الجزء 17

الفصل الثالث عشـــــر ( الجزء الأول ) :

في مشفى الجندي الخـــاص ،،،

لم يترك أوس المجـــال لأبيه مهاب لكي يضيف كلمة أخــرى تحمل الإهانة إلى زوجته ، فأولاه ظهره ، وقبض على كف تقى بأصابعه أكثر ليضمن عدم إفلاتها منه ، وتحرك نحو باب الغرفة بخطوات قوية ساحباً إياها خلفه ليترك والده بمفرده في حالة عصبية شديدة يسب ويلعن بسخط جلي ....
ورغم الوخــزات التي تحدث آلماً في صدره ، إلا آلم إهانة زوجته أكبر من أي شيء ..
تحامل على نفسه حتى وصـل بها إلى المصعد .. فإلتقى به الطبيب مؤنس وسأله متوجساً :
-رايح فين يا أوس باشا ؟

رمقه بنظرات محتقنة، ولم يجبه ، فعاود سؤاله بصيغة أخــرى :
-ماينفعش تمشي وانت في الحالة دي ، كده ممكن آآآ...

قاطعه بصوت غاضب وهو يجز على أسنانه بقوة :
-ششش .. مش هاستنى لحظة واحدة هنا ، حتى لو كان فيها موتي !

انقبض قلب تقى ، وزادت رجفته عقب تلك العبارة الأخيرة ..
ونظرت له بخوف واضح في عينيها الدامعتين .. ثم أطرقت رأسها للأسفل في خزي ، وابتلعت في حلقها مرارة القهر و الخزي .. فهي دوماً تجد من يشعرها بدونيتها وحقارتها ..

وصـل المصعد إلى الطابق ، وفتحت أبوابه على مصرعيها ، فدلف أوس داخله وهو ممسك بتقى التي كانت مستسلمة في حركاتها ..

نظر نحوها فوجدها على حالتها الحزينة تلك ، فأدرك مدى تأثير كلمات والده الموجعة عليها ، فنفخ بتنهيدة حارقة ، وإستدار قليلاً بجسده ليقف قبالتها ، ثم رفع كفه نحو ذقنها ليرفع رأسها نحوه ، وهمس لها قائلاً بحذر :
-انسي اي كلام اتقال جوا ، محدش هايقدر يلمسك طول ما أنا موجود

وكـــأن كلماته كانت القشة التي منحتها الفرصة للبكاء أمــامه بقهر أكثر ، وظلت تشهق بأنين موجع ..
شعر بآلمها ، وبروحها التي تحترق من الذل والمهانة ، فلف ذراعه الأخر حولها ، وقربها أكثر إلى أحضانه ، وألصق صدرها في كتفه لتبكي عليه ، ومسح على ظهرها بنعومة .. وهو يحاول السيطرة على أعصابه المشتعلة أمامها ..
قبل كفها قبلة مطولة ، وكـــز على أسنانه قائلاً بحرص في محاولة يائسة منه للتهوين عليها :
-ماتعيطيش يا تقى ، متخليش حد يهزك ، انتي مراتي ، وكرامتك دلوقتي من كرامتي ، وأي حد هايتعرضلك كأنه جه عليا !

صمت لثانية ليحدق أمامه بنظرات مميتة ، وتابع بوعيد :
-وأنا مش بأسامح في اللي يخصني !

..............................

في نفس التوقيت كان عدي يقف أمـــام المصعد الموجود في طابق الإستقبال لكي يصعد للإطمئنان على أوس .. فإذ بـــه يتفاجيء بوجوده بداخله حينما فتحت أبوابه ..

نظر له مدهوشاً وهو يردد بصدمة :
-أوس !

لاحظ إحتضانه لتقى ولبكائه الشديد ، فتسائل متوجساً وهو يوزع أنظاره بينهما :
-حصل ايه ؟

رد عليه أوس متسائلاً بجمود ، ونظراته أدعى للقلق :
-عدي ، معاك العربية ؟

أومـــأ رفيقه برأسه قائلاً بإيجاز :
-ايوه

تابع قائلاً بصوت صـــارم وهو يخرج من المصعد وزوجته مستندة إلى صدره :
-هاتها قدام البوابة ، ووصلنا على بيتي !

