الجزء 37

الفصل السابع والعشـــرون ( الجزء الأول ) :

في سيارة أوس الجندي ،،،،،

قـــــاد أوس سيارته بنفسه بعد أن عَهِد لرفيقه عدي مهمة الإعتناء بزوجته وشقيقته أثناء غيابه ..
رن هاتفه ، فإلتقطه من على تابلوه السيارة ، وأجــــاب على الإتصـــال الهاتفي الذي أتـــاه من أحد حراسه المسئولين عن مراقبة فردوس ، وأردف قائلاً بجدية :
-المدير نفذ الأوامر ، وطردها من المستشفى ، ورفض أي حد يعالجها زي ما حضرتك أمرت

أصغى إليه أوس بإنتباه تام ، ثم استطرد حديثه متسائلاً بجمود :
-وهي راحت فين دلوقتي ؟

أجابه الحارس بنبرة رسمية :
-في طريقها للحـــارة !

هـــز أوس رأسه بخفة ، وتابع بإيجاز :
-تمام ، خليك مراقبها وبلغني بالجديد !

رد عليه الحارس بخنوع :
-حاضر معاليك

ثم أنهى معه المكالمة ، وتابع قيادة السيارة إلى وجهته الهــــامة ...
........................................

في منزل أوس الجديد ،،،

أوصــــل عدي كلاً من ليـــان وتقى إلى منــزل أوس ، ثم وقف بالخـــارج ليهاتف شركة الحراسات الأمنية لترسل طاقماً خاصاً لتأمين مدخل البناية والمنزل .. وهاتف بعدها سكرتيرة الشركة لتأجيل كافة المواعيد والإرتباطات ليوم أخـــر ..

عاونت ليــان تقى في الجلوس بداخل غرفة نومها ، ورغم إعتراضها على هذا إلا أنها لم تكن قادرة على المجادلة ، فالتعب والإنهاك باديان عليها بصورة واضحة
أحضرت لها المدبرة عفاف ثياباً منزلية فضفاضة لتبدل ملابسها فيها ..
في حين أعدت لها ماريا طعاماً ساخناً وشهياً لتتناوله ، ولكنها رفضت ، وفضلت أن تستلقي قليلاً ..
تمددت ليان إلى جوارها حتى غفت ..
كانت تقى مرهقة بدرجة كبيرة ، فلم يمضِ عليها إلا لحظات حتى غطت في نوم عميق ..
مسحت ليـــان على شعرها بحركة دائرية ثابتة ، ونظرت لها بإشفاق وهي تهمس بأسف :
-أكيد كان صعب عليكي أوي !

وضعت عفاف يدها على كتف ليان ، وضغطت عليه برفق هامسة لها :
-سبيها تنام شوية وتعالي برا يا حبيبتي !

أومــأت الأخيرة برأسها موافقة ، ثم نهضت بحذر من على الفراش ..
بينما أعـــادت عفاف ترتيب الغطاء على تقى ، ودثرتها جيداُ ، ثم انحنت لتقبلها من جبينها ، وانصرفت الاثنتين خـــارج الغرفة بهدوء .....
...............................

عبثت ليـــان بخصلات شعرها وهي تنفضها في الهواء ، ثم تمطعت بكتفيها ، وهي تجلس على الأريكة ..
أرجعت ظهرها للخلف ، وأسندت رأسها للوراء ، ثم أغمضت عينيها المرهقتين ..
شعرت بقبضتين توضع على كتفيها ، وتفركهما برفق ، فتأوهت بصوت مكتوم .. وهمست ممتنة :
-ميرسي يا عفاف ! أنا فعلاً مش قادرة من كتافي

رد عليها عدي بإبتسامة ناعمة وهو يجيبها بخفوت :
-اطلبي انتي بس !

فتحت عينيها مصدومة ، وانتفضت مذعورة من مكانها ، وحدقت فيه بذهول وهي تردد قائلة :
-إنت !

عبس قليلاً بوجهه وهو يسأله مندهشاً :
-مالك متفاجئة ليه ؟

ردت عليه بتساؤل وهي تشير بإصبعها :
-هو انت مش مشيت ؟

هز كتفيه نافياً وهو يجيبها بهدوء :
-لأ .. أنا قاعد معاكو النهاردة

رفعت حاجبيها للأعلى ، وهتفت معترضة :
-هـــــه ، طب ليه ؟

عقد ساعديه أمـــام صدره بعد أن إنتصب بجسدة ، وغمز لها قائلاً بثقة :
-أوس طلب مني ده ، تقدري تعترضي عليه ؟

نفخت بصوت مسموع فهي تعلم جيداً أن أخيها حينما يقرر شيئاً فيصبح أمـــراً نافذاً لا جـــدال فيه ..
تابع عدي قائلاً بهدوء :
-خدي راحتك ، أنا مش هازعجك ، وهافضل هنا

جلست على الأريكة ، وأمسكت بجهاز التحكم عن بعد ، وردت عليه بفتور :
-اعمل اللي يعجبك ! I don’t care ( لا أهتم )

رمقها بنظرات ناعمة .. ثم أرخى ساعديها ، ودس قبضتيه في جيبي بنطــاله ، وتحرك مبتعداً في إتجاه الشرفة ..

