الجزء 32
الفصل الرابع والعشرون :
في مشفى الجندي الخاص ،،،،
صُــــدم الطبيب مؤنس حينما تم منعه من الدخـــول إلى المشفى ، وإحتد قائلاً بغيظ للأمن :
-انتو اتجننتوا ؟ انتو مش عارفين أنا مين !
-لأ عارفين يا دكتور مؤنس ، بس دي أوامر
قالها أحد رجــال الأمن الداخلي للمشفى وهو يدفعه بعنف للخلف
نظر له مؤنس بنظرات مشتعلة ، وهتف بغضب :
-انت متلمسنيش ، وأنا هاتصرف وهاعرف أخد حقي كويس
انضم كبير الأطباء إلى الأمن ، واستطرد حديثه قائلاً بسخرية وهو يحدج مؤنس بنظرات شامتة :
-شوفت أخرتها ايه يا صديقي !
احتقن وجـــه مؤنس بشدة ، وهتف منفعلاً :
-العبرة بالخواتيم ، وأنا مش صغير ! وألف مين يتمناني !
رد عليه كبير الأطباء بتهكم :
-روح للألف دول ، لأن أمثالك مكانهم مش هنا
أضــاف مؤنس قائلاً بنبرة تهديد :
-أنا فعلاً مايشرفنيش أكون وسطكم ، بس مش هاسكت عن أس غلط كان بيحصل هنا ، استعدوا للي هايحصلكم
-اللي عندك اعمله
قالها كبير الأطباء بإستهزاء وهو يسير مبتعداً عنه ...
رمقه مؤنس بنظرات نارية وهو يغمغم مع نفسه بنبرة عدائية :
-مش أنا اللي اتطرد من هنا وأسكت ، انت مش عارفني يا .. يا دكتور مهاب !
هدد الأخير بإبلاغ نقابة الأطباء وفضح تلك المؤسسة وما يدور في الخفاء في أروقتها ..
........................................
في الحــــارة الشعبية ،،،
خرجت تهاني وابنتها ليــان من مدخــل البناية القديمة ، فأســرع أحد رجال الحراسة نحوهما ، وهتف بنبرة رسمية :
-ليان هانم ، أي أوامر
نظرت له بإستغراب ، وسألته بجدية :
-انت واقف هنا ليه ؟
أجابها بهدوء جـــاد :
-الباشا أوس مدينا أوامر نكون هنا لحمايتكم
فغرت تهاني شفتيها قائلة بتوتر :
-هـــه ! تحمونا !
فركت ليان طرف ذقنها لتفكر في شيء ما ، ثم تسائلت بغموض :
-طب أنا رايحة القصر ! هاتوصلونا ؟
أجابها بجدية وهو يهز رأســـه :
-أكيد يا هانم !
ثم أشـــار للسائق المتواجد بالداخل ليصطحبهما ، وأمر اثنين بالتواجد معهما .. بينما ظل هو وأخــر أمام مدخل البناية
ضغطت تهاني على كتف ابنتها ، وهمست لها بقلق :
-مافيش داعي منه المشوار ده
ابتسمت لها ليان إبتسامة مطمئنة وهي تحدثها بخفوت :
-اطمني يا مامي ، بالعكس وجودهم معانا هيساعدنا
همست تهاني بتوجس أكثر وهي تتلفت حولها بنظرات مُرتابة :
-قلبي مش مرتاح !!
طمأنتها بإبتسامة واثقة وهي تقول :
-Don't worry ( لا تقلقي )
ثم ركبت الاثنتين في المقعد الخلفي للسيارة الجيب ، وانطلق بهما السائق ومعه اثنين من رجال الحراسة إلى وجهتهما ( قصر عائلة الجندي )
...........................................
في نفس التوقيت ، عدلت تقى من وضعية حجاب رأسها بعد أن أجبرتها والدتها على إرتداء عباءة سوداء تخصها فوق ثيابها المنمقة ، ثم نزلت خلفها على الدرج ، وتطلعت إليها بإندهاش ، خاصة وأنها كانت تتصرف بغرابة ...
تفاجئت فردوس بوجود رجلين – من ذوي الملابس السوداء – أمــام مدخل البناية يدخنان السجائر ويتحدثان سوياً .. فإمتعض وجهها ، وتوترت ..
