الجزء 15

الفصل الخامس عشر

ترجلت قمر من سيارتها ووقفت أمام منزلها مشدوهة تتطلع بكل ماحولها والصدمة تعتلى وجهها،
أبهرتها الزينة حول منزلها و طريقته في اظهار الحب التى لم ترى مثلها من قبل
باقات الورود غلفت الأرض وكستها بألوان بديعة، كل باقة تحتوى على جملة أسعدتها قراءتها.
وتوقفت على جملة مدونة بورقة تعلقت بآخر باقة وتفصحتها بعناية رددتها بشفتاها بخفوت وعينيها تلتمع ببريق ساحر :
"ليت ورودى تخبرك منذ متى أعشقك"

كلماته تدغدغ حواسها تنشي جسدها بسعادة لم تجد لها مثيلا، يسرقها من ألم الواقع ويأسرها بعالم وردى تحلق روحها به بحرية فالحب ان دب بالقلب أبدل الخريف ربيعًا ورفع الأوراق الذابلة لتنضر على أغصانها مرة أخرى ، والزهور تخالف المناخ وتتفتح رغمًا عن الرياح العاتية المحملة بأتربة الأزمات وصدمات الحياة القوية..

احتضنت باقة الورد الأخيرة وارتسمت بسمة على ثغرها، مدت يدها لتفح الباب فتفاجأت برسغ قوية تجذبها، استدارت بفزع فأبصرته يطالعها وعلى وجهه بسمة عاشقة تلمع بها عينيه وتنضح بها حواسه..

استندت بظهرها للباب ، ترك يدها ورفع كلتا يديه علي الباب حول كتفها وبقيت هى بالمنتصف يرتجف قلبها ودقاته يستمعها بوضوح، ابتلعت ريقها بصعوبة وتسلل الخجل لوجهها صبغه بحمرة خفيفة،
اتسعت ابتسامته وقال بصوت هادئ رخيم :
عجبتك المفجأة؟
طالعته بدهشة وأطرفت بعينها بالأرض تنحنحت كثيرًا واستغرقها وقت طويل لتتذكر مخارج الحروف قبل أن ترد بتلعثم :
حلوة..
ضحك بقوة على مظهرها وارتد برأسه للخلف، حاولت الخروج من بين يديه فعاد بنظره لها مرة أخرى ومد أنامله تلمس وجهها؛ ارتبكت بشدة ودفتعه عنها قائلة :
أنا مستعجلة لازم أمشى.
ابتلع ريقه بصعوبة ، سحب نفسًا طويلا وأخرجه ببطء حتى سيطر على مشاعره الجياشة وقال بجدية :
انتِ كنتي فين واتأخرتي ليه كدا؟
تذكرت والديها فتسللت دمعة على طرف هدبها وقالت بحزن :
بابا فى المستشفى.
ارتسمت الجدية على ملامحه وتساءل بلهفة :
حصله ايه؟ كان كويس واحنا عندكم.
تنهدت بأسى وقالت :
بيجهز لعملية يارب تنجح،
جذبها من يدها قائلا :
لا تعالى اقعدى هنا كدا وفهمينى.
توجهت معه لمقعد بحديقة المنزل وجلست جواره قصت عليه ماحدث، واستمع لها وعلامات التأثر على وجهه
أنهت حديثها وقالت :
دلوقتي انا جيت أجيب شوية طلبات هنحتاجها واضح اننا هنفضل هناك شوية وكمان عشان أدي ماما وبابا فرصة يتكلموا مع بعض لوحدهم.
لازمتها التنهدات الحارقة فصدرها يعج بمشاعر متضاربة بين عشق جديد وهم كبير،
فلتت تنهديتها مرة أخري وأردفت :
هما الأتنين بيعرفوا يسندوا بعض وجودهم لوحدهم أفضل ليهم..

