انتفضت عندما طرق أحدهم زجاج نافذة السيارة, حاولت أن تتبين ماهيته, ولكن الظلام كان يسود المكان, ماذا لو كان أحد رجال تاجر المخدرات الذي تقوم بمراقبة منزله, ماذا ستقول له, وكيف ستبرر له بقائها في سيارتها لمدة خمس ساعات, لقد أخفت سيارتها جيدا بين الأشجار فكيف استطاع اكتشافها. طرق الزجاج مرة أخرى, فابتلعت ريقها, ووضعت يدها اليمنى على سلاحها, ثم فتحت زجاج النافذة بهدوء لتجد جون يقف أمامها.
تنفست بقوة وقالت " ماذا تفعل هنا ؟"
أشار بيده وقال بجدية " انزلي من السيارة "
امتثلت لأمره دون أن تسأله لماذا, فنبرة صوته لم تكن تحتمل المجادلة, ركب مكانها بعد أن رمى عصاه على المقعد الخلفي, وربت على المقعد بجواره قائلا "تعالي "
رفعت حاجبيها دهشة, ولكنها ما لبثت أن دارت حول السيارة وركبت في المقعد الأمامي بجواره. سألت لما طال صمته " حسنا ما الأمر ؟"
أجاب ونظره مثبت على المنزل الذي كانت تراقبه " بدون أي مقدمات, اليوم بعد انتهاء الاجتماع سمع كريك المحادثة التي دارت بينك وبين الرئيس حول والدتك, وفهم أن أمك إن عرفت أنكِ في وحدة المخدرات وأنكِ في خطر ستجبركِ على تركها, لذا ... "
ضحكت بعجز ثم سألت " ماذا؟ يريد أن يبتزني ؟"
رد بضيق " ليته فعل, ولكنه عوضا عن ذلك اتصل بأمكِ, وأخبرها أنكِ في وحدة المخدرات وأنكِ ذهبتِ في مهمة خطيرة قد لا تعودين منها حية "
تأوهت ثم أغمضت عينيها وحررت شعرها من رباطه, فتناثر حول وجهها وقد تجاوز كتفيها ببضع سنتيمترات, خللت أصابع يديها داخله, ثم حثته " أعرف أن الحكاية لم تنتهي هنا, لذا أكمل "
قال بهدوء " تعلمين أن أمكِ تعاني من الربو, لذا لما سمعت بذلك أتتها أزمة شديدة للأسف, وعندما سمع كريك شهقاتها المخنوقة, اتصل بالإسعاف... لا تقلقِ هي الآن في المستشفى في العناية المركزة لأنها ... في ... في غيبوبة, ويقول الأطباء أنها لو أفاقت منها سيكون كل شيء على ما يرام "
الرد الوحيد الذي تلقاه منها هو صوت فتح باب السيارة ثم صفقه, رغم الظلام المحيط بالمكان استطاع أن يميزه هيئتها وهي تسير بين الأشجار, ما الذي تفعله هناك ؟ تبكي أم تصرخ أم تتأوه أم تلعن كريك أم تدعو لأمها ؟ إنه لا يعلم ولا يريد أن يعلم, كل ما يريده هو أن ينتهي هذا اليوم على خير.
