الجزء 31

الفصل الثالث والعشرون :

في منزل تقى عوض الله ،،،

جلست ليان على إستحياء على الأريكة الموجودة بالصالة الخــارجية .. وتأملت المكان حولها بنظرات متفحصة ..
ورغم البساطة الشديدة – وربما الفقر المدقع البادي على غالبية الأثاث – إلا أنها شعرت بألفة عجيبة بــه ..

خـــرجت تهاني من المرحــاض بعد أن غسلت وجهها ، وريمت على ثغرها إبتسامة بشوشة ، وهمست بسعادة :
-نورتي بيتك يا بنتي

هزت ليان رأسها دون أن تنبس ببنت شفة ، وإكتفت بإبتسامة مهذبة ..
جلست تهاني على الأريكة المجاورة لها .. ورمقتها بنظرات أمومية حانية ، واستطردت حديثها قائلة :
-أنا عارفة إنك مش فاهمة حاجات كتير من اللي بتحصل حواليكي

ردت عليها ليان وهي تفرك أصابعها بتوتر :
-أنا بس آآ... حاسة إني تايهة !

أخــذت تهاني نفساً مطولاً ، وزفرته على مهل ، ثم تابعت بهدوء نسبي :
-شوفي يا بنتي حكايتي بدأت من زمان ، مش من النهاردة ، واللي حصل قدامك وشوفتيه بعينيكي مايجيش نقطة في بحر من اللي أنا فيه

عضت ليان على شفتها السفلى وهي تحاول التعبير قائلة :
-أنا .. آآ...

رفعت تهاني كفها أمــام وجه ابنتها ، وقاطعتها بجدية :
-اسمعيني للأخــر وهاتفهمي كل حاجة !

هــزت ليان رأسها إيجابا ً ، وتطلعت إليها بإهتمام ، في حين بدأت تهاني في ســـرد ذكريات ماضيها بكل ما فيه من مـــرارة وظلم وخـــداع وقهر حتى تتضح الصورة كاملة أمـــام ابنتها ...
................................

في غرفة تقى ،،،

ربتت فردوس على ظهر ابنتها ، ورسمت ابتسامة زائفة على ثغرها وهي تهتف بعتاب :
-بقى كده يا بت ، أهون عليكي ! ماوحشتكيش امك

أمسكت تقى بكف يدها ، ورفعته إلى فمها لتقبله ، وأجابتها بنعومة :
-غصب عني يا ماما !

زمت فردوس شفتيها ، وتابعت بتنهيدة :
-يالا ، أديكي أعدة هنا معايا

حركت تقى رأسها بخفة ، فسألت والدتها بجدية وهي ترمقها بنظرات متفحصة :
-أخبار الحَبَل ايه ؟

ردت عليها تقى بهدوء :
-الحمدلله !

ثم إشرأبت بعنقها للأعلى ، وأضافت متسائلة بإستغراب :
-أومــال احنا ليه مش أعدين مع خالتي ؟

لوت فردوس فمها لتجيبها بتهكم صريح :
-ياختي ، يعني هاتقعدي مع الأمَلَة ، خليكي مع أمك حبيبتك

إنزعجت تقى من رد والدتها الفظ ، وبدت شبه مستنكرة لهذا ، فغيرت مجرى الحوار ، وتسائلت بهدوء :
-وبابا عامل ايه ؟ بياخد علاجه ولا لأ ؟

أصدرت فردوس صوتاً ممتعضاً من إحتكاك شفتيها معاً ، وأجابتها بتذمر :
-يعني .. أديها ماشية بالستر !

ابتسمت تقى إبتسامة راضية وهي تهمس شاكرة :
-الحمدلله ..

رفعت فردوس حاجبها للأعلى ، وهتفت بتشفي :
-صحيح شوفتي اللي جرى مع الولية حماة البت بطة !

قطبت تقى جبينها بإهتمام وهي تتسائل قائلة :
-مالها ؟

أشـــارت بكفي يدها وهي تجيبها بجدية :
-البيت وقع عليها وماتت

وضعت تقى يديها على فمها ، وشهقت مصدومة :
-يا ساتر يا رب

أضافت فردوس قائلة بتبرم :
-ياخوفي البيت يقع على دماغنا احنا كمان

هزت تقى رأسها معترضة وهي تهمس برجاء :
-ربنا مايجيب حاجة وحشة

تنهدت فردوس وهي تقول بإمتعاض :
-ايوه ..!

