الجزء 5

الفصل الخامس

دلف نبيل لغرفة نومه وقبل أن يلقى بجسده على فراشه رن جرس الشقة؛ توجه ليفتح الباب ليجد ضيفا لم يتوقع زيارته..
تطلع له بحزن وزفر بضيق إستدار موليه ظهره ودخل إلى شقته وتركه دون مبالاة له
دخل سعيد خلفه وأوقفه قائلا :
إنت زعلان منى ليه أنا كل همى مصلحتك بحلم أشوف عيالك وافرح بولد يسندك.
تطلع له نبيل بغضب وقال :
مش هيحصل ولو خلفت دستة عيال، عارف ليه عشان انا مش هفرحك بيا تاني لويت دراعى وخلتني اتجوز ومراتك جهزت العروسة؛ ماشي هتجوز بس لو خلفت هعلم عيالى ان ملهمش عم ملهمش حد مش هتفرح بيهم ولا هيكونوا عزوة ليك.
تطلع له سعيد بفزع جحظت عيناه من هول ماسمع وقال بنبرة مرتعشة من الحزن :
انت هتعلم عيالك ان ملهمش عم يعنى خلاص نسيت كل اللى عملته عشانك نسيت انى سبت تعليمي عشان تكمل انت تعليمك، نسيت لما ابوك وامك ماتوا مين عملك ام واب انا عمرى مفكرت فى نفسى دايما تفكيرى كان فيك
إقترب قلب نبيل من اللين لحديث سعيد لثوان حتى تذكر زيجته المفروضة عليه فانتفض مرة أخرى وقال :
انا رديتلك كل جمايلك احترام وحب عمري مسألتك على فلوسى كل حاجة عاوزها بطلبها منك وانا مكسوف خايف اكون بتقل عليك مع انى عارف ان الشغل ماشى كويس وبيكبر والرزق بيكتر علمتنى! يفيد بإيه تعليمى دا انت خلتني رفضت الوظيفة عشان أشتغل معاك وتتحكم براحتك فيا، وفعلا أول فرصة قلتلى يالشغل معايا ياتتجوز وخلتنى اتبهدلت عند الناس استعبدونى وانا مالى يعيشنى ملك.
بقولك ايه يابو كريم انا اللي عندي قلتهولك جهز فلوس ورثى عشان اعمل عملية البت وهتجوز زي منتا عاوز اقولك حاجك افرح بالعيال براحتك بس اعتبر أخوك الصغير مات.
سهام مسمومة أصابت سعيد بقلبه تنهد بحزن وانصرف عن أخيه والتفكير يعصر عقله وينهش داخله
بغرفة ملك
طرقة خفيفة على الباب ودلف بعدها كريم
تطلع إليها بحزن جلس جوارها وقال :
ألف سلامة عليكي ياملك حاسة بإيه دلوقتى
وضعت يدها علي معدتها وتحدثت بألم ودموع تغرق عينيها :
بطنى بتوجعنى وزورى من الخرطوم اللي الدكتور حطه فيه
ربت على رأسها بحنان وقال ببراءة :
احمدي ربنا أصلا ربنا عاقبك عشان اللي عملتيه في قمر.
تزايد انهطال دمعها وقالت بأسف :
مكنش قصدى انها تقع جامد كدا.

تنهد بحزن وأردف :
متضربيهاش تاني ياملك دي زي أختك
تمتمت بصوت خفيض :
بس ماما قالت انها مش بتحبني وانها شايفة نفسها عشان أحلي مني.
اغتاظ كريم بشدة وقال بحنق متسائلا :
هي عمرها عملت فيكي حاجة وحشة عشان تصدقي إنها تعمل كدا
تطلعت للأرض بخجل وهزت رأسها نفيا
أكمل حديثه قائلا :
متسمعيش لكلام ماما تاني وبعدين انتي جميلة أصلا مش هتشوف نفسها أحلي منك ولا حاجة
إبتسمت ملك لحديثه وقالت :
أنا عاوزه أروح أصالحها وأعتذرلها عن اللي عملته
بادلها البسمة بسعادة وقال :
أول متخرج من المستشفى كلميها انتى عارفه ان قمر طيبة وبتسامح علطول.