تسائل عدي بصوت منزعج رامقاً الاثنين بنظرات غامضة :
-انت .. انت هتسيب المستشفى في حالتك دي ؟

حدجه أوس بنظرات قوية ، وهتف بنفاذ صبر :
-عدي ، أنا مش هارغي كتير ، هات العربية !

ضغط رفيقه على شفتيه ، وتشدق قائلاً :
-اوكي .. اللي انت عاوزه !

ثم أســـــرع في خطواته ليحضر سيارته الخاصة ..

كذلك صُدم معظم المتواجدين في الإستقبال بوجود أوس سائراً على قدميه ، ومحتضناً لزوجته ، وكأنه يحميها منهم .. فصدرت همهمات جانبية عنهما ، ولكن لم يجرؤ أحد على الوقوف في طريقه أو حتى ســؤاله ..
...............................

بعد أقل من دقيقتين ، كان أوس يجلس في المقعد الأمـــامي في سيارة عدي ، وفي الخلف تقى وهي عابسة الوجـــه ..

تحرك رفيقه بها نحو وجهته دون أن يضيف أي أسئلة تزيد من توتر الأجواء ..

ضغط أوس على أصابعه بقوة محاولاً التنفيس عن غضبه ..
وتسائل بصوت متحشرج :
-معاك سيجارة ؟

نظر له عدي مصدوماً ، وسأله بإستغراب شديد :
-انت هتدخن الوقتي ؟

زفــــر بصوت مسموع وهو يجيبه بنبرة محتدة :
-أنا مش طايق نفسي

مط عدي فمه ليضيف بنبرة منزعجة :
-ما انت لو تفهمني حصل ايه وآآ..

أشـــار له أوس بعينيه بنظرات ذات مغزى نحو تقى ، ففهم الأخير على الفور أن الأمر يخصها .. لذا اقتضب حديثه ، واكتفى بالتعليق بحذر :
-مافيش داعي وانت لسه في حالتك دي

نفخ أوس من الضيق ، وأدار رأسه للجانب لينظر للطريق عبر زجــاج نافذته ..
.......................................

في منزل عبد الحق بالزقـــاق الشعبي ،،،

مدت إحســـان يدها بكوب الشاي الساخن إلى القابلة أم نجـــاح ، وأردفت قائلة بمعاتبة زائفة :
-بقى كده ماتجيش يا ولية ، وتسيبني ملطوعة أستناكي !

تناولته منها ، وأسبلت عينيها لتقول مبررة :
-وحياتك يا ست إحسان مافضيت خالص ، العيال قاطمين وسطي وآآ...

قاطعتها بنبرة جادة وهي محدقة بها :
-سيبك من الكلام اللي لا هيودي ولا هايجيب ، أنا كنت عاوزة أسألك في حاجة كده !

قطبت أم نجاح جبينها ، وتسائلت بهدوء :
-خير يا ستي ؟

ردت عليها بنبرة لئيمة وقد تحولت نظراتها للقتامة :
-البت بطة

ازدردت أم نجاح ريقها ، وتبدلت ملامح وجهها للقلق والإنزعـــاج ، وتسائلت متوجسة :
-مــ... مالها ؟

أخفضت نبرة صوتها لتتابع بخبث :
-مخابيش عليكي ، ابني قالي على كلام كده مفهمتوش ، فقولت اسألك انتي
فغرت فمها مصدومة وهي تردد بقلق :
-هـــاه .. آآ..

سألتها إحســـان بصوت قاتم دون أنترمش بعينيها :
-ايه حكايتها معاكي بالظبط ؟

تلعثمت أم نجاح وبدت مضطربة وهي تحاول إختلاق أي كذبة مقنعة ..
-آآآ..هو .. مش سقطت وآآ..

قاطعتها إحســـان بصوت غليظ :
-بصي من الأخــر كده ، أنا ابني مابيخبيش عني حاجة تخصه حتى لو كانت ايه !

ثم زادت من صلابة نبرتها وهي تتابع بثقة :
-وحكايتك معاها أنا كشفتها

تعرقت أم نجـــاح بشدة ، وجف حلقها .. فقد وقعت بسهولة في فخ جارتها التي خدعتها بكلماتها الواثقة .. وهتفت محتجة :
-أنا .. أنا ماليش دعوة ، وحذرتها من الأول !

