الفصل السابع: اعترافات

الساعة السادسة صباحا, هذا يعني أنه لم ينم سوى ساعتين, تماما ككل أيام الأسبوع الماضي, ولكنه ليس مندهش من هذا الأرق الذي أصابه منذ يوم المطعم, ذلك أنه عندما يأوي إلى فراشه في كل يوم لكي ينام يتذكر ما حدث.
فبعد خروج مايا من المطعم, قام هو بدفع الحساب ثم انطلق بسيارته السريعة, توقف أمام أول إشارة ضوئية, فرأى سيارتها الزرقاء في مقدمة صف السيارات, ثم وبعد أن بدأت السيارات تسير بعد أن سطع الضوء الأخضر, تتبع سيارتها يحركه الفضول لمعرفة أين ستذهب. بعد مدة قصيرة توقفت أمام حديقة صغيرة عامة, ثم ترجلت من سيارتها ودخلت إليها. انتظرها لمدة خمس عشرة دقيقة, وعندما لم تخرج, تبعها إلى الداخل ليرى ماذا تفعل.
استطاع أن يجدها بواسطة أضواء الحديقة الخافتة, كانت توليه ظهرها جالسة على أرجوحة, كان كتفاها يهتزان, فعرف أنها تبكي بصمت, تماما كما شاهدها اليوم في الصباح. نظر إلى ظهرها للحظات, ثم استدار عائدا إلى سيارته, لأنه وللمرة الثانية لا يستطيع أن يفعل شيئا لها, غير أنه وبعد خطوتين, سمع صوتا يقول بثقل " أنت لن ترحل وتتركني كما فعلت في غرفة تخزين الملفات, صحيح ؟"
ألجمته المفاجئة, كيف انتبهت لوجوده في ذلك الوقت, وهو لم يصدر أي صوت, بل كيف انتبهت لوجوده الآن في شبه الظلام هذا.
تنفست بعمق, ثم قالت بصوت أجش دون أن تلتفت إليه "لقد بدأتُ أعتقد أنك تحب أن تراني أبكي, فقد رأيتني مرتين إلى الآن"
التفت عائدا إليها وهو يقول " ثلاث مرات باعتبار يوم جنازة والدك"
"لم أكن أبكي وقتها"