**********marwa Elgendy
في المنزل المقابل لمنزلهم
جلست نعيمة برفقة حسناء والتى اندهشت بشدة لهذة الزيارة، فكيف لمريضة لم تزل آثار مرضها بعد أن تتجول بالشارع وتذهب لزيارة الجيران.
وضعت صينية بها كوبان من الشاى وجلست جوارها ويعلو وجهها إبتسامة عذبة، وقالت :
شرفتيني بزيارتك ياأم كريم بس يعني كنتي ارتاحى انتِ لسه تعبانة.
مدت نعيمة يدها لكوب الشاى ترتشف منه قطرة وقالت بسعادة :
لا دا انا خفيت وبقيت تمام أحسن متتخيلى، وجيالك فى حل لمشاكلك كلها.
تطلعت لها حسناء بإهتمام وتساءلت بلهفة :
حل إيه دا ياختي لايميني عليه؟
وضعت نعيمة الكوب من يدها وإعتدلت فى جلستها وقالت بنبرة خبيثة :
مش صاحب البيت مهددك بالطرد عشان الإيجار المتأخر؟
تطلعت لها حسناء بحزن وسرعان ما تحول لأمل فتساءلت بلهفة :
إيه لقتيلي جمعية زى مقلتلك؟
ضحكة رنانة أطلقتها نعيمة تحت نظرات حسناء المشدوهة لتصرفها الغير متوقع.
صبرت حتى إنتهت من ضحكها وسخريتها وانتفضت بحزن ووجها توشح بالحزن، همت بالتحرك من جوارها فأمسكت نعيمة يدها قائلة بمرح :
رايحة فين ياخايبة دا انا جايه عشان أسعدك.
إلتفتت لها حسناء وقالت بضيق :
أنا مش فاهمة منك حاجة وشيفاني فى ضيقة وجاية تتمسخرى عليا!
شدت نعيمة على يدها والجدية عرفت طريقها على ملامح وجهها وقالت :
افهمي بس بصى ياستى انت مش هتحتاجى جمعية ولا هتحتاجى البيت دا كمان.
عقدت حسناء حاجبيها وقبل أن تتحدث أشارت لها نعيمة بالصمت حتى أكملت حديثها وقالت :
انتِ ياستى هتعيشى في بيت الحاج سالم العطار
لوت حسناء فمها وقالت بضيق :
مش بقولك جاية تتمسخرى عليا
نفت نعيمة بعنف وقالت :
جاية أخطبك لنبيل!
تطلب الأمر ثوانى حتى استوعبت حسناء الأمر فشهقت بعنف
وانتفضت من مكانها لطمت صدرها وقالت:
إيه اللي بتقوليه دا عاوزاني اخد الراجل من على مراته؟ لا طبعا مينفعش.
غضبت نعيمة وقالت بحنق :
مهو كدا كدا هيتجوز ولو مش انتِ هيبقا غيرك، نفسه يخاوى قمر بحتة عيل،
لم تسيطر على غضبها وقالت بصوت عالى:
يعني انتِ ترضى أبو كريم يتجوز عليكي؟
وقفت نعيمة من مجلسها وتطلعت لحسناء بإستنكار رفعت حاجبها وتطلعت حولها وقالت باستخاف :
انا غلطانة اني جاية انشلك من عيشتك المقرفة دي وريني بقا هتدفعي الإيجار منين ولا هو أصلا دا منظر بيت قاعدة فيه دا هيقع بين لحظة والتانية.
تحركت للرحيل وتوقفت مرة أخرى وقالت بخبث:
ولعلمك لو ابو كريم حابب يتجوز مقدرش امنعه بس انا مقصرتش معاه عشان يتجوز عليا جبتله الواد يشيل إسمه والبت تبقا حبيبته وعشان أنا أصيلة هسيبك تفكرى قدامك لبكرة الصبح تعرفينى رأيك لو مش موافقة ألف غيرك تتمنى.
ألقت حمم حديثها المحرقة لقلب حسناء وتركتها بحزنها وقهرها تتلفت حولها بحسرة على حال رضت به فجاءت هى لتشعرها بنقصها وضيق حالها،
تطلعت لشقوق تتخلل جدران المنزل ورطوبة عطنة عكرت جدرانه وأرضه وبعد الرضا تسلل السخط والحنق لقلبها
دخلها محدود ومايشتريه لايسمنها ولا يغنيها من جوع
على منضدة مهترئة تشبه منزلها ثلاثة أظرف مغلفة إثنان فتحتهم وعرفت فحواهم فتوقعت الثالث
جلست على فراشها ومدت يدها للأخير تفتحه ويديها ترتعش وقرأت مابداخله وهو تماما كما توقعت (إنذار أخير بالطرد من عقار رقم.... بشارع.... )
طوت الورقة وألقتها بحزن هربت عبرة من مقلتيها تلقفتها بكف يدها، إستلقت على فراشها شاردة بالفراغ تتحاور مع عقلها.. وتتصارع مع قلبها
لا تعرف من ترجح كفته على الآخر!
تطلعت بنظرة خاطفة على الورقة المطوية، كأن عقلها أشار لها لتفكر به فكيف ستكون حياتها دون هذا المنزل؟
ولا أحد لها معين تواجه صعوبات الحياة وحدها منذ فقدت زوجها وطفليها فى حادث سير لعين، وهي لاتملك سوى نفسها
زفرت ببطئ وأغمضت عيناها تحاول النوم لتهرب من الواقع تدعوا من قلبها أن تلحق أسرتها خير لها من البقاء بالشارع أو استغلال وضع لزوجين يعرف الجميع مدى عشقهم لبعضهم..
????
الليل يأتى للجميع سباتا إلا المجروح فالليل يشعل نيران قلبه يلهب جراح روحه يأوق مضجعه
خرج نبيل من فراشه بعد ان صال وجال به محاولا النوم دون جدوى.
ارتدى ملابسه ونزل درج السلم وقف أمام شقة أخيه َطرق على الباب بعنف؛
فتح سعيد الباب وعلى مايبدو انه يشارك أخيه الأرق دون مقدمات وبلهجة آمرة مد نبيل يده وقال :
عاوز مفاتيح العربية أروح لمراتى وبنتى.
وقبل ان يرد سعيد أكمل نبيل بحزم :
العربية دى من فلوس أبويا وليا فيها زيك بالظبط.
لهجته الحازمة أرهقت تفكير أخيه فكل ثانية تثبت له أنه فقد أخاه.
إستدار دون أن ينطق ببنت شفة أحضر المفاتيح من علاقتها جوار الباب ومدها له وأغلق الباب خلفه وتحرك ببطيء يفك أزرار ملابسه تاركا مساحة لدخول هواء أكتر يحتاحة بشدة.
فهو على مشرفة خسارة لم يعد لمواجهتها من قبل؛
توجه لغرفته ليجد (نعيمة) تقف على الباب متكأة عليه بذراع والأخر توسط جذعها،
قابلته بنظرة حانقة وقالت بضيق :
يعنى دا وقت تسيبله العربية فيه؟ يسوق في النص الليل مراته ايه دي اللي هيروحلها هي هتهرب ولا هتطير.
إقترب منها مد يده بعنف أسقط ذراعها وفتح لنفسه طريق عنوة دون ان يبادلها حديثها الذى بات يكرهه،
جلس على طرف السرير يعصر التفكير رأسه، يتخبط بصراع داخله لا يعلم ان كان على حق أو باطل..