دخلت السيارة بعد مضي نصف ساعة تقريبا, التفت إليها فرأى صدرها يعلو ويهبط بسرعة, تنحنح قليلا و قال " هل أنتِ بخير ؟"
قالت بصوت مبحوح " إذا كنت تستطيع القيادة, خذني إلى المستشفى "
قال بعد أن فكر في ثواني " هنالك أمر أخير لابد أن تعرفيه, لقد فعل كريك ما فعله انتقاما منك بسبب ما فعلته بي "
أسندت رأسها إلى المقعد وأغمضت عينيها ثم قالت بلا مبالاة " ما الذي يفترض أن يعنيه هذا الكلام ؟"
تمتم وهو يدير محرك السيارة ويبدأ بقيادتها " من يعلم "
قطعا الطريق إلى المستشفى في صمت, وما فائدة الكلام في مثل هذا الوقت, ركن جون السيارة في أحد مواقف المستشفى, وترجل هو و ساندرا منها سائرين نحو باب الرئيسي ليجدا بوب ينتظرهما هناك, رفع يده ملوحا لهما, ثم أسرع باتجاههما صائحا " لقد استيقظت, لقد استيقظت " . أغمضت ساندرا عينيها بقوة ورفعت رأسها إلى السماء شاكرة ربها على هذه الهدية, أرادت أن تتكلم أن تسأله عن صحتها ولكن غصة في حلقها منعتها من ذلك, ابتلعت ريقها بصعوبة, وقبل أن تفتح فمها سمعت جون يسأل بوب عن صحتها, فأجابه بوب أنها بخير وأنها تستطيع الكلام. نظرت إلى بوب بعينين لامعتين وسألته بانفعال "في أي غرفة هي ؟ "
رد عليها بفرح " في الدور الثالث, الغرفة 309 "
من فرط انفعالها لم تدرك كيف تركت جون وبوب, كيف دخلت المستشفى, كيف وصلت إلى الغرفة ودخلتها. كل ما تدركه الآن أنها تنظر إلى جسد أمها المتمدد على الفراش الأبيض وإلى رجل يتحدث إليها موليا ساندرا ظهره, اقتربت بهدوء حتى وقفت ورائه واستطاعت أن ترى أمها متكئة على بعض الوسائد ومغمضة عينيها تستمع إلى محدثها باستمتاع كما أظهرت الابتسامة التي رسمت على شفتيها, لمست كتف الرجل بخفة حتى لا تنتبه أمها ولكن مرادها لم يتحقق لأن الرجل هتفت لما التفت إليها " واو! انظري من تكبد العناء لزيارتك "
لم تتلقى عينيهما قط, ففي اللحظة التي فتحت والدتها عينيها ورفعتها إليها, أخفضت هي عينيها إلى الأرض بسرعة, قال الرجل " حسنا سيدة مادلين أراكِ فيما بعد " ثم ابتسم لساندرا وخرج.
سألت مادلين " من هو ؟"
ارتبكت ساندرا من سؤالها الغير متوقع وقالت وهي تنظر باتجاه الباب " كان يحدثكِ دون أن تسأليه من أنت ؟"
ابتسمت ثم قالت " لم أرد أن أقطع حديثه الممتع عن اليوم الذي قبضوا فيه عليكِ وطعنتي فيه قائدهم "
قالت بذهول وهي ترفع بصرها إلى أعلى" ولم يجد سوى هذه القصة ليحكيها لك, حسنا إنه برنارد زميلي في الفرقة "
سألت " ماذا عن الشاب الذي كان معه ذو الشعر الأسود ؟"
أجابت وهي تدلك جفنيها بإصبعيها " إنه بوب, هو أيضا في فرقتي"
" هو الذي اتصل علي ؟"
" لا ذلك حبيبي كريك, لا أعتقد أن الجرأة واتته ليأتي إلى هنا "
صمتت مادلين لحظات ثم أمرت قائلة " اجلسي يا ساندرا "
ابتسمت ساندرا بعصبية وقالت وهي تنظر حولها " أنا بخير ", ولكنها لم تلبث أن تعدل من وضعية الكرسي لتجعله ملاصقا للسرير وتجلس عليه.
سألتها مادلين بهمس " إلى متى ستتحاشين النظر إلي ؟"
دفنت ساندرا رأسها بين كفيها بعد أن أسندت مرفقيها على ركبتيها و قالت بخفوت " لقد كدت أتسببُ بموتك "
ابتسمت مادلين بحب قم قالت بجدية " كفاكِ سخفا, فلنتصور أنني كنت أعلم أنكِ في وحدة المخدرات, واتصل بي رجل في منتصف إحدى الليالي ليخبرني أنكِ ذهبت في مهمة ولن تعودي منها حية, ماذا كان سيحدث لي برأيك؟ صدقيني النتيجة واحدة "
تمتمت ساندرا " لا تقلقِ سأقتل ذلك السافل لا محالة "
ضحكت مادلين بهدوء " أنتم جيل لا يفكر بنتائج أفعاله, أنت أيضا غرستِ سكينا في فخذ رجل بدون حاجة لذلك, قفلك للباب وحده كان كفيل بهربك منهم "
رفعت ساندرا رأسها وتلاقت عينيها المحمرتين بعيني والدتها الصافيتين, وهمست باسمة " صدقيني لم أستطع مقاومة الإغراء "
ردت مادلين بمكر " وهذا بالضبط ما حدث مع صديقك كريك "
صمتت ساندرا وهي تتأمل في وجه أمها, لم تأخذ عينيها العسليتين, ولا فمها الكبير ولا شعرها المجعد, و مع ذلك فمن يراهما يعرف أن نفس الدم يسير فيهما, همست وقد عجزت عيناها عن حبس دموعها " لقد خفت عليكِ "
رفعت مادلين يديها باتجاه ابنتها وقالت " ليس بقدر خوفي عليكِ "
وقفت ساندرا بإنهاك وسارت ببطء حتى استقرت في أحضان والدتها.
