الجزء 36
الفصل الســادس والعشرون :
عند العيادة النسائية ،،،
أوقف السائق السيارة الجيب أمـــام مدخل عيادة الطبيبة بارسينيا ، ثم ترجل عدي منها ، وفتح الباب الخلفي ، ومرر جسده للداخل ليتمكن من حمــل تقى ، وعاونته ليـــان في إسنادها ، فأشــار لها بعينيه قائلاً بجدية :
-سبيها ، أنا ماسكها كويس
هزت رأسها إيجاباً وهي تهمس بنعومة :
-اوكي
اتجه عدي نحو درجــات المدخل ، وصعد عليه بحرص شديد ، ودلف إلى الداخل ولحقت به ليـــان دون تردد ..
رأتهما الطبيبة بارسينيا ، فركضت نحوهما ولوحت لمساعديها بيدها وهي تهتف بجدية :
-هاتوا المدام بسرعة على أوضة الكشف
ثم تسائلت بقلق وهي تتفحص وجه تقى ورسغها :
-حصلها إيه ؟
أجابها عدي بصوت لاهث :
-احنا مش عارفين
أردفت الطبيبة بارسينيا قائلة بتجهم :
-يا جماعة مش أنا منبهة أكتر من مرة تاخدوا بالكم منها كويس ، وتبعدوها عن أي جو فيه توتر أو ضغط نفسي لأنه ممكن يأثر عليها وتخليها تفقد الجنين !
شهقت ليان بصدمة وهي تضع كفيها على فمها :
-ايه ، لألأ !
نظر عدي نحوها بقلق ، ثم عـــاود التحديق في بارسينيا ، وأضاف بنبرة يشوبها التوتر :
-هي لما هاتفوق أكيد هاتحكي عن اللي حصل !
مطت ثغرها وهي تقول بحذر :
-عامةً أنا هافحصها حالاً ، ولما تفوق نتكلم !
أحضـــرت ممرضة مــا الـ ( ناقلة ) الطبية ، ومدد عدي تقى عليها ، ثم فردت ممرضة أخـــرى ملاءة نظيفة عليها لتغطي جسدها ، ودفعتها الاثنتين نحو غرفة جانبية .. ولحق بهم عدي وليــان ، ولكن أشـــارت الطبيبة بارسينيا بكفها لهما قائلة بإعتراض :
-هستأذنكم تنتظروا هنا شوية !
تنهد عدي بإنهاك وهو يهز رأســـه موافقا :
-طيب
أصرت ليان على الدخـــول ، فهتفت متذمرة :
-بس أنا عاوزة أطمن عليها وأشوف حالة البيبي
ردت عليها الطبيبة بنبرة جــادة ووجهها يكسوه تعابير جامدة :
-أنا هاطمنك ، بس رجاء انتظري
أضــاف عدي بحذر وهو يضع كفه على كتفها :
-اسمعي الكلام يا ليان !
ضغطت ليان على شفتيها قائلة بإستسلام وهي تزيح كفه عنها:
-اوكي
اختفت الطبيبة بالداخل ، وتراجعت ليـــان نحو المقاعد المعدنية الموضوعة على الجانب لتجلس على أحدهم ..
ضمت هي أصابع يدها معاً وتنهدت بحزن ، وأخفضت رأسها للأسفل فإنسابت خصلاتها على جانب وجهها لتشكل حجبابً بينها وبينه ، وظلت تهز ساقيها بعصبية واضحة عليها ..
راقبها عدي بشغف ظاهر في عينيه ، كم ود أن يحتضنها ويربت على ظهرها بقوة فيبث إليها شعور الآمــان .. ولكنه عجز عن فعل هذا .. فأغمض عينيه يائساً ، وآثـــر البقاء في مكانه حتى لا يزعجها بقربه فتنفر منه ..
.........................................
عند المستوصف الشعبي ،،،
قست عيني أوس بشـــدة بعد إستماعه لتلك المصارحة المقيتة بين الأختين ، وأدرك من خلالها مدى بشاعة تصرفات فردوس كــأم تلقي بإبنتها في هوة سحيقة مدعية خوفها عليها وحمايتها الزائفة من بطش أبيه مقارنةً بوالدتها التي تكافح للحصول على رضائه ومغفرته ..
ما لم يعلمه أيضاً هو مقايضتها لحياة ابنه بمبلغ نقدي ..