ثم صمتت للحظة قبل أن تضيف بجدية :
-المهم أنا عاوزاكي معايا أخر النهار في مشوار كده

رددت تقى قائلة بإستغراب يكسو ملامح وجهها :
-مشوار !!!

أجابتها والدتها بهدوء مصطنع :
-ايوه ، واحدة ست غلبانة كانت معايا في المصنع حالتها صعب أوي راقدة في المستوصف هنا جمبنا !
-هــاه

تابعت بنبرة حزن زائفة :
-أنا بأروح أشأر عليها ، هي يا حبت عيني مالهاش حد يسـأل عليها ، شكلها يصعب على الكافر !

أومـــأت تقى برأسها موافقة ، ورددت بنعومة :
-حاضر يا ماما !

برزت ابتسامة خبيثة من بين أسنانها وهي تربت على كتف ابنتها ، ثم هتفت بحماس :
-يباركلي فيكي يا رب !

ظلت ابتسامة تقى الصافية تعلو ثغرها وهي تطالع والدتها بنظرات حنونة للغاية ...
...................................

في المسجد الموجود بالحارة ،،،،

دفن أوس وجهه بين راحتي يده بعد أن أجهش بالبكاء وهو منزوي في أحد أركــــان المسجد بعيداً عن أعين المصلين ..
كانت تلك هي المرة الثانية التي يترك فيها العنان لنفسه ليبكي بلا مقــاومة ....
نعم ، بكى ليستريح ..
بكى ليتطهر ..
بكى ليبدأ من جديد ...

جلس الشيخ أحمد إلى جواره ، وتركه يخرج ما يكنه صدره حتى هدأ تماماً ، فربت على فخذه ، وشرع حديثه قائلاً بصوت هــاديء :
-مهما كان عظم الذنب مش هايكون حاجة جمب رحمة ربنا

غمغم أوس مع نفسه بتحسر وهو يرمق الشيخ أحمد بنظرات بائسة :
-يا ريتني لاقيت اللي ياخد بإيدي من زمان

أكمل الشيخ أحمد حديثه قائلاً بنفس النبرة الرخيمة التي تبعث الهدوء على النفس :
-يمكن تمر عليك لحظات تحس فيها بالضعف ، ونفسك تخذلك وتخليك ترتكب المعصية تاني والشيطان يسد طريق التوبة قدامك ، فأوعى تيأس ، وتستسلم ، ارجع تاني وتوب وجدد إيمانك !

إلتوى فم أوس ليستطرد جملته قائلاً بسخط :
-عارف يا شيخ ، أنا عمري ما صليت ، أصلاً .. مافيش حد في عيلتي يعرف يعني ايه صلاة ولا آآ...

قاطعه الشيخ أحمد بهدوء وهو يهز رأســـه متفهماً :
-(( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )) ، ربنا فتحلك باب للهداية وللتوبة ، أوعى ترده ، وامشي فيه لأخره .. وصدقني هتلاقي احساس بالبركة والنعمة في حياتك كلها

حرك أوس رأســـه موافقاً إياه ، فتابع الشيخ أحمد بصوت هاديء ورزين :
-تعالى يا بني أنا هاعلمك إزاي تصلي ، بس قبلها نجدد وضوءنا سوا

صُدم أوس من اقتراحه ، واعترض قائلاً :
-بس آآ...

قاطعه الشيخ أحمد قائلاً وإبتسامة ودودة تلوح على وجهه :
-متقلقش ، الحمامات نضيفة وزي الفل ، وفي واحد خصوصي جوا في مكتبي

ثم إستند على مرفقه لينهض عن الأرضية وهو يردد بنبرة سَمِحة :
-بسم الله ، يا قوي يا رب !

وبالفعل اصطحب الشيخ أحمد أوس إلى غرفة المكتب الجانبية و الخاصة بإمام المسجد حيث يوجد بها مرحاضاً صغيراً ، وبدأ يُريه كيفية إسباغ الوضـــوء ، وراقبه وهو يحاكيه حتى انتهى الاثنين منه ، فأعطاه مناشف ورقية ليجفف بها نفسه ..