ازدردت ريقها بخوف ، وإستدارت برأسها للخلف وهتفت في ابنتها :
-بت يا تقى غطي وشك وانتي خارجة
قطبت تقى جبينها بإستغراب أشد ، وتسائلت بريبة :
-ليه يا ماما ؟
ردت عليها بنبرة منزعجة :
-هو كده مش ناقصة حد يرغي معايا ويعطلنا
هتفت تقى معترضة :
-بس دول حراسة أوس وآآ...
قاطعتها والدتها بصرامة وهي تسحب طرف الحجاب على وجهها لتغطيه :
-يووه ، اسمعي الكلام ! واستنيني هنا
-طيب
قالتها تقى بإمتعاض بادي على تعابيرها ..
توارت فردوس عن أنظـــار الحارسين لتراقبهما خلسة ، وتنصتت على حوارهما ..
تسائل أحد الحارسين بجدية :
-تشرب شاي ؟
أجابه زميله بهدوء وهو يحرك رأســه نافياً :
-لأ قهوة !
أشـــار له بإبهامه وهو يتابع بصوت عادي :
-اشطا ، هاجيبلك واحدة مظبوطة ، وأنا هاطلب شاي في الخمسينة ، وخليك هنا لحد ما تستلم الأوردر
-اوكي !
وما إن تأكدت من إنشغالهما حتى أشارت لإبنتها وهمست وهي تكز على أسنانها :
-تعالي بسرعة
أسرعت تقى في خطواتها ، وبحذر شديد خرجت الاثنتين من المدخل دون أن يلاحظهما أي أحد ..
كذلك استشعر عـــوض وجود خطر محدق بإبنته الوحيدة ، فقرر اللحاق بها وبوالدتها التي كانت تتصرف بطريقة تدعو للشك ..
وبالفعل خرج من المنزل خلفهما .. ولكنه اختبيء على الدرج حينما وجدهما باقيتان بمدخل البناية حتى خرجت كلتاهما بعد لحظات ، فتبعهما بحرص جلي ...
......................................
في المقر الرئيسي لشركات الجندي للصلب ،،،
جلس أوس على مقعده الوثير ، وهـــزه بحركة ثابتة وهو محدق أمامه في الفراغ بنظرات شــــاردة ..
لقد سيطر على عقله ما أقبل على فعله اليوم ، فلم يتمكن من التركيز في شيء أخــر ، وأبلغ سكرتيرته الخاصة بإلغاء كافة ارتباطاته ، وعدم إزعـــاجه ..
نعم لقد شعر – وبقوة - بأنه نجح في إحداث تغيير جذري في نفسه .. وتردد في أذنيه صدى كلمات الشيخ الطيبة التي كانت كالمسكن لتلك الأوجــاع والاضطرابات المتأججة في صدره ، وأرقت مضجعه لسنوات .. اليوم فقط أدرك معنى الراحة النفسية .. وتلاشى إلى حد ما إحساس الضياع ..
دس أوس يده في جيبه ، وأخـــرج منها فردة الحذاء الصغيرة ، ثم تحسسه بأصابعه ، وحدق به بنظرات مطولة .. ولاح على ثغره إبتســـامة عذبة وهو يتخيل شكل طفله القادم وهو يرتديه ..
رفع الحذاء الصغير إلى فمه ، وقبله بشغف ، ثم ضغط عليه بقبضته .. وأعاد وضعه في جيبه ..
حرك رأســه قليلاً لينظر إلى هاتفه المحمول الملقى على سطح مكتبه ، ثم همس لنفسه :
-بيتهيألي تقى هاتكون صاحية ، أكلمها تجهز هي وليان قبل ما أعدي أخدهم !
وبالفعل ضغط على زر الإتصــال بها ، وانتظر ردها عليه بتلهف كبير ..
...................................
بالقرب من المستوصف الشعبي ،،،،
عرجت فردوس ومعها ابنتها الوحيدة عبر عدة أزقــة جانبية لتصل إلى ذلك المستوصف النائي ..
كانت تلك هي المرة الأولى لتقى التي ترى فيها هذه المنطقة المثيرة للإشمئزاز ..
كما سيطرت على أنفها تلك الرائحة البغيضة ، وأصابتها بالتقزز والغثيان ..