إختلست ليـــان النظرات نحوه من طرف عينها ، وأثارها الفضول لتعرف ما الذي يفعله ، ولكنها قاومت تلك الرغبة ، وحدقت بنظرات فارغة في شاشة التلفاز ..

................................................

في قصــــر عائلة الجندي ،،،،

اندفع أوس بسيارته بسرعة مخيفة عبر بوابة القصر الرئيسية بعد أن فتحها له الحارس الأمني ، ولحقت به سيارة حراسته الخاصة ..

تابعه الحارس الأمني جمـــال بنظرات متعجبة ، وأشـــار لزملائه بغلق البوابة ، ثم غمغم مع نفسه بفضول :
-واضح إن الليلة دي مش هاتعدي على خير ! شكل الباشا على أخــره !

ترجل أوس من سيارته ، وترك محركها دائراً ، وأشـــار للحراسة بالبقاء في الخـــارج ، ثم انطلق مسرعاً على الدرجات الرخامية ليدلف للداخـــل ..

وقف أوس في منتصف بهو القصر ، وجــــاب بعينيه القاتمتين المكان من حــــوله، ثم هـــــدر قائلاً بصوت جهوري غاضب :
-د. مهـــــــــــاب يا جـــــــــــندي !!!

أخـــذ نفساً عميقاً ، وزفــره وهو يصرخ بصوت أقــوى :
-تعالــــى وكلم ابنك !

خـــرج مهاب من مكتبه على إثر صوته ، ونظر له بجمود .. ثم نهره قائلاً ببرود مستفز :
-ايه في ايه ؟ بتزعق كده ليه

أدار أوس رأســه في إتجاهه ، ورمقه بنظرات نارية وهو يردد بإهتياج :
-كويس إنك هنا ... جه وقت الحساب يا باشا ، بس المرادي معايا أنا !!!!

لــوى مهاب فمه مستهزئاً .. ثم مط شفتيه ليضيف بسخرية وهو يشير بيده :
-مممممم .. حســـاب ! الكلام ده جديد ، بس قبل ما تفكر تتهمني بحاجة ، أنا ايدي نضيفة !

تقــــوس فم أوس بوضوح وهو يرد عليه بتجهم :
-لأ واضح !! مهاب باشا الجندي بيشغل كلابه ، لأ ومع مين مع مرات ابنه وحفيده اللي لسه مشافش الدنيا !

غمز له أبيه قائلاً بإستخفاف :
-تــؤ .. مش للدرجادي ! ده أنا على طول بأعمل كل حاجة بنفسي !

هــــدر به أوس بعصبية وقد أطلقت عينيه شرراً كبيراً :
-ازاي تهدد حياة مراتي وابني وتعرضهم للخطر ؟ كنت مفكر إني مش هاعرف وإني هاسكت عن اللي عملته ده !!!!

رد عليه مهاب ببرود مثير للأعصاب :
-ومين قالك إني جيت جمبهم ، أنا بعيد عن الصورة كلها !

صرخ فيه أوس بإهتياج :
-إنت اللي وراها !

قهقه والده بطريقة مستفزة وهو يتابع بسخرية :
-لالالا يا أوس ، أنا كده مش هاحترم ذكائك ، ده أنا طول اليوم في المستشفى وكنت في عمليات وآآآ...

قاطعه أوس بصوت قاتم وهو يكز على أسنانه :
-المرادي إنت سبت وراك دليل ، وللأسف أنا شوفت عربيتك خــارجة من الحارة !!!

إبتسم مهاب بعدم إكتراث ، وتابع بهدوء :
-ولو إنه مش دليل قوي ، بس شغال

صـــاح فيه أوس بجموح وهو يرمقه بنظرات جارحة :
-إزاي جالك قلب تعمل كده وتوجع ابنك في مراته وابنه ؟

رد عليه بإزدراء :
-مش دول اللي تحزن عليهم ..!

استشاط أوس غضباً ، وبرزت عروقه المشتعلة بوضوح ، بينما تابع مهاب بقسوة رجل لا قلب له :
-وبعدين أنا يدوب بس زقيت أمها عشان تخلص منها ، ولو مانفعش أهي تكرهها ، وتنتقم منها ، ويمكن يخلصوا الاتنين على بعض ، ونرتاح كلنا منهم !!

