها جيداً، وأنا المتقدم لخطبتها، وأريد مجيئك أنت و العم عاصم لطلبتها من أهلها.
ــ بهذه السرعة يا مـجـد؟، لم يكن تعارفكما كافياً للزواج!
ــ بل كافياً يا عم صادق ومقتنعاً بهذا.
ــ حسناً، ولماذا نحن يا مـجـد؟ لماذا لا يذهب معك أخيك كمال، سيكون أكثر واقعياً فهو من أسرتك؟
ــ أنت تعلم يا عم صادق إن أخي في عملهِ دائماً، فمنذ أن توفى والدي لاحقاً بأمي، استلم أخي إدارة العمل، فقليلاً ما ينام و قليلاً ما يعود إلى منزلهِ وأطفاله، فكيف أنا أن تتسنى لي الفرصة ليأتي معي، لذا طلبت منك ومن العم عاصم المجيء لأنكم بالنسبة لي بمثابة والدي.
ــ حسناً، يا مجد، ولكن هل مـرام تحبك حقاً؟ هل أبديت رغبتك لها بالزواج؟ هل هي موافقة على الزواج منك؟
ــ أنت و العم عاصم تشبهان بعضكما، لذا طلبت من كليكما المجيء، هو الآخر سأل هذا السؤال تماماً… إن لم تكن تحبُني، هل أتقدم لخطبتها برأيك؟
ــ يعني تحبك.
ــ نعم، لا شك في ذلك .
وافق العم صادق على المجيء معي يا مـرام، وسيبدو الأمـر حاسمـًا مساء هذا اليوم، لتنم قلبينا في سلام ولتمت المسافات بيننا.
إنني لأعجب من أولئك الأشخاص الذين يعيشون حبهم بمنتهى البرودية، كيف لهم أن يناموا بأريحيةٌ بينما قلوبهم رهينة من أحبوا.
ها هو يأتي المساء لتبدأ حكاية أخرى يا مرام، حكاية يتخلجها شعوراً آخر، حكاية عنوانها نحن يا مرام، حكاية ستضم إسمينا، حكاية ستجمعني بكِ…
مررت إلى العم عاصم والعم صادق، وها نحن متهيئين للمجيء حاملاً في يداي باقة ورد وصندوق حلوى، وها هي الطبول تقرع في قلبي لتسارع سيرنا.
كانت الساعة الثامنة مسائـًا حين وصلنا لنقرع باب منزلكم، لتعلمي يا مرام بأني كنت أود أن تفتحي الباب أنتِ لاستمّد القوة حين أراكِ، لكن لم يأطئ الحـظ رأسه ليسنح لي بهذه الفرصة… فتّح والدكِ الباب ناظراً إلينا نظرة الاستغراب، لكن لا أخفيكِ لقد تمعن بي جيداً مما جعلني أيقن بأنه قد عرف سبب المجيء وعرفني من مشاهدته لتلك الصورة، ولكن لأكثر دلالة على سبب مجيئنا كانت باقة الورد وصندوق الحلوى التي في يداي… قام مرحّباً بنا قائلاً: تفضلوا.
جلسنا في صالون منزلكم بعد إن وضعت باقة الورد وصندوق الحلوى على الطاولة، جلسنا دون أن يتفوّه أحداً منا، متسمرةٌ أعيننا في بعضنا، ثم قطع الصمت والدكِ قائلاً: عن إذنكم يا سادة لحظة وسأعود إليكم.
مـرام، لا أعلم لماذا نهض والدكِ ولكن يراودني شعوراً بأنه قد صعد لغرفتكِ ليوبخكِ على الذي يحدث هنا، ولكن شعوراً آخر يقول بأنه نهض ليطلب منكِ أن تعدّي لنا القهوة…
بينما أنا جالساً تأكلني الظنون عاد والدكِ، قائلاً: حياكم الله يا ساده وحياك أيها الشاب.
مـرام، لا أعلم ما وراء كلمة والدكِ الأخيرة، ولكن قالها بنبرةٌ مختلفة ونظرةٌ لا تبشر بخير.
قابله العم عاصم بالتحية مثلها قائلاً لوالدكِ: وحياك يا سيّد أحمد، لتعلم أننا قد جئنا إليك في خير والخير لا يتأجل.
قاطع حديث العم عاصم مجيئكِ حاملةً كؤوس القهوة بيدكِ الناعمتين… يا الله كم تبدين جميلة وكم تبدو المسافة قريبة بيننا، نحن الآن على شفى كلمة من والدكِ.