شعور غريب بالرهبة والبرودة تسرب إلى أوصالها ، وجعل بدنها يرتجف إلى حد ما .. فهناك أوجـــه غريبة قاسية – وغير مريحة – محدقة بها أرعبتها بصورة واضحة ..
ابتلعت ريقها بتوتر شديد ، وحاولت أن تطمئن نفسها بأن والدتها معها .. فلن يتمكن أحد من إلحاق الأذى بها .. ولكن تلك الإنقباضة القوية التي يشعر بها قلبها تزعجها بشدة ...
حاولت أن تصرف تفكيرها عن هؤلاء الأشخاص ، وتذكرت حديث والدها عن أداء أوس للصلاة ، فإبتسمت عفوياً ..
ودت لو استطاعت البقاء معه أكثر لتفهم منه كيف حدث ..
وكــأن هناك توارد خواطر بينها وبين أوس ، فإستشعر قلبها وجوده معها ..
إهتز هاتفها المحمول الموضوع في جيبها ، فأخرجته لتنظر إليه ، وابتسمت تلقائياً دون أن تقرأ اسمه ..
استمعت فردوس إلى صوت رنين الهاتف ، فإلتفتت برأسها نحوها ، وهمست لها بحنق :
-اقفلي الزفت ده !
أشــارت لها تقى بيدها القابضة على الهاتف ، وردت بتلعثم ووجهها يعلوه الإستغراب :
-بس .. بس آآ.. أوس بيتصل وآآ...
قاطعتها بحدة وقد أظلمت نظراتها :
-كلميه بعدين ، احنا مش فاضيين دلوقتي !
تعجبت تقى من تصرفات والدتها المريبة للغاية ، وبررت بإنزعاج :
-هو .. هو كده ممكن يقلق وآآ....
صاحت فيها فردوس بنفاذ صبر :
-هيقلق ليه ؟ انتي مش معايا ، يقدر إنك نايمة ومش سمعاه !
تنهدت تقى بإستسلام وهي تهز رأسها موافقة :
-حاضر يا ماما
عضت فردوس على شفتيها بتوتر واضح ، وكافحت لتخفي تعابيرها المنزعجة .. فهي لا تريد لأحدٍ أن يفسد مخططها على أهون الأسباب ..
.......................................
ظل العم عوض متابعاً إياهما من على بعد ، وضاقت نظراته بإستغراب وهو يراهما يتجهان نحو المستوصف الشعبي ، وتسائل مع نفسه بحيرة :
-هي جيباها هنا ليه ؟
اختبيء خلف أحد اللوحات المعدنية ، وسلط أنظاره على مدخل المستوصف ، وتابع مع نفسه بجدية :
-تكونش جاية تشوف حد من الجيران عيان !
تنهد بتعب وهو يحرك رأسه للجانبين ليضيف :
-الظاهر إني ظلمتها ، يالا .. الحمدلله ، أما أروح الجامع أقعد فيه واستغفر ربنا !
إستدار عوض بجسده عائداً وهو يتمتم بخفوت :
-لله الأمر من قبل ومن بعد
.......................................
تسائلت تقى بتوجس وهي تقترب من مدخل المشفى :
-هو احنا هنتأخر هنا ؟
ردت عليها فردوس بجمود :
-لأ .. !!
كانت أنظـــار الأخيرة مسلطة على تلك الممرضة السمراء التي هبت من مقعدها حينما رأتها مقبلة عليها ..
اقتربت منهما ، وأمعنت النظر في تقى ، وهمست بصوت شبه جــاف :
-هي دي ؟
هزت فردوس رأسها بحركة خفيفة وهي تجيبها بغموض :
-اه
لم تفهم تقى ما الذي يدور بينهما ، ولكنها لم تشعر بالإرتياح من نظرات الممرضة اللئيمة لها ، و تسارعت دقـــات قلبها من الخوف ..
..................................
في المقر الرئيسي لشركات الجندي للصلب ،،،
إنزعج أوس من تجاهل تقى لإتصالاته المتكررة ، وتجهم وجهه بشدة وهو يهتف قائلاً بضيق :
-أنا جايبهولها ليه عشان ترميه !
دار حول مكتبه ، ومرر أصابعه في رأســـه ونفخ بصوت مسموع ...