كذلك استشعر لأول مرة صدق مشاعر والدته ، وعدم حنقه عليها كما إعتــاد أن يظن فيها .. فإرتبك من تلك المشاعر الغريبة التي أصابته بالحيرة والتخبط ...
شــــرد مع نفسه ليفكر ملياً في عدة قرارات مصيرية ستضع جميع الأمـــور في نصابها الصحيح .. ولكن قطع تفكيره المتعمق والمشحون صوت أحد أفراد حراسته الخاصة وهو يســأله بهدوء :
-هانعمل ايه يا باشا ؟
انتبه له أوس ، وحدق فيه بنظرات فارغة ، وهتف بجمود وهو يشير بإصبعه :
-عاوز حراسة تطلع مع الست دي وماتسبهاش للحظة لحد ما أجيلها بنفسي
هز الحارس الأمني رأسه قائلاً بخنوع :
-تمام معاليك !
بحث بعينيه عن تهاني فلم يجدها واقفة ، فشردت عينيه عفوياً بحثاً عنها ، ولكنه قــاوم ذلك الشعور ..
استمع الجميع إلى صوت صافرات سيارات الشرطة ، فإستدار أوس برأســـه للخلف ، وتابع بجدية صارمة وهو يحدث باقي رجـــاله :
-كلكو تيجوا معايا ، هانمشي من هنا حالاً !
رتب أوس أولويـــاته على حسب أهميتها ، ووضع على قمة القائمة الذهاب فوراً إلى العيادة النسائية للإطمئنان على تقى وحالة الجنين ....
........................................
ســــارت تهاني هائمة على وجهها وهي تجر أذيال الخيبة وراء ظهرها لاعنة الظروف القهرية التي تفسد كل فرصـــة لإصلاح ما مضى ..
لم تمنع نفسها من البكاء أمـــام المارة ، ولا من التحسر على حالها بعبارات مبهمة ..
شعرت بثقل في ساقيها ، وبعدم قدرتها على المشي ، فألقت بجسدها على أقرب رصيف ، وضربت بكفيها على ركبتيها وهي تهز رأسها بإستنكار واضح ..
رفعت بصرها للســـماء ، وهمست بآسى :
-يا ربي أنا مظلومة ، خد بإيدي وساعدني على اللي أنا فيه ! آآآآه
نكست رأسها في إذلال ، وأسندت كفيها عليه ، وتابعت بكائها المرير ..
اقترب منها عوض ، وأشفق على حالها ، ، ثم استطرد حديثه مواسياً إياها :
-قومي يا ست تهاني ، مالهاش لازمة الأعدة كده
لطمت على رأسها قائلة بحزن مرير :
-آآآآآه .. كل حاجة راحت من إيدي
زم فمه قائلاً بخفوت :
-لا حول ولا قوة إلا بالله ، سبيها على الله وربنا كريم
ردت عليه بإستياء وعينيه مغرورقتان بالعبرات :
-ونعم بالله ، بس .. بس خلاص مافيش أمل ، ولادي راحوا مني وخسرتهم للأبد ! وكله بسبب مراتك
تنهد قائلاً بآســى :
-حسبي الله ونعم الوكيل ، فرطت في أغلى حاجة عندنا ، منها لله ، ضيعت النعمة من ايدها !
صاحت تهاني بنبرة متشنجة وهي تلطم صدرها :
-يا رب خدني وريحني ! هاعيش لمين بعد ولادي ، دول .. دول كانوا الأمل اللي عايشة عشانه !!!
عاتبها عوض قائلاً بهدوء :
-متقوليش كده ، ده مافيش حاجة بعيدة عن ربنا ، ادعيه وهو هيستجيب سبحانه القائل (( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ))
رفعت تهاني بصرها للسماء ، وهمست بتضرع :
-يا رب ! كُن معايا وانصرني .. يا رب .. اكشف الحقيقة واظهر براءتي قدام ابني !
هــز رأســه قائلاً بنبرة شبه فاترة ووجهه يكسوه الحزن :
-أمييين ، يالا ، قومي ، خلينا نرجع البيت ، معدتش في حاجة مستاهلة نقعد عشانها !
