الجزء 43

الجزء التانى ، ، الفصل الثامن عشر ،، بارت تانى

فتحت الباب بالمفتاح الخاص بها والذى كانت قد نست أو بمعنى أصح تناست وجوده فى سلسلة مفاتيحها ،

كانت الشقة ساكنة والأنوار هادئة تماما ، اقتربت من الإضائة الخافتة القادمة من غرفة نوم والدها وطرقت الباب النصف مفتوح ليأتيها صوت زوجة أبيها تقول ... مين ؟

قالت فريدة بصوت عالى ... صحى بابا وقوليله فريدة عايزاك فى اوضتها ...

وبعد أن أبتعدت عدة خطوات فى إتجاه غرفتها القديمة حتى توقفت على نفس الصوت بعد أن خرجت صاحبته وهى ترتدى روب قطنى ثقيل وهى تقول
... هو انتى كل يوم تجيبيلنا مصيبة ، ياتجيله يااما يجرى يروحلك ، انتى مش اتجوزتى وخلاص ، ما تحلى عنا بقى خلينا نرتاح ...

فظهر الآخر من خلفها وهو يقول ... نادية ، ايه اللى بتقوليه ده ...

.. ما انت شايف ، الهانم جاية تصحينا فى نص الليل عشان مصيبة من مصايبها ...

لم تعطى فريدة بالا لما قالت السيدة صاحبة الصوت الكريه ، كما كانت دايما تسميها ، بل نظرت لوالدها قائلة ... هستناك جوة ...
ثم انتقلت بعينيها لنادية وقالت ... وانتى ، متقربيش من الباب عشان تتصنتى كالعادة ، احسن والله العظيم ، اخليكى ما تسمعى بقية حياتك ...

وتركتهم ودخلت غرفتها دون أن تنتظر أى رد من أى منهم ،
دخل والدها فوجدها تجلس على حافة السرير ، تعقد يدها وتستند بها على قدميها ورأسها وعينيها للأرض ، وكأنها شخص يائس ، فاقد للأمل فى الحياة ،

تقدم منها بخطوات ثابتة ، واتجه للمرآه المثبتة على قاعدة خشبية ، سحب الكرسى الخاص بالمرآه ووضعه على مسافة منها وجلس عليه
ليناديها بهدوء ... فريدة ...

لم ترد أو حتى ترفع رأسها ، فقط سمع تنهيدة طويلة صدرت عنها ، بعدها قالت ورأسها مازال منخفضا

.... انا تعبانة اوى يابابا ...

اهتز قلبه و كيانه بأكمله مع الكلمة التى لم تنطقها منذ سنوات ، منذ أن توفت والدتها ولم تناديه بها بل لم تعطه أى لقب من الاساس ،
،، بابا ،، قالتها دون أن تدرك من الإرهاق النفسى والحرب العاطفية التى تعيشها ،

تابعت فريدة كلامها بيأس وارهاق شديد
... مبقتش فاهمة حاجة ، مبقتش عارفة مين الصادق ومين الكداب ....

ثم رفعت رأسها له وقالت بتوسل
... قوللى انت ، أمنتك بالله تقوللى اللى حصل ، وأنا هصدقك ، مش هقول انك كداب ، قوللى ، ماما كانت بتكدب عليا ؟

تلئلئت عينيه بالدموع شفقة على ابنته المثقول قلبها بعذاب سنين من احداث لم يكن لها ذنب فيها ، بسبب امرأة تجردت من كافة مشاعر الأمومة واختارت أن تحمل قلب فتاة لم تتعدى الثامنة بحمول وآمال كره و انتقام أرادته هى بنفسها لهم ، اورثتها العناد وزرعت داخلها الضغينة التى حملتها هى لسنين ،
حاول مرارا أن يمنعها لكن بعد فوات الأوان ، حين اكتشف ما يحدث كانت قد تشبعت فريدة بما أرادته جميلة لها ، ولم تعد الفتاة نفسها قابلة للاستماع لوالدة أو اقترابه منها بأى شكل على مدى سنين ، لأنه مهما حاول ان يخبرها أى شئ عكس ما اخبرتها به أمها ، فلن تتقبل ولن تقتنع ،
لهذا احترم ما بداخلها ، واحترم طريقتها فى التعامل معه على أمل أن تكتشف بنفسها حقيقة ما حدث يوما ما ،

