الجزء 46

الفصل الثالث والثلاثون :
(( الأخير - الجزء الأول ))

في منزل تقى عوض الله ،،،،

اتجهت تهاني لتفتح باب المنزل بعد أن إستمعت إلى دقــات خافتة عليه ، وإرتسم على ثغرها إبتسامة صافية حينما رأت عوض وبصحبته الشيخ أحمد ، فرحبت بالأخير قائلة :
-وعليكم السلام ، يا أهلا وسهلاً يا شيخنا ، نورت البيت

أجابها بإبتسامة مهذبة وهو مطرق رأسه للأسفل :
-منور بأصحابه

أشـــارت بيدها ليدلف إلى الداخــل ، وهتفت قائلة :
-اتفضل يا شيخنا

تنحنح هو بصوت خشن وهو يقول :
-يا رب يا ساتر

إستند عوض بكف يده المجعد على ظهر الشيخ ، وتشدق بـ :
-اتفضل يا شيخ أحمد ، البيت بيتك !

رمقه الشيخ أحمد بنظرات ممتنة وهو يرد عليه :
-كتر خيرك يا عوض

أضــاف عوض قائلاً برجــاء :
-معلش يا ست تهاني شوفيلي فردوس صاحية ولا لأ ، الشيخ أحمد جاي يسلم عليها

هزت رأسها بحركة بسيطة وهي تجيبه :
-أه طبعاً ، لحظة وهناديهالك

بعد لحظـــات ولجت فردوس إلى الصالة وعاونتها تهاني في الجلوس على الأريكة ، فنهض الشيخ أحمد لتحيتها قائلاً بنبرة مهذبة :
-السلام عليكم ورحمة الله ، إزيك يا ست فردوس

ردت عليه بفتور وهي تستند بيدها على مسندي الأريكة :
-وعليكم السلام ، نحمده !

تابع قائلاً بهدوء حذر :
-أنا جاي النهاردة اطمن عليكي بعد ما عرفت من عم عوض باللي جرالك !

لوت فمها بتهكم ، ولم تعقب ، فإستشعر الشيخ أحمد عدم ترحيبها بزيارته ، ولكنه أكمل بهدوء :
-ده النبي عليه الصلاة والسلام وصى على سابع جار وأنا آآ...

قاطعته فردوس قائلة بسخط :
-جاي تطمن ولا تشمت فيا زي غيرك ؟!
رد عليها بإعتراض وقد تحول وجهه للعبوس :
-حاشا لله .. انا مش من الناس دي يا ست فردوس !
ردت عليه بحنق :
-كله بيقول كده
أخــذ الشيخ أحمد نفساً عميقاً ، وزفره على مهل ، وأدار بمسبحته بأصابعه ، وأكمل بهدوء جدي :
-أنا غيرهم يا ست فردوس .. وبعدين أنا جاي اعاتبك على اللي كنتي هاتعمليه مع بنتك !!

زفـــرت بنفاذ صبر وهي تقول مدافعة عن نفسها :
-أنا مغلطتش ، أنا نيتي كانت خير ، وآآ....
قاطعها قائلاً بجدية :
-لا يا ست فردوس ، إنتي غلطتي ، وإرتكبتي ذنب كبير في حق بنتك !

رددت بإندهـــاش وهي متجهمة الملامح :
-ذنب !!!

أوضح لها قائلاً بنبرة رزينة :
-ايوه ربنا سبحانه وتعالى بيقول في كتابه العزيز (( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ))
ردت عليه فردوس بإعتراض جلي :
-بس أنا مقتلتش حد !

برر لها قائلاً بهدوء :
-إنتي أخدتي بنتك للتهلكة ، ولمكان الله أعلم كان ممكن تنجو منه ولا لأ ، وعصيتي المولى وعملتي شيء يغضبه !

إنقبض قلبها رهبة ، وأردفت قائلة بتلعثم :
-بس هي كويسة وآآ... وحتة البتاعة اللي في بطنها كان ممكن تسقط من أي حاجة ، وأنا ميكونش ليا لي دخل ، يعني هي آآ...

