الفصل الثاني والعشرون والاخيرة
.... (لكنني لم أكن أعمى)
هندمت الأعلامية الشهيرة "سحر" من ملابسها قبل أن يخبرها المخرج بالظهور على الهواء، فرسمت إبتسامة واسعة على محياها ثم نظرت نحو الكاميرات المسلطة عليها وقالت:
- "أعزائي المشاهدين، مساء الخير، أنهاردة حلقة استثنائية بخصوص القضية المعروف إعلاميًا ب
(ممنوع الإقتراب أو التصديق..)
اليوم وبعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على رفع المدعوة ليلى حاتم المصرى الدعوة القضائية ضد صديقتها وعمّها...
بنطرح كتير من التساؤلات..
هل هتتنازل ليلى؟
ما هو تفسير علم النفس في سلوك سلمى؟
ماذا سيحدث بثروة جلال المصري؟
أسئلة كتير عايزين نعرف إجاباتها وعلشان نجاوب عليها هيكون معانا في الأستوديو الأستاذ المحامى الشهير بهاء رفعت علشان يوضح لنا القضية والأحكام اللي ممكن تصدر من المحكمة...
وكمان هيكون معانا الأستاذ الدكتور خليل أحمد اللي هيوضحلنا سلوك سلمى من ناحية نفسية..
أشوفكم بعد الفاصل...
وفي مكان آخر..
إلتفت الضابط لينظر إلى سلمى الجالسة أمامه لتشاهد ما يُقال عنها وقال:
- "أنسة سلمى أنتي عارفه الوضع خطر إعلاميًا أزاي وعلشان كدا بنبه عليكي ل المرة الألف وأحنا طالعين على المحكمة بكرا متتكلميش مع أي حد من الصحفين وأنا هشدد الحراسة "
هزت رأسها بالإيجاب في خضوع ثم ضغط الضابط على الجرس بجانبه فدخلت سيدة تردي الملابس الرسمية فأشار الضابط لها قائلًا:
- "رجعلى سلمى الزنزانة"
توجهت نحوها وأمسكت ذراعها ثم قالت:"تعالي يا سلمى"
قامت سلمى بالأستعانة بها وخطت خطوات متعثرة في ثوبها الأبيض الطويل وتشبثت باليد الأخرى بالحجاب الموضوع عشوائيًا على رأسها والذي يدل على حداثة عهدها به..
وعندما وصلت أمام الباب فتحته السيدة برفق وقالت بهدوء:"أدخلي يا سلمى"
تقدمت بخطوات مضطربة للداخل وتوجهت نحو أحد الأركان علّها تخفيها عن أعين السيدات المريبة المحدقة بها الذين كانوا بتربصون بها في البداية لكنهم أصبحوا أكثر تعاطفًا بعد محاولتها الإنتحار وإكتشافهم لذلك.
كانت مشوشة الذهن تبدو غائبة عن الوعي، لا تتكلم إلا للضرورة القصوى، كما زاد نحولها بشكل ملحوظ.
ما فعلته ليس بهيّن...!
قالوا أنها حاولت الأنتحار لكن في الحقيقة أنها لم تفعل ذلك، لقد أرادت فقط أن توقف ضميرها عن الصراخ، أن تريحه قليلًا قبل أن يقتلها، لكن ما حدث كان غير ذلك.
قطع تفكيرها صوت إحدى السيدات وهي تمط شفتيها في أسى وتقول:
- "يا حسرة عليها لسه في عز شبابها"
ثم إلتفتت نحوها وقالت بحنو:
- "ما تقومي يا بنتي! تعالي أقعدي معانا"
لكن سلمى لم تسمع ذلك لأنها شردت مرة أخرى في حالها.
الغد هو المحاكمة، حقيقةً هي لا تخشى الحكم الذي سيقع لكنها تخشى رؤية ليلى وبالطبع ليلى ستحضر بالغد.
لم تشعر بنفسها إلا وهي تنهار باكية.
★☆★☆★☆★☆★☆★☆★☆★
دخل مهاب الغرفة حاملًا أكياس الطعام، فخرج من الطرقة ثم وقعت عينه على ليلى فأبتسم ثم دنا منها وقال:"جبتلك الأكل"
لكن نيرة حركت يدها وقال:"شششش" بدت مندمجة فيما يقال وأيضًا ليلى كذلك فألتفت مهاب نحو التلفاز المعلق على الحائط وقد كان برنامج المذيعة "سحر" فهم ساخطًا وأمسك بجهاز التحكم وأغلقه ثم إلتفت إلى نيرة معنفًا إياها:
- "هو أنا مش قولت هنسمع كلام الدكتور ومش هنتكلم في الموضوع ده ولا الكلام مبيتسمعش؟! "
ارتعدت نيرة جراء حدته معها وقالت:
- "ليلى هي اللي قالبة وعايزه تتفرج"
أستعاد مهاب رباطة جأشه وإلتفت إلى ليلى ثم قال:
- "يا حبيبتي أنا على ما صدقت إنك الحمد لله اتحسنتي، ونفسي تخفي خالص علشان تخرجي من المستشفى، وعلشان كدا لازم نلتزم بكلام الدكتور."