أدركت إحســـان أن هناك ملعوباً خفياً قد صــار من وراء ظهرها ، فتشنجت قسمات وجهها ، وصرت على أسنانها لتصيح بغضب :
-انطقي يا ولية ، عملتوا ايه سوا ؟
..........................................

عند مشفى الجندي الخـــاص ،،،،

استطــــاع أحمد أن يدلف بسهولة إلى داخل المشفى دون أن يمنعه أحد ، فشعر بالإرتياح لقرب تحقيق غرضه ..
ولكن سريعاً ما تلاشت أحلامه حينما عرف برحيل أوس المفاجيء ، فأسند كفي يده على السطح الرخامي لمكتب الإستقبال ، وهتف مصدوماً وهو جاحظ العينين :
-مشى !! امتى ؟

ردت عليه الممرضة بهدوء وهي تسند سماعة الهاتف على كتفها :
-من شوية

أكمل قائلاً بذهـــول وهو يفرك فروة رأســـه بعصبية :
-كده عادي ، من .. من غير ما حد يمنعه !

رمقته الممرضة بنظرات حادة لتجيبه بصوت شبه منزعج :
-والله هو حر في تصرفاته !

ضرب بقبضته على السطح الرخامي ، وأولاها ظهره ليقول بضجر :
-يادي النحس ، مش عــارف أقابله خالص ! أووف ، مقدميش دلوقتي غير أفضل قدام الشركة لحد ما أوصله ، ده الحل الوحيد اللي قصادي ...!

......................................

في منزل أوس الجديد ،،،،

أوصــل عدي أوس وتقى إلى البناية الحديثة التي يقطنان بها ، وما إن تأكد من صعودها إلى المنزل حتى استقل سيارته عائداً إلى الشركة ..

بدى التعب والإنهـــاك ظاهراً عليه ، ولكنه تحامل أكثر حتى لا يسبب القلق لتقى التي كانت في حالة يرثى لها ..
مد يده داخل جيبه ليخرج ميدالية مفاتيحه ، ومن ثم دس مفتاح المنزل في موضعه لينفتح الباب ..

تنحى جانباً ، وأشـــار بيده لتقى وهو يقول بهدوء :
-تعالي ..

ترددت في الدخـــول .. وإنكمشت على نفسها أكثر ..
شعور بالرهبة يسيطر عليها من الآن ..

لاحظ إرتباكها ، فتابع قائلاً بتنهيدة :
-احنا هنا بُعاد عن أي قلق .. اطمني

مـــد كفه نحوها ، فنظرت له بتوتر ، ثم سلطت أنظارها مدخل المنزل المظلم ..
لم يمهلها الفرصة للتفكير ، فإلتقط كفها بأصابعه ، وسحبها ببطء للداخل ..

جابت تقى بعينيها المكان ، وحبست أنفاسها بترقب ..
تأملها أوس بحذر ، وبحث بأصابعه عن مفتاح الإنارة ليضيء بهو المنزل ..
أُضيئت الصـــالة ، فرمشت هي بعينيها لتعتاد على الإضاءة القوية ..
وابتلعت ريقها بإرتباك بعد أن سمعت صوت غلق الباب من خلفها ....

ألقى أوس بالمفاتيح على الطاولة القريبة ، وتحرك للأمـــام نحو أقرب أريكة ..
ظلت هي متسمرة في مكانها محاولة إستجماع شجاعتها للتحرك خلفه ..

لم يحــــاول الضغط عليها ، أو جبرها على اللحاق به ..
اكتفى فقط بإختلاس النظرات نحوها ليخمن شعورها نحو بقائهما بمفردهما في المنزل ..

جاهدت تقى لصرف تفكيرها عن أي أفكـــار مزعجة .. وتنفست بعمق وهي تجوب بعينيها أرجــاء الصالة الخارجية ..
ظلت تطمئن نفسها بأن كل شيء على ما يرام ...

احنى أوس رأســـه للأمام ، وأغمض عينيه للحظات .. فقد أنهكته الحركة الزائدة ..
زادت حدة الوخــزات في صدره ، فأسند قبضته المتكورة عليه ، وضغط على شفتيه مقاوماً الآلم به ..

