الجزء 22

الفصل الســــادس عشـــر ( الجزء الأول ) :

في منزل عبد الحق بالزقــاق الشعبي ،،،

دست إحســـان يدها في جانب الأريكة ، وسحبت منه عبوة بلاستيكية صغيرة مجهولة الهوية وغير متضح معالمها ، ومدت بها يدها نحو ابنها وهي تقول بلؤم :
-خد الوصفة دي ياض

تناولها منها عبد الحق ، ونظر لها متفحصاً إياها وهو يديرها بأصابعه ، وتسائل بفضول :
-وصفة إيه دي ؟!

أجابته بنبرة واثقة وعينيها تلمعان ببريق مخيف :
-دي ياخويا كريم أبصر ايه معمول من الأعشاب الطبيعية ، حاجة لزوم السعادة الزوجية

فغر فمه بإستغراب :
-هــاه !

بينما تابعت بجدية وهي تربت على فخذه :
-وكل اللي جربها ربنا كرمه !

سألها مستفهماً وهي قاطب جبينه :
-ودي مين قالك عليها ؟

أجابته بمكر وهي تضيق عينيها :
-الولية أم نجاح الداية ، وجايبها من واحد مخصوص بيعملها بس للي عاوز !

إزدرد ريقه وهو يسألها بإهتمام :
-هــــاه ، ودي .. دي آآ.. مضمونة ؟

لوحت بيدها وهي تجيبه بتفاخر :
-إلا مضمونة ، دي متجربة ، وجابت نتيجة مع نسوان كتار

حك طرف ذقنه ، وتسائل بفضول أكبر وهو يدقق النظر في العبوة :
-وآآ.. ودي استخدمها ازاي ؟

إلتوى ثغرها وهي تردد بهمس :
-انت تدعك بيها ايدك كويس قبل ما تخش على مراتك ، والمحروسة تدهن بيه جسمها من تحت ، وآآ.. وهتدعيلي !

مسح عبد الحق طرف أنفه ، وفكر للحظة في محتويات تلك العبوة ، وما قد تسببه من أضرار لزوجته .. خاصة أنه يتوقع سوء نية والدته ، لذا ضيق عينيه بشدة متسائلاً بقلق :
-انتي متأكدة يامه إنها مش بتعمل مشاكل ؟

صاحت به إحســـان بصوت شبه متعصب :
-يا واد بأقولك وصفة طبيعية من الأعشاب ، ومن الطب النبوي

ثم مدت يدها لتختطف منه العبوة وهي تضيف بضيق زائف :
-ولو مش مصدق هاتها ، خسارة فيك وفيها

أبعدها عن يد والدته ، وهتف بإصرار :
-خلاص يامه ، هاخدها !

تقوس فمها بإبتسامة مخيفة ، وهمست بشماتة :
-جربها ، وأنا أوعدك مش هاتندم

ابتلع ريقه وهو يرد عليها بإيجاز :
-ربنا يستر !
.......................................

في منزل تقى عوض الله ،،،،

حدج مهاب الجندي فردوس بنظرات جـــارجة وهو يقف على عتبة منزلها مردداً بصلابة :
-انتي فردوس ؟

أجابته بتلعثم وهي تهز رأسها إيجاباً :
-اه ، أنا ! إنت .. إنت بقى مين ؟

أكمل مهاب حديثه بغموض دون أن تطرف عينيه القاسيتين :
-أنا مهاب الجندي ، طليق تهاني أختك ، أكيد سمعتي عني !

شهقت بصدمة وهي جاحظة العينين :
-هـــــاه ، إنت أبو آآ...

قاطعها بصوت قاسي ونظراته القاتمة تتأملها بإحتقار :
-أيوه ، وأبو أوس الجندي ، غني عن التعريف طبعاً !

توقف للحظة ليكمل بعدها بصوت جـــاد يحمل الغموض :
-و جايلك انتي وبس ، ولمصلحتك تسمعيني ، ده لو عاوزة تستفيدي !

أثارت تلك الكلمات المقتضبة إهتمامها ، وبدت غير معترضة ، فتابع قائلاً بهدوء :
-ها ينفع نتكلم هنا ولا ..آآ

إشــرأب بعنقه للأعلى ليضيف بحذر :
-ولا في حد تاني معاكي ؟

إزدردت ريقها بتوتر وهي تهز رأسها نافية ..