قاطعها قائلاً بإعتراض وهو يشير بيده :
-لا يا ست فردوس ، إنتي فاهمة غلط ، ربنا – عزوجل - نفخ في رحم بنتك الروح ، وجعلها تحمل من زوجها ، والنطفة تحولت بمشيئته لعلقة ، ومنها إلى مضغة ، وبعدها بقت بتنبض جواها ، فإنتي كنتي هتموتيها !

إرتجف جســـد فردوس من كلماته الشيخ أحمد ، وإستشعرت عِظم ذنبها .. ثم إبتلعت ريقها بتوجس ، وضمت كفها إلى صدرها ، فأحست بتسارع نبضات قلبها ...

أضـــاف الشيخ أحمد قائلاً بتوبيخ :
-ده بدل ما تقفي معاها ، وتكون سند ليها ، وتحمدي ربنا على نعمته عليكي إنه رزقك ببنت بارة تقية زيها ؟!!!

أدمعت عينيها الضريرتين متأثرة بما قاله ، في حين أكمل هو بنبرة معاتبة :
-مين في الزمن ده لسه عندوا ولاد كده بالأخلاق دي ؟

تنهد بحـــزن وهو يتابع بنبرة جادة :
-انتي يا ست فردوس اتبطرتي على نعمة ربنا ، فهو حرمك منها ، وخلاكي تجربي إحساس ضياع النعمة !!

أجهشت بالبكاء ، وإنتحبت بشهقات متتالية ، فأكمل محذراً :
-نصيحتي ليكي يا ست فردوس تتوبي ، وتستغفري ربنا على أد ما تقدري لعله – سبحانه - يغفرلك ذنبك !!
استشعرت خطئها بقـــوة ، وأدركت أنها بالفعل عانت الكثير بعد فقدانها للبصر ، بالإضافة إلى الوحدة والعزلة .. فقد باتت منبوذة ، مكروهــة من أقرب الناس إليها ..
لقد تأكدت من جريمتها ، وأنها مذنبة من رأسها لأخمص قدميها ..

أنهى الشيخ أحمد حديثه قائلاً :
-أرجو إن كلامي يكون بفايدة معاكي ، و تحسي بقلبك وبعقلك بالغلط اللي عملتيه في حق بنتك ، واحمدي ربنا على عطاياه مهما كانت ، هو رزقك بإنسانة كويسة ومحترمة ، ودي نعمة في حد ذاتها ، وإنتي أحسن من ناس كتير بيعانوا من عقوق أبنائهم وجحودهم !

تعالت شهقاتها ، ورغم هذا لم يشفق عليها زوجها عــوض ، فهو يرى أنها لو بكت لسنوات فلن يكون هذا كافاً لتعويض ابنتها عن لحظة واحدة مما عانته ...
........................................

بعد مــــرور عدة أيـــام ،،،
في فيلا عدي ،،،

دندنت ليـــان بحماس وهي تستحم في المرحــاض بعد أن عـــادت من المقر الرئيسي للمجموعة ، فقد إصطحبها عدي معه لترى على أرض الواقع كيف يتم العمل هناك .. وتحمست كثيراً لأن تكون جزءاً من تلك المؤسسة العريقة التي شيدها شقيقها ، وشاركه في هذا النجاح زوجها .. وتمنت بجدية أن تنتهي سريعاً من دراستها الجامعية لتلتحق بالعمل معهما ..
كذلك أعجبها الدقــة والتنظيم في العمل ، وروح الفريق البادية على جميع الموظفين ..
لم تغلق هي الباب جيداً ، واكتفت بسحب الستارة البلاستيكية عليها ..

أنهى عدي إتصالاً هاتفياً مع أحد العملاء وهو يصعد على الدرج ، ثم نزع رابطة عنقه ، وحل أزرار قميصه ، وولج إلى الغرفة وهو يصفر بخفوت ..
استمع إلى صوت دندنة خافتة تنبعث من المرحاض ، فقطب جبينه متعجباً ، وتسلل بحذر نحوه ..
إشرأب بعنقه محاولاً رؤيتها ، فلمح طيفها من خلف الستار وهو يتراقص ..
لاح على ثغره إبتســامة عابثة ، ودار برأســـه الكثير من الأفكار المتهورة ..
هو يشتهي وجودها بقربه ، ويُمني نفسه بقضاء أمتع الأوقــات في أحضانها ..
وظل يؤجــل كل فرصة سانحة للحصول على مبتغاه منها حتى لم يعد بقدرته التحمل أكثر من هذا ..
شعور بداخله يحثه على الإنطلاق معها ، والبوح بمشاعره ..
ولذا لم يمهل نفسه فرصة للتفكير أو التريث ، بل أســرع في نزع ثيابه ، واتجه نحو المسبح .. فقد تمكن منه تماماً شغفه بها ...
شهقت ليـــان بذعــر حينما رأت من يحاوطها من الخلف ، وتلوت بجسدها محاولة تحريره ، وكادت أن تصرخ بعنف طالبة للنجدة ، ولكن طمأنها عدي قائلاً بعد أن كمم فمها :
-اهدي يا ليو ، ده أنا !