دلف عدي إلى داخل المكتب وعلى ثغره ابتسامة عريضة ، وبلا تردد احتضن أوس بذراعيه ، فإستغرب الأخير من تصرفه هذا ، وســأله مندهشاً :
-في ايه لكل ده ؟
أجابه عدي بحماس :
-مش هاتصدق ، نتايج التحاليل طلعت
ابتسم أوس ابتسامة باهتة ، وقال بثقة :
-من غير ما تقول ، باين على وشك !
تنهد عدي بحرارة واضحة ، وتابع بسعادة :
-يــــاه يا أوس ، أخيراً هاقدر أعيش حياتي طبيعي
بادله أوس ابتسامة مصطنعة ، وأطرق رأسه قليلاً ليحدق في هاتفه المحمول ، فتسائل عدي بجدية :
-انت مش فرحان عشاني ؟
رفع أوس رأسه ، وحدق به بنظرات جادة ، وأجابه بصوت شبه منزعج :
-لأ فرحان ، بس دماغي مشغولة شوية
سأله عدي بإهتمام وهو قاطب الجبين :
-في ايه ؟
ضغط أوس على شفتيه مجيباً إياه بإمتعاض :
-تقى مش بترد ، وأنا مش مرتاح
أردف عدي قائلاً بهدوء وهو يتأمل رفيقه بدقة :
-مش هي مع أمها ومع ليان وآآآ..
قاطعه بنفاذ صبر :
-أنا رايحلها ، مش هاسيب دماغي تودي وتجيب
أومــأ عدي برأسه وهو يضيف بجدية :
-تمام ، وأنا هاجي معاك ، بالمرة أشوف ليان وأطمن عليها
إلتقط أوس مفاتيحه ، ودس هاتفه في جيبه ، وتشدق قائلاً :
-اوكي .. يالا
................................
عند قصر عائلة الجندي ،،،
وصلت السيارة الجيب عند مدخـــل البوابة الرئيسية المؤدية للقصر .. فأشـــارت ليان للسائق بيدها لكي يتوقف ، وأمرت أفراد الحراسة بإنتظارها هنا ..
إنتاب تهاني حالة من القلق الرهيبة ، ونظرت إلى ابنتها بخوف ، وهتفت بهلع :
-مافيش داعي يا بنتي ، أنا .. أنا مش عاوزاكي تعملي حاجة
ابتسمت لها ليان بثقة وهي تقول :
-مش تقلقي يا مامي ! أنا .. هاجيب الورق بسرعة
-يا بنتي ، أنا مضمنش مهاب ممكن يعمل فيكي ايه !
قالتها تهاني بخوف وهي تتحسس ذراعي ابنتها ...
وضعت ليان كفها على أصابع والدتها المرتجفة ، وأرسلت لها إبتسامة مطمئنة وهي تقول بخفوت :
-صدقيني ، أنا هارجع بسرعة !
ثم انحنت لتقبل والدتها من وجنتها ، واحتضنتها الأخيرة بعاطفة قوية ، ومن ثم ترجلت من السيارة ، ودلفت إلى داخل القصر ...
راقبتها تهاني وهي تختفي عن أنظارها بقلق بالغ ، وظلت تمتم برجــــاء :
-يا رب استرها عليها !
........................................
في المستوصف الشعبي ،،،،
جلست تقى بين المتواجدين في الإستقبال ريثما تعود والدتها إليها ، فقد اختفت مع الممرضة في الداخل ، وتركتها بمفردها هنا..
إختلست هي النظرات في أوجــه الحاضرين ، وارتجفت قليلاً وهي ترى أنظارهم الجافة نحوها ..
رائحة عبقة بالمكان جعلتها تشعر بالنفور والخوف ..
عـــادت فردوس وعلى وجهها عبوس مريب ، وأردفت قائلة بجدية :
-تعالي يا تقى
نهضت هي على الفور ، وتسائلت بتوتر :
-خلاص شوفتي البنت إياها ؟
هزت رأسها نافية وهي تضيف بجمود :
-لأ لسه ، بس هانشوف الضاكتور الأول
ارتفع حاجبي تقى للأعلى ، وتسائلت بعدم فهم :
-دكتور ؟ ليه ؟
ردت عليها ببرود مخيف وهي تتحاشى النظر نحوها :
-هو عاوزنا شوية !