هـــدر فيه ابنه بإنفعـــال وهو يلوح بإصبعه :
-انت .. إنت مش أب ، ولا بني آدم ولا حتى آآآآ...

قاطعه مهاب بغضب زائف :
-احتــــرم نفسك ، وقبل ما تغلط فيا ، روح شوف أمها ؟ شوية فلوس رميتهالها تحت جزمتي ، فوراً ركعت عند رجلي تقولي أمين ... بالظبط زي أختها زمان ، الكل بيريل على الفلوس !

صرخ فيه أوس بجنون وقد إتسعت مقليته المحتقنتين :
-إنت بتقول ايه ؟ فلوس ايه دي ؟؟؟

أجابه بهدوء نسبي وهو يطالعه بنظرات جامدة :
-مليون جنية التمن اللي قبضته ، ولو كنت زودت شوية كمان ، كان ممكن تعمل أكتر من كده بكتير !

ضغط أوس على شفتيه بعنف ، وكور قبضه ليضيف :
-فكرك هاسيبك ، أنا بنفسي هـاكشفك وآآ.....

قاطعه مهاب بإستخفاف وهو يربت على كتفه :
-مش هاتقدر يا أوس ، أنا أبوك ، وعــارف بأقول ايه ، وقبل ما تعمل أي حاجة هتلاقيني في وشك بمنعك

أزاح أوس يده عنه ، ورمقه بنظرات إحتقارية ، وتابع بشراســة :
-يبقى انت متعرفنيش كويس ، أوس بتاع زمـــان اتغير ، واللي قدامك واحد تاني مستعد يقتل عشان مراته وابنه

هـــز رأسه نافياً وغمـــز له قائلاً بهمس شيطاني ليستفزه :
-تــؤ .. إنت زي ما إنت .. أنا مربيك وعـارفك كويس

نظر له أوس بجفاء واضح ، وهــدر بثقة :
-لأ يا باشا ، المرادي إنت غلطــــان !

حرك مهاب رأسه معترضاً ، ورد ببرود وهو ينظر له بتسلية :
-لألأ .. أنا واثق من اللي بأقوله !

-بس مش معايا يا .. يا د. مهـــــاب !
قالها أوس بنبرة قاتمة للغاية وهو يشهـــر سلاحه أمـــام وجه أبيه والذي حدق فيه مصدومــــاً من حركته المباغتة ، ولكن سريعاً ما إستعاد بروده ، وإلتوى فمه قائلاً بإستهزاء :
-استحالة تضرب نـــار على أبوك

لم يحدْ أوس بنظراته المميتة عنه، وضغط على شفتيه ليقول بعنف :
-انت متعرفنيش لسه يا د. مهاب

تحداه أبيه تحدياً مقيتاً ، ولوى فمه قائلاً بعدم مبالاة :
-اضــرب يا أوس ، وريني !

ظل أوس متسمراً على وضعيته تلك ، مسلطاً سلاحه في وجه والده .. ومحدقاً فيه بنظرات خاوية من الحياة ..

اقترب مهاب منه أكثر ، وألصق فوهـــة المسدس في جبهته ، وبرزت أسنانه وهو يتسائل بعبث :
-بقى هاتعرف تموت أبوك ؟ هاتقدر ؟!

رد عليه أوس بصوت متشنج :
-ايوه ، اعملها لو جـــيت على اللي تخصني

رفع مهاب حاجبه للأعلى ، وأكمل تحديه قائلاً بفحيح شيطاني :
-طب اضرب ، وريني رجولتك ! هــا ، يالا !

أزاح أوس زر الأمـــان ، وحدق في أبيه بنظرات قاتل محترف ، ولم يرتد له طرف لثانية واحدة ، بينما تابع مهاب بقسوة :
-هـــا ، مش عارف تضرب نار ؟ أجي أوريك !!

تعمد الأخير إستفزاز ابنه وإيصاله إلى أقصى درجـــة من عدم التحكم في النفس ، فأضــاف قائلاً بإستخفاف وهو يحدجه بنظرات مستهزأة :
-إنت جبان ، زي ما إنت ، ما اتغيرتش ، وعمرك آآآ.....