ثم خطى كليهما عائدين إلى محراب الصلاة ، واسترسل الشيخ أحمد في شرح طريقة أدائها بصورة مبسطة ، وإجتهد في إيصال فكرة أن يكون المرء في حالة تضرع وخشوع حينما يتحدث مع ربه بكلماته المقدسة حتى يحقق من صلاته الغاية المنشودة ..
استوعب أوس ما قاله بحماس واضح ، وأقبل على أدائها بروح جديدة ، ووقف خلف الشيخ أحمد .. واختبر بخوف كيف يكون المرء ذليلاً لرب العباد وليس لشخص فاني ، وفَهِم الآن لماذا لم تهابه تقى وهي في أضعف حالاتها وأكثرها إحتياجاً للحماية من بطشه .. ولماذا كانت لديها صلابة وعزيمة غريبة وهي تواجهه وتتحدى جبروته ..
نعم .. لقد كانت تلك هي لحظة ميلاده الفارقة ..
لحظة بَعثْ روحـــه النقية من جديد ..
لحظة أدرك فيها أنه فوت الكثير على نفسه بإبتعاده عن طريق الصواب ...

بعد دقائق انتهى الاثنين من أداء الصلاة ، فإلتفت الشيخ أحمد بجسده للخلف ليتأمل ذلك المولود الذي وُلد من جديد على يديه ، ورمقه بنظرات مشرقة .. ودعاه سراً بالهداية ، ثم ربت على ظهره بعد أن صافحه ، وهنأه قائلاً :
-تقبل الله منك

رد عليه أوس بإيجاز وجسده ينتفض من التوتر :
-شكراً

تابع الشيخ أحمد قائلاً :
-أنا موجود هنا لو عوزت أي حاجة ، مش بتأخر عن أي حد !

ابتسم أوس مجاملاً ، ولم يعقب ..

اعتدل الشيخ أحمد في جلسته ، ورفع رأســه قليلاً للأعلى فلمح عوض وهو يقترب منهما بعد أن فرغا من الصلاة ، فهتف بحماس وهو يفرك مسبحته :
-تعالى يا راجل يا بركة اقعد معانا !

جلس عوض إلى جوارهما ، وأردف قائلاً بصوت خافت :
-أنا قولت أسيبكم تاخدوا راحتكم !

ابتسم له الشيخ أحمد قائلاً بسعادة وهو يرفع كفيه للأعلى :
-احنا راحتنا في رضا ربنا

هتف عوض برضــا :
-ونعم بالله

ثم سلط أنظاره على أوس ، وســأله بإستغراب وهو يتفرس وجهه بدقة :
-قولي يا بني هو انت .. انت كنت بتتخانق مع الست تهاني ليه ؟ دي طيبة وفي حالها ، وزي أمك و.. آآ...

قاطعه أوس بصوت هادر وقد تحول وجهه للعبوس والتجهم :
-ماتقولش أمي !

ارتبك عوض من كلماته الغاضبة ، وبرر موقفه بحذر بـ :
-أنا آآ.. أنا بس كنت آآ...

هدر أوس بنبرة مهينة وهو يحدجه بنظرات جارحة :
-الموضوع مايخصكش ، وأنا مأذنتلكش تتكلم فيه ، مين انت عشان تسألني فيه !!!!

ابتلع عوض تلك الإهانة ، وهمس بصوت واهن معتذر :
-حقك عليا يا بني ، أنا مقصدش

ثم إتكأ على عكازه لينهض مبتعداً عنهما ، فنظر إليه الشيخ أحمد بتعجب ، وســأله بتوجس :
-رايح فين يا عم عوض ؟

أجابه عوض بحزن وهو منكس الرأس :
-آآ.. هاروح أقرى في المصحف الورد بتاعي

تنهد الشيخ أحمد بصوت مسموع وهو يردد :
-ربنا يجازيك خير

وما إن انصــرف عنهما حتى إلتفت إلى أوس ، وعاتبه بهدوء :
-عم عوض مغلطش عشان تكلمه بالشكل ده وتحرجه قدامي

تشنجت تعابير وجه أوس للغاية ، وبدت نظراته قاتمة ، وهتف بشراسة :
-أنا حــر ، هو مالوش الحق يدخل في حياتي

برر له الشيخ أحمد موقفه :
-هو بينصحك !

تقوس فم الأخير قائلاً بتهكم واضح :
-نصيحة ! ده على أساس إن اللي بنتكلم عنها تستاهل ؟!!!

أشـــار له الشيخ أحمد بإصبعه محذراً بصوت هاديء :
-لأ يا بني ، مايصحش تتكلم بالسوء عن الست تهاني ، احنا كلنا في الحارة هنا عارفين ظروفها ، ومعاشرينها بقالنا سنين ، و آآ...