بعد أن تأكدت أن والدتها نامت, نزلت إلى مقهى المستشفى, إنها بحق في حاجة إلى كوب قهوة سوداء بعد هذا اليوم, تناولت كوب القهوة التي قدمته لها البائعة, ولما التفتت لتجلس على إحدى الطاولات أصابتها الدهشة, ليس لأن المقهى كان شبه فارغ فالساعة تجاوزت الثانية صباحا, ولكنها دهشت لأنها رأت جون وبرنارد وبوب متحلقين حول إحدى الطاولات, مشت حتى وصلت إليهم, ثم سحبت كرسي وجلست, ارتشفت من قهوتها ثم سألت " ماذا تفعلون هنا ؟"
أشار بوب على الطاولة وقد حوت أكواب قهوة وكعك وقال " نأكل "
رفعت حاجبيها دهشة " ولم تجدوا مكانا مناسبا للأكل أفضل من مقهى المستشفى !"
قال برنارد " حسنا أردنا أن نطمئن على أمكِ "
ابتسمت بسخرية قائلة " أنت بالذات تعلم أنها بخير, وبالمناسبة شكرا على القصة " ثم نظرت إلى جون بثقة وقالت " والآن لما لا نتحلى بالصراحة, أنتم هنا لأنكم تريدون أن تطمئنوا على صديقكم الوغد الحقير, تريدون أن تتأكدوا أني لن أمسه بمكروه, أليس كذلك أيها القائد ؟"
هتف بوب " أنتِ! كريك لم يقصد ذلك, إنه رجل طيب "
قالت بحدة " أوه إنه طيب بالتأكيد, لقد جعلت طيبته أمي في المستشفى الآن, أليس كذلك؟ "
لم يجد بوب ما يقوله ردا عليها, فطأطأ رأسه بخيبة.
قال جون " ارفع رأسك يا بوب " التفت الجميع إليه, فأكمل مخاطبا بوب " نعم ارفع رأسك وأخبرها أن ما قالته صحيح, فطيبة كريك هي بالفعل من جعلت أمها في المستشفى, ولولا طيبته لكانت أمها في المقبرة الآن ". التفت إلى ساندرا فرأى الصدمة مرسومة على وجهها بسبب كلامه, ومع ذلك لم يتوقف بل أكمل مخاطبا إياها " ماذا ! أليس كريك هو من اتصل بالإسعاف. لو كان وغدا حقيرا لترك والدتكِ ولما أخبر أحدا بذلك. وبالمناسبة أنت فعلا لن تواتيكِ الجرأة على لمس كريك"
في اللحظة التي توقف فيها جون عن الكلام, أمسكت ساندرا بكوب قهوتها وألقت ما بداخله على وجهه, ليُغسل وجهه بقهوة ساخنة مرة.
دوت الصرخة في جميع أنحاء المستشفى, ولكنها لم تكن صرخة جون, بل صرخة البائعة عندما رأت امرأة تسكب القهوة الساخنة على ذلك الرجل الوسيم الذي كان لطيفا معها عند الشراء, أسرعت ممرضتين إلى المقهى متسائلتين عما حدث, أرادت البائعة أن تحكي لهما, لكن جون قاطعها عندما أخبرهما أن القهوة انسكبت عليه وأنه يحتاج إلى مرهم حروق, ثم خرج معهما وقد تبعه بوب وبرنارد.
خرجت ساندرا من المقهى بعد أن اعتذرت للبائعة عن القهوة التي تناثرت في أنحاء المكان, لم تجبها البائعة فيبدو أنها حقدت عليها, سارت إلى سيارتها وهي تفكر لماذا ظل صامتا ولم يبدي أي ردت فعل! بالتأكيد تألم من القهوة الحارة, فملامح وجهه التي انكمشت دلت على ذلك, فلماذا لم يهاجمها فبوب وبرنارد الذين كانا شاهدين فقط أرادا الانقضاض عليها لكنهما توقفا عندما لاحظا أنه لم يتحرك. لا تعلم ماذا تسمي ذلك, هل هو حليم؟ أم متبلد؟ أم يخطط لأمر آخر؟ حسنا! فلتفكر بجوناندر في وقت لاحق, فكل ما تريد فعله في هذا الوقت هو الذهاب إلى المنزل والنوم.