لم يكمل مهاب عبارته الأخيرة حيث قاطعه صوت الطلقة النارية التي إنطلقت مباغتة بعد أن ضغط أوس على الزنـــاد ، فإنتفض هو فزعاً ، وشهق مصدوماً منه ، ولكنه سريعاً ما أفاق من هلعــــه ، وأدرك أن الطلقة لم تصبه ، وتحسس جسده ليتأكد من هـــذا ، وعاود النظر إلى ذراع ابنه التي تحركت ناحية الجانب لسنتيمترات معدودة .. فتنفس الصعداء بعد أن قطعت أنفاسه للحظة ..
لم تهتز عضلة واحدة من وجــه أوس ، ولم تتبدل نظراته المميتة والتي تعلقت باللوحة الخلفية ، فإزدرد مهاب ريقه بتوتر ، وإستدار برأســـه للخلف لينظر إلى ما يحدق فيه ابنه ، فرأى أن الطلقة قد أصـــابت ما بين حاجبيه في تلك اللوحــة الفوتغرافية التي تخصه والمعلقة على الجدار خلفه ، فإتسعت حدقتيه رعباً ، وشحب لون وجهه بشدة ....

استطرد أوس حديثه قائلاً بشراسة وهو يضغط على أسنانه بقوة :
-انت غلطان يا دكتور ، أنا اتغيرت ، ولو كنت زي ما أنا .. كنت هتلاقيني قتلتك ومش ندمـــان للحظة إني عملت ده !

ثم رمــق أبيه بنظرات أكثر قســـاوة ، وتابع بغلظة :
-بس .. عشان مراتي فأنا اتبدلت وبقيت حـــد تاني !

تلعثم مهاب وهو يحاول الحفاظ على ثباته الزائف :
-أنا .. آآ...

صـــاح أوس مقاطعاً بنبرة عدائية :
-إنت نهايتك اتكتبت يا دكتور ، بس المرادي مش بإيدي ، بإيدك انت ..!

ثم رمقـــه بنظرات أخيرة إحتقارية قبل أن يوليه ظهــره وينصرف بخطوات سريعة غاضبة ..
تسمـــر مهاب في مكانه مصدوماً .. فلم يستوعب بعد أنه كاد يُقتل على يد إبنه بلا ذرة نـــدم واحدة منه ..
ابتلع ريقه مجدداً ، ودس يده في جيبه ليخرج هاتفه منه بعد أن شعر بإهتزازه فيه ..
نظر إلى شاشته ، وأجاب على الإتصـــال قائلاً بصوت متحشرج:
-آلو .. فـ .. في ايه ؟

أردف كبير الأطباء قائلاً عبر الهاتف :
-دكتور مهاب ، سوري إن كنت هازعجك ، بس الموضوع ماينفعش يتأجل !

ســأله مهاب بنفاذ صبر :
-خير

رد عليه كبير الأطباء بجدية :
-د. مؤنس قدم بلاغ في النقابة عن سيادتك ، وقال عن مخالفات كتير في المستشفى

جحظ بعينيه مصدوماً ، وهتف بإندهاش :
-ايييييه ؟

أضــاف كبير الأطباء قائلاً بإنزعاج :
-وعرفت كمان إنه طالع بكرة في برنامج حواري يتكلم عننا

ســأله مهاب بنبرة مغلولة :
-ازاي ده حصل ؟ وإنت عرفت منين ؟

أجابه كبير الأطباء بحذر :
-في حد من حبايبي بلغني ، فأنا قولت أحذرك وآآ...

قاطعه مهاب بإقتضاب :
-اقفل الوقتي وأنا هاتصرف

رد عليه الأخير على مضض :
-طيب !

مرر مهاب يده على رأســـه وهو يدور حول نفسه في البهو محدثاً نفسه بإرتباك :
-لو مؤنس فتح العينين عليا حاجات كتير هاتتكشف !

إزدرد ريقه ليكمل بقلق :
-طب .. طب هو ممكن يكون وصل لتهاني وعرف ياخد منها الورق ، طب ازاي ؟ لالالا .. مش ممكن ده يحصل ! هو أصلاً مايعرفهاش

وقف في مكانه ، وحدق في الفراغ ، ثم هتف بجدية :
-أنا لازم أخــرج من البلد فوراً قبل ما تطربق على دماغي ومعرفش أتصرف !

ضغط مهاب على زر الإتصـــال بمحاميه نصيف ، ووضع الهاتف على اذنه ، ثم صـــاح فيه بحدة :
-ايوه يا نصيف ، في كارثة هاتحصل ومحتاج أهرب من هنا بسرعة !

............................................