إستكان جســـدها نوعاً ما بعد أن إطمأنت منه ، وتوقفت عن المقاومة ، ولكن لم تهدأ الثورة الهائجة بداخلها ..
شعرت هي بسخونة بشرته عليها ، فأشعل بها لهيب الحب ..
تذكرت هي أنها تقف أمامه بلا شيء يسترها .. فإصطبغ وجهها بحمرة مثيرة .. وأطرقت رأسها خجلاً منه ، واضطربت مشاعرها بصورة جلية .. وبدت كالتائهة أمامه ..
همس لها عدي قائلاً بإشتياق :
-أنا بأعشقك يا ليو ! بأحب كل حاجة فيكي ، ونفسي فيكي أوي !

ثم طبع قبلة حـــارة على عنقها فألهبت مشاعرها نحوه أكثر .. وأدارت رأسها ناحيته وهي تجيبه بصوت لاهث :
-وأنا كمان !

حفزته كلماتها على المضي قدماً معها ، وبدأ يبث إليها أشواقـــه الحارة مستخدماً طرقــه المغرية التي أصابتها بالجنون واللهفة ، وماهي إلا لحظـــات حتى انغمس الاثنين في لذة العشق ، وسبحا سوياً في عالم خاص بهما ، فإرتوت فيها ليـــان من بحور الغـــرام ، وإرتشف فيها عدي من أنهــر العسل المصفى .. وباتا لأول مــرة منذ أشهر زوجين عاشقين منسجمين في روحهما وجسدهما ...
..................................

في مركز ما للإنجـــاب والحقن المجهري ،،،

مـــرت عدة أيـــام قبل أن يقرر عبد الحق وزوجته بطــة الذهــاب إلى المركز للتأكد من حدوث الحمل ..
ترقب الإثنين ظهور نتائج التحليل النهائية بفـــارغ الصبر ..
أمسكت بطة بكف زوجها ، ونظرت إليه بقلق ، وهمست بصوت متقطع ومتوتر :
-أنا خايفة أوي يا عبده

ضغط على أصابعها بقبضته ، ورد عليه بترقب :
-اتعشمي في الله ، وهو كريم !

تنهدت بحرارة وهي تضيف بإنزعاج :
-ربنا يكملها على خير !

هـــز رأســه عدة مرات وهو يقول بخفوت :
-إن شاء الله

بعد دقائق ولجت الطبيبة إلى الداخل وهي ترسم إبتسامة لطيفة على ثغرها ، فهب الاثنين واقفين من مكانهما ، فأردفت قائلة وهي تشير بيدها :
-سوري على التأخير ، اتفضلوا اقعدوا !

سألها عبد الحق بتلهف :
-خير يا ضاكتورة ؟

إبتلعت بطة ريقها بخوف وهي تهتف بتلعثم :
-طمنينا الله يرضى عليكي !

ابتسمت لهما وهي تجيبهما قائلة :
-النتيجة إيجابية

تبادل الإثنين نظرات حائرة ، وحبست بطة أنفاسها في صدرها ، بينما تسائل عبد الحق بعدم فهم :
-يعني ايه ؟

هتفت بطة بتوتر كبير واضح على ملامحها ونظراتها :
-أنا مش فاهمة

زادت إبتسامة الطبيبة إشراقاً وهي تقول بهدوء :
-مبروك ، الحمل حصل !

تلاحقت أنفاس بطة وهي تهتف بعدم تصديق :
-ايييييه !

رفع عبد الحق يديه عالياً للسماء ، وصــاح مهللاً :
-الله أكبر ، يا ما إنت كريم يا رب ، بطة مراتي حبلى !