لا إرادياً تنحت جانباً .. وأفسحت له المجــال ليمر ، فقد إستشعرت وجود شيء ما سوف تستفيد منه ، خاصة وأنه يقصدها هي فقط ...
خطى مهاب للداخل وهو ينظر حوله بإحتقار ، فالمكان لا يليق بمستواه الراقي ، ولا بمكانته المرموقة في المجتمع .. فبالنسبة له هذا المنزل المتواضع ما هو إلا بالوعة تجتمع فيها القاذورات .. ولكنه كان مضطراً للمجيء إلى هنا من أجل إنهــاء كل المشاكل العالقة كما إعتاد أن يفعل بنفسه ..

أغلقت فردوس الباب بهدوء بعد أن تطلعت بعينيها للخــارج بتتأكد من عدم متابعة أي أحد لها من الجيران .. ثم إستدارت لتنظر ناحيته وتسائلت بتوتر :
-إنت .. انت عاوز مني ايه ؟

زم فمـــه ليبدو التأفف واضحاً على تعابيره الجامدة ، وأجابها بتريث :
-مليون جنية ليكي انتي وبس لو نفذتي اللي هاطلبه منك بالحرف !

إنفرجت شفتيها في عدم تصديق وهي تردد بتلعثم :
-هــــاه .. مليون جنية

أومــأ برأســـه وهو يجيبها بثقة موجزة :
-ايوه

تداخلت أفكارها ، واضطربت بعد سمــاع هذا المبلغ الضخم .. فســألته مستفهمة :
-بتوع ايه دول ؟ وعشان ايه ؟ واشمعنى أنا وآآ...

رفع يده أمام وجهها ليخرسها عمداً ، وقائلاً بصرامة :
-ششش .. هافهمك كل حاجة ، بس بشرط ، لو وافقتي هتتفتحلك أبواب السعادة والهنا ، وهاتشوفي اللي عمرك ماشوفتيه معايا

اقترب منها خطوة واحدة ليضيف بتهديد جامح :
-أما إذا رفضتي ، وده حقك طبعاً ، إستعدي للجحيم اللي عيلتك هاتشوفه !

ابتلعت ريقها بخوف ،ورمشت بعينيها وهي تردد :
-هـــاه ، إنت آ..

أردف قائلاً بشراســــة وهو يحدجها بنظراته الجارحة :
-انتي بإيدك تختاري !

اضطربت وهي تســأله بحيرة :
-وطلباتك دي ايه ؟

تقوس فمه بإبتسامة شيطانية وهو يجيبها :
-هو طلب واحد بس !

سألته بقلق وهي محدقة به :
-ايه هو ؟

صمت لبرهـــة ، ومن ثم أجابها بصوت قاتم :
-بنتك تجهض اللي في بطنها

إتسعت عينيها رعبت ، وشهقت بإسمها بفزع :
-تقـــى !!

إستأنف حديثه بمكر وقد برقت عينيه ببريق شرس :
-ايوه ، وهتاخدي مليون جنية لو نفذتي ده .. شوفي بقى لما يكون معاكي الفلوس دي كلها هاتعملي ايه بيها !

تقطع صوتها وهي ترد عليه :
-بس .. بس ده ضناها وآآ..

أولاها ظهره ، ودس يده في جيب بنطاله ، وقاطعها ببرود قاسي :
-كده كده هي مش هتولد أًصلاً ، فتجهض على ايدك انتي أحسن ما تجهض على ايدي وتخسري بنتك خالص ، والفلوس وكل حاجة !!!

سألته بحدة زائفة وهي تتابعه بنظراته المرتعدة :
-ده تهديد ؟

أدار رأســه في إتجاهها ، وأجابها بعدم إكتراث وهو يهز كتفيه :
-سميه تهديد ، إتفاق ، مش هاتفرق ، المهم تفكري وتختاري !

زادت حيرتها وخوفها على حياة ابنتها ، وأدركت مدى الخطر المحدق بها ، فحاولت أن تستفهم أكثر منه ، ولكن عجزت الكلمات عن الخروج من فمها .. فمن يقف أمامها ليس بشخص عادي، وإنما شيطان تجسد في هيئة بشري ..
جف حلقها وهي تجاهد للحديث بـ :
-أنا .. أنا

إتجه ناحية الباب ، وأشـــار بيده وهو يضيف بهدوء قاتل :
-أنا لو خرجت برا باب البيت ده هاعتبر الإتفاق لاغي ، فـقرري الوقتي ، بس اعملي حسابك بنتك مش هايطلع عليها نهار ، هي تحت رحمتي !
-آآ..