صوت الرياح يعلوا فيضيف على ناره حطب يلهب دواخله.
نعيمة تتحدث وتكرر حديثها فيصل إليه ذبذبات لا يقدر على سماعها،
تطلع للنافذة كأنه يرى مشهدا يتحرك أمامه؛ قُبِضَ له قلبه بشدة..
نظرة غاضبة من والدته المتوفية منذ زمن رمقته بها واستدارت مولية ظهرها له وتبخرت في الفراغ تساوت مع الرياح،
شهق بفزع وأصاب قلبه رجفة كادت تهلكه،
مد يده على صدره يدلكه بضعف يستجدى قلبه ليوقف رجفته،

تطلعت له نعيمة بدهشة رفعت من نبرة صوتها قائلة :
مالك ياابو كريم بقالى ساعة بكلمك مش بترد عليا ليه فى ايه؟
تطلع لها بجمود وقال :
قلبى مقبوض أوى مش عارف ليه
قضبت حاجبيها وقالت :
ياساتر يارب هقوم أطمن علي العيال انت قلقتني.
خرجت مسرعة لغرفهم تطمئن عليهم،
وقفت أمام فراش ملك ودثرتها جيدا، تحسست وجهها لتستشعر حرارتها وتنهدت براحة خرجت من غرفتها،
دلفت لغرفة كريم واقتربت من سريره رفعت رأسه ليستريح عنقه على وسادته وربتت علي كتفه وأسجته بغطائه الوثير.
وخرجت ببطىء عائدة لغرفتها؛
إقتربت من سعيد وهو على موضعه كما تركته وقالت بقولك إيه ياابو كريم قوم صلي ركعتين مفيش حاجة انت بيتهيألك،
التفت لها منتبها لحديثها أومأ برأسه موافقا واستقام من مجلسه ليتوضأ ويصلى عله يريح صدره،

وعند عفاف
قامت تصلى بالأسحار وتتضرع لله راجية منه الشفاء لوحيدتها وصغيرتها
أنهت صلاتها ووقفت جوار النافذة تتطلع للسماء بتوسل، تسحب أنفاسها بصعوبة وتخرجها بألم تصرخ أضلعها به. .