أضافت الطبيبة قائلة بجدية :
-طبعاً في شوية حاجات هنعملها عشان الحمل يكمل بدون مشاكل وآآ...

قاطعها عبد الحق بنبرة سعيدة :
-اللي تؤمري بيه يا ضاكتورة هانفذه !

ثم إلتفت إلى زوجته ، وإحتضنها بقوة ، وصــاح بنبرة أقرب للبكاء :
-الحمدلله يا بطة ، ربنا عوضنا خير ، وهايبقى عندنا عيل صغير !

بكت بطة غير مصدقة ، ونظرت إلى زوجها بسعادة وهي تجيبه :
-أنا مش مصدقة والله ، أنا .. أنا هابقى أم ويبقى عندي عيال !

إبتسم لها وهو يردد بفرحة :
-ايوه ، وإن شاء الله يبقى عندنا بدل العيل اتنين وتلاتة وعشرة

هزت رأسها قائلة بإرتيـــاح وهي تمسح بكفها عبراتها المنهمرة :
-واحد بس يرضيني !

......................................

في المقر الرئيسي لشركات الجندي للصلب ،،،

انتهى أوس من ترتيب كافة مواعيده خلال الفترة القادمة حتى يتسنى له أداء مناسك العمرة مع زوجته دون وجود أي تعطيل لأي أعمــال مؤجلة أو عالقة ..

دقت السكرتيرة على الباب بخفة قبل أن تلج للداخل وهي تقول بهدوء ومشيرة بيدها :
-في يا فندم واحدة برا عاوزة تقابل حضرتك !

سألها بجمود وهو قاطب جبينه :
-مين دي ؟

ردت عليه بحذر وهي ترمش بعينيها :
-اسمها مدام تهاني

هتف مصدوماً وهو يضيق نظراته بشدة :
-ماما !

نهض عن مقعدة فجـــأة ، و أشـــار لها بإصبعه وهو يأمرها قائلاً :
-دخليها بسرعة !

حركت رأسها بإيماءة خفيفة وهي ترد بخفوت :
-حاضر

ثم تحركت في إتجاه الباب بخطى ثابتة ، وأشـــارت لتهاني بيديها لكي تمرق إلى الداخل ، ثم إنصرفت هي وأغلقت الباب على كليهما ...
تحرك أوس نحو والدته ، ورمقها بنظرات مندهشة وهو يسألها بجدية بالغة :
-حصل حاجة يا ماما ؟

ردت عليه بإبتسامة صافية وهي تجيبه :
-اطمن يا بني ، كل حاجة بخير !

ثم مسحت على صدغه بكفها ، وأضافت بنبرة دافئة :
-أنا جيت أطمن عليك ، وأشوفك !

إرتسم على محياه ابتسامة هادئة وهو يقول بإيجاز :
-تمام

جلس الاثنين على الأريكة العريضة ، فأردفت تهاني حديثها قائلة بهدوء وهي محدقة بإبنها :
-كنت عاوزة أخد رأيك في حاجة كده !

رفع أوس حاجبه للأعلى ، وســألها بإهتمام وهو يطالعها بنظراته القوية :
-ايه هي ؟

تنفست تهاني بعمق ، وأجابته بإرتباك :
-بص أنا فكرت في موضوع القصر ، و..آآ.. وجه في بالي أعمله دار للمسنين

مط أوس فمه للأمـــام وتابع حديثها بإهتمام دون أن تحيد عينيه عنها ..
تنهدت مجدداً ، وأكملت بجدية :
-أنا شايفة إن دي أكتر حاجة ممكن أستفيد بيها من القصر ، في ناس كتير كبيرة ، ظروفها وحشة ومتبهدلة ، ومحتاجة للرعاية ، فأنا نفسي أساعدهم زي ما لاقيت اللي ساعدني !

قطب أوس جبينه ، وســألها بجدية :
-يعني انتي عاوزة ده ؟

أومــأت برأسها وهي تجيبه قائلة بتوتر :
-ايوه ، لو إنت معترض ممكن آآ...