قالت نيرة بتصميم:
- "مهاب هي مقدرة كل ده لكن بكرا المح……اكمة والجلسة الأخيرة"
وعند ذكر تلك الكلمة تقلصت تعابير وجه ليلى وكأنها على وشك البكاء فأحتضن مهاب وجهها بكفيه وقال:
- "أنا عايزك تنسي الكلام ده خالص كدا كدا الدكتور مقدم شهادة للمحكمة بإنك مش هتقدري تحضري فخلاص ارتاحي يا حبيبتي"
هزت رأسها بالإيجاب فقال مهاب بحب:
- "بصي أحنا هناكل دلوقتي علشان تاخدي العلاج وتنامي وبكرا بإذن الله هنروح الجلسة ونيجي على هنا طول"
★☆★☆★☆★☆★☆★☆★☆★
"نادي على القضية اللي بعدها"
ارتفع صوت الحاجب يقول بصوت جهوري هز أرجاء المحكمة:
" القضية رقم
288 للمدعوة ليلى حاتم المصري"
توجه بصر المحكمة نحو المقاعد لتنهض ليلى لكنها غير موجودة فتقدم المحامي الخاص بها وقدّم لهم الأوراق التي تثبت عدم إمكانيتها للحضور، كما قام بعرض ما توصل إليه من أدلة تورط سلمى أكثر في القضية..
فلم تقدر سلمى على الوقوف أكثر فجثت على ركبتها منهارة باكية، بينما وقف جلال في شموخ وعزة وكأنه لم يفعل شيء والملقاة في المستشفى تلك لم تكن ابنه شقيقه..!
نظر القاضي لمن بجانبه ثم قال بجديّة شديدة ظهرت في تعابير وجهه:
- "الدفاع يتفضل..!"
وهنا جاء دور المحامي الخاص بسلمى فقام من مكانه وقال:" سيادة القاضي، حضرات السادة المستشارين، المدعوة ليلى……"
استمر في سرد ما قالته ليلى كتابةً عن علاقتها بسلمى واستشهد أنها لم تأتِ لأنها تخاف من المواجهة ثم جاء دور محامي جلال وبدأ في الدفاع هو أيضًا لكنه لم يكن موفقًا لأن اختلاف العلاقة والتعامل الصريح بين ليلى وجلال في الفترتين قبل وبعد بدء خطتهم.
قال القاضي بنبرة قوية:
-"الحكم بعد المداولة"
خرح القاضي برفقة المستشارين لينظروا في الأحكام بتلك القضية، مر وقت قليل حتى عادوا مكانهم..
دقائق قليلة كافية أن تدمر أعصاب سلمى وسليم ونهى ونرمين ورأفت وأساور!
لكن ظل جلال ينظر إلى الكل بتعالي وكأنه سعيدًا بما يحدث، يشعر الناظر إليه بأن ذلك الأمر برمته هين عليه وأن هناك ما هو أعظم.
نظر القاضي إلى المستشارين نظرة عرفوها جيدًا ثم هزوا رأسهم بالإيجاب قبل أن يقول بحسم:
- "بعد الإطلاع على الأوراق والإستماع إلى الشهود……" قطع كلامهم فتح الباب ودخول ليلى مستندة على ذراع ممرضة ما..
وقالت بصوت ضعيف:
"أنا عايزة أتكلم يا سيادة القاضي"
شهقت نيرة في دهشة حين سارع مهاب ليأخذ بيدها من الممرضة وسط دهشة كل الحضور وأولهم هو لسببين الأول أنها حضرت والثاني والأهم أنها تكلمت!!
لم يكن هناك وقت للمناجاة الجانبية بينهم لأن القاضى قرع بالمطرقة ليعود الصمت من جديد بعدما سرت الهمهمات بين الحضور.
انتفضت سلمى واقفة في رعب بمجرد أن رأتها، سرت القشعريرة في جسدها وشعرت ببرودة أوصالها، وتمتمت بدون شعور:"ليلى!! "
نزلت الدموع من عينها أكثر قد كانت تفتقدها وبشدة.
أتعرف ذلك الشعور حين تشتاق إلى شخص ما لكن لا تعرف ماذا تفعل.
فردًا ما كان كل حياتك..
كان ذلك ما شعرت هي به.