زادت نسبة القلق لدى تقى ، ورغم هذا أردفت بإستسلام :
-طيب
ســـارت فردوس أولاً نحو الداخل وهي في حالة غريبة ، نظراتها ليست طبيعية ، تصرفاتها تدعو للشك والريبة ..
ومع هذا تبعتها ابنتها وهي مطمئنة لها ، ولم يطرأ ببالها أنها على وشك الغدر بها .. فهي أمها التي تحبها ، وهي أجدر شخص بالثقة فلا يمكن أن تأتي الطعنة منها ...
...................................
عند قصر عائلة الجندي ،،،،
رأت تهاني سيارة مهاب وهي تقترب من البوابة ، فإنقبض قلبها بذعــر ، وشهقت مصدومة :
-يادي المصيبة ، ايه اللي جابه الوقتي !!
وبغريزة أمومية حقيقية ، تعلقت أنظارها بالقصر ، وهتفت بلا وعي :
-ليـــان !
زاد هلعها فقد خشيت أن يُصيبها مكروه ، وحدث نفسها قائلة بإضطراب :
-ده .. ده ممكن يعمل فيها حاجة لو عرف هي هنا ليه ! لازم أتصرف وأحوشه عنها قبل ما يوصلها !!!
وبلا تفكير ، ترجلت من السيارة ، واتجهت نحو مدخل البوابة ، وهتفت بصوت مرتفع :
-مهـــــاب يا جندي !
أوقف مهاب السيارة على إثر ذلك الصوت المألوف ، وحدق في المرآة الجانبية ليرى صاحبته بوضوح ..
امتعض وجهه بشدة ، واشتعلت عينيه ، ورمقها بنظرات نارية قبل أن يترجل من السيارة ويستدير في إتجاهها ..
هتف بصوت قاتم وهو يشير بيده مهدداً :
-جاية هنا وبرجليكي ! متنداميش لما آآ...
قاطعته بصوت منفعل يحمل العداء وهي تقف قبالته بشجاعة عجيبة :
-مابقتش أخاف منك زي زمان ، وحقي وحق عيالي هاخده منك ، وهادفعك التمن غالي !!!
أطبق على عنقها بأصابعه الغليظة ، وكز على أسنانه قائلاً بشراسة :
-ده مش قبل ما أخلص عليكي
اختنقت من قبضته المحكمة حولها ، وحاولت تخليص نفسها وهي تردد بصوت متقطع :
-مش هاتقدر آآ.. أنا .. هافضل زي الشوكة في زورك
احتقن وجـــه بشدة من كلماتها التي تتحداه فيها بصورة سافرة ، وبدى على وشك خنقها بالفعل ، ولكن أســرع حارس الأمن جمال بالتدخل ليحول دون هذا ، ونجح في تخليص تهاني من قبضته وهو يهتف بقلق :
-اهدى يا باشا !
سعلت تهاني عدة مرات ، وتضرج وجهها بحمرة شديدة ، ووضعت يدها على عنقها لتفركه ، وطالعته بنظرات محتقنة ..
هتف مهاب بصوت جهوري غاضب :
-الست دي تترمى برا ، مش عاوز اشكالها تدخل هنا !
هز رأسه موافقاً ، وتابع بحذر وهو يشير بكفه :
-تمام معاليك ، اتفضل حضرتك ، وأنا هتعامل معاها
......................................
بداخل القصر ،،،،
بخطوات أقرب للركض ، صعدت ليان على الدرج ، ودلفت إلى غرفة مهاب ، وأسرعت نحو الخزينة المختبئة خلف إحدى اللوحات الجدارية العريضة ، وبدأت في الضغط على الأرقام السرية لها ..
مرت عدة ثوانٍ قبل أن تنفتح الخزينة أمامها ..
لم تضيع هي وقتها في قراءة ما هو مكتوب بالأوراق المتراصة بالداخل ، بل سحبت كل شيء على عجالة ، ودسته في حقيبة يد واسعة ، ثم أغلقتها بإحكام .. وعلقتها على كتفها ، وأعادت كل شيء إلى طبيعته ..
تنفست الصعداء لإنتهائها من مهمتها .. ثم تحركت إلى خـــارج الغرفة ..
اتجهت ليان نحو الدرج ، ولكنها تسمرت في مكانها مصدومة حينما رأت مهاب أمامها ...
لم يختلف حاله عنها كثيراً ، فقد تفاجيء بوجودها في القصر ..