قمتِ بتوزع كؤوس القهوة ونصرفتي ليكمل العم عاصم حديثه:كمـا قلت لك يا سيّد أحمد إن لمجيئنا خيراً وليس لفعل الخير تأجيل… جئنا نطلب على سنة الله ورسوله ابنتكم المصونة… „ مرام‟ لولدنا الشاب مجد ونرجوا منكم الموافقة، كمـا أن ولدنا جاهزاً لمَ تشترطون به.
أومأ والدكِ برأسه قبل أن يتفوّه ثم قال: أولاً ربما أصبحتم تعلمون أن لي ابنةٌ واحدة، وهي مرام ولم أُفكر يوماً واحداً بتزويجُها قبل أن تحصل على ما تحلم به وتريده من صغرها.
وددت مقاطعة والدكِ لاقول لهُ إن ابنتك تريدني أنا، لكنه أكمل قائلاً: لن ازوجها طالما لم تصبح محامية كما تحلُم من صغرها.
قال كلامه الصارم الباتر مما جعل العم صادق يشتاط غضباً فقال له بعد أن انتصب واقفاً : أهذا هو جوابك يا سيّد أحمد؟
ــ جوابي الأول والأخير .
والدكِ لم يضع شرطاً لتحقيق حلمُكِ، إنما وضع حاجزاً بيننا يا مرام… فما كان منا إلاَّ أن ننصرف مكسوفِ الوجوه… متحطمةٌ آمالي، متبخراً حلمي، مندهساً قلبي.
سحقـًا لهذا الحظ الذي يُـمهّـد لك الطريق بينما يضع في آخر المطاف نفقٍ مسدود، و سحقـًا لأولئك الآباء الذين لا يتفهمون الحب ويقومون بسل سيف لسانهم ليبتروه… إنني لأمقِت بشدة أولئك الآباء الذي يزوجون أولادهم وبناتهُن في سنـًا مُبكر، ولكن لا أخفي أنني الآن أحسد أولادهم.
(مرحباً بكل شيء و سحقـًا لكل ما يسبب فراق.)
عدت إلى منزلي بصدراً ضيّق يحمل هماً يتسع لهذا الكون الفسيح… لم أنام ليلة البارحة وأنا فرحاً لأنني سأتقدم لـخطبتكِ، فكيف سأنام مع هذا الكم من الحزن، كيف أن تُغلِق العيون جفونها، كيف أن تتسع لي وسادتي بما أن هذا العالم بأكمله لا يتسع لي.
مرام مر يوماً تلو يوماً آخر دون أن يزور جفني المنام… وها هو اليوم الثالث على مشارف الصباح.
على شاطئ الأمل تنطفئ جمراتٍ من لهب وعلى نافذة الحب يطل صباحنا…
فصباحاً للبدايات التي تصنع يوماً جميلاً في ظل الحروب، وصباحاً لهمسات الأمل بغداً أجمل في أقسى الظروف، وصباحاً لأولئك السعداء، أما الذين مثلـي لا صباح لهم.
أتدرين يا مرام بأن لكل شخصٍ نصيبـًا من صباحه…
فمجرّد أن يستيقظ المرء على شيئًا جميلاً فيصبح كل يومه جميل… لذا فإن السعداء هم أولئك الذين يستيقظون كل صباح على قول صباح الخير من أحبائهم… فكيف بالذين مثلي قضوا ليالٍ سيئة قُطعت فيها خيوط الأمل أن يصبح لهم يوماً جميلاً.
اسفقت من حزني محاولاً أن اُبعثر قليلاً من ركام الهموم ذهبت كعادتي أن أذهب لإحتسي قهوتي كل صباح في مقهى العم صادق، قابلني العم صادق قائلاً: كيف حالك اليوم يا مـجـد؟.
ماذا أجبهُ يا مـرام؟
كيف سأشرح إن الإنسان يموت بمجرّد كلمة، كيف أجبهُ بأني بخير وأنا لست كذلك.
ماكان مني يا مـرام سوى أن أقول لهُ.
ــ مازلت على قيد الحزن.
مرام، لتعلمي إن الساعة التي يقضيها المرء في حزن بمثابة عاماً كاملاً، فكيف بالذي أسودّت حياته منذ البارحة.
هاهي تمضي ساعات النهار ساعةً تلو الأخرى ليقبل المساء مذكّراً بعاصفته… لكن عاصفة هذا المساء أقبلت بكِ… صحوت من شرودي ومن العبث بأوراقي على صوت جرس الباب… فتحت الباب إذا بي أجدكِ واقفة أمامي.
(من واجب صاحب الدار ألا يسأل الزائر مالذي أتى بهِ، يقوم بالترحيب بهِ واستضافته)