" لقد رأيت الدموع في عينيك عندما صافحتك" ثم أضاف بعد صمت "وهنالك ما يقول لي أنكِ في الثلاث المرات بكيت لنفس السبب ألا وهو والدك"
مسحت بيديها وجهها بعنف وقالت " ماذا تريد يا ألكساندر ؟"
وقف بجوارها, وضع يديه في جيبي بنطاله وأجاب ببرود "أنتِ من طلب مني البقاء "
قالت وقد بدأت تتأرجح بهدوء وقدميها مازالت على الأرض " لقد سألتك سؤالا فقط, لم أطلب منك البقاء"
صمت لحظات ثم سأل بلا مقدمات "ما الداعي من التذكير بقصة والدكِ على العشاء؟"
"لإيلام فريدريك"
"حقا! ومع ذلك أنا متأكد أنه لا يجلس في حديقة قذرة يبكي على الأطلال في هذا الوقت"
توقفت عن الأرجحة, وشدت قبضتيها على سلاسل الأرجوحة حتى ابيضت يديها, وهمست من بين أسنانها " اخرس"
"لماذا لأنني أعرف أنكِ أنتِ من تألم وليس هو"
صاحت بانفعال "ماذا كنت تريديني أن أفعل؟ لقد كان حقيرا مع نينا. اذهب إلى سيارتي, ستجد رسوماتها التي استغرقت أربع ساعات في انتقائها قابعة هناك, لقد كانت سعيدة بشكل لا يصدق؟ ثم وفي النهاية يتضح أنه كاذب ويحطم آمالها التي جعلها تبنيها, لقد كان حقيرا معها "
قال مؤنبا " ولم تجدِ طريقة للانتقام من حقارته سوى أن تكونِ حقيرة مع نفسك! تطلبين ذكر قصة تقطع نياط قلبكِ! تطلبين ذكر قصة تتمنين ليل نهار أنها لم تحدث! بحق الله إنها ليست قصة تسلية تُتناقل في المجالس! إنها قصة مؤلمة تتحدث عن موت والدكِ أنتِ! إنها قصة تذكر لحظاته الأخيرة! قصة تقول أنه قتل مظلوما! قصة تحكي أنه مات مغدورا من قبل أعدائه " صمت قليلا وهو يرى دمعات تسيل ببطء على خديها, غير أنه أكمل بعد أن ابتلع ريقه " أتعلمين! في وقت ما هذا اليوم كنت أتسائل كيف تفكرين! ولكني أعتقد أني فهمت الأمر الآن. أنتِ لا تفكرين, أنت لا تملكين عقلا أصلا لتفكري به"
لاح شبح ابتسامة على شفتيها وتمتمت " هل من المفترض أن يسليني هذا الكلام؟"
استدار ماشيا حتى وقف أمامها وقال بجدية وقد ظهر التصميم بعينيه " من المفترض أن يوقظكِ هذا الكلام. أنت لا تفكرين, أتعلمين لماذا؟ لأنه عندما يُمس أحدا تحبينه تستولي عليك عاطفتك ومشاعرك بحيث تنقادين ورائها, وتعميك عن رؤية الحقيقة التي غالبا ما تؤلمك في النهاية. فلأن فريدريك جرح نينا التي تحبينها, تذكرينه بالقصة التي قتل فيها صديقه أمام عينيه, دون أن تفكري أنها قصة والدكِ التي ستؤذيك. ولأن والدكِ الذي تحبينه قتل, تنتقلين إلى وحدة المخدرات دون أن تفكري بأمك التي أصبح مجرد ذكر كلمة مخدرات يقض مضجعها"
رفعت رأسها إليه, وأخذت تنظر إلى عينيه التي أصبحت زرقاء من جديته أو ربما غصبه, ثم ابتسمت قائلة " أنت بالفعل ابن أخت فريدريك"
رفع حاجبيه متسائلا بتعجب, فأكملت موضحة " أنت تذكرني به الآن. في الحقيقة أنت تذكرني به منذ أن أخبرتني أنه خالك. فكونه كان أقرب صديق لوالدي, جعل علاقتي به قوية, بالإضافة إلى أنني كنت معجبة به وبصفاته, فقد كان صادق, قوي, واثق, وفي. وكل هذه الصفات رأيتها فيك"
"غريب! فقد ظننتُ أنه ذوو دماء فاسدة"
وقفت قائلة " بالتأكيد هو كذلك. وأكبر دليل أن كل تلك الصفات زالت, وحل مكانها العكس. لقد خان أبي, وكذب على الجميع, وأصبح ضعيف لدرجة أن يصفع امرأة"
قال بعد تردد "هذا لأنكِ اتهمته بقتل صديقه, وهذا آلمه"
ردت مصححة بعصبية "هذا لأنني قلت الحقيقة, وهذا جعله يشعر بالذنب"
مشى خطواتٍ مبتعدا عنها, وهو ينظر إلى الزرع الأخضر الذي يسير عليه, مفكرا ما الذي جعله يتبعها, لكنها نادته " أليكساندر! انتظر"
توقف دون أن يلتفت إليها. نظرت إلى وقفته الجامدة وسارت حتى وقفت أمامه, ثم قالت " أريد أن أطلب خدمة بما أنك قائدي. أريد أن تطلب نقلي إلى فرقة أخرى, هذا أفضل لكلينا, فأنا أتمرد على أوامرك, وأنت بالتأكيد لست بحاجة إلى إزعاج, ففريقك الرائع يكفيك, وخصوصا كريك"
قال بهدوء "كلام مثير للاهتمام, لقد فهمت لماذا سيكون نقلك أفضل لي, والآن لماذا سيكون أفضل لكِ؟"
أجابت " لسببين. الأول أنك ابن أخت فريدريك, و... حسنا أنت الآن تملك صفاته الرائعة التي كان يمتلكها, غير أنك بالتأكيد تملك أيضا نفس دمائه الفاسدة كما أوضحتُ من قبل, وهذا يعني أنك ستخون وستكذب, وأنا لستُ مستعدة لذلك منك, لذا الأفضل لي أن أبتعد عنك " صمتت لترى تأثير كلامها عليه, غير أن وجهه لم يبح بشيء, فأكملت بمكر " والأهم من ذلك أنك ستصبح ضعيف وستصفعني. يا إلهي! فكر بمدى الألم الذي سأشعر به عندما تصفعني, صدقني سأموت من الحزن, خصوصا لو وقعتُ في حبك" ثم رفعت حاجبيها تغيظه.
سألها بلا أي تعبير "والسبب الثاني"
"لست مضطرا لسماعه"


قال ساخرا "يا لكِ من مراعية للمشاعر"
تأملته لثواني, ثم تكلمت بعزم " كما تريد. السبب الثاني هو أنني... سأقتل خالك فريدريك كما قتل والدي. في درج سيارتي رصاصتين وضعتهما منذ ثلاث سنوات, حفرت على إحداها الحرف الأول لاسم خالك, وعلى الثانية الحرف الأول لاسم مادوف, ولن يرتاح لي طرف حتى أضعهما في رأسيهما, كما وضعا رصاصة في رأس أبي. لذا أعتقد أنه من الأفضل أن تنقلني إلى فرقة أخرى, فسيكون صعبا عليك أن تتعامل مع أحد وأنت تعرف أنه سيقتل قريبك."
"ماذا لو كان بريء؟"
"لكنه للأسف ليس كذلك, والآن ما رأيك؟ هل ستطلب نقلي ؟"
"كما تريدين"
حملقت في عينه التي كانت حادتين كعيني الصقر, تخبره أنها ستقتل خاله ويجيبها كما تريدين! من بين جميع الإجابات التي توقعت أن يسمعها إياها, لم يكن (كما تريدين) أحدها. ابتسمت له برقة, ثم مدت يدها إلى وجهه, وربتت بأصابعها الباردة على خده قائلة بأسى " أنا آسفة, ولكن هذا ما سيحصل, ومع ذلك أعدك أنني سأحضر جنازة خالك, وسأصافحك, وأتمنى حينها ألا أرى الدموع في عينيك"
ثم رحلت وتركته واقفا هناك.