وها هى الأن ، تعيش العذاب بأبشع صورة ،أن تكتشف بأن كل ما عاشته لسنوات كان مجرد كذب متقن من امرأة على حافة الموت ،لتكمل طريق لم يسعفها العمر لتكمله ،

أشفق عليها وانفطر قلبه لها ولم يكن يتوقع انه سيتأثر بهذا الشكل بشئ توقعه ،
... لا يافريدة ، مكانتش كدابة ولا حاجة ...

... اذاى وانا كل يوم اكتشف حاجة جديدة ، الأول اطلع بنت حرام ، ودلوقتى يقولولى يقولولى أن أمى السبب فى كل اللى بيحصل ، اصدق مين وأكدب مين ؟

... صدقى قلبك وعقلك انتى ، دلوقتى غير زمان ، انتى دلوقتى كبرتى وبقيتى انسانة عاقلة وذكية جدا ، غير انك قوية كفاية ، يعطى تقدرى تخطى النقطة دى وتعيشى حياتك ...

... مش هقدر ، انا فضلت سنين وسنين أخطط ازاى انتقم منهم وادمرهم ، فجأة الاقيهم هم المظلومين وانا الظالم ، مش هينفع ...

... لا يافريدة ، بالعكس ، انتى المظلوم الوحيد فى اللعبة دى كلها ، واحنا اللى جنينا عليكى ، ووالدتك معانا ...

... احكيلى اللى حصل ، انا عايزة أعرف....

... اللى حصل انتى تعرفيه كويس ، اتقابلنا أنا وأمك وقررنا نتجوز ، وأهلها رفضونى ، وبعدين قبلونى غصب عنهم بعد حكاية الحمل دى بشرط أن أمك تبعد عنهم تماما ، وده اللى حصل ،
الفرق الوحيد فى الحكاية دى كلها ، أن أمك هى اللى خططت لكل ده ، بس للاسف انا فهمت ده متأخر اوى ...

... يعنى ايه ، مش فاهمة ، وضح اكتر ...

... والدتك كانت متمردة اوى وعنيدة وبتكره تحكم جدك ، ومع الوقت التمرد ده اتحول لتنمر غريب ، كأنه مرض أتمكن منها ، بقت ترفض كل حاجة واى حاجة ، بقت مستفذة جدا ، عندها قدرة غريبة أنها تخرج اوحش حاجة فى الانسان اللى قدامها وتوصل لدرجة من الغضب تخليه يتصرف تصرفات سيئة اوى ، وده اللى عملته فى جدك ، وفيا انا كمان ،
لما قابلتها ، بصراحة حبيتها ، واتمنيت اتجوزها ، منكرش أنها كانت بالنسبالى فرصة خاصة انى كنت فى أول حياتى وكنت فقير اوى ، ولما جدك رفضنى وطردنى ، الحلم ده ضاع ، وبعدت عنها شوية ، بعدين رجعنا لبعض تانى ، وطلبت انى اقاومهم معاها ، أوقات كنت بحس أمها بتعمل حاجات ملهاش لازمة تستفذ بيها جدك وبس بس كنت يكبر دماغى ، وفى يوم جاتلى لحد شقتى بنفسها ، الشقة القديمة ، وطلبت منى ده ، وقالت إن دى الطريقة الوحيدة اللى تجبر جدك على الموافقة ، فى الاول رفضت ، بس بصراحة رغبتى فيها سيطرت عليا ، اكتر من شهر واحنا سوا ، وطول الفترة دى وجدك مبطلش ضغط عليا ، لحد ما فى يوم لفقلى قضية سرقة أدوية مخدرة فى المستشفى الخاصة اللى كنت شغال فيها ، وخيرنى ، يااما اسيب مصر خالص وهيخلصلى القضية ، يااما هيمشى القضية ويسجنى ...