بعد كلمات قليلة مع المستشارين وافق القاضي بالرغم من أن ذلك مستحيل قبل النطق بالحكم مباشرةً لكنها روح القانون.
ساعدها مهاب حتى تقدمت ووقفت في "منصة" التحدث فقال القاضي:
- "سيبها يا أستاذ"
نظر مهاب إلى ليلى بأشتياق فابتسمت هي في ارتباك وهزت رأسها فتركها وعاد أدراجه.
فقال القاضي وهي التي تمتثل أمامه لأول مرة :
- "قولي والله العظيم لأقول الحق"
إلتفتت برأسها نحو الحضور فدعمها "الشيخ" سعد بنظراته فأعادت النظر إلى القاضي ثم قالت في ارتباك :"والله العظيم هقول الحق"
أشار لها بيده ثم قال:"اتفضلي قولي اللي أنتي عايزاه"
أخفضت رأسها ونظرت نحو الأرض وقالت:
- "أولًا أسفة إني محضرتش قبل كدا ب…س حالتي الصحية مكانتش كويسة"
قال القاضي بأبتسامة وقد تفهم حالتها وارتباكها:
- "اتفضلي كملي، احنا مقدرين"
قالت وهي تغلق عينها بشدة:
- "كل حاجة كانت كويسة لحد اليوم اللي بابا قالي في أنه كتبلي كل حاجة باسمي…آ آ…آ آ"
قال القاضي بهدوء:"كملي يا أستاذة"
رفعت رأسها نحو القاضي وقالت بثبات:"جلال قتل بابا"
سرت الهمهمات من جديد حين نظرت سلمى مصعوقة من الكلمات إلى جلال الذي أربكته الكلمات أيضًا.
همس محمد إلى مهاب:
- "هو في حاجة احنا منعرفهاش في الموضوع ده؟! "
"المفروض لا"
لكن مجدى "الطبيب الخاص بها في الفترة الحالية" بدا وكأنه متوقعًا لما سيحدث فذلك هو الإستجابة لعلاجه.
لقد تذكرت ما حدث...
"هدووووووء"
"كملي يا بنتي"
نظرت ليلى نحو القاضي لكنها في الحقيقة كانت ترى ما حدث ذلك اليوم..
"بعد ما اتعشينا ودخلت علشان أنام.. سمعت صوت تكسير فخرجت من الباب وشوفت ب..ا با وهو بيتقتل!! "
قالتها وأخفضت رأسها باكية فتلك هي أول مرة تجبر فيها ذاكرتها على سرد ما حدث وأخفته منذ ذلك اليوم.
مالت نيرة نحو مهاب وقالت:
- "هي مش دايمًا بتقول مش فاكرة؟! أمال أيه الجديد دلوقتي ازاي تعرف وأزاي كانت نايمة"
رفعت "ليلى" رأسها مرة أخرى لكن تلك المرة بدأت تسرد ما تراه أمام عينها وما تسمعه أيضًا لأنها سمعت صرختها المكتومة التي حدثت ذلك اليوم...
"في اتنين ملثمين قتلوا بابا كل الطعنات دي وقبل كل طعنة كانوا بيقولوا كلمة..
وكمان قالوله بالنص *جلال بيقولك هياخد منك كل حاجة وهتتحسر في قبرك على اللي هيحصل* "
حالة من الانتباه الشديد سيطرت على كل الحضور، فهي تتهمه إتهام صريح بالقتل.
شبّك القاضي أصابعه في اهتمام وقال:"وسكتي كل ده ليه؟ "
رفعت عينها نحوه مرة أخرى وقال بدموع:
- "كنت خايفة!!
مش هقدر أعيش، عمّي قتل بابا علشان فلوسه اللي بابا كتبهالي باسمي"
أطلقت تنهيده حارة تنم عن مدى معاناتها النفسية وهي التي شهدت قتل والدها بعينها.
تابعت وهي تتحاشى النظر إلى الكل:
- "لما بدأت أحس إن في حد معايا في البيت خوفت ليكون بابا فعلًا وبينقم مني علشان سكت، وقتها كان لازم أنسى كل حاجة.
أنا مشوفتش حد، ومحصلش حاجة، فضلت أقنع نفسي أنه وهم ومحصلش، أنا خايفة ليكون حقيقة"
أدرك القاضي حالة التخبط التي تعاني منها وقال ليغير دفة الحديث: "وسلمى؟! "
رفعت رأسها نحوه وكأن السؤال صعقها، بدت مضطربة وهي تحاول الإتزان.
أما سلمى فشهقت ثم وضعت يدها على فمها من الخوف.