قاطعه أوس بصوت شبه منفعل :
-انت متعرفش هي عملت ايه !

زادت نظراته شراســـة وهو محدق أمامه، وأضــاف بغل :
-هي مفكراني هانسى بالساهل اللي عملتيه فيا وأرميه ورا ضهري ، واقولها مسامحك !

راقبه الشيخ أحمد بنظرات متأنية .. وبفراســة سأله :
-متأخذنيش في السؤال ، هي .. هي تبقى أمك ؟

إلتفت أوس برأسه نحوه ، وضاقت عينيه بحدة وهو ينفى بغضب :
-مش أمي !

أشـــار الشيخ أحمد بإصبعيه قائلاً بهدوء ثابت :
-طيب .. اهدى !

ســــاد صمت متوتر لعدة لحظات تخللها صوت تحريك المسبحة بين أصابع الشيخ أحمد الذي أردف قائلاً بإحتراز :
-أنا عاوز أقولك على حاجة ، وده مش كلامي ، ده كلام ربنا سبحانه وتعالى !

انتبه أوس لحديثه ، وزفـــر بصوت مختنق وهو يضغط على شفتيه بقوة .. فتابع هو قائلاً بتريث :
-ربنا أمرنا بحسن معاملة الأب والأم ، ونصاحبهم بالمعروف ، ونحسن إليهم ونطعهم إلا في حالة واحدة وهي والعياذ بالله الشرك به !

هتف أوس بإحتجاج :
-دي ميتقالش عليها أم !!

هز الشيخ أحمد رأســـه مستنكراً قسوته ، واستطرد قائلاً بصوت عذب :
-ربنا جل وعلى بيقول : ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾

كز أوس على أسنانه قائلاً بصوت محتقن وقد برزت عروقه الغاضبة من عنقه :
-مش لما يكونوا ربوني أصلاً ، يا شيخ خلي الماضي مدفون ، بلاش أفتح في القديم !!!

أيقن الشيخ أحمد أن المناقشة معه وهو في تلك الحالة العصبية لن تأتي بثمارها المحمودة ، فأثر ألا يطيل معه في المجادلة فيضيع مجهود اليوم في إستمالته لطريق الصواب .. فإبتسم له قائلاً بهدوء :
-طيب يا بني أنا مش هاضغط عليك ، بس حابب إنك تعرف حاجة ، ساعات الإنسان بيعميه الغضب ، ومابيشوفش اللي قدامه كويس .. ربنا يصلح حـــال عبيده !

تنهد أوس بحرقة وهو يهتف بإقتضاب :
-أنا قايم

وبالفعل إستند على مرفقيه ليقف على قدميه ، وســـار بخطوات أقرب للركض ، فهتف فيه الشيخ أحمد بحماس :
-خليني أشوفك تاني

أدار أوس رأســه للخلف ، وغمغم بصوت شبه منزعج :
-يمكن لو جيت هنا تاني !

صــاح الشيخ أحمد بتفاؤل وهو يرمقه بنظرات مطمئنة :
-إن شــاء الله هاتيجي ، أنا مستبشر خير !

..........................................

في المقر الرئيسي لشركات الجندي للصلب ،،،،

إستند عدي على حافة مقعده بقبضة يده ، ورفع الأخــرى للأعلى ليضع هاتفه المحمول على أذنه ، وغمغم مع نفسه بضيق :
-مش بترد ليه يا أوس ؟

زفــــر بنفاذ صبر وهو يعيد وضع هاتفه على سطح المكتب :
-عاوزين نركز في اللي جاي ! ونفوق من كل المشاكل اللي احنا فيها

رن هاتفه ، فإلتقطه سريعاً ظناً منه أنه أوس ، ولكنه وجد رقم عيادة طبيب أمراض الذكورة المعالج له .. فإنقبض قلبه لوهلة ، وتسارعت أنفاسه .. واستطرد قائلاً بتوتر :
-نتايج كورس العلاج بانت ، أنا كنت ناسي الموضوع ده خالص !

إبتلع ريقه بقلق واضح ، وضغط على زر الإيجاب وهتف بتلهف :
-ألو .. ايوه أنا !

انصت لثوانٍ لما يقال على الطرف الأخـــر ، ثم تابع بجدية :
-تمام .. أنا جاي دلوقتي !
............................................