ثم سكت ليلتقط أنفاسه ويهدأ من ذكرياته السيئة التى عايشها فى هذه الفترة ، لاحقته فريدة بقولها
...طبعا وافقت على السفر ...

... طبعا ، كنت هضيع ، لكن لقيتها بتقوللى أنها حامل ، كنت خايف اوى من جدك ، وصممت أن الحمل ينزل ، لكن لقيتها بتتكلم بمنتهي الهدوء وكأنى اللى احنا فيه ده عادى ، مش مصيبة ، وقالت إن دى احسن حاجة حصلت ، وأن كدة جدك هيوافق غصب عنه على جوازنا ، كانت أول مرة أحس أنها كانت متعمدة كل ده ، كأنها بتنتقم منه أو بتتشفى فيه ،
بس خلاص ، الأوان كان فات ، فى طفل موجود ، مش هعرف انفى مسؤوليتى عن وجوده ، وبعدها أمك احتفت شوية ، وبعدين بعتولى وكتبوا الكتاب وعملوا فرح ، وطلعونا برة حياتهم ، والباقى تعرفيه كويس ...

... والحادثة ...

.. لا يافريدة ، الحادثة لا ، أعتقد أن جميلة ملهاش علاقة بأى حاجة فيها ، مهما كان ، واللى اكدلى ده ، الانهيار اللى حصلها بعد الحادثة دى ، ومحاولات الانتحار المستمرة ، لحد للأسف ما نجحت فى النهاية ،
رغم كل شئ ، الحادثة دى كسرتها ...

...وكسرتك انت كمان معاها لدرجة انك تتخلى عنها ...

... انا متخلتش عنها ، كل العوامل وقتها صورتلك كدة بس ده مش حقيقى ، حكاية الاغتصاب مش سهلة ابدا ان راجل يقبلها على مراته ، كمان هى كانت رافضة اصلا وجودى ، وكل اما أدخلها تفضل تصرخ وتطردنى ،
يمكن عشان كانت مقتنعة انا السبب فى اللى حصل ...

... ليه انت السبب فى اللى حصل ...

... عشان انا اللى ضغطت عليها ترجعلهم وتصالحهم ، لأن جدتك راحتلها كتير ورفضت حتى تقابلها ، فجاتلى واتحايلت عليا ، خاصة أن جدك وقتها كان بدأ يظهر عليه المرض ، ودخل المستشفى اكتر من مرة ،
وآخر مرة جاتلى جدتك وقالتلى انهم هيطلعوا الحج ، وأنها مش هترجع من هناك غير لما تخللى جدك يسامح أمك ، وطلبت منى انى اخللى أمك تروحله ، وفعلا فضلت وراها لحد ما اقنعتها أنها ترجع ، وللأسف اول ليلة حصلت فيها الحادثة ...

... يعنى فى كل الأحوال أمى مظلومة ...

... منكرش ده ، اللى مكنتش راضى عنه تماما ، إنها تدخلك دايرة الكره دى ، إنها حاولت تطلعك صورة منها ، بس الحمد لله ، انا شفت فيكى عقل مشوفتوش فيها ، عندك قدرة انك تفصلى بين الصح والغلط وأنك توقفى نفسك عن حاجات معينة وقت ما تقررى ...

وقفت فريدة فجأة وكأنها قد قررت الرحيل مرة أخرى ليقف والدها هو الآخر قائلا ... ايه ، رايحة فين ، لسة كلامنا مخلصش ...

... كفاية اللى سمعته ، انا همشى ...