راقبها مهاب بتلذذ ، فقد أصـــاب رأيه فيها ، هي امرأة هشة ، لن تتحمل أي ضغط ، وستنهار أمــام تهديداته القوية ..

أخــذ نفساً عميقاً ، وزفره بهدوء وهو يتابع بعدم إكتراث :
-واضح كده إنك مش عاوزة تتفقي ، اعتبري اللي قولناه لاغي ، وآآ...

قاطعته بصوت لاهث وبلا أدني تفكير :
-ماشي .. أنا موافقة !

إلتوى فمه بشدة ، وهتف بإيجاز :
-تمــــام !

ازدردت ريقها بندم ، فقد قايضت جنين ابنتها بحياتها ، وقبلت بالثمن الباهظ الذي عرضه عليها ..
هي وقعت بين خيارين ، واختارت أقلهما ضرراً من وجهة نظرها ، وما سيعود عليها بالنفع في النهاية .. فتلك الزيجة لم يأتي من ورائها إلا المصائب .. والأفضل أن تنتهي أي روابط مع تلك العائلة المتسلطة حتى لو كان الأمـــر على حساب إبنتها ..

خشيت فردوس أن يكون ذلك الرجل يستغل جهلها ، ويدبر لها مكيدة ، فتسائلت بقلق :
-بس .. بس إيه اللي يضمني إنك آآ.. إنك هاتدفع ومش نصباية منك ؟

دس مهاب يده في جيب سترته الداخلي ، وأخــرج ورقاً مطوية منه ، ثم مد ذراعه نحوها ، وتشدق قائلاً :
-ده شيك بنص المبلغ معاكي ، تقدري تصرفيه من النهاردة لو عاوزة !

اختطفت فردوس ( الشيك ) منه ، وحدقت فيه بنظرات مذهولة وهي تعد تلك الأصفار التي تملأ الفراغ به ..
غمغمت بعدم تصديق وهي تقرأ ما دون فيه .. ولكن قطع فرحتها صوت مهاب المهدد :
-بس لو خالفتي الإتفاق يبقى استحملي انتي وبنتك وجوزك اللي هيجرالكم

إرتسم على ثغرها ابتسامة راضية وهي تردد :
-اطمن .. أنا .. أنا عند كلمتي !

سيطرت حالة من الثقة على مهاب بعد أن عقد مع تلك المرأة ( اتفاق الشيطان ) من أجل التخلص ممن أفســدت حياة ابنه ، وأبعدته عنه ..
.....................................

في سيارة أوس الجندي ،،،

جلست تقى في المقعد الخلفي ، وحدقت بالنافذة الملاصقة لها ..
وعلى قدر الإمكان تحاشت النظر إلى أوس الجالس إلى جوارها ، وإستندت بطرف ذقنها على مرفقها ..
كانت السيارة قد تحركت بهما قبل قليل نحو وجهتها .. وتبعت السيارة سيارة حراسة خــاصة لتأمين الحماية لهما ..
تجسد أمـــام مخيلة تقى تلك اللحظة العابرة التي اختطف فيها قبلة منها ..
أغمضت عينيها لتبعد المشهد عن تفكيرها ..
توردت وجنتيها خجلاً .. ودت لو قاومته وإستنكرت فعلته تلك حتى لا يظن بها الظنون ..
لكن ذلك التخبط الذي يشوب مشاعرها يجعلها حائرة ما بين القبول والرفض ..
تنهدت بصوت مسموع ، ومطت شفتيها وهي تضغط عليهما ..

كما تردد في عقلها صدى كلماته الأخيرة عن مقابلة أخته .. تلك الصغيرة التي لم ترها من قبل ، واليوم تلتقي بها كزوجته ..
هي لم تعرف عنها إلا من حديث عفاف عنها حينما أخبرتها بإيجاز بـ ....
.................................................