في منزل أوس الجديد ،،،،،

شعــــرت ليــان بالملل والضجر من جلوسها بمفردهــا أمــام شاشة التلفاز ..
ونفخت لأكثر من مــرة بضيق ..
أرجعت ساعديها خلف رأسها ، وشبكت أصابعها معاً .. وحركت عنقها للجانبين .. وتنهدت بعمق ..
إشــرأبت بعنقها محــاولة رؤية عدي .. ولكنها لم تتمكن من رؤيته ..
أزعجها أنه لم يقاطع خلوتها ولو للحظة واحدة ..
لم تستطع تفسير هذا الإحســاس الذي أصابعها بالضيق ..
وفي النهاية قررت أن تنهض وتذهب لرؤيته متعللة بشعورها بالبرد ، ورغبتها في غلق نوافذ الشــــرفة ...
.........................

إستند عدي بمرفقيه على حـــافة الشرفة ، وحدق أمـــامه بنظرات هائمة ..
وقفت ليــان خلفه ، وراقبته للحظات ، وأدركت أنه لم يشعر بوجودها ، فعبست بوجهها ، وهتفت بصوت شبه محتد :
-I am cold ( أنا بردانة ) ، فهاقفل الـ ..آآ..

انتبه عدي لصوتها ، وأدار جسده في إتجاهها بعد أن اعتدل في وقفته ، وقاطعها بصوت رخيم :
-ليـــان ، ماتمشيش ، أنا عاوز أتكلم معاكي شوية

قطبت جبينها ، وردت عليه بتذمر مصطنع وهي تشير بإصبعها للخلف :
-وأنا مش فاضية ، في movie ( فيلم ) بأشوفه

هـــز رأسه بخفة وهو يتابع بإبتسامة مهذبة :
-مش هأخرك كتير !

عقدت ساعديها أمام صدرها ، ونظرت له بجمود وهي تسأله بإقتضاب :
-خير ؟

أخـــذ هو نفساً عميقاً ، وحبسه في صدره لثوانٍ قبل أن يطلقه ليستطرد حديثه قائلاً بصوتٍ شبه أسف وهو مطرق رأســه قليلاً للأسفل :
-أنا عملت حاجات كتير غلط في حياتي ، وعــارف إني خدعتك وضحكت عليكي ، وخدتك سِكة عشــان أداري بيها عيوبي بدل ما أصلح من نفسي

إرتخت تعابير وجهها المشدودة وهي تصغي إليه ، وحدقت فيه بنظرات غريبة .. بينما تابع عدي بندمٍ :
-أنا ظلمتك معايا ، واستغليت ظروفك واللي حصل معاكي عشــان مصلحتي وبس ، ومافكرتش فيكي إنتي !

توقف عــدي عن الحديث ، وفرك أصابع كفيه بتوتر ، ثم أخـــرج تنهيدة حارة من صدره ، وإختنق صــوته قليلاً وهو يكمل بخفوت :
-وللأسف أذيتك وأذيت نفسي معاكي !

تهدل كتفي ليـــان ، وإرتخى ساعديها مصدومة من إعترافــه بذنبه نحوها ..

رفع عدي رأســـه لينظر إليها ، فرأت في عينيه لمعـــان قوي .. وعبرات عالقة بين أهدابه ..
اقترب هو منها ، وتابع بشجن :
-يمكن كلامي مايفرقش معاكي أو حتى يأثر عليكي ، بس اللي عاوزك تعرفيه إني اتعالجت الوقتي ، وإني آآ.. حبيتك بجد ، وخايف عليكي أوي وآآ...

ازدرد ريقه المرير ، ومـــد يديه ليمسك بكفيها ، ثم حدق فيها بنظرات نادمـــة ، و أضــاف بصعوبة :
-ونفسي ترجعي تثقي فيا زي الأول وتصدقيني !

حدقت فيه بإرتبـــاك ، وبدت مضطربة للغاية ، ولكنها سريعاً ما سحبت كفيها منه ، وهتفت بجمود وهي تتحرك مبتعدة عنه :
-صعب ده يحصل

وقف خلفها ، وتوسلها بخفوت :
-بس مش مستحيل ، صح ؟

لم تجبه ، وإستندت بكفيها على حافة الشرفة ، وظلت تنفخ بصوت مسموع ...

تنهد عدي بيأس ، وتابع بحذر :
-أنا .. أنا مش عاوزك تعملي حاجة غصب عنك ، بس اوعديني إنك تديني فرصة تانية !

انتصب كتفيها ، وبدى وجهها خالياً من التعابير وهي تجيبه بإقتضاب :
-مش عارفة !

نكس رأســـه بحزن ، وغمغم بنبرة شبه مستاءة :
-عموماً مش هاضغط عليكي !

تنهـــدت بصوت مسمــوع ، ولم تلتفت نحوه ، فإقترب منها مجدداً ، وإستند بكفه إلى جوارها .. فحدقت في يده ، ولم ترفع رأسها للأعلى .. ثم أشــاحت بوجهها للأمــام ..
لم يتعجب تصرفها معه .. بل أخذ نفساً مطولاً ، وزفره على مهل ، ثم مط فمــه ليضيف بإهتمام :
-في سؤال كده محيرني !

