اقتربت في الطريق الترابي من المنزل وقد أخذت قساوة الزمن بعض ملامح جدرانه الطينية العريقة .. لكن ما أن تقع عينك عليه تحس أنك سوف تعيش حلاوة الماضي .. تقدمت ثم طرقت باب صديق جدي الخشبي ومقبضه الحديدي .. فبعد لحظات وطرقات عديدة ومن داخل البيت المتواضع وبصوت وهنً ضعيف سمعته يقول : تفضل بالدخول !! ... فتحت الباب ونظرت إلى صديق جدي الذي ملئ وجهة الزمن بالتجاعيد .. وانكماش فتحة عينيه .. وباتت العظام تبرز من فوق الجلد السخيف مع تلك العصى الشجرية القديمة التي كان يتكئ عليها .. تبادلنا السلام والتحية .. وهو كالعادة !! ترى القناعة والحكمة و الهيبة في وجهه كأنة كتاب قديم أوراقه صفراء عتيقة .. وغلافه السميك الذي يشعرك بأنك ترى التاريخ !!
ما لبثنا أن تبادلنا بعض أطراف الحديث .. وقد أستضافني لشرب فنجان القهوة كعادته .. فسرى شرب القهوة داخلي بطعم لذيذ لم استشعره من قبل .. لكن هناك أمر عجيب شدني بعض الشئ !! .. فصديق جدي يحب كثيراً شرب القهوة ، وهنا أكتفى بالنظر و التحديق ، فكأنه لم يشرب قهوة من قبل !! .. قطع ذلك التناقض العجيب .. استحواذ تفكيري بالخاتم القديم .. فبعد الحديث تحركت اليد لتسلك الجيب و تخرج الخاتم .. فأخذت اشرح له ما دار من أحداث غامضة في تلك الليلة المرعبة وكيف حصلت على هذا الخاتم الغريب .. وما صادفني في طريقي إليه من خوف !!
سيطر على صديق جدي سكونا مطبق حاولت من خلاله أن استشف ما تترامى إليه ملامح وجهه .. وبين ذلك السكون وما ارتسم من تعابير مبهمة .. قام صديق جدي فجأة وقال بصوت تغلبه الصرامة : انتظرني !! و اتجه إلى غرفته الخاصة التي كان دائماً يحرص أن لا يدخلها احد .. و أحياناً يظل فيها ساعات طوال لا احد يعلم ما يحدث فيها من غموض إلا الله !!
ازداد سكون المجلس غموضاً كالليل الحالك من ما طرأ على صديق جدي ومن الأحداث السابقة المرعبة .. فكنت ارتقب أن يفتح غرفته الخاصة بفارغ الصبر .. كالفجر ينتظر بزوغ الشمس لتكشف اشاعتها الدافئة خبايا الظلام .. لحظات ويكسر ذلك السكون صوت فتح الباب ومن بينه صديق جدي ، وقد تبدل لون وجهه من ماءً صافي اختلطت به قطرات الغموض فغيرت لونه إلى لون شاحب .. مما أزداد أغرقاك مخيلتي في مستنقع الحيرة و الاستغراب !!
وبصوت يحمل الدهشة .. انطلق لسان حالي بكلمات الاستفهام و التعجب !! .. ابتي .. ابتي .. أرجوك اخبرني ما الذي يحدث ؟؟... .. نظر إلي .. وعيناه تحمل كل معاني الحزم كأنها نار ملتهبة والتي لم اعهدها عليه من قبل .. ثم تقدم وامسك بيدي فبسطها ووضع الخاتم القديم في ثناياها وضم الأصابع بقوة وقال بشدة : اذهب يا ولدي فبعد مشارف المدينة مباشرةً من الجهة الأخرى يوجد وادي .. احفر حفرة صغيرة به .. وضع الخاتم بداخلها .. ثم ادفنه .. واقرأ علية آية الكرسي !!
شئ من الرهبة و الصمت و الاستنكار أطبق على الذات و أنا اردد بحيرة : بأذن الله تعالى يا ابتي .. واعلم ذلك الوادي جيداً !!
جاء وقت الرحيل كي اودعه !!بعد ما زاد الغموض من حال إلى حال أغمض .. و الأخص تلك التصرفات الغريبة التي طرأت عليه وكأنه شخص أخر غير الذي اعلم .. ومن ما أخفى علي سر الخاتم الغريب !! .. وقفت قرب باب خروج البيت و صديق جدي يضرب على كتفي بحزم أحس به كتيار يهزني .. ثم قال : يا ولدي .. اذكر الله في طريقك للعودة ولا تتهاون عن ذكره .. وافعل ما أمرتك به في شئن الخاتم !!
أجبته بثقة وعزيمة اني سوف افعل ما طلبه مني بأذن الله تعالى .. ثم خرجت من المنزل فودعته و الغموض يعتريني من كل جانب ثم انطلقت إلى طريق العودة !!
أطلقت العنان لسيارتي في ذلك الطريق السريع وقد اخذ الغموض ينهش فكري ويستحوذني .. وانظر إلى الطريق الذي يعكس بعض أشعة الشمس الذهبية في بساطه الأسود .. ومن بعيد ذلك السراب كأنه دخان انبعث من براكين الأرض .. ومن قلة السيارات العابرة فيه .. وبين جوانب الطريق يخلو العمران وتكثر السهول و الوديان فيه ومن بعض الجبال البعيدة المتفرقة .. مما زادته وحشتاًً و خلوة .. وكأن الطريق أصبح أطول من السابق و إنه بلا نهاية !!