◘◘◘◘◘ وقفت تقى حائرة أمـــام خزانة ملابسها محاولة إنتقاء ما ترتديه ، فعاونتها المدبرة عفاف في إختيار كنزة طويلة من اللون القرمزي ، وبنطال من الجينز لترتديهما ..
سألتها تقى بإرتباك وهي تنزع ثيابها المنزلية :
-هي.. هي ليان دي حلوة ؟

أجابتها بإبتسامة مشرقة :
-زي القمر

سألتها تقى بإهتمام وهي تعيد رأسها للخلف :
-طب .. طب هي عاملة إزاي ؟ يعني هي بتتعامل مع الناس بأنهي اسلوب وآآ...

قاطعتها عفاف بنبرة مطمئنة :
-متقلقيش منها ، دي دلوعة ، وفرفوشة ، وتتحط على الجرح يطيب !

ثم تنهدت بحزن وهي تتابع بأسف :
-بس حظها وحش ، الدنيا جنت أوي عليها ، وخيبت آمالها ، ربنا يعوض عليها ، ويعينها في اللي هي فيه !

أصغت تقى لما قالته ، وشعرت أنها مرت بمأســـاة ما ، ولكنها لم تحاول التطرق إلى تفاصيل أكثر دقــة ، فما يشغل تفكيرها الآن هو ردة فعلها حول هذه المقابلة الغير متوقعة ..
أغلقت سحاب بنطالها الجينز ، وجلست على طرف الفراش لترتدي حذائها ، وتسائلت بحذر :
-هو احنا هانشوفها فين ؟ أصل آآ.. أوس مقاليش !

ردت عليها عفاف بجدية :
-أكيد في المستشفى

قطبت تقى جبينها بإندهاش ، وحدقت فيها بنظرات حائرة ، وتسائلت بعدم فهم :
-مستشفى ! هي عيانة ؟!

زفرت عفاف بصوت مسموع مكملة بـ :
-يعني .. حاجة زي كده ، ربنا يزيح عنها ◘◘◘◘

.............................................

تنهدت مجدداً بحرارة ، والتوتر يسيطر على تفكيرها بالكامل ، هي تخشى من تلك المقابلة ، فكلتاهما سترى الأخرى لأول مرة .. وبغض النظر عن كونها شقيقة زوجها ، إلا أنها في نفس الوقت ابنة خالتها التي تحبها .. فهل هي الأخرى تعرف تلك الحقيقة أم أنها ستتفاجيء بها ؟

لاحظ أوس شـــرودها ، فإبتسم إبتسامة عذبة وقد خمن إلى حد كبير سببه ..
فإيماءاتها العفوية ، وحركة أصابع كفها المتوترة أكدت له إحساسه .. قربها منها ينعكس عليها بشدة ، ويحد أثراً في نفسها ..
حـــاول أن يخفف حدة إرتباكها بتقديم هدية لها ..
-اتفضلي
قالها أوس وهو يمد يده بعلبة بيضاء مغلفة بشريط ستان أحمـــر ..

نظرت تقى إلى العلبة بإندهاش ، وتسائلت وهي ترفع رأسها في إتجاهه :
-ايه دي ؟

أجابها بإيجاز :
-عشانك !

عضت على شفتها السفلي وهي تهز رأسها معترضة لتقول :
-بس أنا .. أنا مش عاوزة حاجة

إبتسم لها إبتسامة باهتة وهو يرد بجدية :
-مش لازم تعوزي عشان أجيبلك ، دي ليكي !!
-أنا آآ..

تجمدت تعابير وجهه قليلاً ، وبرقت عينيه وهو يقاطعها بصوت آمـــر رغم هدوئه :
-خديها ، دي بالأمر !

إزدردت ريقها بخوف ، وأخذت منه العلبة بيد مرتعشة لتتفقدها ..
كانت العلبة تحتوي على هاتف محمول على أحدث طــراز ..
أخرجته من وضعه ، ورفعته للأعلى لتهتف بإندهاش وهي تتأمله :
-ده ليا ؟

أومـــأ بعينيه وهو يراقبها بإهتمام ، وأجابها بإيجاز :
-أكيد

تدلى كتفيها للأسفل ، وسألته بنزق :
-بس أنا هاعمل بيه ايه ؟

رد عليها بجدية وهو محدق بها :
-تكلمني وأكلمك

فغرت ثغرها ، ورمقته بنظرات متعجبة ، فتابع قائلاً بنبرة متريثة :
-مستغربة ليه ؟ ده الطبيعي ! المفروض يكون معاكي موبايل عشان أما أعوزك أكلمك ، وانتي برضوه كده

بررت موقفها قائلة بفتور :
-بس انا معرفش حد عشان أكلمه عليه ، ومافيش حد في عيلتي معاه موبايل إلا آآ...