قاطعها قائلاً بهدوء وهو يبتسم لها إبتسامة خطيرة :
-لأ يا ماما ، اعتبريه اتعمل ، وأنا بنفسي هاشوف إجراءات تحويله للدار ، وهاخلصهالك بمعرفتي !
إتسعت إبتسامتها ، وإحتضنت وجهه براحتيها ، ورمقته بنظرات حنونة وهي تقول :
-ربنا يباركلك يا حبيبي ويفرح قلبك زي ما بتفرح قلوبنا !

أمسك أوس بكفي والدته ، وقبلهما ، ثم سألها بإهتمام :
-طب فكرتي هاتسميها ايه ؟

ردت عليه بلا تردد :
-أيوه ، دار التقى !

إتسعت حدقتيه مصدوماً ، وخفق قلبه إلى حد ما ، وهتف بعدم تصديق :
-ايه ؟ تقــى !

هزت رأسها إيجاباً وهي تقول مبررة :
-أيوه ، مجاش في بالي إلا الاسم ده !

زادت إبتسامة أوس سعادة ، وأرجع ظهره للخلف ، ووضع كفيه على رأســه ، وتابع بحماس :
-أنا مش عارف أقولك ايه ، بجد مش مصدق ، دار التقى !

ثم أغمض عينيه قليلاً ، وتنهد في إرتياح ، وإستدار ليواجه والدته ، وتابع بجدية :
-إنتي كده هاتخليني أشاركك في المشروع ده

ردت عليه بخفوت :
-وماله يا حبيبي ، وربنا يجعلنا من فاعلين الخير
-يا رب أمين

ســألته تهاني بإهتمام :
-ها ، هاتسافر امتى للعمرة ؟

أجابها أوس بهدوء وهو يشعل سيجارته :
-بكرة بأمر الله

سألته بجدية وهي تضيق نظراتها :
-وتقى عرفت بـ آآ..

قاطعها نافياً وهو ينفث دخـــان سيجارته :
-لأ ، لسه

إبتسمت له والدته وهي تضيف :
-أنا مش عاوزة أقولها حاجة ، عشانها مفاجأة !

هز رأســه قليلاً وهو يرد عليها :
-أنا عارف يا ماما

تسائلت تهاني بقلق وهي تشير بيدها :
-بس تفتكر فردوس ممكن تتغير بعد ده كله ؟

غمز لها بعينيه نافياً ، ثم أجابها على مضض :
-معتقدش ، بس أهي فرصة تطهر نفسها من الغل اللي جواها !

زمت تهاني شفتيها وهي ترد بإقتضاب :
-ربنا يهديها ويصلح حالها !

ســـاد الصمت بينهما لعدة لحظات ، وأضـــاف أوس بعدها قائلاً بتنهيدة مطولة وهو يطفيء سيجارته :
-أنا مش عاوز تقى تيجي في يوم وتلومني ، أو حتى تتهمني إني خليتها تقطع علاقتها بأمها ، مع إنها تستاهل أكتر من كده ، بس كفاية اللي هي فيه !

ربتت تهاني على كتفه وهي تقول بإمتنان :
-حبيبي يا بني ، ربنا يباركلي فيك ، إنت مش عارف أد ايه أنا فخورة بيك !

إبتسم لها إبتسامة مجاملة ولم يعقب ، بينما نهضت هي من مكانها ، وأكملت بنبرة هادئة :
-هاقوم أنا بقى وأروح لأختك في الفيلا

نهض هو الأخــــر من مقعده ، وهتف بجدية :
-ما لسه بدري ، ده أنا ملحقتش اعمل معاكي الواجب !

وضعت يدها على صدغه ، وإبتسمت له بصفاء وهي تقول :
-كفاية أشوفك وأطمن عليك ، خلي بالك من نفسك ، وسلم لى تقى لحد ما أشوفها بكرة !

هز رأسه قائلاً :
-حاضر

إحتضنته والدته مودعة إياه وهي تهتف بـ :
-مع السلامة يا بني
-الله يسلمك
قالها أوس وهو يــلوح لوالدته بكفه ..
................................
بعد أقل من دقيقة ولج عدي إلى الداخل ، وتسائل بفضول وهو يدير رأســه للخلف :
-ايه ده ، هو مدام تهاني كانت هنا ؟

لوى أوس فمه قائلاً بإيجاز :
-مش أوي

عاتبه عدي بهدوء :
-طب مش تقولي كنت أسلم عليها !