"ك..ان عن..دي حد اسمه سلمى، كنت أعرفها وكانت بتت..بت.. بتحبني" قالتها بصعوبة شديدة وكأنها غير متيقنة من ذلك.
تابعت:"عرفت أنها سااعدتهم ض..دي علشان اتجنن"
تنهدت مرة أخرى في عدم تصديق ثم أخفت وجهها بيدها لتبكي بشدة.
وللتوضيح أيضًا إن تلك هي أول مرة تبكي فيها منذ الحادثة ومنذ أن فقدت النطق.
أدركت اليوم ما حدث لأول مرة..
لم تنظر نحو القضبان، لا تريد أن تراهم لقد ماتوا وتناستهم، لا تريد شيء.
"عندك حاجة تاني عايزه تقوليها؟ "
هزت رأسها بالنفي، فتقدم مهاب نحوها وأمسك بيدها وساعدها في الوصول لمقعد شاغر بالخلف وجلس بجانبها..
"الحكم بعد المداولة"
إلتفت مهاب نحو ليلى لكنه لم يجد كلمات تصف ما بداخله من حالة تخبط فهو الذي افتقدها لفترة طويلة وكان صامدًا أمامها لتتخطى تلك الفترة لكن بداخله كان هشًا للغاية وخائفًا عليها، قطعت هي حبل أفكاره حين إلتفتت إليه فجأة وقالت بوجه خالي من التعبيرات:
- " عايزين نروح بكرا للمأذون علشان نكتب الكتاب، أنا مش عايزة أبقى لوحدي"
بدا مندهشًا من طلبها الذي جاء في غير موعده وأيضًا في غير مكانه لكنه هز رأسه بالإيجاب وقال:"اللي تشوفيه يا حبيبتي"
ارتفع صوت الحاجب قائلًا :"محكمة"
فأمسك مهاب بيدها وساعدها على الوقوف ثم جلسا مرة أخرى وبدأ النطق بالحكم...
"بعد الإطلاع على المستندات والإستماع إلى الشهود وتبادل الأراء حكمنا نحن على المتهم 'جلال المصري' بالسجن لمدة...."
ظل القاضي ينتقل بين فردًا وأخر حتى أنتهى من الأحكام التي كانت بالسجن لهم جميعًا دون براءة لفرد منهم..
كما أمر برفع دعوى قضائية تتهم فيها ليلى حاتم المصرى جلال المصرى بقتل والدها.
"رُفعت الجلسة...... " قالها القاضي معلنًا إنتهاء المحاكمة..
إنتهاء كل شيء!
حالة من التخبط سيطرت على الحضور بين مؤيد ومعارض، تلقت ليلى السباب والشتائم من أسرة جلال وتعايرها بأنهم ضموها يومًا في بيتهم.
همست إلى مهاب في ارتباك :"يلا نمشي"
تناول يدها بين كفه واستخدم جسده القوي لمنع المضايقات التي تعرضت لها من الصحافة.
كان خروجهم من باب القاعة تزامنًا مع خروج المتهمين فوقفت ليلى بذهن مشوش تنظر لمرورهم لكن ما أضعف عزيمتها حقًا خروج سلمى متشبثة بحجابها وصوت بكائها هو الصوت الوحيد الذي إلتقطته أذن ليلى.
قالت وسط نحيبها وهي تقاوم العسكري ليقف قليلًا :"ليلى أنا مخونتكيش، ليلى.. أنا كنت بحميكي.... ليلى..... "
صرخت باسمها حين دفعها العسكري نحو الباب الرئيسي للمحكمة، وسقطت دموع ليلى مع صرخة من كانت يومًا أقرب الناس لها.
ظلت تتابعها بعينها حتى أنطلقت السيارة متجهة إلى السجن..
وهنا انضم محمد ونيرة ومجدي لهم..
فقال مجدي:
- "حقيقي برافو عليكي، قدرتي تقاومي وتقومي تاني، لينا قاعدة مع بعض علشان نتكلم شوية"
نظرت ليلى إليه والحقيقة أنها لم تره بل كانت ترى سلمى الباكية وتخبرها أنها لم تخنها.
فقال مهاب عندما وجد شرودها وصمتها:
- "هنكتب الكتاب أنا وليلى بكرا إن شاء اللّه"
ضمتها نيرة وقالت بسعادة:
- "حقيقي! مبروك ألف مبروك يا ليلى، ربنا يسعدكم يارب"
لكن محمد قد لاحظ الحالة المسيطرة عليها فقال:
- "ليلى فيكي حاجة؟"
انتبهت ليلى لذكره اسمها وقالت:"هاه؟! لا كويسة، كويسة"
ظهرت قوية قادرة على المضي ونسيان ما حدث لدرجة أنني كنت سأصدقها لولا أنها بكت بعدها..
**********************