لاحظ الدمع بعينيها فمد يده يمسحه بخفه، همس لها قائلا :
متخافيش كل حاجة هتعدى.
أومأت برأسها بخفة وابتسمت بصعوبة، أخفضت بصرها عن عينيه بخجل من قربه، مد يده ورفع ذقنها بقوة لتتقابل عيناهم،
اقترب منها ببطء وعينيه تسلطت على شفتيها، ويده على رقبتها تثبت وجهها،
تسارعت دقات قلبها وقبل أن يحظى بشفتاها انتفضت من جواره واستقامت قائلة :
بعد إذنك يايوسف لازم اخد اللي محتاجاه وأرجع المستشفى.
احتنق قليلا وقال :
طيب انا هاجي معاكي؟
اقتربت من باب المنزل ووجدته خلفها فاستدارت قائلة :
طب استناني هنا هجيب اللي عاوزاه وآجى علطول.
قطب حاجبيه وقال :
انتِ ازاي عيشتي كل دا في باريس ولسه دماغك كأنك عايشة فى مصر.
رفعت حاجبها وابتسمت بثقة وقالت :
معلش انا بحب أخلاق المصريين أكتر.

بمكان آخر بمنزل
شعر مالك بالملل، وقف أمام أمه يرجوا منها الموافقة لخروجه للعب أمام المنزل..
رفضت حسناء قائلة :
مينفعش يامالك الوقت اتأخر وأخاف عليك كمان مش قادرة أقف فى البلكونة قدامك وهقلق كدا.
تدخلت ريم قائلة وعلى وجهها ابتسامة لأخيها :
خليه ياماما أصحابه كلهم بيلعبوا فى الشارع وأنا هدخل أذاكر فى البلكونة قدامه متقلقيش..
تنهدت حسناء قائلة :
خلاص مش هقدر عليكم أصلا انزل العب شوية صغيرين وإطلع علطول..
هلل مالك وخرج مسرعًا قائلًا :
حاضر حاضر هي ساعة بس اللي هلعبها.
سحبت ريم مقعد صغير ووضعته بالشرفة لتراقب أخيها أثناء مذاكرتها،
وقت قليل من لعب كرة القدم أمام المنزل تعالت صيحات الصغار وتهليل بعض لتسجيل هدف وصرخات من الآخرين لتلقيهم الهدف،
شعرت حسناء بملل خرجت لتجلس برفقة ريم،
وتطالع أبناءها بعين دامعة تشعر أنها ستحرم منهم قريبًا، وتسلل اليأس بشفاءها لقلبها شردت بالتفكير لترى ريم متوجة بتاج ومزينة برداء أبيض منتفخ كأميرة ينتظرها ملك ليتوجها ملكة على عرشه، تنهدت بحزن وتمنت لو عاشت لتحضر هذا اليوم؛
ربتت على ظهر ريم المنهمكة فى دراستها بحنان وقالت :
ربنا يوفقك ياحبيبتي.
ابتسمت ريم وقالت:
ربنا يخليكي ياماما أنا هذاكر وأطلع الأولي عشان أبقا دكتورة واعمل أبحاث على كل الأمراض اللي مش لاقيين ليها علاج.
تطلعت لها حسناء بفخر وقالت :
هتبقي أشطر دكتورة فى العالم ياحبيبتي.
شق حديثهم صوت استغاثة من مالك وصرخاته متتالية نظرت حسناء واتسعت حدقتها بفزع،
وصرخت قائلة :
شيلي ايدك يانعيمة متمديش إيدك على ابني.
رفعت لها نعيمة رأسها وقالت باستنكار :
طالما مش قادرة تربيه هربيه أنا دا عيل قليل الأدب.
خرجت ملك من غرفتها علي الأصوات العالية ورأت كريم يخرج هو الآخر من غرفته وخرجا مسرعين للخارج،
نزلت حسناء لتدافع عن إبنها،
وقبل أن تصل إليه وصل له كريم وخلصه من أمه وسمعته يحدثها بغضب :
ياماما بابا حذرك وقالك متمديش ايدك عليهم، متخلقيش مشاكل ملهاش داعى.
صرخت نعيمة بحنق قائلة :
أسيبه يقل أدبه عليا وأسكت!
هرب مالك لأمه يختبئ بحضنها ربتت عليه بحنان وأشارت له بالصعود ولريم أيضا.
وخرجت لنعيمة رمقتها بغضب وقالت :
متفكريش اني تعبانة ومش هقدر أدافع عن عيالى، انا مش هسمح لحد يقرب منهم طول مفيا روح. فاهمة ولا لا.
ردت نعيمة بحقد وكراهية وقالت :
طب متربيهم قبل متموتي ولا انتِ شاطرة تدافعى عنهم بس.
ردت حسناء بصوت متحشرج تحاول الحفاظ على رباطة جأشها وتعمل جاهدة لرفع دموعها وقالت متصنعة القوة :
أنا مربية عيالى أحسن تربية ومش مستنياكى تيجي تقوليلي أربيهم إزاي.
رد كريم بغضب وقال :
هو مالك عمل ايه بس ياماما لكل دا؟
رفعت حاجبها باستنكار وقالت عاملين دوشة جامدة فتحت الشباك أقولهم ابعدوا بالكورة شوية قبل منطق حدفني بالكورة فى وشى..
تقدم منهم أحد الأطفال من أصدقاء مالك وقال وهو يرمق نعيمة بغضب :
مش مالك اللي شاط الكورة وأصلا مكناش شايفنها هي فتحت الشباك والكورة جات فيها غصب عننا.
رمقتها حسناء بغضب شديد وأشارت لها بإصبعها قائلة :
مش هتعدي المرة دى يانعيمة وهتشوفى.
استدارت لتصعد الدرج تجر اقدامها بصعوبة.. تخشى أن تفقد سيطرتها على جسدها الهزيل وترى نظرات الشماتة بنعيمة التى تمقتها بشدة.
دخل كريم مع والدته للداخل ووجد ملك تجلس بانتظارهم والغضب يملأ وجهها والدموع تتلاحق بسباق مع بعضها.. تطلع لها كريم بحزن وأنكس رأسه وهزها بأسي اقترب منها وربت كلى كتفها وتركها ودلف لغرفته دون أن ينطق ببنت شفة.
تطلعت ملك لوالدتها بحزن وقالت :
حرام عليكِ ياماما حرام عليكي بجد مش بتسيبي فرصه الا وتعملى مشكلة ملهاش داعي دلوقتي بابا يجي ويعمل مشكلة، فكري فينا شوية احنا تعبنا من كتر المشاكل.