خشيت أن تنطق بإسم خالتها فتثير حنق أوس ، فإقتضبت حديثها .. وضغطت على شفتيها بإرتباك ...

جذب أوس المحمول من يدها ، وأدار جسده في إتجاهها ليضيف بجدية مفرطة :
-بصي يا تقى في حاجات كتير لازم تتعودي عليها معايا ، من ضمنها وجود موبايل ، ممكن مايفرقش معاكي ، ولا مع عيلتك ، بس معايا هو مهم ، لما أحب أطمن عليكي هاكلمك عليه ، وانتي كمان !

تلعثمت قائلة وهي ترمش بعينيها بتوتر :
-بس .. بس أنا مش بأعرف أستخدمه

تقوس فمــه بإبتسامة خطيرة ، وغمز لها وهو يتابع بثقة:
-هاعلمك عليه ، وده سهل جداً على فكرة

أمعنت تقى النظر في شاشة الهاتف ، واقترب أوس أكثر منها حتى إلتصق كتفه بظهرها ، فبدى أنه يحتويها أكثر من محاولته شرح طريقة إستخدامه ..
لم تنتبه إلى ذراعه الذي إلتف حول كتفيها ليضمها إليه ، و
أكمل قائلاً بتسلية :
-هو مش متسجل عليه أي أرقام إلا اسمي ، وبتجيبه من القايمة دي !

هزت رأسها وهي تردد بخفوت :
-أها

ابتسم أوس أكثر .. هي لا تهابه كما كان .. تتصرف بصورة أكثر طبيعية .. فزادت سعادته ..
أشــــار بإصبعه على شاشة الهاتف مضيفاً بمزاح :
-مكتوب عليه اسمي ، أوس .. شايفاه

هزت رأسها بخفة وهي تهمس :
-اها

إستأنف قائلاً بمكر :
-اسمي متسجل أوس بالعربي

ردت بإيجاز وهي تنظر له بإندهاش :
-طيب

ضغط بأصابع كفه على ذراعها ، وهمس لها بتسلية أكبر :
-طب أ ، و ، س تبقى ايه ؟

أجابته بنفاذ صبر :
-عرفت إنه أوس !

انحنى برأســـه عليها لتتقلص المسافات بينهما ، وهمس لها معاتباً إياها
-طب ما انتي بتعرفي تنطقيه أهوو ، ليه بخلانة عليا بيه ؟!

تلون صدغيها بحمرة ملتهبة بعد أن شعرت بحرارة أنفاسه القريبة عليها ، وحاولت التراجع مبتعدة لكنها أدركت أنها محاصرة بذراعه ، فتوترت بشدة ..
بينما إلتوى فمه بإبتسامة مغرية وهو يتأمل سكونها معه بسعادة ..
لم يردْ أن يفسد تلك اللحظة الأخــرى المميزة بينهما ، فأرخى ذراعه عنها حتى تتحرر منه ، وإكتفى بالإستمتاع بتأثيره عليها وهو يدير رأســـه في إتجاه النافذة الملاصقة له ..
..................................

في منزل تقى عوض الله ،،،،

جلست فردوس على الأريكة دون أن تنهي أعمــال المنزل ، وفكرت بتريث شديد في كل كلمة قالها مهاب ..
إنتابها حالة من الندم لتسرعها في قرارها ، ولكنها عاودت تذكير نفسها بأنها اتخذت القرار الصائب من أجل حماية عائلتها وخاصة ابنتها ، وتحسين مستواهم المعيشي ..
نفخت بضيق وهي تبرر لنفسها :
-دول مليون جنية برضك ، يعني مش مبلغ هين ، ده .. ده هاينقلنا لحياة تانية خالص ، هاقدر أعالج الراجل ، وأعزل من الحارة الفقر دي ، وأرتاح من الغلب اللي شيلاه على كتافي بقالي سنين !

إستندت برأسها على مرفقها ، وفكرت بصوت مسموع :
-بس .. بس تقى ، وجوزها ممكن آآآ..

تجهم وجهها وهي تقول بسخط :
-جوزها !! هي دي أصلاً جوازة ، ده احنا ماشوفناش منها إلا تعب القلب والقهر والمرار الطافح !