أجابته متسائلة بجدية :
-ايه هو ؟

انحنى بجذعه للأمـــام ، وإستند على ساعديه ، وحدق بها بعد أن أمــال رأسه للجانب ، وسألها بتريث :
-ليه كنتي خايفة أوي على تقى وعلى البيبي ؟

تنهدت بحرارة واضحة .. ثم أرجعت ظهرها للخلف ، وأشارت بيديها وهي تجيبه بحيرة :
-مش قادرة أوصفلك احساسي بالظبط ، بس آآ...

عضت على شفتها السفلى ، وتابعت بإحساس غريب وهي تضع يدها على قلبها :
-بس أنا حسيت بيها بقلبي ، وآآ.. وشوفت في عينيها أد ايه هي نفسها فيه ، وشوفت في أوس حبه الحقيقي ليهم هما الاتنين ، أوس الجندي اللي مايعرفش إلا القسوة والكره بقى بيحس ويحب بجد

صمتت للحظة لتلتقط أنفاسها ، وتسيطر على تأثير كلماتها عليها شخصياً ، ثم تابعت بنعومة :
-احساس جديد جمعهم مع إنهم عكس بعض في كل حاجة ، بس زي .. زي ما يكون بقى في رابط بينهم ، والبيبي ده قربهم أكتر من بعض ، فيمكن لو .. لو كانت خسرته كانت كل حاجة ضاعت !

راقبها عـــدي بإعجـــاب واضح ، وهتف غير مصدقاً :
-ياه يا ليـــان ، إنتي اللي بتقولي كده ؟

رفعت حاجبها مستنكرة وهي تجيبه بإقتضاب :
-ايوه ! مستغرب ليه ؟

أدار جسده ناحيتها ، وإستند بظهره على حافة الشـــرفة ، وعقد ساعديه أمـــام صدره ، وإلتوى فمـــه بإبتسامة عذبة وهو يبرر قائلاً :
-أنا مكونتش أعرف إنك بتفكري كده ، كنت مفكرك البنت المستهترة اللي مش فارق معاها حاجة ، ومكبرة دماغها على الأخــر ، المهم هي وبس !

ضاقت نظراتها ، وأجابته بحدة :
-أنا معرفتش نفسي إلا لما آآ... لما مريت بتجارب غيرتني

تنهد بخفوت وهو يرمقها بنظرات رومانسية حالمة ، وغمغم مع نفسه برجــــاء :
-أتمنى إني أخــد فرصة تانية معاكي

وكـــأنها قرأت ما تبوح به عينيه ، فأجابته في نفسها وهي تبتسم له إبتسامة باهتة :
-مش بعيد ... كل شيء جايز !

.......................................

في غرفــة نوم أوس وتقى ،،،

إرتسمت إبتســـامة مشرقة على وجـــه تقى ، وظهرت تعابير وجهها متهللة بدرجــة ملحوظة رغم أنها كانت غارقة في سبات عميق ..
تحركت شفتيها عفوياً ، وكذلك رأسها ، وبدت سعيدة وهي ترى ذلك المنـــام الممتع ..
................................
◘◘◘ (( حدقت تقى في كفيها الممدودين أمامها ، وأخفضت رأسها لتتأمل تلك العباءة البيضاء التي ترتديها ، ثم إنتبهت إلى صوت هديل الحمـــام الذي يحلق فوق رأسها ، فرفعت بصرها للأعلى ، ودارت حول نفسها غير مصــدقة ما تراه ..
شعرت ببرودة منعشة أسفل قدميها الحافيتين ، وبنسمات رقيقة تداعب وجنتيها ، فأسبلت عينيها لتتأمل المكان من حولها ..
أصـــوات تهليلات ممزوجة بالتكبيرات وصــوت الآذان يصدح من بعيد ليجعل روحها تنتفض من السعـــادة
إلتوى ثغرها بإبتسامة راضية من تلك الروحانيات العالية التي تحيط بها ..
رقص قلبها طربـــاً .. ورمشت بعينيها غير مصدقــة أنها قد جــاءت إلى هذا المكان المقدس ذو المهابة العظيمة ..
ثم إنتبهت إلى صــوته المــألوف الذي يناديها :
-تـ.. تقى

دارت برأسها للخلف ، وضيقت عينيها بتعجب شديد لتتأمل ملامح أوس التي لم تعهدها فيه من قبل ..
كانت صورته مبهمة ، ولكن تدريجياً إتضحت هيئته مع اقترابه منها ..
فغرت شفتيها مشدوهة ، وإرتفع حاجبيها في عدم تصديق وهي تراه مرتدياً ثياب الإحـــرام وكاشفاً لكتفه الأيمن ..
رأت قطــرات المياه تتساقط من جبينه ، وإبتســـامة صافية تعلو وجهه ..
لـــوح لها بذراعــه وهو يردد بصوت رخيم :
-يالا يا تقــى !