ضيق عينيه ، وقطب جبينه ، وسألها مندهشاً :
-ليان ! انتي بتعملي ايه هنا ؟
ازدردت ريقها بإرتباك ، وقبضت على حقيبة اليد بشدة .. وأجابته متسائلة بتلعثم :
-هو .. هو ممنوع أجي هنا ؟
اقترب منها ، وضم وجهها براحتيه ، وهمس لها بإبتسامة ودودة :
-لأ طبعاً يا بنتي ، ده بيتك
شعرت بقشعريرة تصيب جسدها من لمسته التي باتت تبغضها الآن .. ولكنها جاهدت لتبدو ثابتة أمامه ..
وبحذر شديد أزاحت قبضتيه عنها ، وردت عليه بفتور :
-اوكي .. أنا هامشي الوقتي
إنعقد ما بين حاجبيه في إستغراب ، وسألها متعجباً وهو محدق بها :
-بالسرعة دي ؟ هو انتي لحقتي تقعدي ؟!
اضطربت وهي تجيبه متوترة :
-أنا .. أنا هنا من بدري ، بس محدش موجود
إلتوى فمه بإبتسامة عريضة ، ورفع يده ليمسد على شعرها وهو يقول :
-بس أنا جيت خلاص ، خليكي معايا شوية ، مافيش إلا أنا وبس هنا .. ايه رأيك لو ناكل سوا ، ولا أقولك باتي هنا ، دي أوضتك زي ما هي !!
اشمئزت هي من لمساته .. وشعرت بالنفور الشديد منه ..
وبدى تقاسيم وجهها منزعجة ، وكذلك نظراتها ، فسألها بشكٍ :
-مالك ؟ انتي مش عاوزة تقعدي مع بابي شوية
استفزتها كلمته الأخيرة ، فرمقته بنظرات جارحة ، وأزاحت يده ، وهتفت بإمتعاض :
-لأ .. باي !
ثم إندفعت مسرعة نزولاً على الدرج ، فصاح هو بها بصوت متعصب :
-ليان استني !
لم تصغ إليه ، وأسرعت في خطاها لتهرب منه ..
أحس مهاب بالريبة من تصرفها ، وتسائل مع نفسه بغموض :
-أكيد في حد قايلها حاجة جديدة عني عشان تعاملني بالشكل ده ! أو .. او إنها جت هنا عشان حاجة تانية !!
رفع بصره للأعلى ، وغمغم بجمود :
-لازم أتأكد الأول من حاجتي !
أكمل صعوده على الدرج ، واتجه إلى غرفة نومـــه ليتفقد خزينته السرية ....
.....................................
في المستوصف الشعبي ،،،،
ولجت تقى إلى داخل غرفة مكتب الطبيب ، وخفق قلبها بخوف من هيئته الكئيبة ..
شعرت وكــأن رائحة الموت تغلف هذا المكان ،
فابتلعت ريقها بإضطراب ، وفركت أصابع يديها بتوتر ..
أشـــارت لها فردوس لتجلس على المقعد المقابل لمكتبه وهي تقول بجدية :
-اقعدي هنا
همست لها تقى متسائلة ، وهي تتلفت حولها بقلق :
-ماما ، هو احنا جايين هنا ليه ؟
حدجتها فردوس بنظرات قوية وهي تقول بخفوت :
-شششش .. الوقتي هاتعرفي !
ازدردت ريقها بخوف وهي تتوسلها :
-أنا عاوزة امشي من هنا
كـــزت فردوس على أسنانها بعنف وهي تهمس لها بشراسة :
-هو أنا جايبة عَيّلة معايا ، اسكتي ، واركزي في مكانك خلينا نخلص !!
أفزعتها تلك النظرات الواضحة في عيني والدتها ، فهي لم تكن كالمعتاد .. بها ظلمة غريبة ومفزعة ..
دلف الطبيب شـــامل للغرفة ، ووقعت عيناه على فردوس ، فهتف بنزق :
-واضح إنك بايتة هنا !
إستغربت تقى من تلك الطريقة المتهكمة في الحوار ، فأدارت رأسها في اتجاه صاحب الصوت لتنظر له بضيق ، فإلتقطت عينيه الوقحتين نظراتها العفوية ، ورأت فيهما شيئاً مزعجاً للغاية ..