... تمشى تروحى فين ، الفجر قرب ، استنى الصبح وبعدين أمشى ....

... لا ، زى ما جيت همشى ...

حاول ان يمنعها كثيرا لكنها صممت على الخروج ، فلم تعد قادرة على الاستمرار فى مسلسل الذكريات الأليمة هذه ، كل شخص تحدث معها أخبرها بأشياء مختلفة ، وكأن كل منهم يحكى ما حدث من منظوره هو فقط ، وليس الحقيقة الفعلية التى تريد هى الوصول إليها ،
لا والدها أو جدها أو حتى عادل ،أو أى شخص آخر من أفراد العائلة الملعونة ،
والآن قد ماتت من كان بيدها الحقيقة الوحيدة ، حقا كان يجب أن ينتهى كل شئ بموتها ، لا أن يبدأ مسلسل انتقام جديد بطلته طفلة صغيرة فى الثامنة ، وعلى مدار سنين حتى أتمت السادسة والعشرين وهى تعيش فى طيات ماضى والدتها ، يقتات قلبها على بشاعته ليقسوا ويقسوا حتى يموت ،

جلست تتأمل مكان قبرهاا لأكثر من ساعة دون كلام ،
جميلة عزت المصرى ، آخر من كتب ودفن فى مدفن عائلة المصرى حتى الآن ، حوارات تدور بينهما داخل عقل فريدة دون أن تبوح به إلى أن وصلت لمرحلة الاختناق الفعلى والتى كادت بها أن ينفجر عقلها حين قالت

... وصلتينى لحالة غريبة ، ثقتى معدومة فى كل الناس ، انتى كدابة ، وابويا كداب ، وجوزى كداب ، وابوكى واخواتى ، حتى الناس اللى معايا من سنين فى الشغل ، كله كله ، مش عارفة هكمل ازاى ، مش عارفة ،
وجعتينى ، كأنك خنتينى ياأمى ، خنتينى ....

أغمضت عينيها ، لم تعد قادرة على الكلام أو حتى التفكير أكثر من ذلك ،
حتى انتفضت عندما شعرت بيد على كتفها لتفتح عينيها لتجده يجلس بجانبها وعلى وجهه وفى عينيه حنان وحب لم تره من قبل فى نظرة أى انسان تطلعت لعينيه من قبل ،
ابتسم دون أن يقل شيئا بل فقط مد يده الأخرى ليتلمس خديها بأصابعه ثم يريها إياها ،
انعقد ما بين حاجبيها وهى تتطلع لأصابعه المبللة بالماء بعد تلمس خديها ،
ماء ، لا ، إنها دموع ، دموع ، نعم ، دموع ، هى تبكى ، عينيها تزرف دموع ، رفعت يدها لوجهها لتتحسس بنفسها خديها وتحت عينيها ، ثم تعيد النظر ليدها نفسها ، وترفع وجهها له فى غير تصديق ، ليومئ لها برأسه
زادت ضربات قلبها أكثر وأكثر ، وأخذت تنتحب أكثر وأكثر حتى علا صوت نحيبها الذى تحول لبكاء فعلى وهى تخفى رأسها داخل صدره ، وهو يلف زراعيه حول كتفيها وكأنه يدعوها للبكاء أكثر وأكثر ،
وظلا على نفس الحال لموقت لم يعلماه حتى اعتدلا فزعا على صوت قاطع ما يحدث جعلها يتسمرا مكانهما وهو يقول

.... very very sweet , كأنى بتفرج على فيلم عربى قديم ، بس ايه رأيكم فى المفاجأة دى بقى ....

ثم دخل رجاله واحدا خلف الآخر وهم يحملون الأسلحة ،
وهو يتلفت حوله ويقول ... مكان تحفة ، نقدر نصفى حسابنا فيه ، من غير ما حد يحس بينا ، مش صح ياعادل باشا ....


إعدادات القراءة


لون الخلفية