أدمعت عينيها فرحاً ، ووضعت يديها على فمها لتكتم تلك الشهقات السعيدة التي جعلتها في حالة حماسة رهيبة ..
إنه هنا معها في الحرم المكي .. )) ◘◘◘◘
..............................................

لم تدرْ تقى أن عبراتها كانت حقيقية ، ولم تكنْ تبكي في منامها فقط .. بل بللت دمعاتها وسادتها وهي غافية ..
لكن إحســـاس بالسكينة والصفــــاء النفسي أراحها بشـــدة ...

............................................

في منزل تقى عوض الله ،،،،

فضل عــوض المكوث بالمسجد ، وقضاء ليلته فيه ، ورفض أن يعود للمنزل حتى يتجنب رؤية فردوس بعد ما فعلته ...

بينما عـــادت تهاني إليه ، ومكثت بمفردها فيه ..
دفنت هي وجهها بين راحتي يدها وأجهشت بالبكاء المرير حسرة على حالها بعد أن إختلت بنفسها في غرفة تقى ..
فقلبها يُعتصر آلماً على قســـوة ابنها معها ، وذلك الظلم المبين الذي وقع عليها من أختها ، فجعلته يصدق أنها تقف وراء ما حدث لتقى ..
شهقت بنحيب وهي تهز رأسها مستنكرة ..
وقعت عينيها على تلك الحقيبة التي تحوي الكثير من الأوراق التي تدين مهاب الجندي ، وربما تظهر براءتها .. فضاقت عينيها المتورمتين ، وهتفت بسخط :
-يا ريتني ما وافقت اعمل كده ! آآآه ، يا ريتني

ثم لطمت على فخذيها بندم شديد ..
ظلت على تلك الوضعية الحزينة لوقت ليس بالقليل .. ولكنها انتبهت بعدها إلى صوت دقـــات خافتة على باب المنزل ، فرفعت رأسها للأعلى ، ونهضت بتثاقل من مكانها .. وسارت ببطء نحوه لتفتحه ...

عبس وجهها بشـــدة حينما رأت أختها فردوس أمامها ..
ورمقتها بنظرات إزدراء ، ثم تركتها وانصرفت ..

نظرت لها فردوس بحزن ، وعاتبتها قائلة وهي توصــد الباب خلفها :
-مش .. مش هاتقوليلي حمدلله على السلامة ؟ ده ..ده أنا اتبهدلت وآآ..

إحتقن وجه تهاني ، واصطبغت عينيها بحمرة محتدة ، وإلتفتت برأسها نحوها ، وصرخت فيها بعصبية مقاطعة إياها وهي تلوح بذراعيها :
-حرام عليكي يا شيخة ، بتقولي اتبهدلتي ؟ اومــال اللي حصل لبنتك وليا ده نسميه ايه ؟

ردت فردوس ببكاء زائف وهي تحاول تدقيق النظر في صورة أختها التي تتراقص أمام عينيها :
-أنا .. أنا اترميت من المستشفى ، وملاقتش اللي يسندني لهنا وآآ...

قاطعتها تهاني بتهكم صريح :
-ده كتر خيرهم إنهم رضيوا يعالجوكي ، واحدة زيك كانت هتموت بنتها المفروض يرجموها !

عاتبتها فردوس بضيق وهي تفرك عينيها :
-يا تهاني ماكونتش أعرف إن كل ده هايحصل ، أنا كنت بأحمي بنتي من الناس المفترية

وقفت تهاني قبالتها ، وصرخت فيها بإنفعال وهي تكاد لا تصدق ما لفظته الأخيرة من كلمات مستفزة :
-بتحميها ؟ بإنك تاخديها للموت بإيدك ؟!!!!

ابتلعت فردوس ريقها ، وبررت خطئها قائلة :
-أنا .. أنا حسبتها غلط .. كان المفروض أخدها على مستشفى أنضف و...

إرتفع حاجبي تهاني للأعلى في استنكار جلي ، وشهقت بصراخ :
-إنتي بتقولي ايه ؟

ردت عليها فردوس بأسلوب فظ وهي تسحب مقعداً لتجلس عليه :
-ماهي كانت هاتطلق ومش هاتعيش مع ابنك ، وبالفلوس اللي خدتها كنت هاعوضها

تحركت تهاني نحوها ، وضربت بيديها على طاولة الطعام وهي تردد بصوت غاضب :
-فلوس !!