هزت رأسها مستسلمة ، وإستندت على مرفقيها لتنهض عن الرصيف ، وســـارت بخطوات متمهلة خلف العم عوض نحو أحد الأزقـــة الجانبية والمؤدية لمدخل الحــارة ولكن أوقفهما صوت رجل ما قائلاً بقوة :
-يا مـــدام !
إلتفتت تهاني برأسها للخلف ، وضيقت عينيها وهي تســأله بإستغراب :
-انت عاوزني ؟
دققت النظر في ملامحه حينما اقترب منها ، وأدركت أنه أحد رجــال الحراسة الخاصة بإبنها ، فســألته بخوف :
-في حاجة تانية حصلت ؟
أجابها الحارس بنبرة رسمية :
-لا يا مدام ، بس أنا جاي أسلم حضرتك الشنطة دي
حدقت هي في الحقيبة التي بحوزته ، واتسعت عينيها بصدمة ، فقد عرفتها على الفور ، إنها تخص إبنتها ليـــان ، والتي كانت تضع بها الأوراق الخاصة بمهاب ....
تابع الحارس الخاص قائلاً بجدية :
-ليان هانم بلغتني قبل ما تمشي مع الباشا عدي إني أوصل الشنطة دي لحضرتك ، وأنا كده مهمتي خلصت
لم يضفْ المزيد ، وأولاها ظهره ليتركها على حالتها المذهولة تلك ..
نظر لها عوض بتعجب ، وسألها بعدم فهم :
-شنطة ايه دي ؟
ردت عليه بإستياء كبير ، وقد تحولت نظراتها للكآبة :
-دي الشنطة اللي خدت مني أخـــر أمل في إن ولادي يرجعولي !
....................................
في العيادة النسائية ،،،،،
لم يبعد عدي عينيه عن ليـــان ، وأرهقه التفكير في حالها ، كما دفعه شوقه للتحرك نحوها والحديث معها .. فرك طرف ذقنه بإصبعيه ، ثم حسم أمره ، وإستجمع شجاعته ، وســار ببطء في اتجاهها حتى وقف قبالتها ، فإبتلع ريقه بإرتباك .. وسلط أنظاره عليها ، وهمس لها بتلعثم :
-لـ.. ليان ! أنا آآ.....
لم يكمل عبارته فقد استمع لصوت أنينها المكتوم ، فخفق قلبه هلعاً عليها ، وجثى أمامها ، ثم أحــاط وجهها بكفيه ورفعه إليه ، وسألها بتلهف وهو محدق بها بخوف :
-مالك ؟ في ايه ؟ حصلك حاجة ؟!
رفعت عينيها نحوه ، وحدقت فيه بنظراتها الباكية ، وأجابته متسائلة بنبرة مرتجفة :
-هي .. هي تقى ممكن تخسر البيبي ؟
اتسعت مقلتيه مصدوماً ، ومسح عبراتها بأنامله ، وأجابها بقلق :
-مافيش حاجة هاتحصلها ، اهدي انتي بس !
شهقت بخفوت وهي تتابع بصوت متقطع :
-دي .. دي ممكن تموت لو راح منها !
اصطكت أسنـــان ليان ببعضها البعض ، وأصدرت صوتاً خفيضاً من فمها وهي ترتجف بجسدها ..
أخفض عدي يديه ليمسك بكفيها ، فشعر ببرودتهما الشديدة ، وهتف بخــوف أكبر :
-ليان .. انتي .. انتي بتترعشي ؟
ثم فرك كفيها المرتجفين بقبضتيه ليبث فيهما الحرارة ، ونهض من مكانه ليجلس إلى جوارها على المقعد ، وبلا تردد جذبها إلى حضنه ، فإتكــأت هي برأسها على كتفه ..
لف عدي ذراعيه حولها ، وضمها بقوة وشوق إليه ، وأسند طرف ذقنه على رأسها ، بينما بكت هي بحرارة أحسها على صدره .. فرفع يده على شعرها ، ومسد عليه قائلاً بصوت رخيم بعد أن أغمض عينيه أسفا ً:
-متخافيش يا ليان ، كل حاجة هاتبقى تمام !
وكــأن كلماته كانت كالمهديء بالنسبة لها ، فإستكانت إلى حد ما معه ..
تنهد عدي مطولاً وهو يقبلها من أعلى رأسها .. فأحست هي بدفيء حضنه ، وبنوع من الراحة والسكينة معه ..
...................................