خـــــارج المسجد ،،،،

وقف رجـــال الحراسة عند باب المسجد متأهبين لإستقبال رب عملهم الذي خـــرج مسرعاً من المسجد ووجهه به شيء غريب لم يستطيعوا تفسيره ..
بكلمات مقتضبة أردف حديثه الآمــر قائلاً :
-خليكوا هنا مع الهوانم ، وواحد بس يجي معايا

رد عليه أحدهم بنبرة رسمية :
-أوامرك يا باشا

أســـرع أوس في خطواته نحو سيارته ، وفتح حارس أخــر الباب له ، فإنزلق بجسده للداخل ، وأشـــار للسائق لكي ينطلق مبتعداً ..

حالة الصفاء النفسي التي كانت متمكنة منه تعكرت بذكر والدته ..
هو لم ينسْ للحظة أنها كانت أول من ألقى به في براثن الذئاب ، وتخلتْ عنه حينما كان في أمس الحاجة إليها .. وسلمته لزوجها ليغتال طفولته ، وتركته لأبيه ليقضي على ما تبقى منه ..فأصبح ما عليه الآن .. جاحداً لها ، مستنكراً لأمومتها ، ناقماً عليها ..

ضرب بعنف على مسند السيارة ، واحتقن وجهه بشدة وهو يطالع بنظرات حادة الطرقات من حوله ...
...................................

في منزل تقى عوض الله ،،،،

إتسعت حدقتي ليان في صدمة واضحة بعد أن ســـردت لها والدتها تفاصيل كل شيء .. ورغماً عنها ذرفت العبرات وهي مستنكرة تلك الأفعال المشينة التي عرفتها ممن ظنت أنهم عائلتها .. وحُرمت من عطف وحنان والدتها الحقيقية ..
هي تذكر تلك المعاملات الخالية من الحنو من قبل ناريمان ، والقاسية في بعض الأحيان ، كذلك نظراتها الغريبة لها ، وعدم إهتمامها بما يمكن أن يحدث لها إن أســاءت التصرف ، أو إرتكبت حماقات ..
كما لاح في عقلها ذكرى القبلات العابثة مع ممدوح .. ولكنها لم تكن تتخيل أنها ترتكب المحرمات مع أبيها الحقيقي وهي على علم بهذا ..
شعور أصابها بالتقزز والغثيان ..
فقد تمكنت الآن من فهم ما كان يدور حولها ، وبررت تصرفــات أوس الفظة والقاسية مع العائلة .. فهو من عرف بحقيقة الأمور منذ نعومة أظافره ، وأبَىَ أن يكون ضعيفاً خانعاً ، فتمرد عليهم جميعاً .. ولم يكترث بأي فرد من تلك العائلة المعيبة ..

احتضنت تهاني ابنتها بحنو بالغ ، ومسدت على رأسها برفق وهي تهمس لها بصوت مختنق :
-أنا اتظلمت يا بنتي ، واتبهدلت ، واتحرمت من كل حاجة حتى حضن ولادي !

هتفت ليان بصوت متشنج وهي تخفي وجهها براحتيها :
-دول .. دول استحالة يكونوا بشر ! أنا .. أنا كنت عايشة ازاي معاهم !

-ربك مابيسيبش ، وقريب أوي هناخد حقنا منهم كلهم
قالتها تهاني بنبرة واثقة وهي تنظر إلى ابنتها

تعجبت ليان من حديثها ، وكفكفت عبراتها وهي تسألها بعدم فهم :
-يعني ايه ؟

أجابتها تهاني بصوت شبه هاديء :
-بصي يا بنتي ، أنا في ايدي أعمل خطة توصلني للدليل اللي يقضي على مهاب ويفضحه قصاد الكل ، بس .. بس ده يتوقف على آآ...

قاطعتها ليان بإهتمام وهي محدقة بها :
-على ايه ؟ كملي !!

ابتلعت تهاني ريقها ، وأجابتها بحرص :
-عليكي انتي !