رحل من الحديقة بعد رحيلها, وقاد السيارة عائدا إلى المنزل, لكنه غير اتجاه طريقه, لأن كلام مايا جعله يرغب برؤية خاله, وصل بعد عشرين دقيقة إلى تلك العمارة الضخمة في ذلك الحي الراقي الذي يسكن فيه خاله.
فتح فريدريك الباب بعد قرع الجرس لثالث مرة, ليجد ابن أخته يقف أمامه, فقال بضيق "سأتصل بالشرطة ليقبضوا عليك بتهمة الإزعاج في الساعة الثالثة صباحا بالرغم من أنك تملك مفتاحا للشقة" ثم دلف إلى الداخل, يتبعه أليكس بعد أن أغلق الباب خلفه.
قال أليكس وهو يسير وراء خاله باتجاه المطبخ "المفتاح للحالات الطارئة"
سكب فريدريك لنفسه قهوة, ثم رفع إبريق القهوة لأليكس الذي رفض قائلا "شكرا, ولكنني أريد أن أنام"
فرد فريدريك "ماذا تفعل هنا إذن؟ لتقول لي تصبح على خير؟"
" لا, أنا هنا لتوضح لي لماذا أفسدت العشاء - الذي دفعتُ أنا ثمنه - على الجميع"
قال رافعا يديه "لم يطلب منك أحد دفع ثمنه"
"ما الداعي لتلك المحاضرة التي أسمعتها نينا؟"
وضع فريدريك كوب القهوة الذي كان يحمله على الطاولة, وقال بهدوء "نينا! إليك الحقيقة طالما أنك تكبدت عناء الوصول إلي, أنا لم أكن أنوي أن أقول كلمة مما قلته لها. كل ما في الأمر أني ارتبكتُ عندما رأيتُ مايا, فلقد كانت عينيها تنطقُ باتهامي بقتل فآن. لقد جرحني الاتهام فأصبحت غاضبا. ثم زاد غضبي عندما قالت نينا أنها لا تعرف اسمي, فقد تخيلت لو كان من دعاها شخص غيري وحصل لها مكروه. أتعلم! لو كانت أي فتاة أخرى لما اهتممتُ بالأمر وغضبت, ولكنها أخت زوجة فآن, وبمثابة ابنة له, و لم يكن ليرضى أن يصيبها مكروه وبالتالي لن يرضيني أنا. كل هذه الأمور جعلتني انفجر دون أن أتوقف. لكن لا تقلق, فخالك ليس رجلا لئيم, سأصلح الأمر"
سأل أليكس وهو يتكأ على جدار المطبخ "ماذا عن مايا؟ هل ستصلح الأمر معها؟"
شرب من قهوته وقال "دعنا من مايا, لا أريد الحديث عنها"
"ظننتُ أنك لا ترفع يدك على امرأة"



"مايا حالة استثنائية. بالمناسبة أريد أن أخبرك أمرا, ما بيني وبين مايا أريده أن يبقى بيني وبين مايا, لذا لا تتدخل"
همس أليكس "كما تشاء" ثم التفت مغادر المطبخ, سائرا إلى باب الشقة ليخرج. لكنه عندما أمسك مقبض الباب الشقة ليفتحه, قال فريدريك الذي تبعه "لقد قابلت مادلين زوجة فآن بعد الجنازة, وقبل أن أتكلم أو أقول شيئا عانقتني, وقامت بمواساتي, أخبرتني أنها تعرف الألم الذي أشعر به نتيجة فقد صديقي, ثم اعتذرت لي من سلوك مايا حيث أنها رفضت حضوري الجنازة, وطلبت مني ألا أغضب منها لاتهامها لي بقتل فآن, ثم قالت أنها لا تتصور حتى في خيالها أن لي يدا في موت زوجها, فطالما كان فآن يثق في, فهي تثق في أيضا" ابتسم بألم لمّا التفت إليه أليكس وتابع "أخبرني لماذا لا تكون مايا بمثل روعة أمها! لما لا تصدق أنني بريء, لا ذنب لي بما حصل لوالدها!"
رقت نظرة أليكس وقال "أنا أصدق أنك بريء, وطالما أني أصدقك, فسأجعل مايا تصدقك أيضا" .



إعدادات القراءة


لون الخلفية