وصـــل أوس إلى العيادة ، ونظر حوله بتلهف باحثاً عن تقى ، فوقعت عينيه على رفيقه وهو يحتضن شقيقته الصغرى ، فصـــاح بهما :
-عدي ، ليـــان ! فين تقى ؟
أرخى عدي ذراعيه عن زوجته ، ورفع رأسه نحوه ثم نهض من على المقعد ، و أجابه بجدية رغم الإرتباك البادي عليه :
-هي .. هي جوا ! معاها الدكتورة بارسينيا !
هبت ليـــان هي الأخــرى واقفة من مكانها ، فأصابها دوار مفاجيء ، فترنحت قليلاً ، ووضعت إصبعها على مقدمة جبينها ، فأسندها عدي بذراعه ، وسألها متوجساً :
-ليان انتي بخير ؟
ردت عليه بخفوت وهي تهز رأسها بخفة :
-ايوه
اقترب منها أوس ، ولف كفه حول مؤخرة عنقها ، وهمس لها بإنزعاج :
-في حاجة تعباكي ؟
ردت عليه بصوت خفيض :
-أنا بخير ، صدقوني ، بس تلاقيني دوخت من المجهود !
أردف عدي قائلاً بجدية :
-اقعدي يا ليان ، متقفيش الوقتي !
ثم أجلسها عنوة على المقعد ، وفرك كتفيها بقبضتيه ..
تسائل أوس بخوف واضح في نظراته :
-مافيش أخبار عن تقى ؟ الدكتورة مقالتش حاجة تطمنكم ؟
هـــز عدي رأسه نافياً وهو يجيبه بصوت خافت :
-لأ لســه ، احنا مستنينها تخرج من جوا
ازدرد أوس ريقـــه بتوتر كبير ، ومرر أصابع يده في خصلات شعره ، ثم تحرك بعصبية حول نفسه ..
ســأله عدي بإهتمام وهو محدق به :
-إنت عملت ايه ؟
تنهد أوس بتعب مجيباً إياه بإيجاز :
-بعدين هاحكيلك
تذكر أوس وهو في قمة إنشغاله بزوجته ما حدث مع أخته من إستدراجها للقصر لسرقة أوراق هامة من غرفة أبيه .. فإقترب منها ، وأمسك بكف يدها ، وسألها بخوف وهو يطالعها بنظرات قلقة :
-ليان ، قوليلي حصلك حاجة وإنتي في القصر ؟ حد آذاكي هناك ؟
رفعت عينيها في عينيه ، وحدقت فيه مصدومة وهي تسأله بتلعثم :
-هو .. هو.. إنت عرفت باللي عملته ؟
قطب عدي جبينه متسائلاً بعدم فهم :
-هو في ايه ؟
تجاهله أوس ، وظل محدقاً بشقيقته الصغرى ، ورد عليها معاتباً :
-أيوه عرفت ، ومكانش لازم تروحي هناك أبداً ، إنتي بكده بتأذيكي نفسك
ردت عليه معترضة :
-لأ .. مش هاينفع أسيب مامي من غير ما أجيب حقها !
إستأنف أوس حديثه بنبرة أكثر جدية وقد ضاقت نظراته :
-انت عارفة كان ممكن يحصلك إيه بسبب تهورها ؟!!!
وقف عدي كالمتفرج الصامت ولم يقاطع حديثهما .. ولكن اصطبغت بشرته بحمرة غاضبة ...
تنهدت ليان بخفوت ، وتابعت مدافعة بإصرار :
-هي مكانتش راضية خالص ، ومنعتني ، بس أنا كنت عاوزة أوصل للحقيقة وأساعدها بعد كل اللي عرفته
تأمل أوس وجهها بدقـــة ، وسألها بنبرة جادة وهو يضغط على شفتيه :
-هي قالتلك ايه بالظبط ؟؟
أخذت نفساً عميقاً ، وزفرته على مهل ، ثم أجابته بحذر :
-مامي مش خبت عني حاجة
لمعت عيني أوس ، وظهر فيهما بريق غريب .. فتابعت ليان حديثها بصوت رقيق :
-وعلى فكرة هي بتحبك أوي ، ومش وحشة زي ناس كنا مفكرينهم أهلنا
إلتوى فمه ليبتسم بتهكم ، ثم مسح على وجنتها بكفه ، وحدق فيها بنظرات غامضة ، وقال مبتسماً :
-ليان انتي صغيرة وعواطفك هي اللي بتتحكم فيكي
حركت رأسها معترضة ، وأردفت مدافعة عنها بثقة :
-لأ يا أوس ، عمري ما هانسى احساسي بالأمان وأنا في حضنها ، ولا نظرات الخوف اللي في عينيها عليا !