هتفت ليان بصدمة وقد إرتفع حاجبيها للأعلى :
-أنا ؟

هزت رأسها قائلة بجدية :
-أيوه .. أنا محتاجة منك مساعدة عشان أقدر أوصل للأوراق اللي عاينها مهاب في القصر

إنعقد ما بين حاجبيها في إندهاش ، وتسائلت بحيرة :
-مش فاهمة

أخذت تهاني نفساً عميقاً ، وزفرته على مهل ، واستطردت حديثها بحذر :
-أنا عرفت إن مهاب بيخبي كل أوراقه المهمة والملفات اللي تثبت جرايمه واللي عمله زمان في الخزنة بتاعته في أوضة النوم

حركت ليان رأسها إيجاباً وهي تهتف قائلة :
-أهــا .. انا عارفة مكانها

تابعت والدتها قائلة بقلق :
-مشكلتي عشان الخطة دي تنجح في إني ازاي ادخل القصر بدون ما حد يشك فيا

مطت ليان شفتيها لتقول بإعتراض :
-بس انتي مش هاينفع أصلاً تدخليها !

قالت تهاني بإحباط :
-ما أنا عارفة !

ثم صمتت للحظات قبل أن تكمل بيأس :
-وفكرت في مساعدتك عشان يرجع الحق لأصحابه بس .. بس ده هايعرضلك للخطر ، وأنا مش هاستحمل حاجة تحصلك !

ثم إحتضنت ابنتها بذراعيها ، وضمتها إلى صدرها ، وتابعت بصوت حزين :
-تغور أي حاجة إلا سلامتك يا بنتي ، كفاية عندي وجودك في حضني ومعايا ، أنا كنت بتنشأ على أي حاجة من ريحتك إنتي وأخوكي ، وربنا كرمني بيكي ، ده عندي بالدنيا !

أرجعت ليان رأسها للخلف ، ونظرت إلى والدتها بنظرات غريبة استشعرتها الأخيرة بتوجس ، ثم هتفت بجدية :
-أنا هاجيبلك الورق ده

جحظت تهاني بعينيها مصدومة ، بينما تابعت ابنتها بإصرار :
-مش هاسيب حقك يضيع

إعترضت تهاني بخوف :
-لألألأ .. مش عاوزاه خلاص

تبدلت نظرات ليان للنعومة ، وأخفضت نبرتها وهي تقول :
-لأ يا مامي ، أنا .. أنا هاقف جمبك

احتضنت تهاني وجه ابنتها براحتيها ، وهتفت بعدم تصديق وهي تطالعها بنظرات شغوفة :
-إنتي .. انتي بتقولي مامي ؟!

ردت بإبتسامة رقيقة :
-ايوه .. !

قبلتها من وجنتيها وهي تبكي بسعادة :
-حبيبتي يا بنتي

لم تردْ تهاني إفســـاد تلك اللحظات بالعبارات المنمقة ، فإكتفت بمشاعرها الصادقة لتبوح عما يكنه فؤادها .. وظلت تقبل ابنتها بعاطفة قوية ..
استشعرت ليان صدق إحساس والدتها ، نعم ذلك الإحساس الذي اختبرته من قبل فأراحها .. واليوم تعيشه من جديد ..
أحست في أحضانها بالآمــان والسكينة ..
وجدت في نظراتها اللهفة والحب النقي ..

خرجت فردوس من الغرفة وتبعتها تقى ، فتسائلت الأولى بفضول وهي تتفحص الاثنتين بدقة :
-مالكم قالبينها محزنة ليه ؟

ابتسمت تقى بعذوبة فقد عرفت سبب تلك العبرات الباكية دون الحاجة إلى معرفة أسبابها ....
....................................

في العيادة الخاصة بأمــــراض الذكورة ،،،،

نظر الطبيب المعالج لعدي لنتائج التحاليل الأخيرة بتمعن شديد ، بينما راقبه الأخير بتوتر شديد ..
إعتلى ثغر الطبيب إبتسامة هادئة وهو يستطرد حديثه بـ :
-الوقتي أقدر أهنيك يا عدي بيه ، النتايج عال العال

تسائل عدي بتلعثم وقد إرتسم على وجهه علامات الصدمة :
-انت .. انت بتكلم جد يا دكتور ؟

أجابه الطبيب بثقة :
-هو الحاجات دي فيها هزار

انفرج فم عدي بسعـــادة جلية ، ومرر أصابع يده في رأســه في عدم تصديق ، وهتف بلا وعي :
-أخيراً ، يــــاه .. أنا مش عارف أقول ايه ؟

رد عليه الطبيب بهدوء :
-قول الحمدلله ، ده بتوفيق ربنا !

-صح ! إنت كلامك مظبوط
قالها عدي وهو يشير بإصبعه .. ثم هب من مقعده وقبله يكاد يقفز طرباً من فـــرط السعادة ...
...........................................