أردف أوس قائلاً بلؤم وهو يغمز له :
-ما هي رايحالك الفيلا

فهم عدي المقصد من نظراته ، ورد عليه بعبوس زائف :
-تمام ، هابقى اشوفها هناك بقى !

تسائل أوس بمكر وهو يطالع رفيقه بنظرات متسلية :
-اخبارك ايه مع ليان ؟

تنحنح الأخير بصوت خشن وهو يجيبه بثقة بالغة :
-كله تمام يا باشا ، وأدينا بنتعلم منك !

قهقه أوس بمرح ، وتابع بهدوء :
-عظيم ، هاسيبك تكمل باقي الشغل ، ومش هوصيك !

أومــأ عدي برأســه قائلاً بجدية :
-اطمن

بدأ أوس في تجميع متعلقاته الشخصية ، ووضعها في حقيبة خاصة به .. ثم دس هاتفه المحمول وكذلك سلسلة مفاتيحه في جيب سترته ، وإرتدى ساعته الفضية .. وعــدل من وضعية ياقته ..
تابعه عدي بنظراته ، وهتف بحماس :
-اعمل حسابك ، أنا اللي هوصلك للمطار !

رد عليه أوس بإختصار وهو يمسك بولاعته في يده :
-أكيد

هتف عدي بحماس وهو يشير بيده :
-ماتنساش تدعيلنا !

وضــع أوس يده على كتف رفيقه ، ورد عليه بهدوء :
-طبعاً ، وعقبالك يا سيدي

مـــازحه عدي قائلاً :
-ماشي يا حــاج أوس ! بركاتك يا باشا !
.......................................

في صبـــاح اليوم التالي ،،،
في مطـــار القاهرة الدولي ،،،

أجهشت ليـــان بالبكاء وهي تحتضن تقى بقوة ، فمسحت الأخيرة على ظهرها برفق ، وهمست لها محذرة :
-بلاش تعيطي ، أنا دموعي قريبة !

إنتحبت ليـــان بخفوت وعينيها تلمعان من العبرات :
-مش قادرة ، هاتوحشيني أوي !

لف أوس ذراعه حول شقيقته ، وقبل جبينها قائلاً بجدية :
-يا ليو احنا راجعين تاني

طالعتها بعينيها الدامعتين وهي تقول بصوت شبه باكي :
-انا عارفة يا أوس ، بس اتعودت على وجودكم معايا

جذبها عدي ناحيته ، وطوقها بذراعها من خصرها ، وضربها بمقدمـة رأسه في جبينها ، ومازحها قائلاً :
-دي عمرة يا ليان مش هجرة

ضربته في صدره بقبضتها وهي تقول بضيق :
- إنت بايخ على فكرة !
إحتضنت تهاني ابنها ، ومسدت على رأســه وهي تقول بصوت أمومي حاني :
-ربنا يسلم طريقك يا بني ، وترجعولنا بالسلامة

أجابها أوس بإبتسامة عذبة :
-اللهم أمين

اتجهت تهاني ناحية تقــى ، ثم لفت ذراعيها حولها ، وهتفت بنبرة أقرب للبكاء :
-هتوحشيني يا تقى !

ردت عليها تقى برقــة :
-وانتي يا خالتي

ثم تحركت مبتعدة عنها ، وأضافت بعتاب :
-مش كنتي جيتي معايا !

مسحت على وجنتها ، وهزت رأسها وهي تقول :
-المرة الجاية يا حبيبتي ، تتعوض إن شاء الله !

بادلتها تقى إبتسامة ناعمة ، ثم ردت بصوت خفيض :
-إن شاء الله

هتف عدي بجدية وهو يشير بيده محذراً :
-طب يالا يا جماعة عشان تلحقوا الطيارة ، كده الوقت هيسرقكم !

وقف أوس قبالة رفيق عمـــره ، ثم مــد يده ليصافحه ، ومن ثم دفعه ناحيته ليحتضنه وهو يقول :
-تمام .. سلام يا صاحبي

ربت عدي على ظهر أوس عدة مرات ، ورد عليه بتنهيدة :
-مع السلامة يا اخويا

ثم أمسك أوس بقبضة زوجته تقى ، ولوح الإثنين للجميع وهما يتحركان في إتجاههما ..
هتفت تهاني بصوت مرتفع وهي تشير بكفها :
-خدوا بالكو من نفسكم يا ولاد ، وطمنونا عليكم أول ما توصلوا !