استشاط عدي غضباً من عدم إستطاعته فهم ما يدور ، وخاصة حينما تلمس من الكلمات المقتضبة وجود خطر ما متعلق بزوجته ليان ، فصــاح محتجاً بنبرة شبه غاضبة :
-حصل ايه يا أوس ماتسبنيش زي الأطرش في الزفة كده !
إعتدل أوس في وقفته ، ونظر له بغموض ، ثم ربت على كتفه وهز رأسه قائلاً بإقتضاب :
-هاقولك بعدين
إرتفعت نبرة صوت عدي قليلاً وهو يهتف بـ :
-هي مش مراتي برضوه ؟!
رد عليه أو س بهدوء حذر :
-أنا عارف ، بس الموضوع ده مكانه آآ....
لم يكمل الأخير جملته حيث خرجت الطبيبة بارسينيا من الداخل وعلى ثغرها ابتسامة مطمئنة .. فركض أوس نحوها ، وسألها بتلهف :
-تقى عاملة ايه الوقتي ؟
وقف إلى جواره كلاً من عدي وليـــان ، وبدى عليهما الترقب والإهتمام كثيراً لمعرفة أحوالها ..
أشــارت لهم بارسينيا بكفها وهي تجيب قائلة بإبتسامة ودودة :
-هي أحسن دلوقتي ، وبدأت تفوق من المخدر !
اتسعت مقلتي أوس بغضب جلي وهو يردد بشراسة :
-مخـــدر !
بررت بارسينيا قائلة بهدوء وهي توزع نظراتها بينهم :
-ايوه ، كانت أخدة نسبة بسيطة رغم إن احنا محذرين ممنوع أي مواد مخدرة خلال الشهور الأولى من الحمل عشان ميأثرش على الجنين
كــــز أوس على أسنانه بشراسة ، وكور قبضة يده بغضب ، وهمس لاعناً بصوت محتقن للغاية :
-ابن الـ **** !
تابعت الطبيبة قائلة بنبرة مهذبة :
-عموماً هو الموضوع مش خطير ، بس بأكد تاني على إنكم تبعدوا المدام عن أي ضغوط نفسية !
تسائل أوس بتلهف :
-ينفع أشوفها ؟
هزت رأسها موافقة وهي تجيبه بهدوء :
-أكيد ، بس مافيش داعي كلكم مرة واحدة
ربت عدي على كتف رفيقه ، وضغط على شفتيه قائلاً بنبرة هادئة :
-خش إنت يا أوس شوف مراتك واطمن عليها ، وأنا هستناك هنا مع ليـــان
نظر له أوس ممتناً قبل أن يندفع بتلهف نحو الداخـــل ...
.......................................
في المشفى حكومي ،،،
تحركت سيــــارة الإسعاف التي تقل فردوس إلى أقرب مشفى حكومي عـــام ، وتم إيداعها في غرفة الطواريء لتلقي العلاج اللازم بعد تلك الضربة القوية التي تلقتها على رأسها ..
لم تكف هي عن البكاء ولا عن النحيب طــوال الطريق ..
آلمتها كلمات أختها الموجعة ، فأشعرتها بحقارتها ، ودناءتها ..
خشيت أن تخبرها أنها تلقت أمـــوالاً نظير القيام بتلك الجريمة النكراء حتى لا تنبذهــا للأبد .. وفضلت أن تخفي الأمر تماماً عن الجميع ....
انتهى طبيب الطواريء من خياطة جرحها الغائر ، وضمده مرة أخــرى ، ثم أشــار لممرضة مرافقة له للتصرف معها بعد أن حدثها بلهجة منزعجة ..
أسندت الممرضة فردوس بعد أن أنزلتها عن الفراش لتخرج بها إلى الإستقبال .. فأصــاب الأخيرة صداعاً هائلاً .. وشعرت بإزدواجية الرؤية وهي تحاول التطلع أمامها ، فضيقت عينيها وهي تكتم آلامها ...