في منزل تقى عوض الله ،،،،

مـــر وقت العصـــاري بسلام على المتواجدين بالمنزل ، وانتهت العائلة من تناول طعام الغذاء .. فقامت تهاني بجمع الصحون الفارغة لتنظيفها ، واتجهت نحو المطبخ ، فهتفت ليان بحماس :
-خليني أساعدك بليز

ابتسمت لها والدتها برقة وهي تقول :
-ارتاحي يا بنتي ، أنا هاغسلهم بسرعة

نظرت لها فردوس شزراً ، وغمغمت مع نفسها بإزدراء :
-شكلك غاوية فقر زي أمك !

تسائلت تقى بقلق :
-هو بابا مش هايطلع من الجامع ؟

ردت عليها فردوس بجمود :
-هو كده ، بينزل يقعد فيه لحد ما ينسى نفسه ويجيلي بعد صلاة العشاء !
-ربنا يرده بالسلامة
هتفت بها تقى بصوت رقيق وهي تضع غطاء الطاولة المزين عليها ...
..............................

لاحقاً .. وعلى غير عـــادته ، عاد عوض من الخــارج ووجهه يكسوه الضيق والحزن ..
استغربت فردوس من عودته ، وسألته بتجهم :
-جاي بدري ليه ؟

رمقها بنظرات محبطة ، ثم ســـار في إتجاه غرفة نومه دون أن ينبس بكلمة ..
إغتاظت فردوس من تجاهله لها ، وحدثت نفسها بتذمر :
-ده اللي فالح فيه ، من البيت للجامع ومن الجامع للبيت ، وأدي وش الضيف ، مش بأشوف منك حاجة ، إن مكونتش أنا ألحق أتصرف هانموت بفقرنا ومش هنلاقي تمن الكفن اللي هاندفن بيه !!!

تابعت تقى والدها بنظرات مرتابة ، وإنقبض قلبها من هيئته ، فأسرعت خلفه ، ودقت على الباب بخفوت قبل أن تدلف للداخل ...
.................................

على الجانب الأخر ، أصـــرت ليان على تنفيذ خطة والدتها في سرقة الأوراق والملفات من الخزينة الموجودة بالقصر ..
ورغم إعتراض الأخيرة إلا أنها استسلمت في النهاية نتيجة إلحاحها المتواصل .. وإرتدت ملابسها لتستعد لها ..
زمت تهاني شفتيها قائلة بتوجس :
-خلي بالك يا بنتي ، بناقص منه الموضوع !

أردفت ليان قائلة بجدية شديدة :
-يا مامي اطمني ، أنا محدش هايقدر يشك فيا لما أدخل واخرج

ابتلعت تهاني ريقها بخوف وهي تردد بخفوت :
-ربنا يستر

ربتت ليان على ذراعي والدتها ، وهتفت بحماس :
-يالا بينا !

استجمعت تهاني شجاعتها ، وأومــأت برأسها موافقة ، ثم تأبطت في ذراع ابنتها وهي تخرج الغرفة ...

راقبتهما فردوس وهما تتجهان نحو باب المنزل ، ورقص قلبها طرباً لوجود فرصة سانحة لتتمكن من الخروج هي وإبنتها دون أن تواجه أي اعتراض أو تحقيقات من تهاني ..

برزت أسنانها الصفراء وهي تتمتم بخفوت :
-يدوب ألحق ألبس ، وأخد البت ونطلع على المستوصف !
...................................

إستند عوض بمرفقيه على مقدمة عكازه ، وأخفض رأســـه في حزن عجيب ..
جلست تقى إلى جوار والدها ، ومسحت على ظهره وهي تسأله بقلق :
-مالك يا بابا ؟ إيه اللي مزعلك كده ؟

لم يجبها في البداية ، وظل محدقاً أسفل قدميه ..
خشيت تقى أن يكون قد أســـاء أحد ما إليها وطعن في سمعتها ظلماً ، فأزعجه ذلك ولم يستطع الرد عليه ..
زادت غصتها وهي تسأله بحذر :
-حد من أهل الحارة قالك كلمة ضايقتك بسببي ؟

بدى صوتها على وشك الإختناق وهي تدافع عن نفسها :
-انت مربيني يا بابا وعارفني كويس ، أنا آآ...

قاطعها عوض بصوت خافت ومحبط :
-مافيش حاجة يا تقى

تمعنت تقى في وجه والدتها ، وهتفت بإحتجاج :
-بس شكلك يا بابا وعينيك وآآ...