نهضت عن الأريكة ، ووضعت يديها على رأسها ، ودارت في الصالة وهي تتابع بحيرة :
-طب .. طب أنا هاخلي البت تسقط إزاي وهي مع جوزها ، يوووه .. لازم أركز كده وأفكر في طريقة أجرجرها بيها هنا .. بس قبلة لازم أشوف فين المكان اللي هايعمل ده ، ماهو انا مش هاعملها هنا ! ايوه مش ناقصة فضايح !!!

دارت حول نفسها في الصالة ، وظلت تلوح بيديها بحركات غير مفهومة ، ثم شهقت بصوت مرتفع وهي تصيح فجـــأة :
-بس .. هي الولية أم نجــاح ، دي بتعرف الكُفت وهاتفيدني ! أنا هانزل أشوفها الوقتي !

.............................................

في مشفى الأمراض النفسية ،،،

أمسك أوس بكف تقى وهو يسير معها إلى داخـــل المشفى ..
رهبة غريبة سيطرت عليها وهي تخطو نحو أحد الأروقة ..
كان المكان منظماً ، ونظيفاً ، وألوان جدرانه مريحة للعين بدرجة كبيرة .. ولكن توترها من ذلك اللقاء حــال دون تذكرها لتفاصيله بدقــة ..

اعترض طريقهما ذلك الطبيب يتولى رعاية أوس في المنزل ..
حدقت فيه بتمعن ، وظلت صامتة وهي تتابع حديثه الجاد مع أوس ..
أردف مؤنس قائلاً بإبتسامة باهتة :
-في ميعاد مظبوط يا باشا

رد عليه أوس بإيجاز جـــاد :
-انت عارفني

إلتفت مؤنس برأســـه نحو تقى ، وسألها متحمساً :
-أخبارك ايه يا مدام ؟

أجابته بخجل وهي مطرقة الرأس :
-كويسة

أردف قائلاً بنبرة رسمية وهو يشير بيده :
-يا رب دايماً ، الدكتور عزت سليمان منتظرنا جوا ، اتفضلوا

ضغط بأصابعه على كف تقى ، وصــاح بجدية :
-اوكي .. تعالي يا تقى

تسائلت تقى مع نفسها عن هوية ذلك الطبيب الذي سيقابله كليهما الآن ، فما تعرفه مسبقاً أنها على موعد مع شقيقته .. وليس مع طبيب ما ..
لم ترهق عقلها بالتفكير في تلك المسألة ، وإنساقت وراء أوس في خطواته ...
....................................

طرق مؤنس على أحد الأبواب قبل أن يفتحه ويشير بيده وهو يقول بجدية :
-اتفضلوا .. دكتور عزت ، ده أوس باشا الجندي ، وحرمه مدام تقى !

نهض الطبيب من على مقعده ، ودار حول مكتبه ليصافح أوس ، وهتف قائلاً وهو يرسم على وجهه إبتسامة مجاملة :
-أهلاً وسهلاً بيكم

بادله أوس المصافحة وهو يردد بإقتضاب :
-أهلا يا دكتور

تسائل الطبيب عزت وهو ينظر في إتجاه تقى :
-ازيك يا مدام تقى ؟

أجابته بإختصار وهي تنظر له بحذر :
-بخير

أدار عزت رأســه في إتجاه أوس ، وأردف قائلاً بجدية :
-تسمحلي يا أوس باشا أقعد مع المدام شوية ؟

اتسعت حدقتيها بإندهاش ، ونظرت إلى أوس بنظرات زائغة ، فطمئنها بإبتسامة واثقة قبل أن ينطق بهدوء :
-اطمني ، الدكتور عزت من أشطر الدكاترة النفسيين

عقدت ما بين حاجبيها بغرابة .. ونظرت بغموض له ، ورددت في نفسها كلمة ( طبيب نفسي ) ، وحاولت تخمين سبب تلك المقابلة ..
تسارعت دقات قلبها نوعاً ما .. ودبت في أوصالها رجفة خفيفة ..
تشدق الطبيب عزت قائلاً بحماس :
-مدام تقى ، أنا مش عاوزك تقلقي من حاجة ، أنا موجود هنا عشان أساعدك !