ردت عليها تقى بإيماءة خفيفة :
-بأمر الله

بينما صــاح أوس بإقتضاب :
-بــاي !

أجهشت ليـــان بالبكاء ، ومسحت أنفها بالمنشفة الورقية ، فأردف عدي قائلاً بسخرية :
-ياني يا ليوو ، هتقلبي على جو أمينة زرق ( ممثلة مصرية ) تاني !!!

رمقته بنظرات حادة وهي تعاتبه :
-يووه ، حتى في العياط مش عارفة أخد راحتي !

نظرت لهما تهاني بقلق ، وسألتهما متوجسة :
-هتتخانقوا يا ولاد ؟

رد عليها عدي بإبتسامة عريضة :
-لا يا مدام تهاني ، احنا بنحب نرخم على بعض ، وهو أنا أقدر أزعل ليو حبيبتي !

نظرت تهاني إليهما بسعادة ، وأردفت قائلة بنبرة راجية :
-ربنا يباركلي فيكو ويحميكو !

ضغط عدي بقبضته على ذراع ليــان ، وهمس لها :
-مش يالا بينا يا حبيبتي !

أومـأت برأسها موافقة قائلة بخفوت :
-اوكي .. يالا
.......................................

على متن الطائرة ،،،،

ســـاعد أوس زوجته في إحكام ربط حـــزام الأمـــان الخاص بها بعد أن جلست على مقعدها بالطائرة ..
نظرت له بخجل ، وهمست ممتنة :
-شكراً

مــال عليها أوس بعد أن خلل أصابعه في أصابع كف يدها ، وســألها بهدوء :
-فرحانة يا تقى ؟

تنهدت في إرتيــاح ، ونظرت حولها بسعادة وهي تقول :
-اوي ، انت مش متخيل احساسي عامل ازاي

رفع أوس كفه إلى فمه ، وقبله بحنو ، ثم تابع قائلاً بنبرة رخيمة :
-طب .. طب أنا عندي ليكي مفاجأة كمان !

عقدت تقى ما بين حاجبيها ، وتسائلت بإستغراب :
-تاني ؟

رد عليها بثقة وهو يغمز لها :
-تاني وتالت وعاشر ومليون مرة !

ســألته بفضول وقد زاد بريق عينيها :
-طب ايه هي ؟

أشـــار لها برأســـه قائلاً بهدوء :
-بصي وراكي

إلتفتت تقى برأسها للخلف ، وتفاجئت بوجـــود والديها في المقاعد الخلفية ، فشهقت مصدومة ، وتسارعت أنفاسها ، وعاودت النظر إليه ، وســألته بعدم تصديق :
-انت .. انت جبت بابا وماما معانا ؟

هــز رأســه بحركة بسيطة وهو يجيبها بهدوء :
-أيوه ، حسيت إن ده هايفرحك أكتر

تحركت بجسدها نحوه لتحتضنه ، وهتفت بنبرة لاهثة :
-حبيبي ، أنا مش لاقية كلام أقوله ليك يعبر عن اللي جوايا

مسح أوس على ظهرها بكفه ، ورمقها بنظرات عاشقة ، ثم شجعها قائلاً :
-قومي سلمي عليهم

اختفت الإبتسامة من على ثغرها فجـــأة ، وتذكرت ما فعلته والدتها معها ، فتلعثمت قائلة بنبرة حائرة :
-بس .. ماما .. كانت .. وآآ...

ابتلع أوس تلك الغصة العالقة في حلقه ، فمـــازال قلبه يحمل الضيق من فعلة والدتها الشنيعة .. ولكنه تحامل على نفسه من أجل زوجته .. لذا تحدث بحذر وهو يطالعها بنظراته القوية :
-انسي اللي حصل ، وسامحيها ، هي برضوه أمك !

ثم رسم على ثغره إبتسامة هادئة وهو يتابع :
-وبعدين عشان العمرة تتقبل ، ولا انتي عاوزة تتحرمي من الثواب ؟

هتفت تقى بسعــــادة جلية وقد لمعت العبرات في عينيها :
-أنا بأحبك أوي أوي

رد عليها أوس بتنهيدة حـــــارة :
-وأنا بأعشق أي حاجة منك !