سألت تلك الممرضــة فردوس بنبرة ممتعضة وهي تُجلسها على مقعد قديم بالخـــارج :
-انتي يا ست مالكيش أهل ، أو حد يدفعلك تمن التذكرة ؟
أجابتها بصوت واهن وهي تتأوه من الآلم :
-هـــه ! لأ موجودين ، تـ.. تلاقيهم بس آآ...
قاطعتها الممرضة قائلة بإزدراء :
-بصي انا مش هاقدر أدخلك العنبر جوا إلا لما حد يدفعلك الفلوس ، دي أوامر مدير المستشفى ، والدكتور كتر خيره يخيطلك الجرح عشان يوقف النزيف ، لكن غير كده ميقدرش يعملك حاجة زيادة
نظرت لها فردوس بذهول رغم إهتزاز صورتها أمامها ، وسألتها معترضة :
-ايه اللي بتقوليه ده ؟ مش انتو دكاترة ودي مستشفى ؟
ردت عليها الممرضة بجمود :
-ايوه ، بس النظام هنا غير !
تجهم وجـــه فردوس ، وصاحت بسخط :
-حرام عليكم مافيش في قلبكم شوية رحمة للي زيي !!
تابعت الممرضة ببرود مستفز وهي تلوح بيدها :
-دي الأوامر ، المستشفى كل يوم بتدغدغ بسبب الخناقات وأهالي المصابين اللي مش بيعجبهم العجب ، ومحدش بيدفع مليم واحد ، وبنلبس احنا في تمن الإصلاحات ، فمدير المستشفى منبه اللي يقعد هنا يكون دافع ، غير كده يبقى بالسلامة
أغمضت فردوس عينيها متآلمة ، وتحسست رأسها بحذر ، ثم استطردت قائلة بتهكم :
-هو ... هو أنا كان معايا وقولت لأ .. شوية بس وحد من أهلي يجي وآآ...
قاطعتها الممرضة بجمود :
-أديني سيباكي أعدة هنا لحد ما يظهرلك قريب ، بس لو مجاش حد متأخذنيش هاتطلعي برا!
هزت فردوس رأسها مستنكرة ، وغمغمت وهي تئن بتحسر :
-آآآه يا مين يساعدني !
زاد إحساسها بصعوبة الرؤية ، فنكست رأسها للأسفل ، وحدثت نفسها بآلم :
-آآآه ، هو أنا ناقصة الزغللة دي كمان !
......................................
في العيادة النسائية ،،،،
ولج أوس إلى داخـــل غرفة الكشف ، ودقـــات قلبه تكاد تخترق أذنيه من فرط الخوف والتوتر ..
تسارعت أنفاسه ، ونهج صدره علواً وهبوطاً وهو يبحث بعينيه عن تقى ..
لمح ذلك الحائل القماشي في أحد الزوايا والذي يحجب ورائه فراشاً طبياً ، فإزدرد ريقه بقلق واضح ...
بخطوات ثابتة وثقيلة ســـار في إتجاه الحائل .. ثم رفع يده ليزيحه للجانب ، ومن ثَم أطــل برأسه لتقع عينيه عليها ..
مرر نظراته رويداً رويداً على جسدها حتى وصــل إلى وجهها الذي يشتاقه ..
لمعت عينيه بسعادة حقيقية ، وإرتسمت إبتسامة مشرقــة على ثغره حينما رأى ملامح وجهها هادئة ..
دنا منها أكثر ، ومــد كفه ليمسك بيدها .. فتحسس أصابعها بإبهامه ، ثم انحنى عليها بجذعــه ، وبيده الأخــرى مسح على جبينها برقــة ..
همس لها بنبرة متريثة رغم تلهفه :
-تقــى .. حبيبتي ! أنا .. هنا جمبك !
حركت جفنيها المغمضين بحركة شبه عصبية .. فإبتسم أكثر ،
ثم مـــال برأسه أكثر عليها ، و طبع قبلة حــــارة على ما بين حاجبيها ، وتابع هامساً بإشتياق:
-ماتبعديش عني تاني !
أبعد رأســـه تدريجياً عنها ، ولكنه ظل يتأملها بنظرات والهة عاشقة لها ..