هزت فردوس رأسها إيجاباً ، وردت بسخط :
-أيوه ، أومال أنا عملت ده ليه عشان نطلع من الفقر اللي كلنا عايشين فيه !

جحظت تهاني بعينيها الملتهبتين وهي تصيح بإهتياج :
-خدتي الفلوس من مهاب يا فردوس ؟

أجابتها فردوس بوقـــاحة وهي متجهمة الوجـــه :
-ايوه ، هو جالي هنا ، واتفق معايا على ده

إعتدلت تهاني في وقفتها ، وحدقت أمامها في الفراغ بنظرات مصدومة ، ولطمت على صدرها في عدم تصديق ، وغمغم بإندهـــاش :
-يعني اللي شوفته مكنش وهـــم ! كان مهاب هنا ! بيخطط وبيهد حياة ناس أبرياء

نهضت فردوس عن المقعد ، أغمضت عينيها بقوة لتقاوم ذلك الصداع الذي يجتاحها ، واقتربت من أختها ،ووضعت يدها على كتفها ، وقالت بخبث :
-احنا يا تهاني محدش حاسس بينا ، والفرصة مابتجيش إلا مرة واحدة في العمر

أطاحت تهاني بيدها ، وصاحت بغضب جم وقد تحول وجهها لكتلة حمـــراء :
-تقومي تبيعي بنتك بالفلوس يا فردوس ؟

أجابتها فردوس بصراخ مختنق مبررة جريمتها النكراء :
-أنا مابعتهاش ، أنا اشتريت راحتها وراحتنا !!!

أشـــارت تهاني بإصبعها وهي ترمقها بنظرات مشمئزة ، وتابعت بصوت ساخط :
-اتكلمي عن نفسك ، إنتي ضحيتي ببنتك عشانك إنتي وبس مش عشانها !

نفخت فردوس وهي تضيف بصوت غير مكترث بتبعات جريرتها :
-وفيها ايه ؟ مكانتش هاتخسر كتير !

شهقت تهاني مصدومة من ردود أختها التي تخلو من الرحمة ..
هي تقف أمام إنسانة متحجرة القلب ، جاحدة ، لا تعرف الشفقة ..
هزت رأسها مستنكرة ، وهتفت فيها بغضب :
-حرام عليكي ، انتي بتفكري ازاي ؟ دي بنتك يعني لحمك ؟؟!!

نظرت لها فردوس شزراً وهي تجيبها بإمتعاض كبير :
-يعني عاوزانا نموت هنا ومحدش يدرى بينا .. مش كفاية ابني راح زمـــان ببلاش بسبب الفقر ، وملاقتش تمن لعلاجه !!

أخــذت نفساً عميقاً وزفرته وهي تتابع بغضب :
-استحملت اللي جراله ، وصبرت نفسي ، وقولت معلش أهوو ارتاح من الفقر .. يعني كنت هاعمله ايه ولا أدبر مصاريف علاجه منين ؟

زاد إحساسها بالصداع المهلك ، وتابعت بحنق :
-ده أنا كل يوم باسأل نفسي يا ترى مين فينا هايحصله

أشــارت تهاني بكفها في عدم تصديق وهي تردد بنبرة مصدومة :
-إنتي مش طبيعية ، ده .. ده ربنا رحمه منك !

لوحت فردوس بذراعها وهي تكمل غير مكترثة :
-قولي اللي عاوزاه ، الكلام مافيش جمرك عليه ، لكن ساعة الفلوس كل حاجة هاتتغير !

كــــزت تهاني على أسنانها بغلظة وهي تصرخ فيها :
-بجد خسارة بنتك فيكي !

ردت عليها فردوس بفظاظة :
-بكرة هاتنسى ، وهترجع تاني لحضني وآآ...

قاطعتها تهاني بنبرة هـــادرة وهي تهدد بإصبعها :
-إنتي بني آدمة استحالة حد يعيش معاها ، من بكرة هادور على مكان تاني أقعد فيه إن شاء الله أبات على الرصيف ، بس قعاد معاكي في مكان واحد مش هايحصل !

ثم سمعت كلتاهما صوت قرع الجرس ، فكفكفت تهاني عبراتها ، وتوجهت نحو الباب لتفتحه ..
جحظت بعينيها مصدومـــة ، ووضعت يدها على فمها لتكتم شهقتها حينما رأته..
هو ليس وهماً ، هو يقف أمامها بوجهه المتشنج ، وتعابيره المتجهمة ، ونظراته القاسية ..
ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة ، وهمست متلعثمة :
-آآآ.. أوس .................................... !!


إعدادات القراءة


لون الخلفية