ثم ساعدها مجدداً في حل حزام الأمــان ، و نهضت هي بحذر من على مقعدها ، وســـارت بخطى أقرب للركض نحو والديها لتحتضن كلاهما بتلهف ، وتعبر عن إشتياقها الكبير لهما ..
قبلت والدها عوض من كفه ، ثم هتفت بمزيج بين البكاء والضحك وهي تحتضنه :
-أنا مش مصدقة عينيا ، إنتو هنا ومعايا !

وتلك المرة أبدت فردوس أسفها الحقيقي لإبنتها وهي تستمع إلى صوتها المعبر عن حبها الصافي لهما ، و تأكدت في النهاية أنها لم تحصد من ركضها الدؤوب وراء الأموال إلا الشقاء والتعب .. وأنها غفلت عن السعادة الحقيقية في وجود ابنة بــــارة تحبها ، وتسعى لإرضائها ..
كذلك إلتزمت بتعهدها مع أوس بألا تفتح باب الماضي مرة أخرى ، وألا تشير إلى ما مضى وخاصة ( إتفاق الشيطان ) ..
دققت تقى النظر في والدتها ، وإستغربت من إرتدائها لنظارة قاتمة ، فسألتها بإهتمام :
-إنتي لابسة النضارة ليه يا ماما ؟ مال عينيكي ؟

صدمت تقى حينما علمت بما آلم بوالدتها ، وشهقت بآسى ، وأدمعت عينيها حزناً عليها ، وتأسفت لها لتقصيرها في حقها .. وهمست بإستعطاف وهي تحتضنها :
-سامحيني يا ماما ، أنا مكونتش أعرف باللي حصلك ،والله ما حد قالي ، أنا أسفة أوي ، يا ريتني عرفت من بدري ، كنت وقفت جمبك ومش سيبتك للحظة واحدة ! أنا أسفة يا ماما ، حقك عليا !

خفق قلب فردوس بتحسر على دناءتها السابقة .. فإبنتها في الأخير لم تملك إلا قلباً طيباً ، وهي - كأمها - لم تكن تحمل سوى قلب ملوث سعى إلى إفساد حياتها ، وإلى حرمانها من أغلى شيء في الوجود ....

راقبهم أوس بنظرات متابعة ، وإرتسم على ثغره إبتسامة راضية وهو يرى تلك الهالة الآسرة من البراءة والنقاء تجتمع حول زوجته ، والتي أخذت بيده إلى طريق جديد دون أن تدري أنها كانت ملاكه الذي أخرجه من أحلك الظلمات ، فأبصر على يدها نوراً جديداً ..
لقد فهم الآن معنى الآية القرآنية (( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )) .. وأدرك أن الزوجة الحقيقية هي تلك التي تسكن إليها روحـــه قبل جسده ، فتنبت بينهما المودة والرحمة ، وتغلف حياتهما بالسعادة والحب !

.....................................

في الحرم المكي ،،،،

إستشعرت تقـــى وهي تطأ بقدميها الأراضي المقدسة ذلك الإحســـاس المرهف بالرهبة الممزوجة بالسعادة ..
فرؤيتها تتجسد الآن أمام أنظارها .. بل إنها تعيشها كاملة بكل جوارحها ..
هي بصحبة زوجها ووالديها ، ومن حولها يرفرف حمـــام الحرم ..
تلفتت حولها بفرحــة غامرة ، وتسابقت دقات قلبها مع أصوات التهليلات والتكبيرات التي تحيط بها ...
هي الآن راضية ومرضية عن حالها ، وحياتها ..
هي الآن تنعم بالهدوء والحب النقي بعد عواصف البغض والذل ..
هي الآن تجني حصــاد ثمـــار صبرها وتحملها تلك الإبتلاءات ..
انتبهت إلى صوت الأذان وهو يصدح في الميكروفون القريب ، فخفق قلبها أكثر ، ونهج صدرها بقوة ، وهتفت بحماس وعينيها تفيض من الدمع :
-اللهم لك الحمد والشكر .........................................!!!

...........................................


إعدادات القراءة


لون الخلفية