لم يحيد شامل بعينيه عنها ، حتى وهو يجلس على مقعده ، وإلتوى ثغره بإبتسامة عابثة وهو يردد بجرأة :
-ليهم حق الرجالة يتهبلوا عليها !
انقبض قلبها خوفاً من كلماته الموحية .. وشعرت بقوة بأنها ترى أمامها وجـــهاً أخــــراً شرساً لمهاب الجندي ..
نظرت إلى والدتها بنظرات حائرة لعلها تبث لها الآمان ،ولكنها لم تجد منها إلا الجمود .. فتسارعت دقات قلبها هلعاً ..
نهضت فردوس فجأة عن المقعد ، وأضافت بجدية وهي تشير بإصبعها :
-عاوزاك تخلص معاها بسرعة ، ماتطولش !
زادت ابتسامته الوقحة إتساعاً وهو يجيبها بثقة تحمل الغرور والمكر :
-اطمني ، دي في ايد أمينة !
هبت تقى هي الأخرى من مكانها ، وتسائلت بفزع وهي تتحاشى النظر إلى ذلك الطبيب المقيت :
-انتي رايحة فين يا ماما ؟
قهقه شامل مستهزئاً :
-من أولها ماما كده !
لم تنظر تقى نحوه ، وأسرعت لتعترض طريق والدتها لتمنعها من الخروج ، وأمسكت بها من كفيها ، ونظرت لها برعب وهي تسألها متوجسة :
-احنا هنا بنعمل ايه ؟
نكست فردوس رأسها للأسفل ، وضغطت على شفتيها ولم تجيبها ..
ولجت الممرضة السمراء للداخل ، ونظرت إلى الاثنتين بإزدراء ، ثم أشــارت لفردوس بيدها وهي تقول بجدية :
-يالا يا ست .. خلي الضاكتور شامل يشوف شغله ، في ناس كتير برا !
اتسعت حدقتي تقى بخوف أكبر ، وهتفت مصدومة وهي تقبض أكثر على كفي والدتها :
-انتي رايحة فين ؟ وهما .. هما هايعملوا ايه ؟
وقف شـــامل خلف تقى ، وطوقها بذراعيه القويتين ، فشهقت مذعورة ، وزادت رجفتها ، وقاومته بشدة وهي تصرخ مستغيثة :
-ابعد عني انتي ماسكني ليه !
تمكنت الممرضة السمراء من تخليص فردوس من قبضتي ابنتها ، فسحبها شامل للخلف بعيداً عنها ، وكمم بيده الأخــرى فمها حتى لا تثير جلبة بالمستوصف فتلفت الأنظار له ...
أشفقت فردوس على حالة ابنتها .. ولكنها لم تتمكن من التحديق فيها حتى لا تشعر بتأنيب الضمير ، فأسرعت بالهرب من الغرفة تاركة إياها بمفردها مع ذئب جديد ليفترسها بلا رحمة ...
إتسعت مقلتي تقى بصدمة وهي تستعطف والدتها بنظراتها المستغيثة كي لا تتركها ولا ترحل ، ولكن لم يشفع لها أي شيء .. فتجاهلتها ، وألقت بها في هوة سحيقة دون ذرة ندم ...
حاولت أن تصرخ ، أن تقـــاوم ، أن تخلث نفسها ، لكنها كانت مقيدة ، مكممة ، محاصرة من قبلهما ..
رمقت الممرضة السمراء تقى بنظرات إحتقارية وهي تغمغم بتهكم :
-بدل ياختي ما تصوتي وتلمي الناس علينا وتعملي فضيحة ، كنتي استري نفسك الأول ولميها !
لم تفهم تقى المغزى من كلماتها التي تحمل الإهانة ، ولكنها رأت في عينيها شراً مستطراً ..
كما همس شامل في أذنيها بنبرة مخيفة برزت من بين أنيابه فزادت من رعبها :
-متقلقيش ، مافيش حاجة تخوف معايا ، دي زي شكة الدبوس مش هاتحسي بيها ! لأ وهترجعي كمان زي الأول ، ما انتي مجربة وفاهمة !
اعتصر قلبها فزعاً من كلماته ، فتابع بنبرة شيطانية وقد برقت عينيه بشراسة :
-وأنا عـــارف هاعمل ايه بالظبط مع اللي زيك ....................................... !!!