جلس على طرف الفراش إلى جوارها ، والتقط كفيها بكفيه ، وفركهما بنعومة ، ثم سحب يده ليضعها في جيبه ، وأخــرج منها فردة الحذاء الصغيرة ، ووضعها في راحة يدها ، وأغلقها عليها بأصابعه بحرص .. ثم رفع كفها إلى فمه ليقبله وهو يقول بصوت خافت للغاية :
-انتو الاتنين أغلى ما عندي ، ومش هاسمح لحاجة تأذيكم ، ولا حد يقرب منكم أو يبعدكم عني !
فتحت تقى عينيها بتثاقل ، ورمشت عدة مرات لتعتاد على الإضــاءة ، ثم حركت رأسها قليلاً لتجد أوس يطالعها بنظرات مطمئنة ، فظلت شــاردة لبرهة محاولة تذكر ما حدث ، فعبس وجهها ، وزاغت أنظارها بخوف بعدما هاجمها سيل من ومضات سريعة مما تعرضت له ، فإتسعت مقلتيها بذعـــر واضح ، وشهقت قائلة بنبرة مرتجفة وهي تهز رأسها بعصبية :
-مـ.. معرفتش أبعده ، هياخد ابني مني ، مـ.. ماما آآ.. هي قالتلي هانزور واحدة غلبانة ، بس مكنش فيه إلا هو وآآ.. وكان آآ...
لف أوس ذراعيه حولها ، وجذبها ناحيته ، ليضمها إلى صدره ، وقاطعها ضاغطاً على شفتيه بقوة محاولاً السيطرة عليها :
-ششششش .. اهدي يا تقى ، مافيش حاجة حصلت !
دفنت رأسها في صدره ، وبكت برعب وهي تتابع بصوت متشنج ومتقطع :
-صدقتها .. وهي .. وهي كانت آآ...
مسح أوس على ظهرها بكفيه محاولاً طمئنتها ، بينما احتقن وجهه من شدة الغيظ ، وأطلقت عينيه شرراً مستطراً ، ولكنه جاهـــد ليسيطر على غضبه ، وهمس لها بصوت شبه هاديء :
-متفكريش في اللي حصل ، انتي كويسة ، وابننا بخير !
تابعت متسائلة بصدمة واضحة :
-طب ليه ؟ ده .. ده أنا .. كنت مستعدية أموت عشانها ، وآآ..وأعمل أي حاجة ترضيها وآآ....
قاطعها بنبرة متآلمة ومواسية ، وهو يضغط على رأسها بذقنه :
-انسي يا تقى ، متفكريش فيها يا حبيبتي ، أنا هنا معاكي !
تشنج صوتها وهي تهمس بتلعثم :
-دي ..دي أمي ، يعني آآآ...
احتضن أوس وجهها براحتيه بعد أن أرجعه للخلف ، وقاطعها قائلاً بإبتسامة باهتة :
-خلاص يا حبيبتي !
نظر لها مطولاً ، ومسح بأصبعيه عبراتها الدافئة المنهمرة على وجنتيها ، وأردف قائلاً بحماس محاولاً صرف تفكيرها عما صــار معها :
-شوفي ايدك فيها ايه !
أخفضت عينيها وهي تنظر إلى ما وضعه في كفها ، ففغرت ثغرها مصدومة ، وتحسست حذاء الرضيع .. وإرتجفت شفتيها وهي تحاول النطق ..
فبادلها بإبتسامة عذبة وهو يهمس لها بحنو :
-كل حاجة هتبقى تمام
ردت عليه بحرج وهي تعبث بالحذاء الصغير بأناملها :
-أنا.. أنا سبت بتاعتي في البيت عند بابا
قاطعها بجدية قبل أن تكمل عبارتها فتنخرط في الأحزان التي لا تنتهي :
-هاجيبهالك !
توردت وجنتيها وهي تهمس بتلعثم وبصوت خفيض للغاية :
-مـ.. موبايلي كمان ضــاع في الـ .. الـ آآ...
قاطعها بوضع إصبعه على شفتيها مردداً بجدية :
-مش مهم ، أنا هاشتريلك غيره
رسم على ثغره إبتسامة متحمسة وهو يضيف:
-تعرفي النهاردة عملت ايه مع عوض .. آآ.. قصدي أبوكي ؟
نظرت له بإهتمام وقد استحوذ حديثه على انتباهها ..