تأففت نعيمة وأشاحت لها بيدها قائلة :
متوجعيش دماغي انتي كمان انا أصلا رميت طوبتك من زمان كنت فاكراكي هتطلعي قلبك عليا بس طلعتي واطية زي أبوكي.
قبل أن تنهي الكلمة جحظت عين ملك وتطلعت لمن وقف خلف نعيمة وقفز الرعب من عينيها استشعرته نعيمة والتفتت بحظر فرأت سعيد خلفها يرمقها باشمئزاز وقد بات يمقتها بشدة مد يده وأمسكها من يدها لواها بيده بقوة وقال بصوت أجش ونبرة حازمة :
أكسرهالك دلوقتى وأقطعلك لسانك اللي بتغلطي بيه فيا وفى عيالي؟
صرخت نعيمة بألم وخرج كريم من غرفته بسرعة.
زاغت عين ملك بينهم تطالع أبويها فى صدامهم المعتاد، فجأة صمتت الأصوات بعد سماعهم صوت ارتطام شديد بالأرض وماكان هو سوى جسد ملك الذي رحبت به الأرض بعد أن تهاوت فاقدة وعيها
صرخ كريم بفزع:
ملك.
تحركت مشاعر الأمومة بقلب نعيمة وارتعبت علي ابنتها واقتربت منها تتفحصها.
رمقها كريم بغضب أبعد يدها عنها بخفة وحملها لغرفتها وسبقه والده يفتح له الباب والقلق تملك منه.
وضعها كريم برفق على فراشها وأسرع يحضر أدواته، قاس ضغطها وقال بحزن :
ضغطها نزل جامد هعلقلها محلول ولو سمحتوا وقفوا خناق دلوقتى لأن دا عالأغلب صدمة عصبية..