شاردة فى الفراغ دمعها لا ينضب تبكى بصمت وتكتم شهقاتها
أخرجها من شرودها صوت إحتكاك إطارات سيارة بعنف فى الأرض تلاه صرخة تعرفها جيدا،
فرغ فاهها وتطلعت لأسفل ؛ هرعت بفزع تلتهم درج السلم، تصرخ بإسم نبيل تبعد كل مايقابلها بيدها أي كان ماهيته
وصلت للجموع أمامه تباعد بينهم بيدها بصرخات عنيفة حتى وصلت إليه
ألقت بنفسها فوقه تحتضنه وتصرخ بالجمع الوفير أمامه :
حد ينادي لدكتور بسرعة واقفين تتفرجوا عليه
تكمل صرخاتها وتستغيث
من الجمع من تحرك مسرعا لداخل المشفى ومنهم من وقف يراقب ويضرب كفيه ببعضهم ويدعوا ويحوقل متأسفا علي شبابه
أحدهم يتحدث بلهجة غاضبة :
العربية اللي خبطته هربت بسرعة ملحقناش نعرفها منه لله
وآخر يقول بنبرة حزينة :
أنا شفته ركن عربيته ونزل منها وماشى باصص فى الأرض وشكله سرحان ومهموم ياعيني يابنى ربنا يجيب العواقب سليمة..
أصواتهم ترن فى أذنيها، حواسها تشتعل بالغضب قلبها يئن بالحزن تقسم بداخلها على الانتقام من المتسبب فيما حدث، تحاول التحدث معه لايستجيب لها فتصرخ بقوة ترج كيان من يسمعها
إقترب طاقم من المشفى يهرول بسرعة إليهم، أبعدوها عنه وحملوه بسرعة لداخل المشفى لإجراء اللازم.
قابل الطاقم طبيب شاب
وقف امامه فتح كشاف صغير سلطه على بؤبؤ عينيه وصرخ قائلا :
حضروا العمليات بسرعة.
جرت خلفهم عفاف وحالتها يرثى لها فهاهى تفقد أعز مالها بعد أن عوضها الله بهم عن اليتم والقهر طوال عمرها؛
لم تعد تحملها قدامها وقفت وإستندت على الحائط وألقت رأسها عليه تبكى وتبكى؛ رفعت رأسها وتحاملت على نفسها وسارت تجاهه مرة أخرى حتى أوقفها طبيب، مشيرا بيدا وهو يغلق غرفة العمليات قائلا :
ممنوع الدخول هنا.
وتركها خارجها تتمزق ألما تتكابد بحزن على تعاظم مصائبها.
يمر الوقت بصعوبة بالغة مع الإنتظار إقتربت ممرضة من عفاف وقالت بأسف على حالها :
قمر صحيت وبتسأل عليكى.
كفكفت دمعها ببواطن كفيها وعدلت من مظهرها، رسمت بسمة زائفة وتحركت لغرفتها تطمئنها، وكم تود هي لو طمئنها أحدهم ولكنها غريزة الأمومة تخفى ألمها فى جوفها لتمتص ألم أطفالها..

إقتربت منها، أحنت جزعها لتقترب برأسها منها وطبعت قبلة حانية على جبهتها.
رفعت قمر عيناها له وقالت بملل :
مش هنمشى من هنا ياماما وبعدين أنا كمان زهقت من النوم دا كل شوية عاوزه انام كل مصحا ألاقى نفسى عاوزه انام تانى
ربتت عفاف على رأسها بحنان وقالت :
معلش ياقمر اتحملى شوية انتي بتنامى عشان الجرح يخف بسرعة وتقومى تروحى
أشارت لها الممرضة لتقترب منها وتعطيها الدواء
ابتعدت عفاف للخلف قليلا حتى قامت الممرضة بعملها.
إقتربت عفاف من أذن الممرضة وهمست بخفوت :
مفيش أخبار عن جوزى؟
هزت الممرضة رأسها بأسى نافية وقالت بنفس الخفوت :
إدعيله واضح ان عمليته صعبه أوي الدكتور بعت يجيب إستشارى مخ وأعصاب معاه.
همست بخفوت :
يااارب

إستقرت جوار إبنتها نيران القلق تنهش قلبها، صبرت حتى أطعمتها ورأت عيناها تغفوا مرة أخرى؛ خرجت بسرعة تتلهف لأى خبر تسمعه تتلاحق سرعة قدميها مع دقات قلبها،
حتى وصلت لمقصدها ولمحت خروج الطبيب من غرفة العمليات، وعلي وجه نظرة أسف أفقدتها إتزانها فسقطت فى الأرض هاربة من وعيها..


إعدادات القراءة


لون الخلفية