هناك من بعيد و أنا مسرع في الطريق وبعد هدوء وسكون بدت ملامح العمران تترائي إلى ناظري .. لقد بدأ السرور و الفرح يشق طريقه إلى شريان القلب لينبض بسعادة من جديد بعد عناء وخوف شديدين .. وبينما أنا كذلك ظهر في عرض الطريق البعيد شئ لم اعرف كنهه .. شئ غريب .. شئ لا يتحرك !! .. اقتربت رويداً رويدأً و أنا اخفف من سرعة السيارة .. نعم انه بشر يقف متسمراً في منتصف الطريق كأنه جبل لا يتزعزع من مكانه .. مهما كانت قسوة الأعاصير!!
اقتربت من ذلك الشئ أكثر .. لحظة .. إنها فتاة !!! .. وبدا عليها إنها لا تعير اي اهتمام لهجوم السيارة العنيف .. وهي في منتصف الطريق السريع لا تتزحزح من مكانها .. وكأنها ترمقني بنظرات غريزة و بعيدة طال انتظارها !! .. في هذة اللحظة دار بعقلي أن أزيد من سرعة السيارة وأتجاوزها من جانب الطريق الترابي بعد ما صادفني من أحداث مرعبة وغامضة .. أو أن ما يدور أمامي مجرد وهم أو حلم في ليلة سوداء .. لا ادري ماذا افعل !! فتاة في عرض الطريق لا تتحرك صامدة أو إنها تنتظرني وأنا أقود السيارة بتجاهها .. لم اعد أتحمل التفكير أبدا !!
تحركت القدم لتزيد الضغطُ على دواسة البنزين والسيارة تتجه طريقها إليها لا محال .. ما الذي يحدث !! .. ففي لحظة توقف المحرك رغم الإصرار والضغط المتواصل على دواسة البنزين .. لقد شُلت حركة المحرك تماما وتوقفت السيارة جانب الطريق .. كأن قوى سحرية تسيطر على كل زاوية من زواي المحرك تنبعث من تلك الفتاة المتسمرة عرض الطريق وهي تنظر للموقف بهدوء وثقة تامة .. !!
تسمرت في المقعد وهي تقترب مني بهدوء وثبات .. لم اصدق ما ارى عندما دنت من السيارة .. ثم وقفت جانب نافذة السيارة المفتوحة !! ففركت عيني وكأني في حلم لا يواجه الحقيقة !! .. إنها حقاً آية في الجمال تعجز دواوين العرب عن رسمها بالكلمات.. ذات رداء ابيض حريري .. وزاد من جمالها شلال شعرها الأسود المتموج الذي تدلى مسترسلا حتى تعدى الخاصرة...اما الوجه فكان لوحة في غاية الخلق والجمال .. سبحان الله الذي أبدع !!
سحرني جمالها و أنا انظر إليها .. ما كان يرتسم على وجهها لا خوف.. لا رعب.. لا ابتسامة.. و لا حتى تعجب .. ملامح جامدة كالجليد الأبيض مما زادها جمالً وبهاء .. توقفت كل مشاعري وهي تشاهدني بنظراتها الساحرة وبدت ابتسامة على شفتيها كأنها أنشودة عشق عذب وقالت بصوت ملائكي : لا تخف أنت في حفظ الرحمن !! .. انطلقت كلماتها كالنسيم البارد فخفق لها القلب بين الضلوع و دخلت القلب فملكته وأطفئ نورها كل زوايا الخوف بكياني !!
عشرات الأسئلة بل مئات دارت بخاطري .. من تكون ؟ وماذا تريد ؟ وهل لها علاقة بتوقف السيارة ؟ وماذا ... !! قطع حبال الأسئلة همس حديثها بصوت عذب هادئ كتدفق الأنغام من طرب الربيع : تنحى من السيارة و اتبعني ولا تخف سوف تعلم كل شئ بأذن الله تعالى في الأجل القريب !!!
لم املك في لحظتها اي تفكير !! لقد توقفت كل الأحاسيس أمام ذلك الجمال الصارخ الذي يذهب بكل لب إنسان على وجه الأرض وتلك الرائحة الذكية العبقة المنبعثة كالنسمة تتراقص بين الرياح لتعبر مداخل الاستنشاق وتستقر في القلب وتفجر في العقل جاذبية لا اقوى سيطرتها سوى أن اتبعها حيث تذهب كأنها قيدتني بسحرها بقيود لا يقوى اعتى الرجال من فكها !!
لم يفارق العين و القلب بريق جمالها وكأنها قيدت ارجلى بحبال تقودها فسخرتها لتحاذي خطواتها دون اعتراض .. بعد لحظات استيقظت حواس الإبصار لتدرك تناثر ذرات الرمال الذهبية مع سرعة الرياح المنسابة وسطوع الشمس في كبد السماء وبعض الشجيرات المتدحرجة هنا وهناك على بساط الوادي لتخلق حقيقة أن الأرض قاحلة لا حياة فيها .. وأنا أحدق في هذا المنظر المريب لم انتبه في لحظة بسيطة أن الشارع العام و السيارة بات لا اثر لهما هنا .. واني انتقلت بين أودية وسهول في طرفة عين .. في مكانٍ ما قد نسيه بني البشر منذ القدم !!
شعرت بخوفً من المجهول .. شئ من العالم الخفي .. قطع ذلك الشعور الغريب بعد صمت من تتبعها وإحساس أني مسلوب الإرادة .. فسألتها كالغريق الذي يبحث عن طريق للنجاة : أين أنا ؟ وكيف وصلت هنا ؟ وما هذا المكان ؟ .. التفتت إلي بابتسامة خفيفة وكأن تعبير اندهاشي سبب تلك البسمة ثم همست بصوت هو العزف على الناي : لا تقلق قد اقتربنا من الوصول إلى المكان !!
يستعليني الفضول لمعرفة المكان الذي تنشد ؟ وماذا تريد مني ؟ ومن تكون ؟.. لكن كأنها لن تجيب عن تساؤلاتي وهي تمضي طريقها باستمرار .. أو أن الصبر هو الإجابة .. فتغلب الصمت على الشفتين وان اتبعها حيث تمضي .. لعل صمتي يسرع سفينة الإجابة !!