أطرق سعيد بطرفه بالأرض و رفع رأسه ينظر بأسف لكريم، اقترب منه كريم وربت على كتفه قائلا :
معلش يابابا خليها عليك إنت شوية أنا عارف اننا نهمك وهتعدى عشان خاطرنا..
تنهد سعيد قائلا :
انتوا أغلى حاجة عندى واتحملت عشانكم كتير.
تخطاه كريم واقترب من أمه مال على اذنها وقال بترجى :
أرجوكى راعى اننا بينكم مش طالبين منك كتير بس بلاش تستفزيهم مش صح تضربى أطفال أصلا ملهمش أي ذنب.
لوت طرف شفتيها بغيظ وقالت :
هو يعني الغلط كله عليا أنا.
زفر كريم بضيق وقال :
معلش مش هحقق فى غلط بس كفاية مشاكل..

تحرك كريم يحضر الدواء لملك وشرع يوصله بإبرة ثبتها بيدها؛

عند قمر
جمعت مسرعة ماتحتاجة وأبدلت ملابسها وخرجت من المنزل تلفتت بحثًا بعينيها عن يوسف لم تجده، تحركت قليلا فوجدته ينتظرها بداخل سيارته،
أشار لها بيده فاقتربت منه، خرج من سيارته وفتح لها الباب رفضت الركوب معه وقالت معتذرة :
آسفة يايوسف مش هينفع أركب معاك وأسيب العربية هنا أنا هروح بعربيتي ولو حابب تعالا ورايا بعربيتك،
صمت قليلًا يفكر وقال :
طب تعالي بس وهرجع أجيبهالك متقلقيش.
ترددت قليلا فأشار لها يحثها على الركوب؛ رضخت لحديثه وامتثلت لطلبه وركبت جواره..

تطلع لها بجانب عينيه وقال بتساؤل :
هو انتِ دايما لبسك كدا؟
تطلعت لنفسها بدهشة وقالت:
ماله لبسي؟
تنحنح قائلا يعنى أقصد أنه مش شبه لبس البنات هنا.
ابتسمت قائلة :
آه انا مبحبش اللبس العريان ولعلمك في كتير لبسهم كدا والا مكانش المصنع بتاع ماما يشتغل حلو كدا.
ابتسم بسخرية وقال:
أكيد بتصدر اللبس دا للقرى المصرية.
طالعته بغضب وصمتت وراقبت بعينيها الطريق وفى قلبها قبضة لا يعجبها شعورها بها..

عند كريم
جلس جوار ملك يراقبها تفتح أجفانها المتثاقلة ببطء شديد أغمضتها مرة أخري وعادت لتفتحها بعد أن تنبهت لمناداة كريم ووالدها لها،
وعلى يمينها وقفت نعيمة واقتربت منها تربت عليها قائلة :
انتي كويسة ياحبيبتي؟
هزت ملك رأسها بالأيجاب وخرج صوتها بضعف قائلة:
بقيت أحسن الحمد لله.
تنهد سعيد وتنفس الصعداء واقترب منها وقبل أن يجلس جوارها صرخة قوية دوت وصدحت بقوة تهز الوجدان ارتسم الفزع على وجوههم ودب الرعب بقلوبهم..


إعدادات القراءة


لون الخلفية