وقعت عينيها عليه ، فخفق قلبها بقوة وهي تراه على حالته تلك ، واقتربت منه بحذر لتسأله بصوت مرتبك :
-انت .. انت كويس

لم يرفع رأســـه ، ولم يعلق وظل على وضعيته الصامتة تلك .. فزاد قلقها أكثر عليه ..
اقتربت منه بخطوات بطيئة ، ومع هذا كانت دقـــات قلبها في تســـارع حتى كادت أن تخترق أذنيها ..
تقلصت المسافة بينهما بدرجة كبيرة حتى أصبحت على بعد إنش منه ..
مدت يدها المرتجفة نحوه ، وأسندتها على كتفه لتضغط عليه برفق .. وسألته بخفوت وهي تبتلع ريقها :
-انت .. انت تعبان ؟

هــــز رأســه قليلاً وهو يجيبها بهمس :
-شوية

ربتت على كتفه بحنو ، وتابعت قائلة بقلق بادي في نبرتها ونظراتها :
-طب .. طب ادخل ارتــاح جوا

تنهد بعمق ، وأجابها بصوت منخفض وشبه متقطع وهو مغمض العينين :
-أنا .. أنا مش عاوز أسيبك لوحدك

هتفت قائلة بإصرار وهي تتطلع إليه بريبة :
-أنا كويسة ، خش ارتاح انت

هز رأســـه مجدداً ، ثم أنزل قبضته ليستند على مسند الأريكة ، وحاول النهوض بمفرده ، لكنه أخــذ وقتاً مطولاً ليفعل هذا ، فإرتفعت نسبة القلق لديها ..
لذا سألته عفوياً وهي تمد يدها نحوه :
-تحب أساعدك ؟

رفع رأســـه ببطء لينظر نحوها بحنو .. ورسم ابتسامة هادئة على ثغره وهو يجيبها هامساً :
-أنا كويس ، متقلقيش

أخفض رأسه للأسفل ، وكـــز على أسنانه بعد أن تشنجت تعابير وجهه وهو ينهض عن الأريكة ..
أصرت تقى على مساعدته ، وهتفت بجدية استغربها :
-طب هات ايدك ، أنا هاسندك !

ضاقت عينيه بإندهـــاش ، ونظر إلى أصابعها الممدودة نحوه بدقة .. وزادت إبتسامته الهادئة إشراقاً ، وقبل بعرضها ، وأمسك بكفها ..
وضعت تقى كفها الأخــر أسفل مرفقه لتتمكن من إيقافه ، ولكنها لم تتوقع قدر القوة التي تحتاجها لفعل هذا وهي في حالتها الواهنة تلك ، فسقطت عفوياً بجسدها عليه ، فإرتطمت بذراعه وصدره .. فتأوه متألماً من تلك الحركة المباغتة ، ومع هذا أسندها بذراعه الأخـــر .. وتلمس جبينها شفتيه ، فرفعت رأسها لتنظر نحوه ، فرأته عينيه عن قرب شديد تغازلان عينيها بشغف صـــادق ...
توردت وجنتيها حرجاً منه ، وهمست معتذرة بتلعثم وهي تعتدل في وقفتها :
-أسفة .. أنا ..آآ.. مقصدش

مازحها أوس قائلاً بمرح وهو يطالعها بنظراته الشغوفة :
-من أولها كده .. حملك عليا ، أنا مش هاقدر على الحركات دي !

أجفلت عينيها لتتجنب نظراته المحدقة به .. وأمسكت بكفه ، وهمست بجدية زائفة :
-يالا ..!

ابتسم لها متنهداً بشوق :
-ماشي

وبالفعل نهض من على الأريكة ، وظلت هي ممسكة بكفه ، ومسندة إياه وهما يتحركان سوياً نحو غرفة النوم ..
تعمد أوس السير ببطء لينعم بأكثر وقت بقربها وهي لا تهابه أو تخشـــاه ..
شعور طاغي بالسعادة يتخلل كيانه وهو يرى لهفتها الواضحة في تصرفاتها معه ..
تنهد بإرتيـــاح لقراره الصائب بالبعد عن أي مصدر للتوتر في هذا الوقت الحرج ليبدأ معها مرحلة أخرى جديدة تعيد ترميم العلاقة بينهما .............................................


إعدادات القراءة


لون الخلفية