أكمــل بإبتسامة ودودة :
-خدني للجامع ، وقابلت شيخ فيه ، زي ما يكون كان مستنيني أجيله ، ولأول مرة في حياتي خلاني أجرب أصلي !
رمشت بعينيها وهي مصغية لما يقول وعلى ثغرها ابتسامة هادئة .. بينما إستأنف حديثه بعد أن تنهد بعمق :
-احساس رهيب حسيت إنه بيسيطر عليا ، حاجة كده مش عارفة أوصفها .. بس .. بس ارتحت كتير بعدها
طالعته بنظرات ممعنة وهي تراقب حديثه عمــا فعله ، في حين أشــار هو بكفه وهو يقول بنبرة مليئة بالشجن :
-أنا عملت ذنوب كتير في حياتي وماندمتش عليها ..لـ .. لدرجة إني مابقتش فاكر امتى عملت خير !
صمت لثانية قبل أن يكمل بإبتسامة :
-بس .. انتي أول حد غيرتي فيا من غير ما تحسي لحد ما بقيت على ايدك مجنون تقى !
شعرت بالإطراء من كلماته الأخيرة .. فتحمس ليضيف :
-عارفة يا تقى ، لما نعدي اللي احنا فيه ده هاخدك على آآ....
-حمدلله على سلامتك يا مدام تقى
قالتها الطبيبة بارسينيا بصوت مرتفع نسبياً مقاطعها حديثهما الخاص وهي تتجه نحوهما بخطى سريعة ..
نهض أوس عن الفراش ، وسلط أنظاره عليها ، بينما تابعت الأخيرة قائلة بجدية :
-أتمنى إنك ترتاحي الفترة اللي جاية وتغيري جو على الأقل عشان نفسيتك !
إستدار أوس برأســـه للخلف ، ورمق تقى بنظرات مطولة تعكس القليل مما يشعر به نحوها ، وتشدق قائلاً بثقة :
-أنا بنفسي هتأكد من ده !
دلف إلى الغرفة ليــان ومن خلفها عــدي ، فهز الأخير كتفيه في حيرة وهو يقول بإستسلام :
-مرضيتش تستنى اكتر من كده برا
أســرعت ليـــان ناحية تقى ، ولفت ذراعيها حولها وإحتضنتها بتلهف واضح ، وأسندت رأسها على كتفها ، وسألتها بقلق :
-انتي كويسة ؟ البيبي تمام ؟
ربتت تقى على ظهرها ، وردت بإيجاز وهي تطالع أوس بنظراتها الناعمة :
-ايوه
تراجعت ليـــان للخلف ، وبكت فرحاً وهي تهتف بحماس :
-يـــاه ، أنا كنت خايفة أوي عليكي وعليه
استغربت تقى من حالتها ، وسألتها متعجبة :
-انتي بتعيطي
مسحت ليــان عبراتها بظهر كفها ، وضحكت وهي تجيبها بخجل :
-باين كده !
وقف أوس قبالة عــدي ، وأخفض نبرة صوته وهو يحدثه بجدية :
-عاوزك تاخد تقى وليان على البيت عندي وتفضل معاهم ، وتجيب معاك حراسة كتير تأمنهم
سـأله عدي بتوجس وهو محدق به بنظرات حادة :
-إنت ناوي على ايه ؟
رد عليه بإقتضاب وقد أصبحت ملامح وجهه صارمة للغاية :
-بعدين هاتعرف
أمسك عدي به من ذراعه ، وضغط عليه بأصابعه قائلاً بتحذير :
-أوس ، بلاش تتهور ، اهدى واتصرف بالعقل !
رد عليه أوس ببرود قاتل ، وقد تحولت نظراته للقتامة والظلمة :
-أنا لو مكنش فيا عقل كنت عملت جنايات قتل كتير ، بس لحد الوقتي أنا ماسك نفسي !
اضطرب عدي كثيراً ، وتيقن أن رفيقه على وشك التهور وبشراســـة ، فهتف محتجاً بخفوت :
-انت .. انت لو آآ..
قاطعه أوس بصرامة أشــد وهو يرفع رأســـه للأعلى بعنجهية :
-خلاص يا عدي ، نفذ اللي قولت عليه ، وسيبني أتصرف بطريقة أوس الجندي !
رد عليه عدي بتوجس كبير وهو يبتلع ريقه :
-ويا خوفي من طريقتك ................................. !!!