سألته بتلعثم وهي تحاول السيطرة على خوفها :
-تـ.. تساعدني ؟

هز رأسه وهو يجيبها بهدوء تـــــام :
-ايوه ، أي واحد فينا بيتعرض لضغوط ومشاكل بتخلي أعصابه مشدودة وبتأثر عليه وعلى تصرفاته

إستدار أوس بجسده ليقف قبالة زوجته ، ثم احتضن كفها براحتيه ليبث إليها الثقة ، وابتسم لها قائلاً :
-شوفي يا تقى ، دكتور عزت هيتابع معاكي من أول النهاردة حالتك النفسية ، وهيساعدك بجد !

سألته بإرتباك وهي تطالعه بنظرات شبه خائفة :
-طب و.. وليان أختك وآآ...

قاطعها بثبات وهو يمسح طرف ذقنها بإصبعيه :
-هانقابلها بعد ما تخلصي معاه ، أوكي ؟

أومــأت برأسها قائلة بإستسلام :
-ماشي

تركها أوس بمفردها مع الطبيب وانصرف بصحبة مؤنس لتبدأ هي معه رحلة علاجها الجدية حتى تتخطى تلك الأزمات التي عصفت بحياتها فتعود كما كانت من جديد ...

أشـــــار لها عزت لتجلس على تلك الأريكة ، وتمدد جسدها عليه ، ولكنها رفضت ، وأثرت الجلوس على المقعد المعدني ..
لم يعارضها ، وترك لها حرية الإختيار ..
فركت تقى أصابعها بتوتر .. وتدلى كتفيها بقلق بالغ ..
طـأطأت رأسها للأسفل لتنظر إلى حجرها .. وأغمضت عينيها هلعاً ..
نعم هي على وشــك خوض تلك التجربة المؤلمة من جديد ، والعيش فيها لحظة بلحظة ..
تجربة جاهدت لتناسيها ، والمضي قدماً دون العودة إليها ..
كانت تخشى إستعادة ذكريات أبشع لحظات حياتها ، وأســـوأ لياليها ..
بدت أنفاسها غير منتظمة .. ورعشـــة خفيفة تمكنت من ساقيها ..

تأملها الطبيب عزت بدقــة مدركاً بوضوح مدى الصراع النفسي بداخلها ...
هي تكافح للصمود ، ولكنها مدمرة داخلياً .. ودوره الآن أن يعيد بناء جســـور الثقة مع نفسها ، ومع من تسبب في أذيتها ..

أردف عزت قائلاً بهمس :
-مدام تقى ، عاوزك تتنفسي بهدوء .. مافيش داعي للخوف ده كله ، انتي هنا في أمـــان

احتضنت نفسها بذراعيها ، وإنكمشت على نفسها أكثر ..

أخذ عزت نفساً مطولاً ، وزفره على مهل وهو يتابع بنبرة رزينة وثابتة :
-الخوف موجود بس في عقلك ، وأنا هساعدك تتغلبي عليه !
...............................

في الخـــارج ،،،
تشجع مؤنس قائلاً بجدية وهو يسير بجوار أوس في الرواق :
-بأحيك يا باشا على الخطوة دي ، فعلاً هاتفرق كتير مع المدام

رد عليه بتنهيدة مطولة :
-هي محتاجة ده اوي

أكمل مؤنس قائلاً بثقة :
-دكتور عزت من كبار أخصائي الأمراض النفسية ، وهيتعامل مع المدام بمهارة

حدق أوس أمامه وهو يردد بجدية :
-يهمني إنه يجيب نتيجة معاها !

رد عليه مؤنس بحماس :
-هايحصل إن شاء الله

إلتفت أوس برأســـه نصف إلتفاتة ، وتسائل بصوت قاتم :
-قولي هو دكتور فهمي في مكتبه ؟

هز رأســه وهو يجيبه بإختصار :
-ايوه !!

أشــــار له أوس بكفه ليكف عن السير معه وهو يتابع بحسم :
-طيب أنا هاروح أشوفه لوحدي

ابتسم له مؤنس إبتسامة باهتة وهو يقول :
-اوكي يا باشا ، وأنا موجود هنا لشوية كمان ، فلو عوزت حاجة اطلبني هتلاقيني فوراً !
-تمام
-عن اذن سيادتك

تحـــرك أوس في إتجاه الدرج ليصعد للطابق الأعلى حيث توجد غرفة الطبيب النفسي الشهير ( فهمي محفوظ ) ، ودلف إلى الغرفة ليقابله حيث الميعاد المتفق بينهما مسبقاً ..................................................


إعدادات القراءة


لون الخلفية