قاطعها عوض بهدوء وهو يحاول رسم إبتسامة باهتة على وجهه :
-أنا كده يا بنتي

مالت تقى برأسها على كتف أبيها ، وأغمضت عينيها وهي تردد برقة :
-ربنا يخليك ليا يا بابا ، ومايحرمنيش منك أبداً !

ربت عوض على كف ابنته ، ورفع وجهه للأعلى وهو يقول بجدية :
-تعرفي يا تقى جوزك صلى النهاردة هنا في الجامع

اتسعت حدقتيها بشدة عقب جملته الأخيرة ، وبدى الإندهاش بارزاً على تعابير وجهها وهي محدقة في وجه والدها ، وإنفرجت شفتيها في عدم تصديق ، لم يستوعب عقلها بعد ما قاله بوضوح .. وتسائلت بحيرة هل حقاً توهمت ما سمعته ، وأن أوس الجندي الذي لم يعرف إلا الموبقات يُصلي ، وهنا في ذلك المسجد المتواضع ..
هتفت هي بصدمة ودون وعي :
-مين ؟!

تابع عوض حديثه بصوت رخيم :
-الشيخ أحمد الله يباركله اتكلم معاه وآآآ.....

لم يكمل عبارته الأخيرة بسبب إقتحام فردوس للغرفة كالثور الهائج ، وهتفت بتبرم وهي تشير بيدها :
-يالا يا تقى خلينا نروح مشوارنا ، وسيبي أبوكي ينام !

لم ترد تقى المضي مع والدتها دون أن يفسر لها أبيها ما قاله ، فإعترضت متوسلة :
-خليها وقت تاني يا ماما ، أنا عاوزة أفهم من بابا حاجة

حدجتها فردوس بنظرات شبه مشتعلة ، وصاحت بضجر :
-الله مش احنا متفقين يا بت !

نظرت لوالدتها بإستعطاف ، وقالت بإلحاح :
-معلش ، بس .. بس محتاجة أتكلم مع بابا وآآآ..

قاطعتها فردوس بغضب :
-أما نبقى نرجع ، ميعاد الزيارة هايروح

حدق عوض في زوجته ، وسألها بعدم فهم :
-انتو رايحين فين ؟

أجابته تقى بإنزعاج :
-ماما عاوزاني معاها آآ....

قاطعتها فردوس بصوت متجهم وهي تجذب ابنتها من ذراعها :
-مش وقت رغي ، وبعدين يا عوض إنت مش كنت ضارب بوز وواخد في وشك ، وجاي مش طايق نفسك ، ولا طايق حد تكلمه ، الوقتي خلاص ده راح ..!

حدجها عوض بنظرات متأففة وهو ينهرها :
-الملافظ سعد !

ردت عليه بسخط :
-بلا سعد بلا مسعود !

ثم إستدارت نحو إبنتها ، وصاحت بها :
-يالا يا تقى ، خلينا نشوف اللي ورانا ، ولما نرجع ابقي اسهري مع ابوكي إن شاء الله للفجر !

تنهدت تقى قائلة بإستسلام :
-حاضر يا ماما

ثم إستدارت برأسها نحو والدها ، ورمقته بنظرات حنونة ، وانحنت لتقبل كفه المجعد ، وهمست له :
-معلش يا بابا ، اوعى تزعل ، أما هأرجع بأمر الله هنتكلم

هز رأسه بخفة قائلاً بوهن :
-إن شاء الله يا بنتي !

قبلت جبين والدها ، ثم أولته ظهرها ، واتجهت نحو الباب ، ولكن أوقفها صوته الدافيء :
-خلي بالك من نفسك يا تقى !

إلتفتت برأسها للخلف ، وإرتسم على ثغرها إبتسامة ناعمة ، وحركت رأسها موافقة وهي تردد بإمتثال :
-حاضر يا بابا !

لوحت بكفها وهي ترمقه بنظرات مطولة أخيرة قبل أن تضيف :
-أشوفك على خير !

شعر عوض بإنقباضة قوية في صدره وهو يرى وجه إبنته البريء ، ونظراتها النقية ، وكأنها تودعه للمرة الأخيرة .. واستشعر وجود خطب ما سيء ، فهمس متضرعاً :
-ربنا يسترها معاكي يا بنتي .......................................... !!


إعدادات القراءة


لون الخلفية